محمد إقبال وفلسفة التّسامح
خالد محمد عبده
“كلُّ فسادٍ وقع في العالمِ، فإنّ مبعثه اعتقادُ إنسانٍ بإنسانٍ بطريق التّقليد،
وإنكارُ إنسانٍ لإنسانٍ بطريق التقليد” [شمس تبريزي، المقالات].
ثمة حديث شهير يتحدّث عن افتراق الأمة على فرق عدّة، فرقةٌ واحدةٌ من هذه الفرق هي على صوابٍ وما عداها على خطأ، بعضُ من يقرأون الحديث بانغلاق وتعصّب يعتبرونه ميثاقًا ودليلاً على حقّانية ما هم عليه، ووصم غيرهم بالمخالفة والبعد عن الصراط القويم، البعض الآخر يلتمس في رحاب كل هذه الفرق الحقَّ، ولا يتسرّع في رفضها كليّة أو جعلها صورة من صور الضّد للحق، ويسعى في طريق تحققه ملتمسًا من ربّه الأعلى الهداية والتوفيق.
لون آخر من ألوان الفهم يعتبر أن فكرة الحقّ والحقيقة محض وهمٍ بناء على هذا الحديث، إذ لا يمكن الإمساك بالحقيقة في خضمّ هذه الرؤى، فالانتقال من الحيرة إلى رفض كل هذه الأوهام يبدو حلاًّ بسيطًا وسهلا يمكن القيام به دون عناء.
هل يختلف الأمر بالنسبة إلى محمد إقبال؟
في ديوان إقبال (جناح جبريل) يكتب لنا قائلاً:
لا يجد المُحبُّ أي فرق بين الكعبة ومعبد الأصنام
فهذا هو تجلّي الخليل وذاك محرابه.
ويسجّل في شعره موقفه من ضياع المذهب الحقّ في فتن هذه الفرق والمذاهب والطوائف، مؤكّدًا أنه لا يمكن التعرّف على المذهب الحق إلاّ بعد الترك للتحيز المعرفي، ونبذ التقليد، ويناشد مجتمعه قائلاً:
حطّم كل أصنام القبيلة والفئة
حطّم التقاليد البالية التي تقيّد البشر
إن الانتماء إلى قبيلة أو فئة يُطلب منها تحديد نمط الحياة والفكر مسبقًا هو نمط من العبودية التي يرفضها إقبال، لأنه وفقًا لهذا النمط تتحدد سلفًا نظرة الإنسان إلى الأشياء كافة، وتعتري أحكامه الخطأ على الأفكار والأشخاص.
واستنادًا لخبرته الشخصية وتجربته يحكي إقبال عن بعض مشايخ الصوفية في عصره ناقلاً لنا صورة حيّة تفصح عن التعاليم المتوارثة والصورة النمطية التي اعتاد المشايخ في عصره أن يقيّموا الأشخاص بناء عليها.
صورة الصّوفي المعاصر لإقبال تظهر ملامحها بوضوح كما نقرأ في قصيدة (الزّهد والمجون) فالشيخ له من الأتباع والمريدين عدد وفيرٌ يحافظ الشيخ على تكثيره، فبالكثرة يتوطد سلطان الشيخ، يُظهر الشيخ لأتباعه وللجمهور دومًا بعض كراماته وعجائبه، ويرى الشيخ في التصوف وحده (مذهب الحقّ) والشريعة لا بد وأنها مُضمرة فيه.
مظهرُ الشيخ مظهر زاهد عظيم لكنّ قلبه ممتلئ بالخيال السيئ، يصفُ الشيخُ إقبالاً بجملة من الأوصاف الحسنة، فهو المعبّر عن جميل المعاني والأفكار، لكنه ليس منصاعًا لأحكام الشريعة وفي معتقده خلل كبير. ليس إقبالُ من (أهل السّنة) أو ملتزمًا بعقائد السّلف، ويميل إلى التشيّع، هكذا يقول الشيخ عنه، ويزيد أنه يفضّل عليًّا على الصّحابة، ولا يقومُ بتكفير المخالفين للملّة الحنيفية من (الهندوس) وينشغل بالشّعر عن العبادة، ويفعلُ الشيء ونقيضه في آنٍ واحد: (يتغنّى في الليل، ويقرأ القرآن وقت السّحَر، ويعرفُ البلاغة كما يعرف الشّريعة) ولو تحدّث في أمور الزّهد والتّصوف فهو منصور الحلاّج الثاني، وفي النهاية لا تنكشف حقيقة إقبال لعله يؤسس لإسلام جديد!
