جلال الدين الرّومي وجليل الكلام
توفيق بن عامر
إنّ ظاهرة الكلام عند اللغويين والنحاة هي أداة تواصل وإبلاغ وعند البلاغيين وسيلة تعبير وتأثير، وهي عند المتكلمين مجال اعتقاد وتدبّر وتذكير، وعند الفلاسفة صفة الإنسان ذلك الحيوان الناطق. لكنّ عبارة جليل الكلام قد اختص بها من بينهم جميعا فريقان: الأدباء وعلماء الكلام وإن كان كلّ فريق منهما قد أعطاها معنى محدّدا وشحنها بدلالة خاصة.
فجليل الكلام عند الأدباء هو على حدّ عبارة التوحيدي ما كان فيه «قرع للحسّ وتنبيه للعقل وإمتاع للروح» ([1]) ويزيد الأمر بيانا حين يقول: «أحسن الكلام ما رقّ لفظه ولطف معناه وتلألأ رونقه وقامت صورته بين نظم كأنّه نثر ونثر كأنه نظم يطمع مشهوده بالسمع ويمتنع مقصوده على الطبع» ([2]) ذلك هو معنى جليل الكلام عند الأدباء.
لكن جلال الدين الرّومي لم يصنف قط على أنه واحد منهم، ولا عرف خلال حياته بمخالطته لهم ولا يتعاطى بضاعتهم، بل قضى حياته بين شيوخ العلم والوعظ والتصوف ([3]) منصرفا إلى شؤون الدين راغبا عن شؤون الدنيا ومشاغلها. ومع ذلك سوّغت له تجربته الروحية الزاخرة بألوان الوجد والحكمة والتأمّل أن يستمد الإلهام الأدبي من أغوار النفس وأعماق الوجدان، وأن يصوغ جليل الكلام من نبع ذلك الإلهام ويخوض تجربة الخلق والإبداع باعتبارها ظلا وانعكاسا ومحاكاة لمبدع الكون وخالقه لأنها لا ترتقي في اعتقاده مهما سمت وتألقت إلى إدراك كنه الإبداع وحقيقته كما تجلّى على يد المبدع الأوّل.
إنّه يصوغ تمثالا كما يقول، ولكنه مهما بلغ في صنعه من إحكام لا يعدو كونه مجرّد مقلّد لما صاغته قدرة البارئ:
«إنني مصوّر نقاش أصنع في كل لحظة تمثالا
ولكنني في حضرتك أصهر كلّ هذه التماثيل
وإني لأخلق مائة نقش رأيت فيها الروح
فإذا ما رأيت تصويرك ألقيت بها جميعا في النار…
إنّ كلّ صورة رأيتها فجنسها في اللاّمكان
فلو ذهبت الصورة فلا حزن ما دام أصلها خالدا» ([4])
وهكذا كان إحساسه بالقصور عن مجاراة المصوّر الأكبر في اللاّمكان مددا لإبداعه الفني في عالم الصور، فأمكنه أن ينحت من ذلك المدد الأزلي ضربا من جليل الكلام، وأن يصنع تمثالا من الشعر الصوفي القصصي والرمزي سواء في «ديوان شمس تبريز» ([5]) أو في موسوعته الشعرية «مثنوي» ([6]) فماذا عن مكونات ذلك الإبداع عنده؟ وماهي أوجه الطرافة والفرادة فيه؟ وهل استجاب لمتطلبات جليل الكلام كما حدّدت في منظور الأدباء؟
1) في المنظور الأدبي:
أ-قرع الحس:
إننا إذا ما تواضعنا على أنّ مجال الحس هو مجال اشتغال الأساليب والمؤثرات الفنية، فإنّ أوّل ما يغمر إحساس السامع والقارئ لشعر جلال الدين الرّومي حتى قبل أن يسعى إلى فهمه، هو تلك الشحنة من الإيقاع والتخييل والانفعال التي ميزت أسلوبه الإبداعي وأثثته بأنواع الصور، وقرعت الأسماع بما فيه من أجراس وأنغام تآلفت وانسابت من بديهة دائمة الحضور ومن أحاسيس مشبوبة سليمة من الزيف والزخرف والتكلّف، ولذلك أمكن لتلك الخصائص الإبداعية بما فيها من أصالة أن تتخطّى الحواجز اللغوية وأن تتجلى حتى فيما نقل من شعره إلى العربية وغيرها من اللغات ([7]).
إنّ أشعار جلال الدين جوقة من الألحان والأنغام معزوفة على بحر الرمل ومقفاة الصدور والأعجاز، تتغير قوافيها من بيت إلى آخر وذلك سرّ تميزها الإيقاعي وسبب تسمية ديوانه بالمثنوي ([8]). ويكفي أن تتصفح الديوان لتلاحظ أنّ الشاعر قد صدّره بأغنية الناي الشهيرة، ولا مراء في علاقة الألحان الشجية المنبعثة من تلك القصيدة وغيرها من قصائده بالسماع المولوي القائم على الرقص الدائر والنغم الحائر تخليدا لذكرى صديقه الروحي شمس الدين التبريزي ([9]).
لكنّ تلك الألحان التي «تقرع الحسّ» في شعر جلال الدين لا تمثّل في مجال التأثير الفنّي لديه سوى مظاهره وبداياته، لأنّ من أهم ما يشدّ السامع والقارئ في ذلك الشعر هو فن الحكي أو القص أو السرد، فالبعد القصصي يكاد يمثّل العمود الفقري لمعظم ما أنتجه الرجل من أشعار، وهو يستمدّ مادّته القصصية من التراث الإسلامي ومن التراث الإنساني عموما، وكذلك من الرصيد الشائع والمشترك من النوادر والحكايات الشعبية. إذ تراه يعتمد القرآن والحديث وقصص الأنبياء وأخبار الصحابة والخلفاء والملوك، إلى جانب حكايات أهل الكتاب والمجوس وعبدة الأوثان ونوادر الخاصة والعامة من العرب والفرس والهند والصين ومآثر العلماء والفقهاء والصوفية، وكذلك القصص الموضوعة على ألسنة الحيوان ([10]).
