وجه الله: الإله والإنسان

وجه الله: الإله والإنسان

الإله والإنسان : تحليل رواية (وجه الله) لمصطفى مستور

بقلم: د.محمد صفّار 

مقـــدمة 

تهدف هذه الدراسة إلى استئناف ما قمت به فى دراستين سابقتين من اتخاذ الأعمال الأدبية كمصادر غير تقليدية لدراسة الفكر السياسي والفلسفة. وبرغم أن الأعمال الأدبية بسبب تحررها من القيود الصارمة للمنهج العلمى تجعل الأديب أكثر قدرة وأعمق نظراً فى تناول العديد من الظواهر، التى ربما لا يقدر الباحث العلمى على تناولها بإطلاق أو حتى بمثل هذا العمق، برغم ذلك إلا أن تحليل الأعمال  الأدبية كمصادر غير تقليدية لدراسة الظواهر الفكرية يفتح الباب أمام طرح إشكالية المنهج الذى يتناسب مع أعمال فكرية تتجاوز مستوى العقل لتحلق فى عالم الخيال، الفردى أو الاجتماعى، وبالتالى تتلخص من قيود المنهج. وتتسم هذه الاشكالية بالدور المنطقى لأنها تبحث عن المنهج المناسب لدراسة ظاهرة تستند بشكل أساسى على التخلص من المنهج.

وإستناداً لذلك لن تسير هذه الدراسة فى تحليلها لرواية (وجه الله) فى طريق مستقيم، بل ستحاول مقاربة هذا العمل الأدبى بالسير فى دروبه ومسالكه الوعرة والمتعرجة. ويأتى  ذلك فى إطار عملية تأويل ، لكنه ليس تأويلاً يستهدف استجلاء مواضع الجمال الفنى، بل يوظف الجمال الفنى لفتح آفاق النص واستجلاء الأسئلة والإشكالات التى يطرحها وكذلك الأجوبة المقدمة عليها.

وتتألف بنية هذا العمل الأدبى من خطين دراميين، أحدهما يأتى فى مقدمة المشهد والآخر يمثل الخلفية، غير أنهما يتبادلان موقعيهما بسبب تشابكهما على مستوى الإشكالية التى يرمز إليها كلاهما، وعلى مستوى الأحداث التى يتألف منها كلاهما . أما الخط الدرامى الأول فيتصل بالعلاقة بين يونس وخطيبته سايه، وهما طرفا نقيض حيث فقد يونس إيمانه بالله وبالغيبيات ، أما سايه فهى شديدة التدين، وتدور علاقتهما وجوداً وعدماً مع الإيمان بالله. ويقود هذا الخط الدرامى إلى إشكالية وفاة الإله وأثرها على العلاقات الاجتماعية ونمط الحياة القائم عليها . ويتصل الخط الدرامى الثانى بالعلاقة بين بارسا ومهيتاب، ويتمثل تقاطع الخطين الدراميين المتوازيين فى أن انتحار بارسا هو أطروحة يونس للماجستير .ويعتبر بارسا ومهيتاب أيضاً طرفى نقيض ، ولكن بصورة أعمق فبارسا هو العاشق المحب أما مهيتاب فهى جامدة المشاعر، وبارسا هو اللغز الذى تدور حوله الرواية بأكملها ومهيتاب هى حل هذا اللغز. ويقود هذا الخط الدرامى إلى إشكالية وفاة الإنسان. ويتمثل تقاطع  هذين الخطين الدراميين المتوازيين، على غرابته المنطقية، فى أن وفاة الإله لابد أن تقود لا محالة إلى وفاة الإنسان.

مفتاح الرواية

ويصل بين هذين الخطين العديد من الخطوط الفرعية، التى تغذيهما وتمدهما بالأفكار والمشاعر مثل مهرداد وزوجته وابنته، العاهرة وسائق التاكسى ، على رضا وصديقه منصور ، بل وحتى الدودة والعصفور . وفى وسط هذا النسيج الدرامى ذى الخطوط المتفاوتة  الألوان والأطوال، يقدم لنا المؤلف مفتاحاً لفك شفرات النص كان قد قام بإخفائه فى إحدى ثناياه. فبرغم أن عنوان الرواية فى ترجمتها العربية هو (وجه الله) إلا أن العنوان الأصلى الذى ربما لا يجده القارئ مستساغاً إذا ترجم إلى العربية هو (قَبِّل عنى وجه إلهك الجميل). ولما كان هذا العنوان جملة وردت على لسان إحدى شخصيات الرواية، فإن فصل سائق التاكسى والعاهرة ، التى جاء العنوان على لسانها ، يستأهل التركيز عليه بشكل خاص ، باعتباره المدخل الذى يقدمه المؤلف لعمله.

