رشفات صوفية من كأس شيرازية

رشفات صوفية من كأس شيرازية

 

 

 

رشفات صوفية من كأس شيرازيّة

 

د. سعاد الحكيم

 

تلقيت كتاب “حافظ الشيرازي بالعربية شعراً” هدية.. لفتني رونق غلافه فتأملت رموز المشهد المرسوم فوجدت المرأة في محوريّة الصورة، في نقطة دائرة الأنس والصفاء والحب والشعر على أريكة ملكية تحف بها العيون والأفئدة وأشياء الدنيا المفرحة من زهر وشجر وفاكهة وكتاب.. وقابلتني مخيلتي بصور مجالس ملوك الدنيا المنزوعة الأنس والصفاء ويتراتب بشرها في هرمية طبقية قهرية على رأسها واحد ليس وراءه ولا أمامه أحد.. وشتات في اجتماع الناس والأمم ما بين الدائرة والهرم.

       وبعد وقفتي مع رمزية الغلاف وجماليته أصبحت جاهزة للابحار في قوافي الشيرازي مع شاعرنا عمر شبلي..

فتحت الكتاب وبدأت أقرأ فسقطت من حروفه في كفي نجيمات عددتُ منها أربع وارتفع كوكب إلى السماء الدنيا يَنُور ويلمع.

أما النجيمات الأربع فهي علامات أربع تدل على الكتاب، تُبديه ولا تستنفذه، وقد قدمتها على سواها نظراً لأبعادها الصوفية، وهي: خلوة الأسر، العشق والجمال، رمز الخمرة، عرفان الله. وسوف أجلّي كل نجيمة منها بسرعة وإيجاز:

1 – خلوة الأسر..

عجبت لأسير – هو عمر شبلي – يهدي كتابه الذي نناقشه اليوم إلى سجّانيْه، آمر السجن ومساعده.. وليس العجب في كون السجّان رجلاً طيباً ولكن العجب في التماح نظر السجين لطيبة إنسان السجّان والاعتراف بإنسانيّته.. وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على أن وجدان شاعرنا مطبوع على جمالية صرفة أصيلة غامرة تتجلى في علاقاتٍ مُحبِّة منسجمة مع الكون المحيط مهما تفاوتت ظروفه.

هذا الانسجام وهذه المصالحة مع السجّان حولت الأسر إلى شبه خلوة تتجلى فيها الذات لذاتها في مرآة.. والمرآة كانت شعر حافظ الشيرازي.

في الأسر قرأ شاعرنا ديوان حافظ، وتفتّح فهمه لشعره.. وفي الأسر ترجم قصائده الأولى وخاطب بها قرّاء العربية بلسان عربي مبين.

 

2 – العشق والجمال..

       منذ فجر الوجود الصوفي افترق أهله في سفرهم الروحي على قافلتين: قافلة المجتهدين المجدّين في ميدان الرياضة والمجاهدة، وقافلة العشاق الملتاعين المتساقطين كفراشات غذاءً لنار مقدّسة.. وفي ركب القافلة الثانية سار حافظ الشيرازي.

 

يقول حافظ في الديوان (ص 101) والنص الشعري لعمر شبلي:

   أنا، عندما من نبعة العشق مرةً          توضأتُ كـان العشقُ ديني ومعبودي

   أقمـتُ على الدنيا صلاة جنازةٍ           ورحتُ أصـدُّ النفسَ عن كلِّ موجود

           

       فها هو يتوضأ بماء العشق والنص مفتوح على العشق الإلهي.. فيصبح العشق دينه ومعبوده، ويصبح العاشق موحّداً لا يشرك بمعشوقه، تموت الدنيا – مدخل الشرك – ويصلي عليها صلاة الجنازة..

 

والعاشق مطيع لا إرادة له مع معشوقه، يديم لزوم الباب، عسى تتزحزح الأستار ويحظى بنظرة من المحبوب.. يقول (ص 19) :

   تـرابُ أعتابِكـمْ كحلٌ لأعيننا       فكيف عن بابكـم ننأى ونبتعـدُ ؟

   فهاتِ أمرَكَ، قرِّرْ مـا تريد لنا            وأينَ، أينَ سواكمْ غايـةً نجـدُ ؟

       والعاشق وإن كان لا إرادة له مع محبوبه، إلا انّه ملحاح دائم الطلب للوصال إن لم يكن من عين العشق فمن عين الجزاء لما يقدّم.. يقول (ص 39):

   من حـقِّ خدمتنا على أعتابكـم            أن تمنحونـا بعضَ ما نبغيـهِ

   يا سيّدي لـو أنت تنظـر مـرّةً              بالعطـف للعبدِ الـذي تُشقيـهِ

 

       ويذكر حقوق ثنايا المعشوق وشفاهه على العاشق، يقول (ص63):

   لثنـايـاكَ والشفــاه حقـوقٌ           حفظُهـا واجـبٌ على الأرواح

   حفظها واجبٌ على كـلِّ صدرٍ           فيه حرقٌ من جمرهـا اللفّـاح

 

       ويربط بين العشق والحيرة في المعشوق يقول (ص 94):

   أنـا الذي، قلبُهُ مستَهلَكٌ تعِـبٌ             ما كنت أعرف مَن مستوطنٌ فيه!!