وهو يعمل على معالجة تلك المادة القصصية بإثرائها وتجديدها بناء ومحتوى، كما يعمل على تطويعها وتوظيفها للتعبير عن الرسالة الروحية والفكرية التي يروم أداءها وتقريبها من أذهان قرائه، فأضحى شعره في هذا المجال يمثل موسوعة قصصية بامتياز. والقصة عند الرّومي قصة قصيرة تنتهي بانتهاء القصيدة، وهي تتوفر على أهم أركان القص، وإن كان صاحبها يتخللها أحيانا بشيء من الاستطراد لبيان بعض أفكاره، ثم يعود بعد ذلك إلى سرد الأحداث من جديد. لكن العنصر الأهم في هذا البناء القصصي هو عنصر الحوار، إذ يبدو أكثر عناصر القص تطورا في شعره إلى جانب الوصف، ناهيك أن الشاعر لا يكتفي بإجراء الحوار بين شخصياته القصصية من بشر وحيوان وجماد وملائكة، بل يجري ذلك الحوار بين الأفكار أيضا، فإذا بك إزاء محاورات ومساجلات ذهنية ترتقي بك إلى مستويات عليا من التأمل. ومن هذا القبيل ذلك الحوار الذي أجراه في شكل مناظرة بين النفس والعقل والروح في أولى حكايات مثنوي «حكاية الملك والمرأة الشابة» ([11]).
وإذا ما كان هذا المكوّن الفني الأساسي الأوّل قد وفرّ لقارئ شعر جلال الدين متعة الشوق إلى متابعة الأحداث وانتظار نتائجها فإن فن الرمز باعتباره المكون الفني الأساسي الثالث قد وفر له بما فيه من تعمية وإلغاز متعة اكتشاف المجهول ورونق التقابل بين الدال والمدلول وطرافة المطابقة بين الحقيقة والمجاز. إذ اهتم الشاعر بمعالجة المادة القصصية المستمدة من التراث الإنساني معالجة رمزية بعد أن كانت مجرد حكايات ساذجة أحيانا تروى وتفهم على حقيقتها. فأعطى لأبسط الحكايات والنوادر معنى، ومنح لما وضع على ألسنة الحيوان من طرائف أعمق الدلالات. والرمز عند جلال الدين معين لا ينضب لأنه يستغرق الوجود كله باعتباره مجرد أشكال لحقيقة كامنة وراءه، وباعتباره خاضعا لثنائية الظاهر والباطن لأن الخلق ليس سوى انعكاس لصورة الحق. وهنا تتزاحم الصور التي يركبها خيال الشاعر للتعبير عن تلك الحقيقة. وهي صور يستمدها من جمال الطبيعة وجلال الكون فتستحيل كائنات حية تعبّر عن كنه الوجود وتنصهر في ضمير الشاعر وعقله ووجدانه. وهو في ذلك إنما يستأنف تقليدا كان قد بدأه العطار في «منطق الطير» ([12]) وسنائي في «حديقة الحقيقة» ([13]) فالحكايات مثل المكيال، والمعنى كالحب الذي يحتويه «فالعاقل يأخذ حب المعنى لا يتوقف عند المكيال» ([14]) عندما يصف الرّومي الميل الفطري للنفس التي تنشد اتصالا تاما يحكي هذه القصة في إحدى رسائله:
«في يوم من الأيام مرّ رجل بجانب شجرة
رأى الأوراق والأغصان وثمرة غريبة
سأل كل الناس عن ماهية الشجرة ونوع ثمرها
لم يفهم أحد سؤاله، لم يعرف أي بستاني اسم الشجرة
قال الرجل في نفسه «رغم أني لا أعرف أي شجرة هذه فإنني أعرف أنه منذ أن رأتها عيناي صار قلبي ونفسي جديدين وشابّين
لأذهب وأجلس في ظلّها» ([15])
وعندما يرمز الرّومي إلى التقابل بين الكثرة الظاهرة والوحدة الباطنة يحكي لنا في شعره هذه القصّة:
«فإن أنت وضعت عشرة مصابيح في مكان واحد
قد يكون كل منها مختلفا في صورته عن الآخر
ولكنك لا تستطيع أن تفرق بصورة قاطعة
بين نور كل منها إذا نظرت إلى نورها
وإذ أنت عددت مائة من ثمار التفاح أو السفر جل
فإن هذه لا تبقى مائة
بل تصبح واحدة حين تعصرها» ([16])
ب-تنبيه العقل:
لكن جليل الكلام في المنظور الأدبي ليس قرعا للحس فقط إنه تنبيه للعقل أيضا، وللعقل في شعر جلال الدين إلى جانب الحس مجال، إذ وظف الرجل ما حلّلناه سالفا من طاقات إبداعية للتعبير عن تأملاته العقلية وعن حكمته الأخلاقية المستمدة من تجربته الصوفية .وللعقل في حكمة مولانا الصوفية عدة وظائف، أولها مقاومة الهوى ومغالبة النفس ومجاهدتها بالرياضات لتزكيتها وتنقيتها من الآفات وتخليصها من الصفات المذمومة كالرياء والطمع والجشع والنفاق والعدوان والظلم، وتحريرها من غرائزها الأنانية ومن عبوديتها للمادة والسمو بها عن أطماع هذه الدنيا حتى تبلغ درجة من النقاء والصفاء تمكنها من استكناه سرّ الوجود ومن الوقوف على الحقيقة المطلقة.
وكثيرا ما نبّه الرّومي في هذا السياق إلى مغبّة الحرص على الدنيا والتهافت على متاعها إذ «ما أكثر الحلوق التي ذبحها عشق الرغيف» ([17])، كما أكد على ضرورة مغالبة العقل للنفس لحملها على السلوك الرشيد، فصوّر لنا الصراع الدائر بين العقل والنفس في قصة رمزية هي قصة «الأعرابي وزوجته» وذلك حين يقول:
«اعلم أن الزوج هو العقل وأن الزوجة هي الحرص والطمع
وهذان مظلمان منكران أما العقل فشمع منير
إنّ الذي جرى بين الرجل الأعرابيّ وزوجته
لذو مغزى يبحث عنه قلب المخلص
لقد جاء عن طريق النقل ما جرى بينهمافاعلم أن تلك القصة مثال لنفسك ولعقلك
فهذه المرأة وهذا الرجل نفس وعقل
وقد حسن وجوبهما لإظهار الخير من الشر
إن هذين الواجبي الوجود في هذا العالم الترابي
يتحاربان ويتنازعان طيلة النهار والليل…..
