الحقيقة والشريعة: التفسير الصوفي بين ظاهر الشرع وإمكانيات فقه اللغة
بقلم: عبدالسلام الربيدي
التفسير عند علماء القرآن نوعان : تفسير بالمأثور أو تفسير الرواية وتفسير بالرأي أو تفسير الدراية ، ويضيف بعضهم إلى هذين النوعين التفسير الإشاري.
ويقصدون بالنوع الأول التفسير المعتمد على المرويات من الكتاب وهو ما يسمى بتفسير القرآن بالقرآن أو من السنة باعتبار مهمة السنة البيان لما أشكل من القرآن أو من المأثور عن الصحابة وتابعيهم باعتبارهم الأقرب إلى صاحب الرسالة وزمن التنزيل ، ومن أمثلة هذا النوع من التفسير جامع البيان للطبري (ت310هـ) وهو تفسير متقدم نسبيا.
وأما النوع الثاني فيقصدون به التفسير المعتمد على المعرفة باللغة وبأصول الفقه وبالمنطق وغير ذلك، وبعبارة موجزة يقصدون به التفسير القائم على المعرفة بما يسمونه علوم الآلة وهي العلوم الإنسانية الرائجة في العصر القديم،ومن أمثلة هذا النوع من التفسير تفسير الزمخشري المعتمد أساسا على اللغة وتفسير القرطبي الموجه توجيها فقهيا وغيرهما من التفاسير الموجهة حسب الثقافة الطاغية للمفسر.
يبقى النوع الثالث المضاف عند بعض أولئك العلماء وهو التفسير الإشاري : وهو التفسير الخاص بالمتصوفة دون غيرهم ( مع استثناء بعض الفرق الباطنية التي يتسم تفسيرها الإشاري بطابع ايديولوجي يؤيد المذهب المتبع من قبلهم) وهم يرون أن في القرآن إشارات تخفى على غير الخواص، ومن أمثلة هذا النوع من التفسير تفسير القشيري الذي سنتكلم عنه بعد قليل.
و إذا تحدثنا هناعن قضية المنهج فإن النوع الأول يعتمد على منهج تاريخي نقلي استردادي ينظر إلى النص في ضوء النصوص المساعدة التي تبينه وتوضحه، وفيه تتلاشى مساحة الاجتهاد في النظر إلى المعاني المتواردة عند التأمل إلى حدها الأدنى.
أما النوع الثاني فيعتمد على منهج المعاينة الآنية في ضوء فقه باللغة وبمقررات الشرع وفيه تتسع مساحة الاجتهاد في الرأي إلى مدى أبعد في حدود ما تتيحه فيلولوجية اللغة والثقافة الأصولية للمفسر.
وأما النوع الثالث فيعتمد على منهج ذوقي صوفي ينطلق من اللغة ولا يقف عند فيلولوجيتها التاريخية و إنما يتجاوزها إلى آفاق أرحب هي أفاق الروح الحرة التي لا تقبل القيود والرسوم والتي تغامر من حدود المعهود إلى مطالعات الشهود. وسنزيد هذا النوع الأخير توضيحا من خلال استعراض مثال نصي واحد يمثل المجموع:
جاء في كتاب( لطائف الإشارات) ، وهو تفسير صوفي كامل للقرآن الكريم للإمام القشيري، عند تفسير قوله تعالى وَأَتِمُّواْ الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ…الآيةالبقرة196 ما نصه : ” إتمام الحج على لسان العلم القيام بأركانه وسننه وهيئته ، و إراقة الدماء التي تجب فيها دون التقصير في بعض أحوالها.وفي التفسير أن تحرم بهما من دويرة أهلك.
