حسام الدين جلبي: نسمة جديدة على نار الإلهام
بقلم: ليلي أنفار
ترجمة: عائشة موماد
17/12/2017
من وجهة نظر الرومي، يوحي تعاقب صور المعشوق الإلهي في حياته وأعماله بأن على الجمال الإلهي أن ينعكس في الصورة الإنسانية كي يصير سهل البلوغ ويصبح موضوعا للمشاهدة. لذلك، وبعد فترة قصيرة من وفاة صلاح الدين زركوب، توجّه الرومي نحو قطب جديد للمشاهدة والإلهام، أصبح يمثله الجديد لدى مريديه، وهو حسام الدين جلبي، أو كما يسميه مولانا، ضياء الحق. لقد كان بدوره مريدًا مخلصا لمولانا، وقد تعرّف على شمس تبريزي فترة مروره بقونية. كان قبل ذلك مفوّضا منذ مدة طويلة لإدارة كل الشؤون المالية لأسرة مولانا ورعاية كل أفراد الطائفة التي كانت تتلقى في بعض الأحيان تبرعات من طرف الأغنياء المتعاطفين معها بمدينة قونية وضواحيها.
كان يحظى بثقة الشيخ التامة، ويخبرنا اسمه الكامل (جلبي حسام الدين حسن بن محمد بن حسن بن أخي ترك) بأنه كان من عائلة تركية، على الأرجح من قونية ( وأن والده كان ينتمي غالبا إلى إحدى تلك الأخيات الحضرية ) تعني كلمة Akhî حرفيا “الأخ” وتشير إلى فرد منتسب إلى هذا النوع من الأخيات ، بخضوعه إلى ميثاق شرف وأخلاقيات معينة، هي عبارة عن مزيج من التفاني والتضامن أمام كل التجارب وفي كل مجالات الحياة، سواء كانت مادية أو معنوية أو روحية.
وبعد فقدان والدته، يبدو أن حسام الدين قد تقلّد مبكرًا مسؤولية إدارة المجموعة الخاصة بأبيه، لكنه كان أيضا فردًا مهمًّا في صفوف مريدي الرومي، فتخلّى عن بيئته الأصلية أو على الأقل ابتعد عنها شيئًا ما. يمكن الاعتقاد أيضا أن مرتبته الاجتماعية قد مكّنته من إرشاد بعض أفراد جماعته إلى طريق الرومي، أو على الأقل، استطاع إذكاء الوعي في أوساط حرفيي وتجّار قونية لجذب انتباههم إلى الفكر الروحي لشيخه.
في العلاقة التي كانت تربط بين الشخصين، تجب الإشارة مجددا إلى أن روابط المودة والتأمل الروحي تتفوق بكثير على التراتبية المعتادة بين الشيخ ومريده.
لم يترك حسام الدين أيّ أثرٍ أدبيّ رغم ثناء الرومي عليه في أعماله، لم يظهر أنه كان من كبار العلماء ولا الخطباء، لكنه كان متعلمًا وذا شخصية متألقة ومريحة جعلت المريدين يقبلون عن طيب خاطر بسلطته وحضوره عند مولانا. قد يكون كذلك لما انتهى بهم الأمر إلى فهم أن ليس في مصلحتهم أن يعارضوا قرارات شيخهم، لكن المؤكد أن الرومي قد وجده ناضجًا بما فيه الكفاية لكي يعهد إليه بالتوجيه الروحي للمريدين والتدبير المادي للجماعة ثم خلافته في آخر المطاف.
لاحظ المعاصرون ونقلوا إجلال حسام الدين الشديد للرومي الذي كان يؤدي دور المرشد الروحي، وهذا لا يناقض في نظر الرومي أن يجسد مريده بريق التجلي الإلهي في نفس الوقت. يمكننا الحديث من جديد هنا عن مشاهدة متبادلة، عن لعبة مرآة، انطلقت مجددا من التجربة المعيشة كي تعلن عن نفسها بتعابير شعرية.
في التقليد المولوي، كان حسام الدين خاصة وقبل كل شيء ملهم المثنوي، المؤَلَّف التعليمي الكبير للرومي. يروي كُتاب التراجم: أنه كان على مريدي مولانا قراءة أشعار الصوفية القدامى الكبار، وخاصة سنائي والعطار، للتّعرف على الحقائق الروحية والتفكّر فيها وإجراء تحولات فيهم من خلاله. من بين هؤلاء، كان لحسام الدين قناعة راسخة بأن شيخه قد بلغ من الكمال الروحي والشعري مرتبة تمكّنه من إنتاج عمل يفوق كل الأعمال السابقة.