فالنفس مثل المرأة تنشد التراب حينا
والمجد حينا آخر سعيا إلى مآربها
أما العقل فليس بمدرك لتلك الأفكار
ولا ينطوي دماغه إلا على خوف الله!» ([18])
كما مثلت قصة «الحمار والثعلب» صورة رمزية أخرى عما يصنعه الحرص بأهله وما يتسبب لهم فيه من شقاء لأن الحرص سلوك الحمقى والمغفلين وقد ذهب الحمار ضحيته بسبب حمقه وغفلته. يقول مولانا مستخلصا العبرة من هذه الحكاية:
«والحرص يجعل المرء أعمى وأحمق وجاهلا
ويجعل الموت سهلا على الحمقى
والموت ليس بالأمر السهل على أرواح الحمير
فليس لديهم ماء الروح الخالدة
ولأنه لا يملك روحا خالدة فهو شقي
وجرأته على الأجل من جراء حمقه
فجاهد حتى تكون لك روح خالدة
حتى يكون لك زاد يوم الموت» … ([19])
وللعقل في حكمة مولانا وظيفة ثانية هي كشف خداع الحسّ وعدم الاغترار بمظاهر هذا الوجود ومحاولة النفاذ إلى حقائقه الباطنة، فالإدراك الحسي إدراك خدّاع ولابد من صقله بالعقل حتى يغدو كالمرآة، كما أنه لا يتناول إلا الفروع والقشور ويعجز عن رؤية الأصل واللباب فيسئ تبعا لذلك تقدير الأمور حق قدرها جراء ما فيه من نقص. «إن العين ترى الأصل عندما تكون كاملة وعندما يكون المرء أحول لا يرى إلا الفروع» ([20]). وبناء على ذلك لا بد من الاستعانة بالعقل لأنه «ميزان» الحقائق به يقع التمييز بين «القشر واللباب» وبين «النار والنور» ([21]). أما وظيفة العقل الثالثة عند مولانا فتتمثل في محاربة التقليد لأن المقلد تعمى بصيرته عن الحقيقة، إذ التقليد ضرب آخر من الاغترار بظواهر الأشياء وخضوع آلي لقيود العادة وللتقاليد المتحجّرة، وتعطيل لنشاط العقل. وهو يصوّر المقلد في عدد من حكاياته الشعرية الرمزية وينتقد سلوكه في تهكم وسخرية. ومن أبرز تلك الحكايات قصة «الفلاح الذي دلك أسدا في الظلام ظانا أنه ثوره» ([22]) يقول مولانا في هذه القصة منبهّا إلى خطر التقليد:
«لقد ربط أحد الفلاحين ثوره في الحظيرة
فأكل الأسد هذا الثور وجلس مكانه
ودخل الفلاح الحظيرة في الظلام متجها نحو ثوره
وأخذ يتحسس الأركان باحثا عن ثوره
ثم أخذ يدلك بيده أعضاء الأسد ظهره وجانبه عاليه وسافله
فحدث الأسد نفسه قائلا: لو انبثق الضياء
لانفجرت مرارته رعبا ولغدا قلبه دما …!
والحق يقول: أيها المغرور الأعمى!
أو لم يتصدع جبل الطور تحت وطأة اسمي؟ …
وأنتم قد تسامعتم بنا من آبائكم وأمهاتكم
فلا جرم أن غمض عليكم الأمر في غفلتكم
ولو أنكم أدركتم الحق بدون تقليد
لخفي من اللطف كيانكم المادي وغدوتم مثل نداء السماء
فاستمع إلى هذه القصة لتكون لك رادعا
فإنك تعلم منها آفة التقليد» ([23])
وهكذا دلّت آثار مولانا على أنّه كان يسعى جاهدا إلى تحقيق الكمال العقلي، وهو كمال يكتسي عنده أبعادا مختلفة. فهو يطمح على الصعيد الخلقي إلى عقل يحسن تقدير الأمور والنظر في العواقب، ويطمح على الصعيد الفكري إلى عقل ثاقب ينفذ إلى ما وراء الأشياء ويكشف الأقنعة والحجب عن الحقائق ويسعى إلى تفهم معنى الوجود. وهو ينشد على صعيد التجربة الصوفية عقلا متحرّرا من أسر حدوده المنطقية التي تحول بينه وبين إدراك عالم الروح، ذلك أن العقل بأقيسته وحساباته يبقى قاصرا في نظر جلال الدين عن استكناه حقائق العالم الروحاني وعن تلقّي العلم اللّدني والمعرفة الربانية. فدور العقل يقتصر عنده على خوض تجربة التطهّر والتدبّر والتحرّر ليفسح المجال بعد ذلك لإدراك أكثر شفافية وليزيح الحجاب عن مرآة الروح الصقيلة لتنعكس فيها أنوار الحقائق العلوية. يقول مخاطبا العقل ومنتقدا لنشاطه وموازنا بينه وبين الروح:
«لنفترض أنك تعرف كل الحدود لكل الجواهر والأعراض
بأي معنى يكون ذلك مفيدا لك؟
اعرف التعريف الصحيح لنفسك فذلك هو المهمّ
وعندما تعرف تعريف نفسك ابتعد بعيدا عن هذا التعريف
فالدليل الذي لا ثمرة له أو نتيجة روحية
تافه ولا قيمة له» … ([24])
ويفضي بنا هذا السياق إلى الركن الثالث من أركان جليل الكلام عند مولانا فأية منزلة للروح في تفكيره؟
ج -إمتاع الروح:
إنّ جليل الكلام الذي صاغه جلال الدين الرّومي لينحت من مادّته تمثاله الإبداعي، قد كان نابعا من صميم الروح ومن فيض الوجدان. فالإنسان عنده بروحه قبل كل شيء، وعندما لا تكون روح حسب قوله ليس ثمّ إلاّ طين، يقول في عبرة يستخلصها من حوار بين الحمار والثعلب:
«وعندما لا يكون نور في القلب لا يكون قلبا
وعندما لا تكون روح ليس ثمّ إلا طين
وتلك الزجاجة التي لا تحتوي على نور الروح
هي قارورة بول لا نسميها قنديلا
ونور المصباح عطية من ذي الجلال
وذلك الزجاج والخزف هو صنعة الخلق
والجدول الحقيقي هو الذي يحتوي على ماء
والإنسان هو الذي يكون ذا روح
أمّا هؤلاء الذين تراهم فليسوا برجال
إنهم صور فهم موتى الخبز وقتلى الشهوة» … ([25])