يعتبر فصل العاهرة وسائق التاكسى هو الفصل المركزى فى الرواية، ليس فقط لوضع إحدى جمله المفتاحية فى عنوان العمل الأدبى ، كما أسلفنا ، ولكن لأنه يعالج بمنتهى العمق والتركيز فى آن واحد تلك الإشكالية المحركة للرواية بأكملها والمصاغة فى السؤال التالى: “هل الله موجود؟”. وسيكون التعامل مع هذا الفصل من الرواية نموذجاً للتعامل مع الرواية بإجمالها ، كما سيتضح وسيكون ذلك على خطوتين، الأولى تجميعية وتسعى إلى الإحاطة بما يتم تحليله من أجل تقديم صورة كلية للنسيج الدرامى ، وفى مقابل ذلك تسعى الثانية وهى تمزيقية إلى نقض خيوط النسيج الدرامى  مزقة مزقة .

ويدور هذا الفصل حول سائق التاكسى الذى كان عائداً إلى بيته ليلاً وفى الطريق توقف لتوصيل إمرأة هى العاهرة، وبعد فترة من الصمت يدور بين الاثنين حوار يلخص مغزى الرواية ، وتقدم عبارته المفتاحية، التى ساقها المؤلف على لسان العاهرة، مداخل قيمة لتحليل هذا العمل الأدبى. وتتلخص مشكلة العاهرة فى أن زوجها تركها منذ سنتين وأطفالها فى ذلك الجحيم الذى تلاقيه، وهى متيقنة من عدم عودته. ولما عرض عليها سائق التاكسى أن يقوم بتوصيلها دون مقابل ابتغاء مرضاة الله أى لوجه الله، كان ردها أن مشكلتها هى وصغارها لا تحل بصدقة تافهة. وحينما تطور الحديث بين الاثنين عن الله، ذكرت أنها سمعت أشياء عنه ولكنها لم تر شيئاً وتعتقد أن الله لا يعرف الكثير عنها، وإلا لما تركها على حالتها تبيع جسدها من أجل قوتها. حينئذ أعطاها سائق التاكسى كل النقود التى كسبها طوال اليوم قائلاً:” تصورى أن ربى أنزل إليك هذه النقود من عليائه”، وبعد أن زالت دهشتها وأخذت النقود ونزلت من السيارة ، ردت عليه وعيناها قد أغرورقت بالدموع :”قبِّل عنى وجه ربك الجميل! “.

