حقيقة شمس تبريزي

حقيقة شمس تبريزي

حقيقة شمس تبريزي

وليام تشيتك [1]

ترجمة: شيماء مُلّا يوسف

 

اسمُ شمس يألفه قليلٌ من الذين سمعوا عن جلال الدين الرومي، ونادرًا ما تكون معرفتهم صحيحة ودقيقة.  معلوماتهم عنه تنحصر بوصوله إلى قونية، ومقابلته للرومي، وما أدّته هذه المقابلة من تغيير حال الرومي رأسًا على عقب. ونتج عن هذا اللقاء إنتاجٌ شعريٌّ ضخم، وما لهذا الإنتاج من دور لأهمية الرومي في الإسلام الفارسي.

وبذلك يكون شمس قد لعب دورا غير مباشر في التاريخ الإسلامي. ومن هذه النقطة ينطلق سيد حسين نصر بدراسته حول كتابات الرومي، التي  بدأها الرومي بعد لقائه بشمس وحتى آخر عمره، كتب نصر يقول: 

“لم يكن شمس مجرد معلّم صوفي للرومي. فجلال الدين بالتأكيد قد درس التصوف لسنوات عديدة قبل لقائه به، لكن يبدو أن شمسًا هو الرسول الإلهي الذي أظهر الحالة الروحية للرومي بهيئتها الشعرية.

لشمس تبريزي صورة خيالية أسطورية في الغرب[2] تصل للاعتقاد بأنه بشر غير عادي، لما يُشاع عن قصص عشقه لله الغريبة، ولا مبالاته بتقاليد المجتمع والتقاليد الدينية. وخلافا لذلك، ففي السنوات القليلة الماضية بدأ العلماء بدراسة  جادة عن حياته وتعاليمه، بعد إصدار نسخة جديدة  وطبعة جيدة من كتابه “المقالات”[3] في عام ألف وتسعمائة وتسعين.

ومن خلال الكتاب تم دراسة تاريخ شمس بصورة جادة. يرجع الفضل في إصدار الكتاب إلى الجهود المبذولة من قِبل العالِم الإيراني محمد علي موحدي. فقبل ذلك، كانت المقولات عبارة عن  مخطوطات مبعثرة، بخط مهترئ وفقرات غير مكتملة، بالإضافة إلى مصادره الملتبسة.

كتابُ “المقالات”  يشبه كتاب ” فيه ما فيه” للرومي، إذ يغلب عليه طابع الحكايات التي  يدونها المريدون. ويظهر في الكتاب أيضًا، عدم صحة ما يُكتب حول اختلاء الرومي مع شمس وقتًا طويلًا. ففي كثير من فقرات الكتاب يتبين حضور المريدين في المجالس التي كانت تجمع شمس مع الرومي.  

   إن لشمس تأثيره الروحي الشديد على الرومي وعلى مريديه، واعتزازًا بنفسه يقول شمس: أُرسلتُ للخواص. وقد وصفت ذلك أنّا ماري شيميل: “الاعتزاز الروحي العالي بنفسه”. لذلك، وصفه العوام بالمتغطرس والمتكبر. أما شمس فكان يُشفق عليهم من غفلتهم عن حالته الروحية، ويعبّر عن ذلك في “المقالات”على النحو التالي:  

“من حق العوام أن يجدوا أقوالي مليئة بالتكبّر، هي تأتي من الكبرياء. وهم يقارنونها مع الخطاب الذي جاء في القرآن والأحاديث النبوية والذي يتناسب آنذاك مع حالة العوز والحاجة والفقر الروحي، الذي كان عليه الناس قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. أما خطابي، هو للذين وصلوا لأعلى المقامات الروحية. إنْ نظر أحد العوام إليها، سيرفع رأسه لأعلى، وحينها تسقط قبعته. لا يعني هذا، أنهم مقصرون تجاه الحق، لكنها عظمته -تعالى- التي تتجلى في الغافل والجاهل، لينتقل من حال إلى حال، ويسأل نفسه: أي طريق أسلكه لأصل إليك، يالله؟”