وما دام الإنسان هو الذي يكون ذا روح فقد غدت الروح معيارا لإنسانية الإنسان، وغدا سموّه رهينا بسموّ روحه المتعالية عن رغبات الجسد، وهي لا تبلغ كمالها إلاّ بالتحرّر من قيوده وبالتجرّد من شروط معدنه الترابي والنزوع إلى معدنها الإلهي، وإذّاك تغدو محلّقة بحريّة بعد أن تخلصت من ذلك القيد، يقول مبتهجا بتلك الحرية:
«لقد صارت الروح مجرّدة من ضجّة الجسد وضوضائه
إنها تحلق بجناح القلب لا بقدم الجسد» … ([26])
وكما فاضل بين المخلوقات في العالم الأرضي بمعيار الروح نراه يستند إليه أيضا في المفاضلة بين الملائكة، فلجبريل فضل على إسرافيل، لأنّ الأوّل هو حياة الروح بينما الثاني هو حياة الجسد ([27]). ويكمن السر في هذا الإجلال للروح عنده في كونها تمثل السبيل الوحيد لدى الكائن البشري للاتصال بجوهره الإلهي، وذلك بعد تنقيتها من شوائب الوجود المادي وتصفيتها من مؤثرات الحسّ والظنّ والوهم. وقد رسم مولانا منهج الصفاء الروحي بكل وضوح وهو منهج يمرّ عبر الرياضات والمجاهدات ليصل إلى نهايته مع تجربة العشق تلك التي تفضي بالعاشق إلى الفناء في المعشوق. إنه العشق الإلهي المنبني على التضحية والذي يكون فيه العاشق كصورة الشمع الذائب في لهيب النار وهو يصفه بقوله:
«كان يحس بنار لم يكن يعلم كنهها
لكنه كان يبكي مع لهيبها كأنه الشمع» … ([28])
أما موضوع العشق فهو الذات الإلهية أو «الحق» بدون تورية أو كناية أو التباس، ولذلك لا يكفي في هذا العشق أن يمضي العاشق إلى النار كالخليل أو أن يجعل دمه مسفوكا مثل يحيى أو أن يصير أعمى من البكاء مثل يعقوب أو أن يمضي إلى فم الحوت مثل يونس أو أن يودع الجب والسجن كيوسف أو أن يعاني من عذاب الفقر مثل عيسى ([29])، كل ذلك لا يعدّ كافيا لأنه حتى إذا ما كابد العاشق في عشقه كل ذلك فإنّ معشوقه سيجيب قائلا:
«إنك لم تفعل أصل العشق والولاء وكل ما فعلته هو مجرّد فروع
إن أصله هو أن تموت وتتحول إلى عدم» … ([30])
لقد عاش جلال الدين الرّومي في تجربة العشق هذه حياة روحية ثرية وغنية بالشوق والرجاء والصبر والرضا، وقد تعلقت روحه بعشق محبوبه الأزليّ إله الحب والرحمة والحق والجمال حتى أضحت لديه كل مظاهر الألفة بين المخلوقات في هذا الكون نفحة من نفحات ذلك العشق الأسمى، وكل ما في الكائنات من أنواع الحقائق وصور الانسجام وعلامات التناسق قبسا من ذلك الحق السرمدي ومجلى لذلك الجمال المطلق. وقد اعتبر مولانا من رسالة المحب العارف الذي بلغ درجة اليقين أن ينشره بين العالمين وأن يكون بذلك داعية حب وتسامح وسلام بين البشر، وهي قيم غرّاء طالما تغنّى بها في أشعاره وردّدها في حكاياته الرمزية، وكانت تجربته الروحية هي سبيله إلى تمثلها وإلى إدراك ما فيها من أبعاد اجتماعية وإنسانية.
يقول مولانا في وصفه لتجربة العشق الصوفي أو للحب الإلهي:
«إنّ الروح التي ليس شعارها الحب الحقيقي
من الخير ألاّ توجد فليس وجودها سوى عار!
كن ثملا بالحب فان الوجود كله محبّة
وبدون التعامل مع الحب فلا سبيل إلى الحبيب
يقولون ما للحب؟ قل هو ترك الإرادة!
ومن لم يتخلص من إرادته فلا إرادة له…
إنّ المحبة والحب باقيان إلى الأبد
فلا تربط قلبك بسواهما لأنه عرض زائل
إلى متى تعانق هذا المحبوب الميت؟
عانق الروح وإن كانت لا حدود لها
فلا ترتعد فوق حصان الجسد وسر مسرعا على قدميك….
فان الله يهب جناحين لمن يتخلى عن حصان الجسد ([31]).»
وقد كانت سيرة مولانا مجسمة لحياة الروح في شتى أبعادها سواء فيما عقده من علاقات مع الناس أو في سلوكه اليومي مع نفسه أو في حكمه على الأشياء وتقويمه لسلوك الآخرين. لقد عاش الرجل في استغراق روحي دائم وكانت صلته بشمس الدين التبريزي أحسن مثال على التصافي والتحابّ بين روحين في الله، ناهيك أنه ما انفك يخاطب روحه في شعره حتى بعد موته. كما أنه لم يعد يرى فائدة ولا جدوى في العبادة المجردة من الروح. وقد انتقد في حكاياته مظاهر التعبد الشكلية في عصره ووضع على لسان المجوسي آراءه النقدية لمسلمي عصره الذين اقتصروا في قيامهم بالشعائر والعبادات على المظهر دون المخبر. يقول المجوسي مخاطبا مسلما يدعوه إلى الإسلام:
«إذا كان الإيمان في حد ذاته هو ذلك الذي لديكم
فليس عندي ميل لديه أو اجتهاد
وذلك الذي يكون لديه ميل إلى الإيمان بالإسلام
عندما يرى إيمانكم يفتر ميله
ذلك أنه يرى اسما ولا معنى كما يطلق على الصحراء اسم المفازة
فيتجمّد عشقه لإبداء الإيمان عندما يرى إيمانكم
وإيمانكم هذا هو احتيال وزيف ومجاز وهو قاطع للطريق” ([32])
وهكذا فمناط التدين عنده هو الروح قبل كل شيء لأنها مستودع الإيمان، ومن خلال الروح ينظر المؤمن إلى الوجود من حوله ثم يتأمل في مبدإ الوجود وأصله فتحنّ روحه إلى ذلك الأصل كحنين الناي إلى معدنه الأول.