إذن خرجت هذه الجملة المفتاحية أو عنوان الرواية من تفاعل حوارى بين شخصيتين تمثلان الإيمان واللاأدرية. فسائق التاكسى يزن أعماله فى إطار سياسة نفسه فى طريق الحياة ، كما لو كان يقود سيارته فى طريق جبلى مظلم ، يتعين عليه فيه عدم تشتيت نفسه بل الإمساك بمقودها بقوة، وإلا سقط فى الهاوية أو اصطدم بالصخر. وصرامته فى سياسة نفسه تجعله يصل فى نهاية الطريق الجبلى المظلم إلى الإيمان الذى به تبدأ المعرفة بالله بسبب حضوره فى الوعى الإنسانى ، وحينئذ يقوده الانفتاح على الله إلى مشهد الاندماج الكونى حتى وكأنه يسمع أنين كافة المخلوقات. أما العاهرة فهى على الجانب المقابل تمثل الموقف اللاأدرى فهى تعجز عن الإيمان وتعجز عن الكفر ايضاً، وإنما هى لا تدرى فقد سمعت أشياء وليست متيقنة منها، ويقودها غياب الإيمان إلى حجبها عن الله فى وعيها أو الانغلاق على نفسها . ولذا فهى تهبط فى مراتب الموجودات حتى لكأنها تماثل صرصوراً مقلوباً على ظهره وقد سدت فمه قطعة طعام تقوم بإطعامها لصغارها . ورغم اختلاف هذين الموقفين ، الإيمانى واللاأدرى فى بدايتيهما ومساريهما ، إلا أنهما يتفقان مبدئياً على أن قضية الألوهية، التى يتوجه إليها كلاهما، كل حسب بدايته ومساره، إنما تعالج من خلال استعارة الوجه. فكلاهما يتوجه نحو وجه الله، أما سائق التاكسى فمن خلال الإيمان القائم على السياسة الصارمة للنفس، وأما العاهرة فمن خلال معاناة الحصول على قوتها هى وأولادها عن طريق إتاحة بيع جسدها للجميع. وحينما يلتقى الموقف الايمانى واللاأدرى على المستوى المجازى (وجه الله)، وتهتز لاأدرية الموقف الاأدرى ولكن من دون أن يخامرها الشعور بالإيمان، يستحيل الموقف اللاأدرى إلى الموقف التعويضى / البدلى. ويتضح ذلك من كلمة (عنى)، فعندما يهتز الشعور اللاأدرى يرافق ذلك العجز عن الشعور بالإيمان، يود الإنسان لو يقوم شخص آخر مقامه ليقبل وجه الله الجميل، لأنه ما عاد يستطيع القيام بذلك بنفسه لانسداد منافذ فطرته، ومن هنا رغبته فى أن يؤديه أحد عنه، حتى لو فاضت نفسه بمشاعر العرفان والامتنان للوجه الجميل. وهكذا يصير مغزى قصة سائق التاكسى والعاهرة هو شوق الإنسان للاتصال بالله (تقبيل الوجه الجميل) مع عدم استطاعته القيام بذلك ومن ثم رغبته فى وجود بديل أو واسطة يقوم بالاتصال الفعلى له ولكن بدلاً منه (قَبِّل عنى). وتقدم لنا القصة – العنوان ثلاثة مداخل فينومينولوجية لقراءة هذا العمل الأدبى القبلة والوجه وعنى.

هامش الرواية :

ولكن قبل تقصى هذا المغزى وتلك المداخل، يتعين قراءة هذا العمل الأدبى من الهامش، أو ربما من أبعد هامش يقع فى خلفية العمل وتدور أحداثه الرئيسية أمامه، ألا وهو الحياة اليومية الروتينية. ويصف الفيلسوف الألمانى مارتن هايدجر الحياة اليومية على أنها نمط غير أصيل للوجود الإنسانى إذ يستغرق فيه الإنسان فى التقاصيل ويركن إلى مألوف العادات ، لأنه يتبع ما يسرى على الناس فى قيامهم وعملهم وأكلهم ونومهم، ومن ثم لا يعرف ماذا يريد، وهو لا يريد أن يعرف أيضاً. ويتسم هذا النمط للوجود الإنسانى بسبب ذلك بالشحوب  وعدم الوضوح، الأمر الذى يجعل كل يوم كغيره، بحيث تتشابه الأيام على الإنسان ، ويغدو اليوم كالغد وكالأمس(1) . لنر كيف تغرق الحياة اليومية الوجود الانسانى فيما لا نهاية له من التفاصيل التافهة، بما يجعل وجود الانسان هائماً وشاحباً لا يعرف ماذا يريد ولا يريد أن يعرف، بل يهيم على وجهه فى أيام ليلها كنهارها وأمسها كغدها. ويحدث ذلك الإغراق عن طريق سيل المعلومات التافهة التى تضخها وسائل الإعلام آناء الليل وأطراف النهار. خذ على سبيل المثال ما يرد فى صفحات الجريدة من أخبار: سعر العملات/ تدشين مئات المشروعات العمرانية / علاج الإدمان باستخدام الإبر الصينية/ “كانون” رائدة السرعة والتقنية/ تدريس خصوصى / تصوير الحفلات/ أصول فلسفة ما بعد الحداثة/ فتح المجارى/ سافروا مع “جهان تور”/ ” إنا لله وإنا إليه راجعون” . وهناك أيضاً ما تبثه الإذاعة فى نشره أخبارها (مثلاً عن نجاح إثنين من المتخصصين فى برمجة الحاسوب فى تصميم برنامج للبحث عن المعلومات أسمياه Yahoo وحصولهما على مائه وخمسين مليون دولار لكل منهما) أو ما تذيعه من برامج لربات البيوت (مثلاً عن المقادير الصحيحة لصنع صلصة الطماطم) أو ما تنقله من مسابقات (مثل مسابقة العشرين سؤال ، التى كانت تدور حول المنشار). وهناك أيضاً ما يعرضه التليفزيون من أفلام وثائقية تنقل صوراً حية عن الحرب وما تحويه من فظائع ومآسى تهيج النفس وتكون بمثابة سم قاتل لها (كما حدث مثلاً مع شخصية منصور) أو عن كيفية التخلص من الأعشاب الضارة ، وهو ما يمكن أن يشاهده المرء بكل هدوء وملل (وهو يلتقط تفاحة من الصحن ويقشرها بالسكين كما حدث مع يونس). لا غرابة إذن أن ينفصل الآذان كنداء علوى من السماء عن الصلاة التى يدعو المؤمنين لأدائها، ويستحيل إلى مجرد معلم من معالم الحياة اليومية المألوفة، يدل فقط على تقدم الزمان كانتصاف اليوم أو زوال النهار. فلم يحدث فى أى مرة أذن فيها للصلاة فى هذا العمل أن قام أحد للصلاة والوقوف بين يدى الله. وإنما كان هناك أذان دون صلاة ومصلى دون مصلين، وحتى عندما كانت ساية خطيبة يونس المتدينة تصلى المغرب ، كان هو يشاهد فى التليفزيون فيلماً عن إزالة الأعشاب الضارة ويقشر حبة تفاح.

