زراعة النّور في كون منشور..الغضب يسرق طِيْبَ العَيْش

زراعة النّور في كون منشور..الغضب يسرق طِيْبَ العَيْش

  زراعة النّور في كون منشور

الغضب يسرق طِيْبَ العَيْش

بقلم: د. سعاد الحكيم

ما من إنسانٍ إلّا والقوّة الغضبيّة مغروسة في فطرته البشريّة. وهذه القوّة بحدّ ذاتها حياديّة، لا توصف بالكرم ولا باللؤم. ولكن عندما تنفعل قوّة الغضب بسبب حدث ما أو في ظرف ما، ثمّ يتمظهر الانفعال في سلوك خارجيّ.. فإنّ هذا السّلوك الخارجيّ هو الذي يجعل الرّائي يمدح صاحبها أو يذمّه. وهذا يعني، أنّ المدح والذمّ يتعلّقان فقط بفعل الغضب وبسلوك الغضب، وليس بوجوده كقوّة في فطرة الإنسان. والدّليل على ذلك أنّ النبيّ المعصوم صاحب الخُلُق العظيم عليه صلوات الله قال: ((إنّما أنا بشرٌ أرضى كما يَرْضى البشر، وأغضبُ كما يغضبُ البشر…)).

وهذا يجعلنا نستنتج؛ أنّ الغضب هو من طبيعة البشر. وأنّه من المقبول شرعاً وعقلاً وخُلُقاً واجتماعيّاً، أن يتألّم الإنسان ويتأذّى وبالتّالي تتحرّك في جوانيّته قوّة الغضب، وهو غير مؤاخذ بسبب ولادة هذا الشّعور في أعماقه، ولكنّه مسؤول فقط ومؤاخذ عن تصرّفاته عقب غضبه، وعن نمط تعامله مع مشاعر الغضب المتفاعلة في نفسه.

وسوف أحاول بوقفات خمس إجماليّة، أن أتشارك مع القارئ رصيد قراءاتي وخبراتي في هذا المجال:

1 – الغضب نوعان

حيث إنّ الله سبحانه أودع الغضب في فطرة الإنسان، فهذا يعني أنّها ضروريّة له ومسخّرة لاستقامة حياته في الأرض. وهذا يجعلنا ننظر في غضب صفوة البشر من الأنبياء – عليهم الصّلاة والسّلام – والمصلحين والصّالحين وقادة المجتمع، فنرى أنّ الغضب غَضَبان؛ كريمٌ ولئيم:

1»- الغضب الكريم: وهو غضب معدودٌ من حسن الخُلُق، لأنّه من جنس الحميّة السّليمة الضروريّة لاستقامة الحياة. أمّا الأسباب المهيّجة لهذا الغضب الكريم فمن جملتها: الظّلم، والفساد، وضياع الحقوق، وأكل أموال الناس بالباطل، وتزييف الحقائق، واستباحة الضّعفاء… وهو غضب لله سبحانه ولرسوله صلوات الله عليه، وللوطن، وللأهل، وللأرض، ولكلّ مقدّس..

ومع أنه غضب مطلوبٌ ومحمودٌ إلا أنّ الواجب، الشّرعيّ والعقلي، يقيّده بحدّ الاعتدال. وهذا يعني أن تظلّ أعماله وأفاعيله مستقيمة على الحقّ، دون تطرف في المشاعر أو همجيّة في الممارسة. وهذا الموقف السويّ في لجّة الغضب يدلّنا عليه قول رسول الله عليه صلوات الله: ((اللهمّ إنّي أسألك كلمة الحقّ في الغضب والرّضى)).

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أمر رقيق، لفتنا إليه عدد المرات التي نشهد فيها غضباً كريماً يتحوّل أثناء الممارسة (الرّعناء أو المتطرّفة) إلى ضدّه.. والإشارة هي: نحذّر أنفسنا وغيرنا من أن يضيّع فرصته في الغضب الكريم بأعمال متطرّفة تجعله غضباً مدمّراً لا مُصْلحاً.