2) في المنظور الكلامي:
أمّا جليل الكلام عند المتكلمين فهو المقابل في نظرهم لدقيق الكلام، وهما يندرجان معا في سياق معالجتهم للقضايا والمسائل العقائدية والإيمانية بالأدلة العقلية على حد عبارة ابن خلدون ([33]). وإذا كان هذا ما اصطلحوا عليه بدقيق الكلام يتناول المقولات المنطقية والفلسفية الدقيقة التي استأنسوا بها في الاستدلال على آرائهم الكلية في مسائل أصول الدين، ومن أمثال تلك المقولات ما يتصل بقضية الجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ وقضية العرض والطلب وصلته بالجوهر، وقضايا أخرى تتصل بطبيعة الزمن والحركة وعلاقتهما بمفهوم الحدوث والقدم، فإن جليل الكلام عندهم يتناول كبريات المسائل العقائدية والكليات الإيمانية، وفي طليعتها عقيدة التوحيد وعقيدة القضاء والقدر والجبر والاختيار أو الحرية والحتمية وكذلك مسالة العدل الإلهي ومشكلة الخير والشر في الوجود.
فأين جلال الدين الرّومي من كل ذلك وهو الذي لم يعرف عنه قط اهتمام بالجدل في العقيدة ولا معاشرة ومخالطة لعلماء الكلام؟ ([34])، أين هو من كل ذلك وهو الذي انتمى في وقت مبكر إلى التيار الوعظي ثم الصوفي الذي انبنى مند بداياته على معارضة مناهج المتكلمين في تعاملهم مع الخطاب الإلهي وفي معالجتهم لمسائل الإيمان بمقاييس المنطق الجاف وعلى التصدي لما تردت فيه مجادلاتهم من مآزق النزاع والاختراق وما زرعته مواقفهم في النفوس والعقول من الحيرة والقلق والشك؟ أين جلال الدين من جليل الكلام إذن بهذا المنظور الذي أشرنا إليه؟ أجل لم تكن للرجل علاقة بعلم الكلام ومع ذلك نجده قد عالج قضايا جليل الكلام بمنهجه الصوفي العرفاني الخاص، وقدم حلولا وبدائل صوفية لأمهات القضايا التي عالجها المتكلمون وهي بدائل وحلول مستوحاة من مذهبه في المعرفة الذوقية وليس من مذاهب علم الكلام في المعرفة العقلية.
أ-التوحيد في الوحدة:
فمن القضايا المحورية التي عالجها علماء الكلام واختلفوا في تصورها مسألة التوحيد، وقد كان همهم الأكبر البرهنة عليها عقليا ونقليا من خلال إثبات طبيعة العلاقة بين الذات والصفات، وقد انقسموا في ذلك إلى فريقين يرى أحدهما أن الذات هي عين الصفات تجنبا لمفهوم التعدد والكثرة في الذات الإلهية ([35]) بينما يقرر الفريق الثاني أن الصفات هي غير الذات وإن كانت قائمة بها مستندين في ذلك إلى منطق النص المقدس ([36]). ولم تكن للمجادلات الدائرة بين الفريقين وبين المرجعيتين العقلية والنقلية انعكاسات إيجابية على صعيد الإيمان ولا كان لها جدوى بالنسبة إلى عموم المؤمنين وجمهور الأمة.
وكأن الصوفية قد استشعروا المأزق الذي تردّى فيه الجدل الديني وأدركوا أن مسألة الإيمان لا تقوم على أسس المنطق الفلسفي أو الرياضي ولا تخضع لمقاييسه ومقولاته، وإنما هي شأن روحي بالأساس. وقد جسم جلال الدين الرّومي هذا الموقف معتبرا أن الوحدة الروحية مع الذات الإلهية هي الكفيلة وحدها باستكناه معنى التوحيد، وبتجاوز الإشكالات التي أثارها المتكلمون حول العلاقة بين الذات والصفات. فمسألة التعدد والكثرة هي عند الرّومي من خصائص الوجود الظاهر، وهي أيضا من أوهام العقل، فما يراه العقل اثنين تراه الروح واحدا وما يدركه الحس من كثرة وتنوع في هذا العالم يراه القلب حقيقة واحدة، والقلب هو الطريق إلى الله الذي لا تدركه الحواس ولا تفقه كنهه العقول.
وبناء على ذلك يقرّر الرّومي مبدأ الاختلاف بين أحكام الظاهر وأحكام الباطن أي بين منطلقات الحس والعقل ومقتضيات القلب والروح، ففي الظاهر تتميز الذات عن الصفات كتميز الله عن العالم ولكنهما في الباطن حقيقة واحدة كالماء الذي هو عين الثلج وليس شيئا غيره ([37]). تلك هي الحقيقة التي تثبتها الوحدة الروحية مع الذات الإلهية يقول مولانا في حديثه عن هذه الوحدة:
ونظرت حولي أبحث عنه فلم أجده….
ثم تفقدت قلبي وفيه وجدته
ولم يكن يوجد في مكان سواه….
خلعت الاثنينية رأيت العالمين واحدا” ([38])
وهكذا يتخطى مولانا عقبات التوحيد الكلامية، ويستوعب ما دار حولها بين المتكلمين من خلاف عن طريق ما توخّاه من منهج عرفاني في الوحدة الروحية، ولم تكن قضية التوحيد هي القضية الوحيدة التي عالجها الرّومي من بين سائر قضايا جليل الكلام بمثل هذا الأسلوب الذوقي المستوحى من صميم تجربته الصوفية، إذ عالج في أشعاره أيضا مسألة الجبر والاختيار، وكان له رأي فيها تجاوز به الجدل والخلاف الذي دار بين علماء الكلام ردحا طويلا من الزمن.