لم تقتل الحياة اليومية المقدس فقط بل وأدت الإنسانى أيضاً، فقد شوَّهت طبيعة الاتصال أو الحب الإنسانى لتغدو كل رفقة أو معية مزاحمة وبالتدريج تصبح المزاحمة ممانعة ومدافعة. ومن ثم يصبح الاتصال الإنسانى للبحث عن أحد احتياجات الإنسان (الدواء) فى المكان الرئيسى للقاء الناس (الشارع) دوامة يغرق الإنسان فيها، تصيبه بالتوهان والصداع والعجز عن الفهم . وبدرجة أكبر من ذلك يفقد الوجود الإنسانى ذاته أى معنى أو قيمة لتصبح أنباء المجازر الوحشية فى رواندا أو جنوب لبنان أو أى مكان فى العالم، بنفس درجة رتابة واعتياد وروتينية سلخ وختم الحيوانات بعد ذبحها فى المسلخ. بل تحول الحياة اليومية – لإغراقها كل شئ فيها فى الرتابة والملل- الوجود الاجتماعى ذاته إلى مسلخ كبير بكل ما يحويه ذلك من مناظر لم تعد فظيعة وروائح لم تعد كريهة وأصوات لم تعد منفرة، إذ صارت هى ذاتها مكونات الوجود الإنسانى المعتاد والمألوف بل وحتى المرغوب فيه.

ويغدو السؤال هو كيف تحيل الحياة اليومية بإغراقها المعلوماتى التافة والرتيب الوجود الإنسانى إلى وجود محجوب أو غير أصيل ؟ إن طريقة عمل وسائل الإعلام ، التى تؤلف قوام الحياة اليومية ، تتمثل فى أنها تقصف المعلومات المتفرقة وغير المرتبة دفعة واحدة على رؤوس المتلقين. وتتسم تلك المعلومات ليس فقط بالتفاهة ولكن أيضاً بعدم النفع، ويجعل هذا السيل من الأخبار معرفة الإنسان مضطربة، وهو أمر يجعله عاجزاً وحائراً . وحينئذ يضطر الإنسان للخروج من هذا الحال إلى الانكفاء على نفسه، باللجوء إلى وسائل أخرى تشبع ميوله الرقيقة وحتى تستثير غرائزة، لكنها على الأقل تحميه من سيل الأخبار التافهة. وفى غمار هذا التوهان والحيرة والعجز عن الفهم، لابد أن ينسى الإنسان بما هو إنسان الأهمية الوجودية للسؤال عن وجود الله، وحينئذ يسقط الوجود الانسانى أو يتحول إلى وجود محجوب عن الوجود الإلهى، وبالتالى يغدو وجوداً مزيفاً أو غير أصيل، إذ لا يستطيع القيام بالاتصال بشكل مباشر، ليس فقط بالوجود الإلهى وإنما حتى بالوجود الإنسانى سواء للآخرين أو حتى لنفسه. ومع تلاشى المعية تستحيل حياة الإنسان إلى سجن كبير يعانى فيه من الشقاء والوحدة حتى لو أحاط به الكون بأكمله.

