أبو الحسن الخرقاني
بقلم: خالد محمد عبده
ذوات: سبتمبر 2015
يُعرف علي بن أحمد بنسبته (الخرقاني) بين الصوفية، ويوصف بـسلطان المشايخ، وقطب الأوتاد والأبدال، ومقتدى أهل الطريقة والحقيقة، المتمكن في أحواله، المتعيّن بالمعرفة، لا يزال في المشاهدة بقلبه، والمجاهدة بجسده، ذا خضوع وخشوع ورياضة، وصاحب أسرار ومكاشفات، وهمّة عالية، ومرتبة سامية، وله مع اللّه تعالى مقام الانبساط..
ويتم الربط بينه وبين الصوفي الشهير بايزيد البسطامي عبر رواية تجعل من البسطامي متنبئًا بمجيء هذا الصوفي الصالح، فينقل الرواة لنا أن سلطان العارفين أبا يزيد البسطامي قدّس اللّه روحه كان يزور كلّ سنة قبور الشهداء في قرية اسمها دهستان في مكان اسمه سرريك ، ويكون عبوره بخرقان، قرية أبي الحسن رحمه اللّه، فإذا وصل إليها وقف وتنفّس، فسأله بعض الأصحاب عن ذلك، فقال: إنّي أشمّ رائحة من هذه القرية-التي هي مكان اللصوص- يظهر فيها رجل اسمه عليّ، و كنيته أبو الحسن، يكون سابقا عليّ بثلاث درجات، يحمل ثقل العيال والأهل، ويزرع، ويغرس.
ويروى من دعاء الخرقاني عند زيارة قبر البسطامي: اللهم، اسقني ممّا سقيت أبا يزيد، و ارزقني رائحة ممّا أنعمت عليه. وكان كثير التعظيم للبسطامي، إذ لم يكن يعطي القبر ظهره وهو عائد من الزيارة بل كان يأتي قبر أبي يزيد، ويرجع إلى خرقان، ووجهه إلى القبر، وهكذا إلى خرقان مدّة طويلة، و يعمل هذا احتراما لقبر أبي يزيد. وهي عادة لا يزال المتصوفة السالكون محافظين عليها، ويمكن مشاهدتها عند زيارة أضرحة الأولياء حتى اليوم.
كان من ثمار هذه الزيارات ما نقله لنا الرواة على الصورة التالية: بعد اثنتي عشرة سنة من تردد الخرقاني على ضريح البسطامي، سمع صوتا من تربة الشيخ أبي يزيد: يا أبا الحسن، حان حينُ سكونك وجلوسك في بيتك. فقال أبو الحسن: يا شيخ، أنا رجل عاميّ أميّ، لا خبرة لي بالقرآن ولا بالشريعة. فسمع صوتا يقول: يا أبا الحسن، ما رزقني اللّه تعالى كان ببركتك. قال أبو الحسن: كيف و أنت قبلي بثلاثين سنة ونيف . قال: نعم، ولكن لمّا كنت أمرّ بخرقان كنت أرى نورا من الأرض إلى السماء كأسطوانة، وكان لي إلى اللّه حاجة ثلاثين سنة، ما قضاها إلى أن نودي في سرّي: يا أبا يزيد، استشفع إلينا بذلك النور نقض حاجتك. قلت: إلهي، ما ذلك النور؟ فسمعت هاتفا يقول: ذلك النور نور عبد لنا خالص خاصّ مسمّى بأبي الحسن. فاستشفعت به، وقضيت حاجتي، وأعطيت مقصودي.
قال أبو الحسن: ذهبت إلى خرقان، واشتغلت بتلاوة القرآن، فقرأته في أربعة وعشرين يومًا.
مما يُروى عن الخرقاني في مناقبه: أن عمرو بن أبي العباس قال له: تعال يمسك بعضنا يد الآخر، ونقفز من أحد طرفي ظلّ هذه الشجرة إلى الطرف الآخر-وكان يأوي إلى ظلّها ألف غنمة-قال أبو الحسن: وما هذا؟! تعال نمسك لطف اللّه تعالى، ونقفز عن العالمين، حيث لا نلتفت إلى الجنة ولا إلى النار.