ب -لا جبر في الحب:
لا مراء في أن من القضايا العقائدية المركزية التي خاض فيها علماء الكلام قضية الجبر والاختيار أو الحرية والحتمية وما أثارته من مسائل تتنزل في إطار العلاقة بين مبدأ التكليف وما يستلزمه من إقرار بحرية المكلف ومسؤوليته وتسليم بالعدل الإلهي من ناحية، ومبدأ الإيمان بالقضاء والقدر وما ينبني عليه من تسليم بصفتي القدرة والعلم في الذات الإلهية من ناحية أخرى. وقد تفرعت عن هذه المسألة المركزية مجادلات كلامية تتعلق بأفعال العباد وأفعال ا& وبطبيعة العلاقة القائمة بينهما. كما نجم عن تلك المجادلات افتراق بين المذاهب الإسلامية، فمن قائل بالجبر ومنتصر لمفهوم القدرة الإلهية كالجهمية، ومن قائل بقدرة الإنسان على خلق أفعاله ومنتصر لمفهوم العدل الإلهي وهؤلاء هم القدرية والمعتزلة، ومن من متوسط بين هذين الموقفين على ما بينهما من تقابل وهؤلاء هم الأشاعرة وجمهور أهل السنة القائلون بمفهوم الكسب محاولين بذلك الجمع التأليف بين القدرة الإلهية والاستطاعة البشرية وإن لم يخل موقفهم من بعض الغموض حتى قال عنه بعضهم: «أخفى من كسب الأشعري.»
أما الصوفية فقد جعلوا من مبدإ التوكل أحد مقامات الطريق لعموم السالكين، واشترطوا فيه تخلي العبد عن السعي والطلب، وأن يكون بين يدي ربه كالميت بين يدي الغاسل ([39]).
لكن جلال الدين الرّومي لم يتناول ثنائية الجبر والاختيار ومسألة القضاء والقدر على النحو الذي عالجه به علماء الكلام، ولم يتصور مفهوم التوكل على شاكلة رفاقه من جمهور الصوفية، بل كان يرى في الطريق الصوفي أداة للتحرر والانعتاق وسبيلا للخلاص من متناقضات الوجود الظاهرة. فالإنسان في ظاهره كائن حرّ ومسؤول، ولا يمكنه إدراك هذه الحقيقة إلا عن طريق الحب الإلهي، إذ باتحاد إرادة المحب بإرادة المحبوب يمّحي الفرق بين الجبر والاختيار، وبقدر التحقق بتلك الوحدة الروحية يكون العلم بأسرار القدر. «وإذّاك يصبح السعي لشكر نعمته هو القدرة وأما إنكار النعمة فهو الجبر.» ([40]) يقول في إحدى قصائده معلنا أن لا جبر في الحب:
«من أجل الحب كرهت كلمة الجبر
فإن المجبور لاحب له
والحب الذي هو غاية القرب من الحقّ لا جبر فيه
وهو ضوء شمس ساطع لا ظل سحابة قاتم» ([41])
ذلك أن الحب هو على حد قوله «هو أسطرلاب أسرار السماء» لأن فيه وبه تتحقق الوحدة الروحية بين إرادتين، بفناء إحداهما في الأخرى فناء الإرادة البشرية في الإرادة الإلهية، وإذاك تصبح الروح مرآة لأسرار القدر يقول في ذلك:
«بمقدار حب المرء لربه يكون علمه بأسرار القدر
لأن الحب أسطرلاب أسرار السماء
وهو الكحل الذي تكتحل به عين القلب
فينجلي بصرها» …. ([42])
ولكي يحقق الكائن البشري هذه الدرجة من التحرر عن طريق الحب لا بد له من بذل الجهد للارتقاء بروحه والسمو بها وتخليصها من متناقضات الوجود الظاهر ومن أسر «الزمن المؤقت» ومن صراع الأضداد في هذا الكون، فيرتقي بذلك من النظر في الجزئيات إلى التأمل في الكليات. وسبيله إلى كل ذلك هو الجهد، «فالجهد حق كما أن الدواء حق والمرض حق وما منكر الجهد إلا جاهد في إنكار جهده» ([43])، يقول مولانا واصفا لطريق التحرر المحفوف بالعناية الإلهية:
«لقد وهبني القوة وأنا وقلبي
ونور القلب قد أمد بالقوة يدي وقدمي ….
فتنبه ولا تفرح بملك وقتي
ولا تدع الحرية يا من أنت أسير الزمن المؤقت
فكل من نسج ملكه مما هو أعلى من الزمن المؤقت
قرعت الطبول فوق الكواكب السبع» ([44])
وهكذا يغدو القدر سبيلا إلى الحرية لا طريقا إلى الجبر لأنه «من القضاء أن ينكر المرء القضاء» ([45])
ج -ثنائية الخير والشر:
ومن أمّهات قضايا جليل الكلام قضية الشر ومصدره في هذا الوجود، وقد تعددت المقاربات في الفكر الديني لهذه القضية وكانت موضوع جدل بين الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة، وهي مقاربات على تعدّدها وتشعبها يمكن إجمالها في طرحين رئيسيين،
أولهما الاعتقاد بأن الله هو الخالق للخير والشر معا باعتباره خالقا لكل شيء، وثانيهما الاعتقاد بأن الله لا يخلق إلا الخير وهو منزه عن فعل الشر، ولا جدال في أن كل طرح منهما قد كان مثارا لعدة إشكالات على مستوى الاعتقاد، حاول أصحابه اقتراح حلول متنوّعة لها مع تفاوت بينها في درجة الإقناع.
فالإشكال المركزي الذي يثيره الطرح الأوّل يتعلق بإعطاء الأولويّة لصفة الخلق في الذات الإلهية على حساب صفة العدل. وللخروج من هذا الإشكال وظف العلماء فكرة الامتحان والبلوى، ووظف المتكلمون فكرة الواسطة، إذ استند أولئك إلى كون الجزاء لا يكون إلا بعد الاختبار الذي يقتضي وجود الخير والشر على حد السواء. واستند هؤلاء إلى أن الله إنما خلق الشر لغاية الخير ووسيلة إليه، واحتجوا على ذلك بأدلة من عالم الأمر وأخرى من عالم الخلق. إلا أن تلك الحلول من الصعب اعتبارها قطعية ونهائية، لأن نجاحها في إنقاذ صفة العدل قد كان على حساب صفتي العلم والقدرة مما لا يكون معه التسليم بتوفر التماسك والانسجام الضروري في المنظومة الاعتقادية ويقطع مع الإشكال المشار إليه ([46]).