المداخل الثلاثة:

لنعد إلى المداخل الثلاثة التى تقدمها لنا قصة سائق التاكسى والعاهرة من أجل فك شفرات هذا العمل الأدبى : القبلة والوجه الجميل وعنى . ليست القبلة شيئاً أو كياناً وإنما فعل من أفعال الخبرة أو الشعور الانسانى ، وإن كانت وسيلته جزء من أجزاء الجسد وهو الشفتان . ولعل المجال الدلالى المرتبط بكلمة قبلة، الذى يرتد إلى الفعل الثلاثى (قَبَلَ)، يسهم فى تقريب معنى هذا الفعل وبنيته. فتتماس كلمة القُبلة مع لفظ القِبلة الذى يشير إلى مكان يتوجه ناحيته بفعل الصلاة، وتتصل أيضاً بلفظ القبيلة أو القبيل التى تشير إلى جماعة من أفراد النوع الإنسانى يجمعهم رابط مشترك. وهناك أيضاً القُبُل أى المقدم أو الأمام بعكس الدُبُر أو الخلف، ومن هنا كانت المقابلة أو الاستقبال بمعنى المواجهة أو التواجه أى تلاقى الوجوه. ومن الناحية الزمانية ، تشير كلمة قَبْلَ إلى ما هو سابق فى الترتيب لكن كلمة قابل أو مقبل تشير إلى ما هو لاحق زمانياً . والقبول هو رضا النفس عن الشئ عند استقبالها له. وهكذا فإن المجال الدلالى الذى يحيط بكلمة القبلة يضعنا على طريق تحديد أبنية هذا الفعل من أفعال الخبرة الإنسانية؛ التوجه المكانى والحدوث فى الزمان والرضا الشعورى والاشتراك مع آخر.

وقبل تعليق الجانب الطبيعى من القبلة، يتعين الإشارة إليه بطرف، فيغدو التقبيل باستخدام الشفتين هو السعى للتلاقى أو الاتصال لأقصى درجة بحيث لا تكون هناك مسافة فاصلة بين من يقوم بالتقبيل والذى يستقبله، الأمر الذى يصاحبه زم الشفتين وضغطهما قبالة المُقبِّل. ولعل تعبير (طبع قبلة) يشير إلى أن هذا الفعل لا يتعلق فقط بمجرد تحقيق أقصى درجة من الاتصال، وإنما القيام بترك أثر يخلفه من يقوم بالتقبيل وراءه على سطح ما يتم تقبيله. ولما كان الاتصال الذى يغلق المسافة بين الطرفين، لابد أن ينقضى مهما طال زمان التقبيل، فإن الأثر المطبوع يغدو بمثابة الذكرى التى يتركها من يقبل لتستمر كشاهد على حدوث الاتصال الذى انقضى. ويحمل التقبيل ذاته ذكرى المرحلة الفمية، التى مثل الفم فيها مركز النشاط الإنسانى، إذ كان الفم هو وسيلة الاتصال بالعالم الخارجى (جسد الأم / الطعام/ جسد الطفل ذاته). ولم يكن التواصل بالفم فى هذه المرحلة العمرية المبكرة بدافع اللذة الحسية فحسب وإنما رغبة فى التوحد عن طريق الوضع فى الفم والالتهام،بعد انفصال الوليد عن جسد الأم وخروجه إلى العالم. ولما كان الالتهام بالفم، وهو السبيل الوحيد للتوحد مع الغير فى تلك المرحلة، لا يحدث أبداً بشكل كامل بسبب أن الفم أصغر حجماً مما يُلتهم، فالتقبيل هو الآخر لن يتم أبداً ، وبالتالى لابد أن يستمر أبداً.