2»- الغضب اللّئيم: وهو غضب يفتح في الأعماق نافذة على الجحيم. لأنّه أشبه بالنّار التي تثوّر الأعماق وتجعل دم القلب يغلي، وينتشر منه الغليان في العروق، ثم يرتفع الدمّ إلى أعالي البدن كما يرتفع الماء الذي يغلي في القدر، فينصبّ في الوجه ويظهر احمراراً في البشرة والعينين وانتفاخاً في العروق.

وهذا الغضب الجامح يدفع صاحبه – إن لم يتمالك ذاته – إلى إرادة الثّأر والتّدمير، والسعي إلى قصاص ظالم يُخرج الإنسان عن جادّة الحقّ والعدل. يقول تعالى: ﴿وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى 40].. إنّه «جنون مؤقّت»، قد يتسبّب في قطع الأرحام وفي إشعال نارِ عداواتٍ تظلّ تتسلسل في الأحفاد والذريّة.

2 – الغضب شكلان

ننظر في الكتب والنّاس، فنجد الغضب في النّاس على شكلين: واحدهما عميق الغور ومستدام، والآخر يطفو على السطح وظرفيّ:

1» – الغضب العميق المستدام: وهو غضب تسرّب إلى طبقات النّفس القاعيّة، فصار مخبوءاً مدفوناً في زاوية مظلمة من القلب، ولكنّه دائم الحضور سواء التفت إليه الإنسان أو تلهّى عنه.

وهذا الغضب العميق هو غضب مرضيّ. أمّا أسبابه فقد تكون: إمّا قديمة وجزء من الماضي، كجراح الصّدمات المؤذية العصيّة على البرءِ والالتئام. وإمّا جديدة وجزء من الحاضر، كأن يعيش الإنسان واقعاً لا يُرضيه ولا مَخْرَج له منه.

وهذا الغضب العميق الذي يجعل الإنسان يأخذ موقفاً من النّاس والحياة، ليس واسع الانتشار، بل يصيب فقط من تعرّض لحوادث ملأته رفضاً، وطبعت بالغضب وجدانه ووجوده معاً.

2» – الغضب الظرفي الطافي على السطح: هذا الغضب – والله أعلم – ليس مرضيّاً ولكنّه يدلّ على هشاشة الجهاز العصبيّ لدى الإنسان المعاصر. وهو غضب سريع الاشتعال وعلى الأغلب سريع الانطفاء، نلاحظ أنّ صاحبه يغضب أحياناً لأمر تافه هو نفسه يصنّفه بأنّه لا يستحقّ، كأن يغضب من زحمة سير، أو من كون جاره استغلّ غيابه فأوقف سيّارته في موقفه الخاصّ، أو من عدم تلبية الأسواق لذوقه في الثّياب أو حاجاته… أسباب تافهة لا تُغضب عاقلاً.. ولكنّ السّبب الحقيقيّ لهذا الغضب الثّاوي تحت الجلد مباشرة، هو على الأرجح نمط الحياة المعاصرة بكلّ ضغوطاتها وتحدّياتها؛ ومنها: مطالب الحياة العائليّة والاجتماعيّة، تلوّث الضجيج، الإرهاق في العمل، العلاقات الإنسانيّة المريضة أحياناً، انسداد الأفق الوظيفيّ والحياتيّ، غياب العدالة الاجتماعيّة، الخوف والقلق على المصير…

3 – دربان لتصريف الغضب

لن آتي بجديد إن فتّشت عن دروب ناجعة تمكّن الإنسان من تصريف غضبه في قنوات شرعيّة وعقليّة وأخلاقيّة. وذلك لأنّه يوجد شبه إجماع بين المهتمّين بالإنسان، على أنّ الغضب إن أطلّ برأسه «المتوحش»، يستعصي على كل شِباك يلقيه الإنسان عليه، إلا شباكيْ: العقل والروح.

ويتمثّل درب العقل (وعي العقل) في أن يصبح الشّخص متمكّناً من جعل عقله حاكماً في أعماقه، قادراً على إرساء النّظام، وضبط الهوجائيّة، وإقامة الوسط العدل.

أمّا درب الرّوح فيتمثّل في محاولة دحر ظلمة الغضب بنور الرّوح النقيّة من كثرة الأذكار والصّلوات، بنور الإيمان والمحبّة والرّحمة والتّسامح والغفران.