ويروى عن الشيخ عبد اللّه الأنصاري الصوفي الحنبلي أنه قال: أمسكوا بي وقيّدوني وأذهبوني إلى مدينة بلخ، وسمعت أنّ الناس أخذوا الحجارة، وطلعوا السّطوح ليرجموني، فقلت في نفسي: ما أسأت الأدب برجلي حتى صرت مقيّدا مستحقّا للقيد. ثم ألهمني اللّه أنّي يوما بسطت سجادة الشيخ الخرقاني، ووقعت رجلي عليها، فعلمت أنّ هذا العقاب لأجل ذلك، فندمت، وتبت إلى اللّه تعالى، فمن أراد أن يرجمني رأيته ما وافقته يده، و بعد ذلك رفعوا القيد عن رجلي.
وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري صاحب الرسالة: دخلت بلد خرقان، فلم يبق لي فصاحة ولا بلاغة ولا عبارة، حتى رأيتني خاليا عن كلّ شيء، وما ذلك إلاّ عن حشمة ذلك الشيخ-يعني أبا الحسن.
كذلك فإن أبا علي ابن سينا لمّا سمع أخبار أبي الحسن قصده، وجاء إليه، كما زار أبو سعيد ابن أبي الخير المتصوف الفارسي الشهير، فلمّا وصل الباب ودقّه، خرجت إليه امرأته وقالت: ما تريد؟ قال أبو علي: أريد الشيخ أبا الحسن. قالت المرأة: ذلك الزنديق الكذّاب، فلِم تعبت لأجله؟ قال أبو علي: لا غنى لي من صحبته. قالت المرأة: ذهب يحتطب. فخرج أبو علي إلى الصحراء في طلبه، فرآه يجيء وقد حمل الحطب على أسد ويسوقه، فحصل لأبي عليّ من ذلك حال وتعجّب في شأنه، فلمّا وصل إليه، قال أبو الحسن: لا تعجب من هذا، نحن حملنا على أنفسنا حمل ذلك الذئب- يعني المرأة- فلا جرم أنّه حمّل الأسد حملنا وكارتنا !
نُقل أن رجلا جاء إلى الشيخ أبي الحسن، و طلب منه خرقة ليلبسها، فقال الشيخ: أسأل منك مسألة أولا، ثم ألبسك الخرقة، فما تقول في رجل لبس ثياب النساء، أو تغطّى بإزارهن هل يصير امرأة؟ أو امرأة لبست ثياب الرجل، وتعمّمت هل تصير رجلا؟ فقال ذلك الرجل: لا. قال الشيخ: وهكذا لا يصير الإنسان صوفيا بلبس المرقّعة، فإنّها في الحقيقة زيّ الرجال، ولا يليق بها إلاّ رجل.
ودخل شخص علی الشيخ أبي الحسن الخرقاني وقال له: أجز لي أن أدعو الخلق إلی الله. فقال الشيخ: احذر من أن تدعو إلی نفسك! فقال الرجل: کيف يمکن أن يدعو الإنسان الخلق إلی نفسه فقال الشيخ: عندما يدعوك شخص آخر، فيسوؤك ذلك، فهذه علامة علی دعوتك الناس إلی نفسك!
ويروى أنّ السّلطان محمود الغازي جاء من غزنة إلى مكان الشيخ أبي الحسن الخرقاني زائرًا له، ونزل خارج القرية، وبعث إليه شخصا، وأمره أن يقول للشيخ: إن السلطان قطع منازل، وجاء إليك، فعليك أن تأتي إلى خيمته من بيتك، وإن لم يقبل، تقرأ عليه هذه الآية (أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَأُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: 59 ] فلمّا اطّلع على المقصود، تبرّم عن الذهاب إليه، واعتذر، فقرأ عليه الرجل الآية، قال الشيخ: قد استغرقت في أَطِيعُوا اَللّٰهَ، حيث ما أتفرّغ إلى وَأَطِيعُوا اَلرَّسُولَ! وحصل منه خجالات، فكيف ألتفت إلى وَأُولِي اَلْأَمْرِ ؟! فرجع الرجل، وأخبر السّلطان بما سمع، فرقّ قلب السلطان، وقال: قوموا نذهب إليه؛ فإنّه ليس ممّا ظننّاه.
