السينمائيّ أرنو دي جاردان ورحلة تصوير التصوّف الأفغانيّ

السينمائيّ أرنو دي جاردان ورحلة تصوير التصوّف الأفغانيّ

السينمائيّ أرنو دي جاردان ورحلة تصوير التصوّف الأفغانيّ

بثينة الزغلاميّ

بين تعاليم أساتذة الحكمة الهندوسية والصينية كان السينمائي أرنو دي جاردان يبحث عن ذريعة لفهم حكمة أخرى هي التصوف الأفغاني

وحاول تقريب عدسة كاميراته أكثر مما تبوح به مقامات الأولياء المزججة بالأحجية ليفهم أن الافغان لا يقفون على عتبات العالم المنطوق لكن يتوغلون في ايقاع الحرف “الذكر الصوفي و التلاوة القرانية ” وهو يتغلغل في الروح ليتحول الى شيفرة لا بد منها لفهم الاسلام بل انه ركيزتها الأساس ففي أفغانستان امتداد لسلالات طرقية صوفية كالسهروردية والشطارية والتتشيتية والمولوية وسلالة النعم الالهية المنسوبة الى شاه نعمه الله..

وقد اهتم الصحفي جاك موسو بتجربة هذا المخرج والف حوله كتابا سماه “ارنو ديجاردان صديق روحي ” وصدر في يناير 2010بامضاء دار نشر “بيرين “

كانت فتنة أسماء حكيم جامي وحكيم الصانع وجلال الدين الرومي وخواجة عبد الله الانصاري …ترن في كل مكان يتجه اليه بحثا عن الختم الناقص من الحكمة الشرقية فمنذ منذ اول رحلة له الى آسيا عام 1959.التهمت هذه القطعة الفاتنة من الأرض عين وخيال المخرج و كانت الصحاري تتقاطع مع فرنسان ورجال بسراويل فضفاضة ورؤوس معممة ونساء بثياب محلاة بقطع القماش المزخرف والمطرزة بحلي الفضة والنحاس الثقيل .كان لتقاسيم الوجوه وحركة الأجساد في فضاء غريب عن المشاهد الأوروبي فتنتها ولم تكن في حاجة للكلام اذ يكفي ان تراها بعين المحب

“ليس من رضا دون الجميل”

قد تكون هذه العبارة للجامي مدخلا للتعريف بمادة وثائقية سينمائية كان عليها ان تمكث سنوات ليتم انجازها

استعان المخرج أرنو دي جاردان بمترجم درس الفرنسية ولمدة ستين يوما جابا افغانستان في سيارة لاندروفر وكان يلتقطان العناوين من هنا وهناك.فليس ضروريا ان تشهر نفسك بل يتوجب الذهاب مباشرة نحو الناس ا”ن أراد الله ذلك فسيكون اللقاء ” زيادة على أن الشيخ لا يعيش عادة في عزلة بل هو مع الاخرين قد يمتهن عمل بائع او حرفي ويمكنه ان يزاول مهنة عصرية مثل ميكانيكي سيارات .انه يقيم في القرن العشرين وهو يلتزم بدقة بمبادئ القران ويتمتع بصدق لا شائبة عليه وتلقى تدريبا عقائديا مكثفا وهو موسوم من قبل المريدين بسموه الروحي .يجتمع هؤلاء حوله في الخانقاة مرة في الاسبوع من ليلة الخميس الى الجمعة لتبصّر تعاليم الشيوخ الأوائل وممارسة الذكر

 

عتبة أولى ” ما كل من رام الوصل وصل “

 

الشيخ الاول الذي يقصده ارنو ديجاردان ومرافقه المترجم محمد روناك غائب عن المنزل .تقدم زوجته الشاي للزائرين وتدعوهما لتناول الغداء وحين يرجع الشيخ يبدي ودا دافئا ومبهجا لكن حين يطرح عليه ارنو أسئلة روحية يترجمها روناك تفتر أجواء المحادثة وعندما يعلن بخجل عن مشروع فيلمه يجيب الشيخ ” الصورربما لكن الفيلم لا أستطيع تخيله “.وبينما يعارض بعد ذلك تباعا كل الذين التقاهم فكرته للسبب نفسه. وفيما يشبه المطاردة المضنية لمادة الفيلم استقبلهما الشيخ خليفة صاحب بوجه حيوي ونحيف وعظام وجنتين مرتفعتين وأنف منقار النسر ولحية بيضاء وكان عند هبوط الليل يجتمع بتلاميذه الجالسين كتفا بكتف في ذكر يستمر حتى الفجر وهو ” العرض الاول ” الذي حضره المخرج وأثار اعجابه في مزار الشريف .