نص آخر يُظهر كبرياءه: 

“من يرى نفسه يستحق  أن يكون نديمي، عليه أن يقطع علاقاته بالآخرين… 

ووجودي هو الإكسير[4] الذي يوضع على المعدن الرخيص ليتحول كله إلى ذهب…

لا تربطني أية علاقة مع العوام، لم أُرسل إليهم. أنا  للسالكين في طريق الحق، ويكفيهم أن ألمس قلوبهم بإصبعي، ليتغير حالهم…

حينما  يأتيني قطب[5] عليه أن يزكي نفسه ويبدأ بالرياضات والمجاهدات من الصفر…

لست من أولئك الذين يخرجون لملاقاة أحد ما “.

من الأخبار عنه، نُدرة اقتباسه من الكتب. وهذا لا يعني أنه لم يكن متعلّمًا، ففي اقتباساته القليلة، يشير إلى مصادر الكتب الدينية التقليدية، مما يبين دراسته للعلوم الدينية. وفي تفاصيل بعض الأحداث التي يورِدها، نعرف أنه كان مدرّسًا في إحدى مدارس القرآن الكبيرة، إذ يوجد بها  إدارة مدرسية ومدير. وهذا لم يكن شائعًا بين المدراس البسيطة، لكن معرفته الدينية هي مختلفة عما كان سائدًا. يذكر في إحدى فقرات مقالاته:

“أحدهم سأل صديقي عني: هل هو فقيه أم فقير؟

رد عليه: كلاهما.

فقال: أنّى له أن يتكلم عن الفقه بهذه الصورة؟

أجابه: شمس، يشفق على الناس من كلامه. لذلك يتكلم بالأسرار من خلال طريقته الخاصة في التعليم.”

شمس لا يزدري الفقهاء وكتبهم فحسب، بل أيضا الدراويش وحلقات الدوران التي يقيمونها:

“لم أكن أُجالس الفقهاء، لأنهم ليسوا بدارويش. وبعدما عرفتُ ما يكون عليه حال درويش اليوم، فضلتُ عليه الفقيه الذي لا يدعي أنه درويش، بل يجد نفسه يجهل أمورهم وأحوالهم. أما الثاني، فهو يتبجح ويتباهي في كل مكان وبعلو صوته “أنا درويش”. ولكن، من فيهم الدرويش؟!”

شمس يتذمر ممن يسمون أنفسهم بالدراويش، وهم بعيدون عن هذا الادعاء:

“الكلام حول معشوقهم فيه من المهابة الكثير… وكلامي عن العشق الحقيقي لا يشبه كلامهم… فأنا لا أُعطي معشوقي الأوساخ التي على حذائي، كما يفعلون”.

 وفي فقرة أخرى، يشير إلى تكاثر المعلمين الفاسدين، ويشبّههم بالفئران الذين في منزل دين النبي محمد، المنحصر دورهم في إفساد المنزل:

“الله لديه قطط وهم أولياؤه، ليقضوا على تلك الفئران. وحتى لو أتى مئات الآلاف من الفئران، فالقطط تشتت جمعهم، وسيولون الدبر”. 

وما سوف يفاجئ الذين يستمتعون بالأساطير التي تُروى عن شمس، أنه يضع في الاعتبار الآية: “قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم”. 31:3

وإن كان شمسًا لا يلتزم بالمعرفة الدينية المنتشرة،  ويخالف علماء الدين في كثير من الأمور، لكنه عاشقًا للنبي. والعشاق وحدهم يدركون كيف يتبع العاشق المعشوق:

“هناك من يعتقد أن اليقين[6] يُغني عن الصلاة والعبادات.

فأقول لأحدهم: هل كان النبي قد وصل لهذا اليقين الذي وصلته أم لا؟

إن قال لم يصل، فعلى الناس قطع رأسه وقتله. وإن قال نعم، وصل إليه. فأرد عليه: لماذا لا تتبع ما يأمرك به؟!   