وأما الإشكال المركزي الذي يثيره الطرح الثاني فهو الاعتقاد بوجود مصدر ثان غير إلهي لمسألة الشر سواء كان مصدره الشيطان أو الإنسان، وهذا من شأنه أن يلقي بظلاله على مبدإ التوحيد في حد ذاته عن طريق الإقرار بالاشتراك في الخلق والتلويح بخطر الاعتقاد المانوي. ولإزالة شبح تلك الضلالة اقترح علماء الكلام أكثر من حل للخروج من هذا المأزق. ومن أبرز تلك الحلول القول بأن الشر ليس له وجود موضوعي في ذاته وإنما هو عدم وجود للخير، فالمرض هو غياب الصحة والجوع فقدان الغذاء. لكن هذا الموقف النافي لما في الشر من بعد أنطولوجي لا يفسر إلا جانبا من المسألة لا سيما إذا تعلق الأمر بمظاهر أخرى للشر كالقتل والسرقة وغيرها من المظاهر التي لا يمكن أن تفسر بمجرد غياب الخير أو انعدامه لأن وجودها يتصف بالإيجاب لا بالسلب ([47]).
ولم يكن لجلال الدين الرّومي أن يخوض في هذه المسائل العقائدية وفق مناهج المتكلمين، ولكنه عالج مع ذلك قضية ثنائية الخير والشر باعتماد الذوق الصوفي بدل الاستدلال العقلي وبالاستناد إلى التجربة الروحية لا إلى المنطوق الكلامي. وبين هذا وذاك فروق أساسية في طليعتها أن الشعور الديني بما في طبيعته من وحدة وشمول وامتداد عبر الرمز والخيال يقع في الطرف المقابل للمجال العقلاني القائم على المنطق الرياضي بما فيه من حدود وأقيسة وتقسيمات صارمة، وهو ما قد لا ينسجم دائما مع طبيعة الإيمان.
فالشر عند جلال الدين الرّومي لا وجود له بالنسبة إلى الذات الإلهية لأنها خير وجمال وكمال. وإذا ما كانت الأشياء في الوجود تتميز بأضدادها فإن الله لا ضد له لأنه الحقيقة المطلقة ولأن وجوده شامل لكل شيء ([48]). فالشر ليس له حقيقة موضوعية إلا بالنسبة إلى الإنسان لأنه من لوازم الوجود وليس من خصائص الخالق، إنه مظهر من مظاهر النقص في الكائن البشري وفي الوجود المادي. وهو من لوازم طبيعة الأشياء التي لا يمكن أن تتميز إلا بأضدادها في هذا الوجود، كلزوم النور للظلمة والظلمة للنور، وكالتلازم الضروري بين الخير والشر وإلا انتفى كل منهما. وبهذا الاعتبار يكون الشر في جوهره خيرا إذ لا معنى للذة دون وجود الألم «كما أن دعاء صاحب الضّرّ مختلط بزفرات قلبه المضطرب ودعاء غيره لا حرارة فيه ولا حياة…. وهكذا تطهر الآلام النفوس وتفضي المعاصي والذنوب إلى الندم والتوبة». تلك هي مشروطية الوجود في هذا الكون ([49]). لكن تسامي الكائن البشري عن تلك الشروط التي يقتضيها الوجود ونزوعه إلى الكمال الإلهي عن طريق جوهر العقيدة الصوفية وهي المحبة، هو الكفيل وحده بالانعتاق من النقص والتحقق بالخير والكمال المطلق غير المنقوص وغير المشروط.
وهكذا يتخلص الإنسان عن طريق الوحدة الروحية مع المشيئة الإلهية من تناقضات هذا الوجود ومن الحجب التي تغشي بصيرته وتعميها عن الحقيقة، لأن هذه الدنيا ليس فيها حقائق وإنما فيها علامات على الحقائق ([50]) ولأن من كانت على بصيرته غشاوة لا يتاح له أن يرى الوجود إلا من خلالها يقول مخاطبا الإنسان:
«وإنك وضعت أمام عينيك زجاجة زرقاء
ولهذا السبب بدا لك العالم أزرق اللون
فإن لم تكن أعمى فاعلم أن هذه الزرقة من نفسك
وتحدث عن نفسك بالسوء ولا تذكر به أحدا سواك» ([51])
تلك أمثلة يسوقها مولانا على ما يعتبره مظاهر للنقص وتجليات للشر في هذا الوجود ولكنها مظاهر وتجليات سرعان ما تزول كما تزول الأشباح إذا ما رفع الحجاب عن الوجود الحقيقي المتمثّل في» الحق »إله الحب والخير والجمال. يقول واصفا لإكسير المحبة الصوفية:
«إنّ المحبّة تجعل المُرّ حلو المذاق
وبالمحبّة يغدو النحاس ذهبي الصفات
وبالمحبّة تكون الأوجاع هي الشفاء
وبالمحبّة يبعث الميّت حيّا
والمحبّة هي التي تجعل من الملك عبدا …. » ([52])
لعله قد اتضح مما سبق من تحليل ما حظي به جليل الكلام في المنظور العقائدي من منزلة في فكر جلال الدّين الرومي، فسواء تحدث الرجل عن مسألة التوحيد أو عن قضيّة الجبر والاختيار أوعن ثنائية الخير والشر فإن حديثه قد تميز بطابع خاص وبشيء غير قليل من الابتكار والطرافة في منهج الطرح وأسلوب المعالجة المعتمد على التجربة الذوقية والمعاناة الروحيّة، وفيما اقترحه من بدائل تتجاوز كل الثنائيات والأضداد في هذا الكون وتسمتد مادتها من الطابع الشمولي للوعي الباطن في إطار وحدة روحيّة تخترق حدود العقل في سبيل إرساء أسس لعقلانيّة جديدة. كما كان لجليل الكلام من وجهة نظر إبداعية منزلة مماثلة في تجربته الفنية سواء فيما نظمه من أشعار صوفية أو رواه من حكايات وأقاصيص رمزيّة، إذ ارتقى الخطاب الفني فيها إلى آفاق من التعبير احتضنت أبعاد الحس وأغوار العقل وأعماق الروح. إنهما منزلتان لجليل الكلام خوّلتا لصاحبهما مكانة مرموقة في عالم الإبداع والحكمة.
________________________________________
[1] التوحيدي (أبو حيان): الإمتاع والمؤانسة -تح. أحمد أمين وأحمد الزين -منشورات المكتبة العصرية –بيروت –صيدا -1953 م-ج 2 -ص61 .