أكثر الشخصيات التي ألتقى بها أرنو وكانت تملك سحرا وانجذب اليها بقوة كانت في الأغلب من قرى صغيرة وأصحاب دكاكين (في الغرب المسيحي يسكنون أديرة )ويدرك أرنو أن الاسلام بصلواته الخمس الالزامية حوّل العالم الى دير واسع وقد تخلى عن الكاميرا ولكنه لم يتوانى عن بذل مجهود لمحاورة كل شخص يلتقيه بيد ان كل المحادثات كانت تنتهي كسالفاتها .لقد أقنع نفسه بأنّ التقاليد الدينية العظيمة اجتمعت حول جوهر متطابق بعد ليلة كاملة من النقاش مع شيخ صوفي “ياك است دونسيت “واحد هو اثنان أليس كذلك ؟”ويدرك ارنو هناك عدم ازدواجية الهندوس فقد كان يعبر عن جوانب من البوذية والهندوسية التي تشبع بها وكان الجميع يرد عليه بخاصية موازية من مذهبه .

و غيّر محمد روناك مرافقه المترجم موقفه من الصوفية بشكل محسوس ” لقد ذهلت من الاقوال التي كنت اترجمها وها انني اصبح مريدا بالتدريج “فقال له أرنو ” ربما كان دوري أن أسلّمك الى دينك “

 

تفويض”يا عبد يومك هو عمرك “ّ

 

 

بعد مرور ست سنوات وبالتحديد عام 1972.وجد محمد روناك الذي بقي على اتصال بالمتصوفة تغيرا في خطابهم “هل لديك أخبار عن صديقك ؟ كيف أصبح ؟ “لقد تحدث عن فيلم ” وذات يوم قيلت العبارة التي طال انتظارها “يمكنه أن ياتي الآن “يقول رونق “فسرت هذا التغير في الموقف على انه دعوة ” شعر المتصوفة بالتهديد وبالدنوّ من أوقات عصيبة بالنسبة لاخوانهم “.يسجل ارنو في شتاء كابول السادة الذين التقاهم عام 1967في ذكر يستمر ليلة كاملة .تتمايل الصدور بشكل متسارع ويعلق ارنو ” بعد خمسة عشر عاما من الصبر حصلت على أجرتي .انجزت افلاما لم يتمكن غيري من انجازها “.

لكن الصعوبات لم تنته فاحيانا لا توجد كهرباء في مكان التصوير واحيانا اخرى تكون الطاقة غير ملائمة .. ويختار أرنو المشاهد التي تقبل ويمكن فهمها من الغربيين كما فعل في الهند احتراما لطقوس وعادات أولئك الذين يستقبلونه.

نهاية عصر ” وفي بحر العشق ذبت كملح “

 

بعد اكتمال التصوير في كابول يذهب أرنو دي جاردان مع روناك لأخذ صور لواجهات البيوت القديمة التي ستمثل مقاطع المشاهد في الفيلم .وسط المدينة مدرعات انتصبت ليلا فالأمير داود ابن عم الملك طاهر شاه الذي كان يقضي اجازته في الريفييرا الايطالية قام بانقلاب واعلن قيام الجمهورية الأفغانية بدعم سري من الاتحاد السوفياتي .وهكذا لن يتم اكمال المشاهد المخطط لها ويذهب روناك الى باريس لحضور مونتاج العمل . وعرض الجزء الأول تحت عنوان “اللوح المزدوج .أقطاب ومريدون “وكان ذلك بتاريخ 26 أكتوبر 1974على القناة الفرنسية الثالثة واما الجزء الثاني فكان “قلب الأخوّة “وعرض بعد أسبوع اي في 2 نوفمبر .

أما في أفغانستان فبعد أن أطاح الشيوعيون بالأمير وطاردوا المتصوفة وأعتبروهم رجعيين وقاموا في البداية بحرق وجمع الكتب الدينية ثم هاجموا هؤلاء فمن بين عشرين شيخا حاضرا في أفلام أرنو تم قتل ثمانية عشر وكان ذلك غالبا في ظروف شنيعة .اراد هؤلاء ان يثوروا مستخدمين السلاح عندما اعتقلت الشرطة أفرادا منهم كان هناك صوت “لا .لا عنف هذا قدرنا “كان المصير الأكثر قسوة بالتأكيد يتعلق بشيخ جامع قندهار الذي حمله الشيوعيون في طائرة ثم ألقوا به فوق أحد الأضرحة

كيف نفسّر احساس المتصوفة المسبق من وقوع الخطر وتوجسهم من المآسي التي ستستمر ثلاثين عاما بعد ذلك والتي ذهبت بعائلاتهم وبمريديهم وكيف نفسر معاداة حركة طالبان بعد ذلك لهم باعتبارهم ورثة تصور اسلامي بعيد عن الحركات المتشددة