علينا أن نتذكر أنه في ذلك الوقت، كان الرومي قد تجاوز سن الخمسين وكان قد ألّف أغلب قصائده. لذلك، وخلال إحدى الأمسيات، وفي ألفة إحدى المحادثات الروحية، عرض حسام الدين على الرومي أن ينجز عملا على غرار “حديقة الحقيقة” لسنائي، يلخص من خلاله الرحلة الروحية للنفس، ويسقي العطاشى لدين العشق، عملاً يكون بمثابة خلاصة لما تعلّمه الرومي وما خاضه من تجارب.
يحكى أنه في تلك اللحظة، أخرج الرومي ورقة من عمامته خطّ عليها مسبقا الأبيات الثمانية عشر التي تشكل اليوم الافتتاحية الرائعة للمثنوي. من شأن ذلك أن يدلّ على أنه قد عانق فكرة تأليف عمل يحكي من خلاله “رواية الروح” بنفس الأسلوب الأدبي لأسلافه سنائي والعطار، لكنه كان ينتظر ملهمًا -إن صح التعبير، أُذنًا تستطيع سماعه وروحا تستطيع جمع لآلئ أبياته.
كان حسام الدين ذلك الملهم الذي ذكر اسمه مرات عدة في المثنوي الذي أُهديَ له كذلك. تؤكّد الطريقة التي يخاطبه بها الشاعر أن مولانا كان ينشد الأبيات بينما كان حسام الدين يدونها، بعد ذلك يقرأ عليه ما كتب وربما ينقل تصحيحات شيخه. ابتداء من الكتاب الثاني، تُستهل كل كتب المثنوي بمخاطبة لحسام الدين، تشير بوضوح إلى كونه ملهما و”موحيا” للمثنوي.
ولذلك نجد على سبيل المثال في الكتاب الرابع من المثنوي:
يا “ضياء الحق”، حسام الدين
بنورك فاق المثنوي ضياء القمر
يا رجائي، هي قدرتك التي تجذبه…
والله يعلم إلى أين.
الآن وقد أمسكت هذا المثنوي من العنق
تجذبه، وأنت وحدك تعلم إلى أين!
المثنوي في تقدم، وجاذبه خفي
خفي على الجاهل الذي يحسبه غائبا
بما أنك مصدر المثنوي، فإن كبر، فأنت من جعله كذلك.
(المثنوي- الدفتر الرابع)
ومجددًا كما كان في عهد شمس، ينسحب الرومي من عمله ويقدمه كأن شخصا آخر يتحدث من خلاله، ليس بنفس القوة بالتأكيد، ولا بنفس التدفق والغزارة. المثنوي عملٌ ناضجٌ، يخضع لبناءٍ وفكر، أما الغزليّات فقد كانت تدفقات عشقية عفوية وحماسية. ذلك الوجد الذي لا يقهر، والناجم عن الذوبان العشقي، تخلى عن مكانه في المثنوي لسُكر لطيف يحمله الإيقاع والاستطرادات اللامتناهية.
كان أسلوبه في المثنوي أسلوبَ رجلٍ حكيمٍ، وراوٍ يسمح في بعض الأحيان أن نتصور من جديد العشق الذي يحترق بداخله وشغفه المطلق بالحقيقة. نرى جليًّا في هذا العمل أن حسام الدين قد لعب دورًا مهمًّا في تحفيز الطاقة الفائرة التي تتدفق من الرومي حتى سن متقدم. عرف كيف يحمل الشيخ على تأليف هذا الصرح الروحي، الذي يعد ثمرة ثقافته الواسعة وكذلك ولا سيما تجربته في الطريق الروحي. كان تأثير وحضور حسام الدين حاسمين، حيث يمكن قراءة ما يلي في بداية الكتاب الثاني:
تأخر المثنوي لمدة من الزمن
فالدم يحتاج إلى فترة ليصبح حليبًا
وما لم يجلب قدرك مولودا جديدا إلى الدنيا
فاعلم أن الدم لن يصبح حليبًا حلوا
عندما رجع حسام الدين ضياء الحق على أعقابه،
عاد لنا من أعالي السماء
لأنه عاد من المحيط نحو الساحل
دَوزنّا الرباب من جديد
من اجل هذا الكتاب الذي يصقل الأرواح
فهذه العودة يوم فخر واستفتاح.
(المثنوي- الدفتر الثاني)
تخبرنا هذه الفقرة التي يتم ذكرها وشرحها كثيرًا أن تأليف المثنوي قد تم تأجيله لمدة من الزمن (سنتان على الأرجح، مع العلم أن البيت الذي يلي هذه الفقرة يعطي بكل دقة وتقدير تاريخ استئناف التأليف، أي سنة 1264م، مما يجعلنا نعتقد في نفس الوقت أن تأليف الكتاب الأول قد تم حوالي سنة 1262، ومن جهة أخرى، أن الرومي توقف عن التأليف في غياب حسام الدين لانقطاع الإلهام. يحكي الأفلاكي في مناقب العارفين أنه بعد وفاة زوجته، انعزل حسام الدين لفترة من الزمن، وقد انقطع تأليف المثنوي لهذا السبب. يعتقد أنه كان قد عرف في هذه الفترة ثورة داخلية مهمة وقدر له أن يقوم بمجموعة من الكشوف الروحية، كما تؤكد الصور التي استعملها الرومي (” أعالي السماء”، “المحيط”، تدل هذه الصور على الغوص في الأسرار الإلهية).