وباعتبار التقبيل كفعل للاتصال مع الغير هو نموذج للعشق أو الحب أى أنه فعل الوعى المرتبط بخبرة العشق، فإنه لا يتم فهمه ما لم يتم الانتقال إلى الطرف الآخر أى المُقبَّل أو المعشوق. ومع أن من يقوم بالتقبيل هو بشر على اعتبار أن التقبيل فعل من أفعال الوعى الإنسانى، إلا أن المعشوق.  إلا أن ما يتم التوجه إليه بالتقبيل ليس بالضرورة بشراً وإنما قد يكون جماداً أيضاً. وتعطينا بعض الأمثلة لما يتم تقبيله لمحة عن فعل التقبيل، لكنها لا تستغرق ماهيته أو جوهره بالطبع. ففى شعائر الحج، يتم تقبيل الحجر الأسود أو الأسعد الملصق بمبنى الكعبة، وفى حالة عدم استطاعته التقبيل يكفى اللمس أو حتى الإشارة إليه عن بعد. والحقيقة أن هذا الحجر برغم ما ورد فى بعض الروايات من أنه أتى من الجنة، إلا أنه ليس له أى مكانة دينية فى معتقد كانت مهمته الأساسية محاربة أية محاولة لتجسيد المقدس أو إضفاء القداسة على غير الإلهى. ومع عدم قداسة الحجر الأسود، كما يتبين مما ذكره عمر بن الخطاب عنه، إلا أن تقبيله أو تلك القبلة هى المقدسة، بدليل قيام الرسول الكريم بذلك واقتداء أجيال المسلمين به من بعده. وتجعل محدودية سطح الحجر الأسود وتزاحم الحجيج على تقبيله من ذلك الفعل أمراً غير ميسور للجميع، ومن هنا جرت الاستعاضة عن القبلة باللمسة وبإشارة اليد، كنوع من الاتصال بين الحاج والحجر الأسود، لإتمام الشعائر. إذن، الاتصال الذى يغلق المسافة الفاصلة ويترك أثراً بعد انقضائه قد يستعاض عنه عند تعسر القيام به بالشفاه، باتصال آخر هو اللمس بالأنامل وكذلك باتصال رمزى عن بعد هو الإشارة باليد، ولكنه اتصال أقوم به أنا نفسى ولا يقوم به أحد عنى .

وقد يلتقى التقبيل والتقديس فى حالة أخرى، لا تتعلق بشعيرة دينية ورد من شواهد الكتاب والسنة ما يجعلها ركناً من أركان الإسلام، ألا وهو ما يحدث من قبل العامة من تقبيل النوافذ والأسوار عند زيارة أضرحة وقبور الأولياء ، فى إطار ممارسات لا ترضى الكثيرين باعتبارها صادمة لجوهر التوحيد الخالص. إذ بدلاً من أن توجه القبلة المقدسة إلى الموضع المنصوص عليه بحسب الشرع تتوه وسط ما لا يحصى من نوافذ وأسوار الأضرحة. ولا تأتى هذه القبلة التى ارتبطت بالقداسة من دون نص بغرض إتمام شروط شعيرة دينية، وإنما بقصد التبرك والتوسل والتودد لشخص أوقف بين الله والإنسان.

وحينما يكون المُقَّبل بشراً مثل من يقوم بالتقبيل، فإن التقبيل يتوجه إلى أجزاء مختلفة من الجسد، يمكننا تناولها من أسفل لأعلى. يدل تقبيل القدم على التوجه بالتذلل والخضوع المهين للمقبل ، إذ يشير إلى اتصال فم ورأس من يقوم بالتقبيل (أى أعلى جزء فيه) بقدم من يتم تقبيله ( أى أدنى جزء فيه وأكثره عرضة للقذارة بسبب ملامسته الدائمة للأرض ). وبذلك يكون تقبيل القدم إشارة إلى اتصال بين من هو أسفل ومن هو أعلى ، ولا يكون ذلك إلا تذللاً وخضوعاً . أما تقبيل اليد بما يصاحبه من إنحناء للجزء العلوى للجسد والرأس إلى احترام بالغ يصل إلى حد الإجلال وإن كان لا يخلو من الخضوع.

وبالوجه أكثر من موضع للتقبيل يضفى على فعل التقبيل معان شتى؛ فتقبيل الفم حيث يحدث التواصل بين أداة التقبيل لمن يقبل ولمن يقبل، إنما يكون بغرض اللذة الحسية وكتقدمة لاتصال جسدى تام تنعدم فيه المسافات الفاصلة . وقد يكون لتقبيل الوجنة نفس غاية تقبيل الفم وبالتالى يتوجه نحو ما يتوجه إليه، أو أنه ببساطة يخلو من أى معنى يرتبط باللذة الحسية وبالتالى يتصل بمعانى القرب والحنان والمودة. أما الجبهة فتقبيلها يدل على الاحترام والتوقير الذى يصل إلى حد التبجيل وربما الخضوع، ولكنه ليس الخضوع المنكسر ولكنه خضوع الولاء المختار، الذى يرى استحقاق المقبل للخضوع ومن ثم فهو يقبل ليس فقط أعلى جزء فى جسده، أى الرأس، بل يقبل أعلى موضع فى الرأس ذاته، وهو الجبهة.