وعلى لسان الإشارة الحج هو القصد ؛ فقصد إلى بيت الحق وقصد إلى الحق ، فالأول حج العوام والثاني حج الخواص. وكما أن الذي يحج بنفسه يُحرم ويقف ثم يطوف بالبيت ويسعى ثم يحلق ، فكذلك من يحج بقلبه ؛ فإحرامه بعقد صحيح على قصد صريح ، ثم يتجرد عن لباس مخالفاته وشهواته، ثم باشتماله بثوبي صبره وفقره ، و إمساكه عن متابعة حظوظه من إتباع الهوى، و إطلاق خواطر المنى ، وما في هذا المعنى. ثم الحاج أشعث أغبر تظهر عليه آثار الخشوع والخضوع، ثم تلبية الأسرار باستجابة كل جزء منك. و أفضل الحج الشج و العجّ ؛ الشج صب الدم والعج رفع الصوت بالتلبية ، فكذلك سفك دم النفس بسكاكين مخالفتها ،ورفع أصوات السر بدوام الاستغاثة وحسن الاستجابة ثم الوقوف بساحات القربة باستكمال أوصاف الهيبة. وموقف النفوس عرفات وموقف القلوب الأسامي والصفات لعز الذات عند المواصلات. ثم طواف القلوب حول مشاهد العز، والسعي بالأسرار بين صفَّي كشف الجلال ولطف الجمال. ثم التحلل بقطع أسباب الرغائب والاختيارات ، والمنى والمعارضات بكل وجه.”[1].
وهذا النص- وهو مثال واحد فقط من كتاب تفسير إشاري كامل – يجعل من ظاهر الشريعة مدخلا إلى باطن الحقيقة ، فليس بين الشريعة والحقيقة من تناقض في مدرسة القشيري ، وقد لخص منهج هذه المدرسة في رسالته بقوله : ” الشريعة أمر بالتزام العبودية والحقيقة مشاهدة الربوبية ، فكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير مقبول وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصول، فالشريعة جاءت بتكليف الخلق والحقيقة إنباء عن تصريف الحق، فالشريعة أن تعبده والحقيقة أن تشهده ، والشريعة قيام بما أمر والحقيقة شهود لما قضى وقدر و أخفى و أظهر “[2]. وتمثل هذه المدرسة ما عرف بالتصوف الوسطي المعتدل. و أرباب هذا المسلك متبحرون في الشرع وفي اللغة من جهة وفي الأحوال والمقامات من جهة أخرى . فالقشيري تلميذ الدقاق ، المتصوف الكبير وصهره ، ولكنه قبل أن يعرفه و يصحبه طويلا كان قد أخذ حظا وافرا من العلم الشرعي على يد علماء عصره و أبرزهم الاسفراييني . وهو صديق للجويني إمام الحرمين وشيخ الغزالي. فالقشيري لم يكن بعيدا عن علوم الشريعة و أربابها لكنه اتجه اتجاها روحيا أبان عنه في مؤلفاته وخصوصا رسالته الشهيرة المعروفة بـ” الرسالة القشيرية” وتفسيره المعروف ” بلطائف الإشارات”[3].
وجدل الشريعة والحقيقة عند المتصوفة هو جدل الحضور والغياب ، فالشريعة حضور في مقام الإدراك والحس ، والحقيقة غياب عن كل ذلك. وقد كانت هذه المدرسة الوسطية في التصوف تحاول المزج بين الحالين و إن بدا منها أحيانا ما يشبه التناقض . يحكي الشعراني في رسالته ( تأويل الشطح) أن الشبلي تواجد بحضرة الجنيد – والجنيد من أبرز من جمع بين الشريعة والحقيقة ولذلك كان مقدما في الحالين – فقال له الجنيد :” يا أبا بكر إن كنت غائبا فالغيبة حرام ؛ لذهولك عما كلفت به في كل نفس ، و إن كنت حاضرا ففعلك هذا في الحضرة سوء أدب “[4]. وهذا القول في ظاهره يحمل تناقضا صارخا؛ فالجنيد يطلب من مخاطبه أن لا يكون حاضرا ولا غائبا في الوقت نفسه . لكن المتأمل يعرف أن المقصود هو المزج والتوسط في الحالين ، فبين الحضور والغياب مقام معلوم ، يدخل الكلام حوله في باب ما يسميه القوم المضنون به على غير أهله[5]، إذ هو يدرك بالذوق لا بالقول. فالحديث عنه مع غير أهله الذين لم يذوقوه قد يكون مدعاة للتكذيب أو السخرية.