وعند عودة حسام الدين (التي يمكن فهمها بالمعنى الحرفي أو بمعنى روحي صرف)، استأنف التأليف ولن ينتهي إلا بعد إنهاء الكتاب السادس قبل وفاة الرومي بأربع سنوات سنة 1273 ، لأن أقدم مخطوط عثر عليه لهذا العمل يعود إلى سنة 1269.
الأرجح أن الرومي أعاد قراءة المثنوي وصححه بمساعدة حسام الدين، ولذلك تمكّن بعض الأبيات المتفرقة في عمل الرومي، وبعض النوادر المقتبسة من روايات كتاب السير التي تختلف في دقتها، أن ترسم علاقة ألفة روحية عظيمة واحترام وإعجاب متبادل بين الشيخ والمريد الذي أصبح الصديق وموضع الثقة، والمرآة التي تعكس حكمة الرومي، والقطب والنور المنعكس للتجلي الإلهي.
عاش حسام الدين حوالي عشر سنوات بعد وفاة شيخه وموضع سره الروحي، تولى خلالها نزولا أمام رغبة الرومي، مهمة إرشاد جماعة المريدين والاهتمام بعائلة مولانا، وتوفي سنة 1284 ودفن بضريح مولانا بقونية.
يقول سلطان ولد ابن مولانا وهو يستحضر أقطاب التجلي الثلاثة لوالده:
“يقول مولانا: ” عندما غادرت الشمس الليل الحالك، تبدل الزمن وجاء زمن المصباح. وعندما يختبئ القمر وسط السحاب، من ينير طريقنا لولا النجم؟ كالقمر في قلب الصحراء، فالنجم يدل على الطريق وسط البحر”. أحدهم سأل مولانا: “من الأرفع مقاما من بين هؤلاء الرموز؟ فأجاب: ” يا صديقي، شمس الدين كان مثل الشمس، وصلاح الدين مثل القمر، وصلاح الدين الملك مثل النجم لأنه متصل بالسيد الأعلى. اعتبرهم واحدا! فكل منهم يوصلك إلى الله“
لذلك وبدرجات متفاوتة، (ما دام التراتب الطبيعي بين الشمس والقمر والنجوم لا يمكن إنكاره)، يجتمع الأقطاب الثلاثة في مهمة واحدة (“اعتبرهم واحدا!”)، تلك التي تتعلق بتوجيه الناس، وإرشادهم إلى الطريق الذي “يوصل إلى الله”، وكونهم المنبع النوراني الذي يذيع النور على غرار الفيلسوف الذي عاد لإرشاد سجناء الكهف الأفلاطوني. كيفما كانت شدة النور الذي يسعه كل نجم روحي، فإن الجانب النوعي يتفوق على الاعتبارات الكمية، لأن أقل شعاع ذي مصدر إلهي يجري خيمياء أساسية على طبيعة من يستقبله، لكن المدهش في الأمر أن نرى أن النور الموجه يظهر على خلفية من الظلام والضلال: “الليل الحالك”، “السحاب”، “الصحراء” و ” مد البحر”، كلها صور تلفت الانتباه إلى مدى ضياع الإنسان وسط هول ليل العالم واحتياجه ل “إشارة” مضيئة لتهديه إلى طريق الخلاص. الذكر المستمر لصورة النور كتعبير مجازي بامتياز عن القطب الروحي، القطب الذي بدونه يصبح العالم عرضة للظلام والفوضى، تشهد على أهمية صور التجلي الإلهي في حياة وأثر الرومي. وبدرجات متفاوتة كذلك، أولئك الذين ساهموا في تكوينه (ومن بينهم والده وبرهان الدين محقق)، مثلوا أقطابا منيرة مكنته من السفر إلى نفسه وعبور “عالم الطين” هذا دون أن يفقد الأمل، لأن الليالي الأكثر سوادًا في حياة الرومي، ما تفتأ أن تضيئها النجوم، و ينتهي الأمر بظلمات الجسد إلى الرضوخ للنظرة المحوِّلة للمعشوق النوراني:
في بعدي عنك، لست سوى طين وظلام
وعندما أراك للحظة، أكون إشراق القبة الزرقاء
عندما يبتعد وجه الشمس عن رؤية الأرض
من البعد، يلبس الليل ثوبه الأسود
ويكتسي البياض، عندما تظهر الشمس ثانية وقت الفجر،
أنت يا من وجهك شمس لروحي، لا تبتعد عني!
(غزليات شمس تبريزي)