اتباع النبي  يتطلب أداء الصلوات اليومية والنوافل. ومن خلال الصلاة يكون المعراج، الذي هو ليس بهين، فحتى جبريل لم يصل  إليه.  في قصة معراج النبي محمد عندما يطلب من جبريل الصعود  معه إلى سدرة المنتهى: تعال معي، يرد جبريل: إن خطوتُ خطوة واحدة، سوف احترق “.

اتباع شمس لسنة النبي، لا يعني قبوله بما يتقوله العلماء حول النبي وحول القرآن وتفسيرهم له. فكثيرًا ما استنكر شمس تفسير القرآن الحرفي، وعدّه قصورًا في الفهم. في إحدى فقرات “مقالات” يشير باستهزاء:” تفسير حرفي للقرآن؟ إذًا، إعطِ القرآن إلى طفلٍ عمره خمس سنوات ليفسره لك”.

وفي فقرة أخرى، يذكر إحدى مداخلات مستعميه:   

“يقول لي أحدهم: اجعل لنا تفسيرًا من عندك.

أجيبه: إذا فسّرته فهو من عندي، وليس من النبي محمد ولا من الحق -تعالى-. وقد أفسّره الآن، وأنكره لاحقًا.

فيسألني: كيف ستنكر ما فسّرتَه بنفسك؟

أقول: لماذا توجع رأسي؟ ارحل واتركني لوحدي.

ويستمر في إلحاحه: لن أرحل، قم بتفسيره، وأنا أنكره.

آه، إنك لا تفهم كلامي. حسنا، أرأيتَ الخطّاط؟ هو يستخدم ثلاثة أنواع من الخطوط، النوع الأول: ذلك الخط الذي لا يمكن لأحد سواه أن يقرأْه. والنوع الثاني: الخط الذي يمكنه هو وغيره أن يقرءانه. والثالث: الذي لا يمكن له ولا لغيره من قراءته، وهذا أنا. عندما أتكلم لا أفهم ما أقوله ولا غيري يفهمني”.

   نقد شمس لعلماء الدين قائم على أمرين: الأول أن ما يقومون به من تعليم الناس الدين، ليس لأجل الدين، بل لمصالحهم الشخصية. والثاني أن ما يعلّمونه للناس؛ هو سد منيع يحجب المعرفة الحقيقية. يذكر:

 “يعلمون الناس المعرفة الساذجة، ليسترزقوا منها. ويحثون الناس على فعل الخيرات وتجنب السيئات ليس لأجل الخير بذاته، بل لما يحققه لهم من مكانة اجتماعية مرموقة، فتتحقق مكاسبهم الدنيوية من خلال ذلك.

  أتُدرّس الناس المعرفة الساذجة لتكسب منها؟! هذا الحبل -المعرفة- هو للذين يريدون الخروج من البئر، وليس لمن يريد الخروج من هذا البئر والولوج إلى ذاك البئر…

   ابحثْ عن أصل المعرفة، وهي: من أنا؟ ما هو جوهر ذاتي؟ لماذا أتيت؟ إلى أين أذهب؟ من أين أتيت؟ أين الطريق؟ إلى أين أتوجه؟”.

كثيراما أشار إلى غضاضة معرفة العلماء والفقهاء، لكن نقده لم يطلهم وحدهم، بل كذلك لبعض كتب الصوفية، بمن فيهم القشيري[7] في رسالته:

” لن أقايض حديثا واحدا من أحاديث النبي محمد، بكل ما كتبه القشيري هو وغيره من الصوفية. كتاباتهم لا روح فيهم.” 

وفي نفس الفقرة، ينتقد فخرالدين الرازي، ويراه ليس من اتباع النبي محمد:

“ماذا فعل الفخر الرازي! يقول: محمد النبي  يقول كذا، والرازي يقول كذا! أهو مارق عن الدين؟ هو مرتد إنْ لم يتوب! 

لم يكن ينتقد المعرفة الدينية بالتحديد، بقدر ما كان كلامه ضد العلماء، كالفقرة السابقة.