 

       وعلى عادة العشاق في المبالغة يخبرنا حافظ عن فوران فيض دمعه الذي فاق طوفان نوح ومع ذلك فهو عاجز عن غسل صورة المحبوب المحفورة في لوح الصدر. يقول (ص 114):

   دمعـي الذي يهمي ويسكـب فيضَهُ        طوفـانَ نـوحٍ فاق في تهالـهِ

   هو عاجـزٌ عن غسل صورة ودِّكم        عن لوحِ صدري المستهامَ الوالهِ

 

       والعشق ليس علماً يستفاد من الكتب بل ذوق دونه تفتت العاشق وتحلله وفناءه، دونه هتك الوقار وتحمل الملامة بجلال، يقول (ص 186):

   يـا من يريدُ تعلُّـمَ العشق الجلي    من دفتـر العقـلِ الوقـورِ الأجلَلِ

   إني أخـاف عليك، إنكَ عاجـزُ           عن فهـم معنى العشـق دونَ تحلُّل

 

       وتكمن الأهميّة العظمى للعشق في انه حال وجداني يحرر العاشق من كافة القيود ويضعه في حضرة المعشوق يقول (ص240):

   تساوى لدى العشّـاقِ في حال عشقهمْ            تكيّـةُ درويشٍ ومقصفُ حـانِ

   لأن سنـا وجـهِ الحبيـب إذا بـدا،           يُشعشـعُ بالأنـوارِ كلَّ مكـانِ

 

      

أما سبب العشق فهو شيء وحيد: الجمال.. والنكتة، انّ المعشوق ليس ذاتي الجمال بل ينبع جماله من نظرة عاشقه.. في النظرة يكمن الجمال الذي هو سبب كلّ حب، يقـول (ص 98):

 

   برغم من يدَّعي فـي العلم معرفـةً       وقـولِهِ: العشـقُ ممنوعٌ ومحظورُ

   جمـالُ وجهـكَ تبقى فيه حُجَّتـُنا        إنَّ الجمـالَ لأهل العشـق تبريـرُ

 

       ويؤكّد على دور الجمال في العشق والافتتان بقصة زليخا ويوسف، يقول (ص 23):

            بطلعـةِ يوسـفَ العُـليا           وفـرطِ جمالـهِ الوضّـاحْ

            لقـد خرجتْ زليـخا من          حجـابِ العصـمةِ الكَبَّـاح

 

3 – رمز الخمرة..

       استخدم الصوفية معجم الخمر، من كأس وقدح وحانة ودنان وسَقي وساقٍ وشرب وسكر ومجون وخلع غدار وغير ذلك. كما استخدموا أسماء الخمرة: صهباء، سلافة، مدامة، ابنة الكرم… وغير ذلك

       وهذه الخمريات التي بدأت في وقت مبكر على شكل مقطوعات قصيرة ونادرة، توالت وتحوّلت إلى قصيدة طويلة في القرن السادس – السابع الهجري، وأصبحت موضوعاً من موضوعات الشعر الصوفي مع عمر ابن الفارض.

       فالخمر رمز لمنح المعشوق وعطاياه، لكلّ ما يتعطف به على معشوقه.. فكلّ ما يصدر عن المعشوق يسكر العاشق: حديثه، نظرته، لفتته، اقبـاله، صدّه…

       والشرب رمز الذوق، والسكر والمجون رمز التحرر من العلاقات السائدة والزائفة والكشف عن الذات الحقيقية العريّة عن الملصقات. يقول في انحيازه لمعجم الخمر (ص 80):

 

   قـلْ لابنة الكـرْمِ الأثيـرة إننـا        خدمٌ لها في محفـل الجُـلاّسِ

   قـد حرَّرَتْـكِ من القيود جميعها            أنفاسُـنا فتقـدَّمي في الكـأسِ

 

       ويؤكّد سلوكه سبيل السكر ويمهره بالاغتسال بالخمر، يقول (ص 95):

   كـذاكَ قلبي الحزينُ اعتـاد من دمـِهِ       تلويثَ صومعةٍ من طول ما نزفا

   بالخمر إغسلْ – إذا ما شئتَ – لي بدني       فالأمرُ أمرُكَ إني أعشق السرفا([1])

 