والقشيري يريد أن يبين أن الحج في الشرع ما يعرفه الناس من مناسك لكنه عند الخواص مقام روحي يُقصد فيه الحق بالتحلل من أهواء النفس ورعوناتها والخضوع لجلال المولى ، ولذلك فهو لا يرتبط بموسم ولا بميقات.
وما يلاحظ على هذا النوع من التفسير أنه يعتمد على مبدأين : مبدأ روحي نفسي ومبدأ لغوي . ويمكن أن نطلق على ذلك المبدأ الروحي الحدْس الذاتي أو التجربة الروحية الذوقية التي تنشأ بفعل مجاهدة النفس ورياضتها حتى تجد كل ما تريده في كتاب الله ، يقول الشيخ أبو مدين الغوث – وهو شيخ محيي الدين ابن عربي – ” المريد من يجد في القرآن ما يريد”[6] . ويتجلى هذا المبدأ، هنا، في تحويل شعيرة الحج ،المشروعة بنص القرآن والتي تقوم على الأفعال الحسية، إلى تجربة روحية لا تدرك بالحواس . وهذا يقودنا إلى أداة هذا التحويل وهي ما أسميناه بالمبدأ اللغوي ، فاللغة هي الأداة التي بها يُرسم العالم وينطبع في الذهن ، ومن هنا تتغير التجارب بتغير سياقات اللغة . فالحج تجربة حسية في ظاهرها ، لكنها عند من أسماهم الأستاذ القشيري بالخواص مقام روحي لا يتحقق فيه شيء من لوازم تلك التجربة الحسية. فالوقوف غير الوقوف والسعي غير السعي ، وقل كذلك عن الإحرام والتلبية والتحلل. الدوال اللغوية هي الدوال نفسها لكن المدلولات تغيرت لتغير الصورة الذهنية.
وإذا كانت العلامة في صورتها العامة – كما يذهب أهل السيمياء – هي ” الأداة التي من خلالها تأنسن الإنسان وانفلت من ربقة الطبيعة ليلج عالم الثقافة الرحب الذي سيهبه طاقات تعبيرية هائلة “[7]- إذا كانت كذلك ، فإن لها تجليات متعددة داخل الثقافة ؛ إذ تتلون بلون السياق الذي ترد فيه ، وربما فرغت من محمولاتها الأولى لتشحن بمحمولات جديدة. وبذلك يخلق بها المستخدم أنظمة ثقافية صغرى داخل النظام الثقافي العام .
وهذا الخلق هو ما يسمى بالإبداع ، والإبداع يعني ابتداع أنساق جديدة في الثقافة بحيث تثرى وتتنوع ، و إذا تنوعت أنساق الثقافة توزعت إلى مراكز وهوامش ؛ فتتخلق أنساق لغوية وثقافية مهيمنة تأخذ المركز كما هي الحال مع ما يسمى بالأدب الرفيع أو الرسمي أو العمودي أو الفصيح أو الذكوري أو المتلائم مع التيار الواسع من الجمهور أو غير ذلك من الأوصاف ، وتتخلق ، من الجهة المقابلة ، أنساق لغوية وثقافية مستبعدة من المركز تقبع في الهوامش البعيدة كما هي الحال مع أدب الشطح الصوفي أو الأدب المكشوف أو الأدب المعارض للسلطة السياسية أو الأدب النسوي أو غير ذلك.
يتصالح أدب المركز مع جمهوره ويتكلم بمعهوده من اللغة، بينما يخرج أدب الهامش على ذائقة جمهور المركز ليؤسس له أنماطا من الكلام تتسم بصفات خاصة منها العدول عن المعهود من القول والاتجاه نحو الإغراب في استخدام المفردة وفي التصوير.
وهو المقصود –في سياقنا هذا – بما يتردد من أن المتصوفة قد فجروا اللغة؛ أي أنهم أفرغوا الدوال من مدلولاتها المستهلكة من قبل الجمهور العريض وشحنوها بمدلولاتهم الروحية ؛ إذ نقلوا الألفاظ من مجال تداولي (هو السياق الثقافي الأكبر) إلى مجال تداولي آخر( سياق ثقافي أصغر). والقول في بعده التداولي خاضع لمقامات الحال تبعا لمبدأ الاختلاف في استعمال اللغة.