فألبس ثيابه وزيّه مملوكه الذي يسمّى إياسا، وقدّمه، وهو يمشي خلفه على هيئة الغلمان، ومعه جماعة من الغلمان والعبيد و الجواري، فدخل إياس على هيئة السّلطان، وسلّم، فردّ الشيخ الجواب، ولم يقم، ولا التفت إلى إياس؛ بل نظر إلى السّلطان، وعرفه بنور الفراسة، وأمسك يده، وأجلسه في جنبه، ثم التمس السلطان منه شيئا من كلمات أبي يزيد، فقال الشيخ: مُر هذه الجواري ليخرجن من المجلس؛ فإنّهن أجنبيات. قال: قال أبو يزيد رحمه اللّه: من رآني فقد أمِن من الشقاء. قال محمود: يلوح عن هذا الكلام أنّ أبا يزيد يكون أفضل من النبيّ صلى اللّه عليه و سلم، لأن أبا لهب و أبا جهل وغيرهما من الكفّار رأوا النبيّ صلى اللّه عليه و سلم، ولم يأمنوا من الشقاوة؟ فقال الشيخ: لا نتخطّ الأدب، ما رأى النبيّ أحدٌ غير أصحابه، والكفار ما رأوه، وإن كانوا يبصرونه، والدليل عليه قوله تعالى: (وَ تَرٰاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاٰ يُبْصِرُونَ) [الأعراف: 198 ].
فاستحسن السلطان كلام أبي الحسن، ثم استوصاه وصية، فقال الشيخ: حافظ على أربع: التقوى، والصلاة بالجماعة، والسخاوة، والشفقة على خلق اللّه. ثم قال: ادع لي. قال: أدعو لك كلّ يوم و أقول: اللهم اغفر للمؤمنين و المؤمنات. قال: نعم، و لكن أريد دعاء خاصّا. قال: اللهمّ اجعل عاقبة محمود محمودة. فقدّم له بدرة ، و قدّم له الشيخ قرصا من الشعير، وطلب منه أن يأكل، فأخذ منه لقمة، ووضع في فيه، ومضغ مضغا، ثم أراد أن يبلع، فغصّ به، فقال الشيخ: كما أنّك لا تقدر على ابتلاع خبز الفقراء، فأيضا لا أقدر على التصرّف في هذه البدرة. فردّها، ولم يقبلها، وقال: إنّي طلّقت الدنيا ثلاث، والمطلّقة ثلاثا لا ترجع. ثم التمس محمود منه شيئا يكون تذكارا، فخلع قميصه، وأعطاه إياه، ثم حين المفارقة قام له، فقال السّلطان: إنك لم تقم لي عند الدخول، وتقوم عند الخروج؟ قال: لأنّك دخلت-مع دعوتك-بالسّلطنة والامتحان، والآن ترجع و عليك انكسار الفقر، فإنّ أنوار شموس الفقر تلألأت عليك، فما قمت لك أولا نظرا إلى سلطنتك، وأقوم الآن اعتبارًا لفقرك. ثم سافر السلطان بعده إلى نواحي سومنات من ديار الهند.
يُروى أنّه يوما حصل له حال، فتكلّم في الانبساط، فنودي في سرّه: ألا تخاف من الموت؟ ! قال: كان لي أخ يخاف من الموت، أمّا أنا فلا. فنودي: ألا تفزع من منكر ونكير حين دخولك في القبر؟ قال: الجمل لا يفزع من صوت الجرس. فنودي: أفلا تفزع من القيامة و أهوالها؟ فقال: إلهي، إذا قامت القيامة، وقامت أهوالها أنا استغرق في بحر التوحيد، وأستريح عن تلك الأحوال.
ويروى عنه أنه قال: سافرت بهداية اللّه تعالى الوهّاب سفرًا، فقطعت منازل، وعبرت بوادي وجبالا، وسواقي وأنهارا وبحارًا، وخوفًا ورجاء، ثم بعد ذلك عرفت أنّي ما كنت مسلما، فقلت: إلهي، أنا مسلم في نظر الخلق، ولست بمسلم عندك، فاقطع زنّار الشّرك من وسطي بلطفك، حتى أكون مسلمًا عندك أيضا.
لمزيد من التفصيل حول أحوال وأقوال الشيخ الخرقاني، يمكن مراجعة المصادر التالية:
كشف المحجوب للهجويري
تذكرة الأولياء لفريد الدين العطّار
نفحات الأنس للجامي
الأنساب للسمعاني.
أحوال وأقوال شیخ أبو الحسن خرقانی أقوال أهل تصوف درباره أو بضمیمة منتخب نور العلوم، مجتبى مينوي.