انه اشارة ملموسة على التواصل مع البعد المعيش والهرب الى الذات / قلب الوجود دفاعا عن الفطرة السليمة

القيمة الفنية للفيلمين

جزئان وثائقيان يدافعان عن روحية الانسان متخطين عائق اللغة والتصور المسبق عن الاسلام الطرقي .هناك مكاشفة لا تستحق استخدام الحوار فيكفي ان تسجل الطقوس حضورها ليستوعب المتفرج انه بصدد بناء عالم ذهني كامل ينضاف الى التجارب المخلصة للروح

السيد والتلميذ او الشيخ والمريد يناقش تصورا للاسلام من خلال الحياة اليومية لمسلم افغاني كما يعدد أسس الطريق الصوفية المختلفة وانتمائها الى تقاليد هذا الدين والممارسات الفردية والجماعية للذكر وعلاقات المتصوفة ببعضهم ويبدو تعليق المخرج الصوتي رصينا ودقيقا ويتيج المجال لجميع اصناف المشاهدين بالتعرف على هذا العالم .

الاشراق الداخلي لبعض “الشيوخ ” يبدو متميزا اذ ركز المخرج على وجوههم المضيئة وحركاتهم البسيطة والتي لا تحتاج الى ديكورات لتبدو مكتملة بذاتها

.وركز ايضا على الهدوء المنبعث من التلاميذ وهم بصدد تأدية طقوسهم في المزارات و وكيفية اختيار ملابسهم المتواضعة والنقية تعكس صفاء الفكرة .يمكن الخلاص بالبساطة نفسها التي يتم بها تقبل الغيب والايمان المطلق به والاذعان للامرئي دون الحاجة الى سفك دماء أو تفاسير “عدوانية ” للوصول الى الله

“في قلب الاخوّة ” تظهر الصحبة من خلال تتبع التقاليد الصوفية الافغانية التي حافظت على خصوصيتها المبسطة والتأكيد على أنها تمارس منذ أكثر من 1300 عاما خلت

تتلاشى التعليقات لافساح المجال للموسيقى والأغاني والدعوات “يا هو ” “يامن لا اله اللا هو ” “الله ما في قلبي غير الله “” بسم الله والحمد لله”.

السينما شهادة توثيقية

 

 

يقول الشاعر الأفغاني عبد الرحمن بابا “داخل حديقتك نور أكثر توهجا من المصباح .داخل حديقتك الغراب الأسود يبدو أشبه بطائر الفينيق عندي ” ليس من اليسير الربط بين هذا البوح الصوفي وبين تعريف المخرج الأمريكي فيليب دين للفيلم الوثائقي اذ يرى أنه في الواقع “سلاح من أسلحة الدعاية “

وقد تكفل أرنو ديجاردان بالدعاية لمادته السينمائية دون ان يفقد الشروط المهنية التي يتطلبها هذا النمط من الأفلام فقد عمل على استقراء واقعي لخامات حية وهي هنا شخصيات ذات بعد عقائدي ضمن اطار مكاني بقي تاريخيا صامدا رغم التحولات السياسية التي شهدتها أفغانستان .

ولد المخرج في 18 يونيو 1925.عمل في مؤسسة الاذاعة والتلفزيون الفرنسية من عام 1952الى 1974 ويعد من المخرجين الأوائل الذين قدموا للفرنسيين من خلال الوثائق المتلفزة تقاليدا ظلت بعيدة عن اهتمام المشاهد الغربي البسيط .انضم دوجاردان الى جماعة الفيلسوف جورج غوردجاف “الغرجوفية “الفيلسوف والمعلم الروحي والمتصوف الروسي اليوناني الأصل وكان اول تواصل له مع المعرفة الذاتية وتلقى قبلها تعليمه في كنيسة مسيحية بروتستانية كما غذى عطشه للفهم الروحي العميق لما وراء الطقس التعبدي من خلا ل بقائه مدة في كنيسة كاثوليكية وكان مولعا باليوغا والتيبتية والزان والتصوف الاسلامي …وقرر السفر الى الهند حيث التقى بشخصيات مؤثرة ومحفزة على كشف تمثلات الطاقة الموجودة بين الانسان والكون ومن هؤلاء المعلّم الروحي “سوامي برانجبات ” .

ألف هذا المخرج كتبا منها “صوت القلب ” و”في البحث عن الذات -4 أجزاء -” ولأجل مييتة دون خوف ” و”العالم الحديث والحكمة القديمة ” و”أنت هذا ” …أعطى محاضرات في التحفيز الذاتي والدعوة الى امتلاك القدرة على الوصول الى السلام الداخلي ..

 

 

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!