و في هذا السياق الثقافي الأصغر ( الاستخدام اللغوي الصوفي) تمتزج التجربة الروحية القائمة على الذوق بالمعرفة اللغوية القائمة على دراسة حقائق الوضع اللغوي و معرفة فسحة الاستعمال. فالحج في أصله اللغوي هو القصد ، لكنه في الشرع قصد مخصوص إلى البيت الحرام . و القشيري يطلق اللفظ (الحج) من إساره النسبي المحدد إلى رحاب المطلق الذي لا تحده الحدود ليرجع إلى أصله اللغوي آخذا الطابع الروحي المضاف . الحج عندهم قصد الحق ، وذلك مطمع السالكين ومنتهى رغبة الواصلين ، كما تبين أدبياتهم.
ورغم أن كتب المتصوفة قد احتفظت لنا بسجل أسلوبي خاص إلا أن هذا السجل لم يخرج عن المعروف المتداول في سياقات أخرى في صورته المورفولوجية الصوتية ، غير أن ما يميزه هو اختلاف الدلالة فكلمات مثل : قصد و تحلل و حال وصحو وفناء وسكر تستخدم في سياقات أخرى إلا إن لها دلالتها الخاصة عند القوم والتي تقتضي أفقا من التلقي الخاص المزود بالثقافة اللازمة[8] . و التفسير الإشاري يدخل تحت هذا الحقل الذي أسس له مفسرو القرآن من الصوفية منذ زمن سهل بن عبدالله التستري صاحب أول تفسير إشاري مرورا بالقشيري ثم ابن عربي فمن لحقهم حتى زمننا الحاضر.
لا يفهم المتصوفة الحج كما يفهمه العوام وإن لزموا المقام و أقاموا المنسك معهم ، و أفاضوا من حيث أفاض الناس! ولا يفهمونه كما يفهمه علماء الأنثروبولوجيا الاجتماعية من حيث كونه – كما يرى سولناو مثلا- عملية تفاعل اجتماعي متعددة الأوجه[9]. إن الحج عندهم حج الروح نحو المقصد الأسمى ، والمحل الأسنى ، وهو مقام عرفان، وموطن قربان؛ يقول الحسين بن منصور الحلاج :
للناس حجٌّ ولي حجٌّ إلى سكني تُهدى الأضاحي وأُهدي مهجتي ودمي [10] .
ويقول عبدالرحيم البرعي وقد جذبته الحال نفسها :
ضحوا ضحاياهم ، وسال دماؤها و أنا المتيم قد نحرت فؤادي[11]
هل عطل المتصوفة الشرع ؟ لا لم يعطلوه، ولكنهم استخرجوا الجواهر من الظواهر. وما فائدة تلك الظواهر إذا لم يتحقق ما وراءها من جواهر في مقاصد الشرع نفسه؟!. قال تعالىلَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ… الآية البقرة177. فالبرّ ليس فقط في الظواهر المحسوسة من الأقوال والأفعال ولكنه في الخفي من مقاصد الأحوال. والقرآن – هنا- يفسر نفسه بنفسه بصورة إشارية.
البرّعلامة ثقافية ، لكن ما يفهمه العامة من البر غير ما يفهمه أصحاب الذوق الروحي الذين لا يقفون عند رسوم المفردات و إنما يصلون منها إلى المعاني المجردات الخفيات . فالبر عند الأولين علامة على التوجه نحو جهة معينة من جهات الأرض ، والبر عند الآخرين التوجه نحو مالا تحيط به الجهات ولا تعتريه الحادثات.