4 – تفكيك الغضب الثّاوي في الأعماق

مع إدراكي بأنّ الإنسان في بعض حالات هذا الغضب المتجذّر في الأعماق يحتاج إلى مساعدة شخص آخر، ولا يمكنه تفكيك غضبه الذاتيّ بذاته. إلا أنّني أقترح أربعة أساليب تساعد في حالات الغضب العميق:

1»- نمّي قدرتك على المغفرة للآخر: وتأتي التّنمية في سياق اكتساب وعي جديد؛ بأنّ مَنْ يَغْفر يُغْفر له، خصوصا إن كان المتسبّب بالجراح القلبيّة قريباً، ومن الأرحام.

2»- أُحْرس قلبك من الأحقاد: نقّب في زوايا القلب وخباياه لقلع الأحقاد المدفونة، المتكلّسة، ولا تترفّع وتتعالى على الجراح حتى لا تغلّ عميقاً، لا تخفْ من كشف الذّات للذّات، فلا نبرأ حتى نرى ونسمع ثمّ نمحو..

3»- أعد قراءة حياتك قراءة إيجابيّة: وهي قراءة إيمانيّة تستند إلى حسن الظنّ بالله سبحانه، وبأنّه يختار للإنسان ما فيه خيره. كما أنّها قراءة حياتيّة تستند إلى أنّ الضّربة التي لا تكسر فهي تقوّي الإنسان.

4»- إعْشق جديداً يرضيك: أعطِ وقتك وذاتك لمسألة أكبر منك؛ خدمة إجتماعيّة، قضيّة إنسانيّة.. قضيّة تخفّف انشغالك بأناك الشخصيّة وتزجُّ بك في قلب النَّحن.. وانتقل جوانيّاً من أرض المأساة إلى حفر بئر جديد للرّضى والسّعادة.

5 – تفكيك الغضب الطّافي على السّطح

إنّ تفكيك هذا الغضب الذي يوقظه فعل، أو قول يصنّفه المتلقّي جارحاً لكرامته أو معتدياً على حقّه أو مقامه أو غير ذلك، محفوظٌ في نصوص قدسيّة وفي تراث إنسانيّ ثريّ. ونجمل ما وصل إلينا مع بعض الاقتراحات في أربعة أساليب:

1»- قِفْ واقطع مع الغضب.. تدلّنا التّعاليم النبويّة القويمة على جملة أعمال للقطع مع الغضب، وأهمّها أربعة: أولها؛ السّكوت، فإذا غضب الواحد منّا فليسكت، حتى يزول غضبه. وثانيها؛ تغيير وضعيّة البدن والاقتراب به من الأرض، فإن كان قائماً فليجلس، وإن كان قاعداً فليضطجع. وثالثها؛ قول كلمة تطفئ نار الغضب كالتعوّذ من الشّيطان. ورابعها؛ استخدام الماء فإن غضب واحدنا فليتوضّأ أو فليغتسل.

2»- روّض نفسك على الحلم وكظم الغيظ.. قال سيّدنا رسول الله عليه صلوات الله: ((ليس الشّديد بالصّرعة، إنّما الشّديد الذي يملك نفسه عند الغضب)).

3»- إمنح نفسك أوقات سكينة.. خصّص وقتاً – خصوصا في المساء أو اللّيل – لتفرّغ فيها شحنات الغضب النهاريّة، وتعطي للنّفس «اوكسجيناً»، وتجدد منابع الحياة في جوانيّتك. أوقات مشبوكة بالصّلاة وسجود وطمأنينة، ودعاء، وقيام اللّيل، وقراءة القرآن، وتأمّل وتفكّر…

4»- تمتّعْ بالسّماع الرّاقي المغذّي لمكوّنات الإنسان كلّها.. سماع القرآن الكريم، سماع الأناشيد والمدائح النبويّة، سماع الموشّحات الرّاقية، سماع الموسيقى.. فالنّفس تتجدّد بالسّماع الطيّب، وتصبح جاهزة لخوض غمار يوم جديد.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!