أيضا كان شديد النقد لمدعي التدين:

“الله أكبر تقولها في الصلاة. لكن قبل ذلك، عليك الاستعداد للتضحية بالأنا من أجله. وإلا، هل تريد أن  تضع الله تحت ذراعك وتذهب للصلاة؟ إنهم يفعلون ذلك، يريدون الله في خدمتهم!

أحدهم يقول: يا الله، افعل لي هذا، وافعل ذاك لي! أشبه بمن يأمر الخادم عنده: ارفع قِدر الطهو من على النار وقدمه لي هنا!”

ولم يسلم الصوفية أيضا من نقده:

“أتساءل عن العلاقة التي يدّعونها مع الله؟ يقولون: الله نديمهم. هل الدخول في حضرته  يشبه الدخول إلى مطعم شعبي بسهولة والاستمتاع بالطعام فيه، وبعدها مغادرته؟  هذا الإله الذي خلق السماوات والأرض، وأظهر العالم، ما هي حاجته من تلك العلاقة معهم؟” شمس يرى أن العلاقة مع الله تتطلب أولًا التوحيد، وليس التوحيد النظري فقط[8]. بل التوحيد العملي أيضًا.

وفي الختام، نورد هذه الفقرة:

“أحدهم قال: الله واحد .

قلتُ: ما هو هذا الواحد؟ أنت في عالم متكثر. انظر لمئات الآلاف من ذرات الغبار. كل واحدة منها تتجلى بشكل مختلف. إحدى الذرات تنتشر في الهواء، والأخرى تذبل وتسقط، وغيرها تتجمد. ما هو؟ هو هو”.

 

[1] : المقالة بعنوان The Real Shams-i Tabrizi, منشورة في كتاب: Beacon of Knowledge: Essays in Honor of Seyyed Hossein Nasr.

[2] : وفي الشرق أيضًا.

[3] : كتاب “مقالات” جمعه مريدو شمس إذ سجّلوا مقالاته بشكل مباشر.  و”مقالات” شمس   هي الأثر الوحيد الذي يدحض الدراسات التي تشكك في وجود شخصه. فآثار شمس مطموسه. حتى أنه لا يوجد له قبر محدد، بل مقامات في أماكن متفرقة. له مقام بقونية في تركيا بجانب مقام مولانا جلال الدين الرومي، ومقام بخوي في غرب آذربيجان، ومقام في الهند.

 

[4] : مادة مركبة ، كان الأَقدمون يزعمون أنها تحول المعدن الرخيص إِلى ذهب، عندما تضاف إليه.

[5] : القطب هو كل من دار عليه أمر جماعة من الناس في إقليم… عند الصوفية كابن عربي، القطب هو  مركز الدائرة ومحيطها ومرآة الحق. وفي اللغة فلان قطب بني فلان، أي سيدهم الذي يلوذون به.

[6] : – يرى الصوفية إن الغاية من العبادة هو اليقين الذي يعني معرفة الله. وعندما يصل المرء إلى هذه المعرفة، تسقط عنه التكاليف والعبادات عنه فلا حاجة إليها. ويستشهدون على ذلك، بالآية  “اعبدْ ربكَ حتى يأتيكَ اليقين” 15:99.

[7] : القشيري: عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة أبو القاسم القشيري (376 هـ – 465 هـ). صاحب الرسالة القشيرية في علم التصوف، ومن علماء الفقه والتفسير والحديث والأصول والأدب والشعر.

[8] : توحيد الخواص عند الصوفية  ليس نظريا ولا يأتي من العقل  والاعتقاد ، بل تجريبيا أو “ذوقيا” بالمصطلح الصوفي. فالتوحيد النظري هو الإقرار بوحدانيته ونفي سواه. وتوحيد الخواص بالإضافة لذلك، يكون من معايشة تجربة روحية  “ذوقية ” يفنى بالحق، ولا يمكن مشاركة “الذائق” فيها. 

من ذاق طعم شراب القومِ يدْريهِ    ومن دراهُ غدا بالروح يَشْريه.  (الشاعر الصوفي أبو مدين).

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!