غير أن المرء قد يتساءل عن أهمية الظاهر المشروع إذا كان الجوهر في الخفي المغمور؟ وللإجابة عن هذا التساؤل يمكن أن نرجع إلى أقوالهم ، يقول الجيلاني : ” لولا الكثائف ما علمت اللطائف ، ولولا آثارها ما ظهر منارها، ومن خبت ناره انهدّ مناره “[12] فبالظاهر الواضح يحصل الوصول إلى الباطن الخفي. و استتباعا يمكن أن يقال : لولا العبارة ما استقامت الإشارة ، ولولا الشريعة ما كانت الحقيقة ؛ أي لا يمكن الفصل بين المرسوم من الهيئات الظاهرة للشرع والمقصود منها عند التحقق بالمعرفة.
ومن هذا الباب يمكن تفسير بعض المظاهر السلوكية عند أهل المعرفة ، ومنها على سبيل المثال ترديد بعض الآيات و إعادة بعض المفردات مرات ومرات عند قراءتهم لسور القرآن . وهذا الأمر ، فيما يبدو لنا ، عائد إلى محاولة اختراق كثائف الأحكام الظاهرة إلى لطائف الإشارات المتخفية لتتحقق غاية ذات وجهين : وجه يعرف به حقيقة ظاهر الشرع ؛ أي ما يناط بأفعال المكلفين من أتباع الملة ، ووجه يحصل بمعرفته التحقق بمقاصد الشارع على المستوى العميق المستنبط من ظاهر العلامات اللغوية للآيات لتبدو التصفية من وراء ظاهر الصلاة والتزكية من وراء ظاهر الزكاة و الإمساك عن الركون إلى الأغيار من وراء ظاهر الإمساك عن الطعام والشراب والنكاح وقصد الحق من وراء ظاهر قصد البيت ونحو ذلك.
ومن هنا فإن لنا أن نطلق على العلامة اللغوية التي يتعامل معها مفسرو المتصوفة (العلامة المزدوجة) وذلك أن لها ظاهرا وباطنا ؛ وبعبارة اصطلاحية يمكن أن نقول إن للعلامة عندهم دالا واحدا ومدلولين : و أحد هذين المدلولين معروف ومتداول اجتماعيا والآخر لا يحظى بالتداول إلا في إطار تجربة ثقافية خاصة. فالمدلول الأول لدال (حج) قصد البيت ، بينما المدلول الثاني قصد الحق . ولا يثير الدال (حج) المدلول الثاني إلا عند تكوّن الصورة الذهنية له لدى فئة من الناس سماهم القشيري الخواص.وتكوّن هذه الصورة الذهنية لدى الخواص لم يأت اعتباطا وإنما جاء بعد مجاهدة ورياضة أنتجت هذا النوع من التعبير والفهم.
ولقد أدرك الشيخ ابن عربي هذه الحقيقة اللغوية الروحية فرأى أن هذا النوع من النظر في القرآن هو تأويل وليس تفسيرا ، يقول في مقدمة تفسيره للقرآن الكريم متحدثا عن خبرته في التعامل مع آياته ومشيرا إلى حديث نبوي فحواه أنّه : ما نزل من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع: ” وفهمتُ أن الظهر هو التفسير والبطن هو التأويل والحد ما يتناهى إليه الفهوم من معنى والمطلع ما يصعد إليه منه فيطلع على شهود الملك العلام “[13]. و إذا تلمسنا المقارنة بين ابن عربي والقشيري فإننا سنجد أن ظاهر الشريعة يتطابق مع سطحية التفسير وباطن الحقيقة يتطابق مع عمق التأويل . فقد أشار القشيري إلى شهودية الحقيقة وأشار ابن عربي إلى شهودية المطلع الذي يختلف عن الحد . فالشريعة ، بذلك ، تعني الالتزام بالحد بينما الحقيقة تعني الاطلاع والمشاهدة.
وأمر المشاهدة والتعبير عنها لا يتسنى لأي أحد فهو نتيجة حتمية لمجاهدات تقوم على مبادئ صارمة يلخصها ابن عربي في رسالته “حلية الأبدال”[14] – متبعا المكي في قوت القلوب – بأربعة مبادئ هي : الصمت والعزلة والجوع والسهر.