       ويربط بين الخمرة والكشف عن الأسرار. يقول (ص 101):

   ألا فاعطني خمراً فأعطيكَ خبـرةً      بما في الوجود من محجَّبِ أسـرارِ

   وأنبيكَ عمَّنْ وجهَهُ صرتُ عاشقـاً     ومَن مِنْ شذاهُ كان سكري وتَهذاري

 

       ويضع خط الزهد في مقابل خط السكر ويرجّح الثاني، فيقول (ص 109):

   إن الذي يحسـو ثمـالة كأسـهِ                    لا تنتقـدْهُ لما تـرى يـا زاهـدُ

   لم نُعْـطَ مذ نادى “ألست بربكم”                 إلاّ السبيئـةَ ([2]) تحفةً يـا ناقـدُ

 

       يشير حافظ هنا إلى آية الميثاق، يقول تعالى:  )وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ(. والخمرة عنده إشارة رمزية إلى الخطاب الإلهي لذراري بني آدم، والذي يختزنه كل واحد في ذاكرة الروح.. عندما أشهد الله بني آدم على أنفسهم وخاطبهم “ألست بربكم” الكلّ سمع الخطاب، وهذا السماع للخطاب أسكر العشاق، وهو ما يحتج به حافظ أمام الزاهد الناقد.

       ومما يؤكد لدينا انّ سكر حافظ مقدس لا مدنس، قوله (ص 47):

   كـنْ من مريدي الله، واثملْ بالذي         هو وحدَهُ ذو الصفح والغفـران

   مع “نـوح” كانت في السفينة طينةٌ        ليست تهاب خطورة الطوفـان

 

       وتظهر علاقة السكر بالتحرر من الملصقات والقيود، يقول (ص 87):

  

   يظلُّ شاربُ خمرٍ، لا ريـاءَ به           ولا نفـاقَ ولا في طبعِـه دجـلً

   أسمى وأفضلَ ممّن لا خَلاقَ له         من بائع الزهد، إذ في طبعهِ ختَـلُ

 

   لسنا سكارى رياءٍ في تصرُّفنا            ولا سكارى نفاقٍ نحن في الحانِ

   وعالِمُ الغيب والأسرارِ شاهدنا            على التماثلِ في سـرٍّ وإعـلانِ

 

4 – العرفان.. عرفان الله

       يقود السكر إلى هتك الأستار والكشف عن حقيقة الذات الإنسانية في العبوديّة.. ويظهر ارتواء حافظ من ماء الحياة في دعوته إلى دولة الدراويش، وتشديده على إقامة الحق وعدم الاستكبار. (ص ص 190 – 192):

 

ألا أسمـعْ دون تكليـف        عـن الدولِ التـي تبقـى

هـي الدولُ التي يُرسـي        الدراويـشُ بهـا الحقّـا

****

 

فيـا مقـتَـدِراً أقلِـلْ       مكـابـرةً ولا تعـتـدّْ

ففي كنـف الدراويـشِ          يكون الجـاهُ والعسجـدْ

****

 

أنـا عبدٌ ومأمـورٌ             لنظـرةِ “آصف” العصـرِ

له سيـرةُ درويـشٍ             وصـورةُ سيِّـدِ القصـرِ

 

إذا “مـاءَ الحيـاةِ” أردْتَ        يـا “حافـظُ” أن تجـرعْ

فمـن أعتـابِ خلـواتِ          الدراويـشِ هـو المنبـعْ

 

       لقد تجلت صوفيّة حـافظ من وراء زجاج الكأس وحمـرة الخمر، يقـول (ص 88):

   وقـد أقمنا فروض اللهِ كاملةً             وما أصبْـنا بفعلِ السوء إنسانـا

   ولم نقـلْ لحرامٍ حرّموهُ لنـا         هـذا حلالٌ، ولم نسلكْـهُ ميدانـا

 

إن هذه الدعوة إلى دولة الدراويش تبطن نقداً للقيم السائدة في الحقل الديني بين الناس، وتحاول استعادة منظومة قيم دينية أصيلة تقرن الجوهر بالمظهر، تحفر في أرض الجسد وتعلي بنيانها في مملكة الروح.

 

وبعد هذه النجميات الأربع نقول ختاماً: إن الكوكب الذي ارتفع إلى السماء الدنيا ينور ويلمع هو حافظ الشيرازي في شعر عمر شبلي.. لقد افتتح عمر شبلي ميداناً جديداً للباحثين مفتوحاً على عدة قطاعات شعرية وصوفية، عربية وفارسية.. كما فتح مجالاً لقراءات تفسيرية وتأويلية تضيف جديداً إلى مسار الشعر العربي عامةً والشعر الصوفي خاصةً.

 

[1]  – ضراوة الخمر.

[2]  – الخمرة

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!