[2] المصدر نفسه –ج 2-ص145
[3] مثل والده بهاء الدين ولد الملقب بسلطان العلماء ومثل شيخه برهان الدين محقق الترمذي وصديقه شمس الدين التبريزي، بالإضافة إلى من لقيهم من الصوفية كالعطار والقونوي وابن عربي وغيرهم.
[4] مراد مولوي (كمال الدين) -قصص المثنوي مولانا جلال الدين الرومي -تقديم عبد الكريم اليافي -الطبعة الأولى -2001م -ص 14
[5] ديوان شمس تبريز – تحقيق جلال همائي -طهران 1956م
[6] كفافي (محمد عبد السلام) -مثنوي جلال الدين الرومي -دار النهضة العربية – 1966-1967م
[7] أول إسهام عالمي في دراسة المثنوي هو «المنهج القوي لطلاب المثنوي» ليوسف بن أحمد المولوي –طبعة القاهرة -1289هـ/ 1872م- وأقدم شرح للمثنوي بالتركية هو « فاتح الأبيات » لإسماعيل الأنقروي (ت 1042هـ)، طبعة بولاق- 1251هـ /1835م- وظهرت بعد ذلك ترجمة له منظومة بالتركية لمحمد بن عبد الرحمان سنة 1268هـ/ 1851م- وقد ترجم المثنوي نظما إلى اللغة الهندوسية محمد يوسف علي شاه ونشر في لنكو سنة 1889م- وترجم جورج روزن George Rosen المثنوي إلى الألمانية ونشره بليبزج عام 1849م وأقدم ترجمة للمثنوي إلى الأنكليزية كانت بعناية السير جيمس ردهاوس Sir. James. w. Rodhouse ونشرت بلندن سنة 1881م- وتلتها ترجمات Whinfieled 1887م و1910 Wilsonم ونيكلسون 1925-1940
[8] كلمة المثنوي تعني ذلك النظم المعروف بالمزدوج في الشعر العربي وفيها إشارة إلى شكل النظم لا إلى محتواه.
[9] أحد الصوفية الجوالين، اختلف المؤرخون في هويته ومذهبه الصوفي وكان له تأثير كبير في تجربة جلال الدين الرّومي الصوفية.
[10] مراد مولوي –قصص المثنوي مولانا جلال الدين الرّومي –المقدمة -ص21.
[11] المصدر نفسه –ص33-38.
[12] العطار (فريد الدين) -منطق الطير –باريس -1857م.
[13] سنائي (مجد الدين) -حديقة الحقيقة -تح. مدرس رضوي –طهران -1950م.
[14] كفافي )محمد عبد السلام( -مثنوي جلال الدين-ج 1 -ب 2252 وما يليه.
[15] مصطفى غالب -جلال الدين الرومي -مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر -بيروت -لبنان –1982م –ص 40-41.
[16] المرجع نفسه -ص42.
[17] مراد مولوي (كمال الدين) -قصص مثنوي مولانا جلال الدين الرومي-ج 5-ص 428.
[18] نفسه –ج1 -ص 92-93
[19] المصدر نفسه- ج5- ص 428
[20] المصدر نفسه- ج5 – ص408
[21] المصدر نفسه- ج5- ص425
[22] نفسه- ج2- ص128
[23] المصدر نفسه.
[24] الرّومي (جلال الدين) –مثنوي -ج5 -ص557 وما بعدها.
[25] مراد مولوي (كمال الدين) قصص مثنوي –ج 5-ص429.
[26] المصدر نفسه -ج5- ص408.
[27] المصدر نفسه- ج5- ص403.
[28] المصدر نفسه-ج5- ص399.
[29] المصدر نفسه.
[30] المصدر نفسه.
[31] كفافي (محمد عبد السلام) -مثنوي جلال الدين الرومي –ج 1-ص31-32.
[32] مراد مولوي (كمال الدين) قصص مثنوي مولانا جلال الدين الرومي -ج5 -ص451.
[33] ابن خلدون (عبد الرحمان) –المقدمة –الدار التونسية للنشر -1984 م –ج 2 ص557.
[34] تشير المصادر إلى نشوب خلاف بين أبيه بهاء الدين ولد والإمام فخر الدين الرازي بسبب اهتمام الرازي بعلم الكلام.
[35] أشهر من قال بذلك هم المعتزلة
[36] يمثل هذا الفريق الأشاعرة وجمهور أهل السنة
[37] ر. أ. نيكلسونR .A .Nicholson – – في التصوف الإسلامي وتاريخه- مطبعة التأليف والترجمة والنشر- القاهرة- 1375هـ/1956 م –ص 86
[38] الرومي (جلال الدين) –المثنوي –ج 1 ص 50-60 نقلا عن :عبد القادر محمود: الفلسفة الصوفية في الإسلام -دار الفكر العربي – 1966-1967م -ص536
[39] ر. أ. نيكلسون R. A. Nicholson. في التصوف الإسلامي وتاريخه -ص54
[40] مراد مولوي (كمال الدين) قصص مثنوي مولانا جلال الدين الرومي –ج 1 ص 56 -(حكاية الأسد والوحوش).
[41] أ. هـ. وهينفيلد .E. H. Whinfield -مثنوي معنوي -طبعة لندن -1898م المقدمة ص26 –انظر أيضا: ر. أ. نيكلسون -في التصوف الإسلامي وتاريخه –ص 95 وكذلك عبد القادر محمود: الفلسفة الصوفية في الإسلام -ص539.
[42] المصدر نفسه -ص28 -راجع أيضا: ر. أ. نيكلسون (المرجع السابق) ص94.
[43] مراد مولوي (كمال الدين) -قصص مثنوي ج 1 ص 58.
[44] المصدر نفسه -ج 1 ص65.
[45] المصدر نفسه -ج 1 ص70 .
[46] دانيال جيماري -Daniel Gimaret : نظرية الفعل الإنساني La théorie de l’ acte humain طبعة باريس1980 م ص100 -120.
[47] المرجع نفسه.
[48] ر. أ. نيكلسون R. A. Nicholson -في التصوف الإسلامي وتاريخه -ص95.
[49] عبد القادر محمود -الفلسفة الصوفية في الإسلام –ص 536 -539.
[50] مراد مولوي (كمال الدين) قصص مثنوي –ج 2 ص 183.
[51] المصدر نفسه -ج 1 –ص 64.
[52] المصدر نفسه –ج 2-ص 149.