وأمر التعبير عندهم خطير، يمكن أن يعرض صاحبه للقتل [15]، ويمكن أن يدخله في مزلات عقدية ومشكلات إجتماعية ؛ وهذا ما حدا بالغزالي إلى التحذير من التسرع في التعبير ، وقال ” صدور الأحرار قبور الأسرار”[16] وحث السالكين على التلميح والإلماع . فالتعبير له صفات وله مناسبات وله سياسة خاصة يعرفها المتمرسون من أهل الأحوال والمقامات.
____________________________
الهوامش :
[1] ) أبو القاسم عبدالكريم بن هوازن القشيري ، لطائف الإشارات ( تفسير صوفي كامل للقرآن الكريم) ، قدم له وحققه وعلق عليه : د. إبراهيم بسيوني ، المجلد الأول ، ص163و ص164، ط2، مركز تحقيق التراث – الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ،1981م.
[2] ) أبو القاسم عبدالكريم بن هوازن القشيري ، الرسالة القشيرية ، ص46، مطبعة البابي الحلبي ، القاهرة- مصرط3 ، 1379هـ – 1959م.
[3] ) حول حياة القشيري ومدرسته ينظر : المصدر السابق مقدمة المحقق ص 7 وما بعدها.
[4] ) عبدالوهاب الشعراني ، الفتح في تأويل ما صدر عن الكمل من الشطح ، دراسة وتحقيق : قاسم محمد عباس ، ص74، ط1، أزمنة للنشر والتوزيع ، عمان – الأردن ، 2003م.
[5] ) لأبي حامد الغزالي كتاب بعنوان المضنون به على غير أهله.
[6] ) عبدالكريم الجيلي ، شرح مشكلات الفتوحات المكية ، دراسة وتحقيق : د. يوسف زيدان (دراسة المحقق ص22) ، سلسلة تراثنا ، دار الأمين ، القاهرة – مصر 1419هـ – 1999م.
[7] ) أمبرتو إيكو ، العلامة : تحليل المفهوم وتاريخه ، ترجمة : سعيد بنكراد ، مراجعة : سعيد الغانمي ، ص9 (مقدمة المترجم) ، كلمة ( أبوظبي)- المركز الثقافي العربي (بيروت والدار البيضاء)،ط1، 1428هـ – 2007م.
[8] ) ولإدراك المتصوفة لهذا الأمر ألف بعضهم معاجم لاصطلاحات أهل التصوف، أشهرها لابن عربي.
[9] ) شارلوت سيمور سميث ، موسوعة علم الإنسان : المفاهيم والمصطلحات الأنثروبولوجية ، ترجمة : مجموعة من أساتذة علم الاجتماع بإشراف محمد الجوهري ، ص334، ط1، المشروع القومي للترجمة ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة – مصر 1998م.
[10] ) أبو المغيث الحسين بن منصور الحلاج ، ديوان الحلاج : حققه و أصلحه : كامل مصطفى الشيبي ، ص134، منشورات الجمل ، كولونيا ( ألمانيا) – بغداد ،ط3 ،2007م.
[11] ) عبدالرحيم البرعي ، ديوان البرعي ، المكتبة الشعبية ص41 ، د.ط، د،ت.
[12] )تنظر العبارة في مقدمة كتاب شرح مشكلات الفتوحات المكية الآنف ذكره في الهامش 5.
[13] ) محيي الدين ابن عربي ، تفسير ابن عربي ، ص3وص4، المكتبة التوفيقية ، القاهرة ، د.ط ، د.ت.
[14] ) محيي الدين ابن عربي ، حلية الأبدال : ضمن رسائل ابن عربي ، وضع حواشيه : محمد عبدالكريم النمري ، ص389، دار الكتب العلمية ، بيروت- لبنان ، ط1،1428هـ – 2008م.
[15] ) أدى التصريح في التعبير عن الموارد والتنزلات إلى صلب الحلاج وقتل السهروردي وتعريض حياة آخرين للتهديد المستمر حتى الممات.
[16] ) أبو حامد الغزالي ، مشكاة الأنوار ومصفاة الأسرار ، شرح ودراسة وتحقيق الشيخ : عبدالعزيز عزالدين السيروان ،ص117 عالم الكتب ، بيروت – لبنان ، ط1،1986م.