وحين يواجه إقبالُ الشّيخَ وتلاميذه المنشغلين به وبما نُقل إليهم عنه، يجيبه الشّيخُ بأن من واجبه عليه أن يرشده نحو الشريعة والحقّ، فيخبره إقبال أنه (لا يعرف نفسه) مستعيدًا ما قاله شمس تبريزي عن نفسه لمولانا جلال الدين الرومي، فإقبالُ مفارقٌ لإقبال، ويرجو أن يزوره يومًا إذ لم يقف على حقيقته بعد.
يعرض إقبال لنفسه بشكل جيد من خلال ما يرويه في هذه الحكاية، فهو وإن ختم ما يحكيه عن الشّيخ بأن كلامه خالٍ من السُّخرية إلاّ أنه يظهر بشكل واضح اعتداده بنفسه وافتخاره بها، فتجربته ملأت الأسماع وشغلت النّاس –كما يقول- وهو وإن كان غريبًا في بيئته فإن غربته كغربة الحلاّج الممتلئ بالحقيقة، ومواهبه متعددة، ونشاطاته كثيرة، وهو أوسع من كافة المذاهب التي تتناحر باسم (الحقّ) وقلوب أهلها خالية من معانيه.
سجّل إقبال في دواوينه أشعارا كثيرة حول مسألة التسامح وألّح عليها في أكثر من موضع، فنراه يقول مرّة:
سمائي الزرقاء دون حدود
أنا درويش عالم الطّيور
فالصّقر لا يبني أيّ عشّ
وفي سياق آخر يقول:
أيّها الجاهل اترك التعصب في البيت الزجاجي في هذه الدنيا
لو أنت تفهم فإن الحرية مستترة في المحبّة بين الناس
وإلاّ فإن التمييز بين أنا وأنت هو العبودية الحقيقية
إن محبة الناس هي الخمر المربية للروح
وهي التي علّمتني النشوة بدون الكأس والقدح،
وإن الشعوب المريضة وجدت الشفاء بسبب المحبة.
يعد إقبال التعددية مجازا فالوجود الحقيقي للشعب المجتمع على كلمة لا للفرد المتشظّى بين الفرق، وينصح قارئه أن يكون في الدنيا كالشمعة التي تذوب في المحفل، مناشدا كل أفراد الشعب أن يتوحدوا ليتحقق الجمع بين شتّى طوائفه.
يمكننا أن نعتبر إقبالا مثالاً للإنسان الكوني الذي يريد أن يرتفع البناء الإنساني فوق أية عصبية أو قومية أو حزبية سعيًا منه لوضعه في عالم الحداثة في حاضرنا اليوم، تمامًا كما يُطرح نموذج (جلال الدين الرومي) في الثقافة الغربية، لكن هل بالفعل كان إقبال بهذه السّعة والانفتاح قابلاً كل صورة كتجلٍ لمرآة الحقيقة المتعددة؟
فالصقر الذي لا يبني أي عشّ ويعتبر الأرض كلها ملكا له، هو نفسه من حرص على انفصال المسلمين في الهند وتكوين دولة لهم وكيان مستقل منفصل عن الهندوس(الباكستان).
ربما تغلّب إقبال السياسي على إقبال الشاعر ذي المنحى الصوفي، وتناقض مع مضامين فلسفته وشعره، فكثير من أشعاره يدور حول عدم التفرقة والفصل، ومن ذلك قوله في ديوان (صلصلة الجرس): “فلتكن بيانًا للأخوة ولسانًا للمحبة .. هذا هندي .. وذاك خراساني.. وهذا أفغاني .. وذلك توراني.. فيا أهل الساحل اقفزوا وكونوا بحرًا بلا ساحل”.
ويتكرر المعنى في رسالة المشرق التي عارض فيها ديوان الشاعر الألماني جوته: ” لم تتحرر بعد من روابط الماء والطين.. ما زلت تقول إنك أفغاني أو تركيّ … أما أنا فإني قبل كل شيء إنسان من دون علامة ولا لون، ولست إلا في ما بعد هنديًا أو طورانيًا”.
ربما تراجع إقبال في أواخر حياته عن اقتراح تأسيس دولة الباكستان، كما يخبرنا جلال لآل نهرو، وربما حدث تطور ما جعله يتراجع عن الأفكار التي تعمل على صهر الخلاف والتفرقة في بوتقة الوحدة، لكن هذه المسألة بحاجة إلى درس ومعالجة حتى يظهر الموقف الإقبالي بجلاء ووضوح أكثر من القومية والتحزب ويوقفنا على المعنى الحقيقي للتسامح الذي يتناثر في كثير من أشعاره، ومدى تحققه في الواقع الهندي بوجه خاص.