أياً ما يكون نوع فعل التقبيل وأياً ما يكون المعنى الذى يرتبط به وأياً ما يكون الموضوع الذى ينعطى لوعى القبلة، فإن كل ذلك يرتبط بالأنا ارتباطاً لا فكاك منه، بمعنى أننى أنا الذى أتوجه بالتقبيل وأختار ذلك المقبل ويتولد لدى معنى القبلة وترتد آثارها على. ومن هنا فإن فعل التقبيل فعل مباشر أقوم أنا كفاعل به حاملاً بنية قصدية ما، ولا أقوم به لأحد أو يقوم به أحد عنى. وليس فعل التقبيل مما يتحمل منطق العوض أو البدل على غرار فرض الكفاية فى الفقة، الذى إذا قام به البعض سقط عن البعض الآخر ، بل ينبغى أن يقوم به المرء كفرض عين، إذا جاز القول . إلا أن الأمر الوارد فى العنوان الفارسى الأصلى (قَبِّلْ عنى) يخرج فعل التقبيل من العينية إلى الغيرية. ولأن الأصل فى الفعل ، أى فعل، أن يقوم به فاعله أو لا يقوم فلا يكون هناك فعل أو فاعل، فإن غيرية الفعل (بمعنى أن يقوم شخص بالفعل عنى كأن يموت بدلاً منى أو يتذوق بدلاً منى أو يحمل وزرى عنى) تكون متوهمة. ولا تعدو أن تكون تغطية على عدم استطاعة الإتيان بالفعل مع وجود رغبة فيه، ويولد ذلك التناقض بين عدم القدرة ووجود الرغبة والتوهم بإمكانية البدل أو الاستعاضة، التى يعبر عنها لفظ (عنى). ويعنى عدم استطاعة الإتيان بفعل التقبيل ، وجود ما يحول دونه أى ما يحول دون قيام ذلك الاتصال المباشر الذى يغلق المسافة الفاصلة بين الطرفين ويطبع أثراً يذكر بحدوثه بعد انقضائه. وهذا الحائل للاتصال هو عبارة عن حاجز أو وسيط يحول دون بلوغ الاتصال منتهاه لأنه يجعله يتوقف عنده. غير أن الحيلولة دون حدوث الاتصال من خلال فعل التقبيل ، كان لابد أن تقود إلى عدم نشوء الفعل أساساً، لكن الرغبة العارمة التى تدفع للقيام به تؤدى إلى نشوئه ولكن على شكل مشوه أو غير مباشر، بحيث لا يكتمل ولا يصل إلى منتهاه، فلا يحدث التلاقى أو التقابل الذى يؤلف ما عليه القبلة.

استناداً إلى هذا التصور لفعل التقبيل ، لا مفر من استعراض مشاهد التقبيل فى الرواية، ليكتمل إدراكنا له ولعلاقته بالجانب الآخر (الوجه) ولصلة كل ذلك بالإشكالية الرئيسية للعمل، وهو وجود الله. أول مشهد يتيح تأمل فعل التقبيل الناقص يتحدث عن العشق ، الذى يعتبر التقبيل كفعل من أفعال الاتصال نموذجاً له. فمهرداد صديق يونس لم يكن يرسل شعره لمحبوبة حقيقية، لأنه لم يكن يملك جرأة النظر إلى فتاة، ناهيك عن عشقها. ونفس هذا الصديق مهرداد، الذى يصف حبه لجوليا، التى تزوجها فيما بعد، بالجنونى ، يروى أنه فى بداية تعارفهما، أى فى العامين الأوليين، كان يجلس ويحدق فى جوليا لساعات ويتأمل إياها فقط.

وفى خلفية مشهد التلاقى بين يونس ومهرداد، الذى يروى فيه مهرداد لصديقه عن نمط علاقته بزوجته، كان يدور مشهد آخر لشاب وفتاة على مبعدة منهما، وتعكس طريقة تلاقيهما فعل التقبيل الناقص أيضاً. فقد كانا يجربان التواصل، حيث تشابكت نظراتهما وكأنما يفتشان عن شئ فى عيون بعضهما البعض ، ثم أخذا يحاولان لمس أيدى بعضهما البعض، وبعد ذلك أخذا يتحادثان فكأن الشاب كان يروى للفتاة قصة مثيرة محركاً يديه فى الهواء ومعبراً بحركات وجهه، وكانت هى تضحك من دون توقف. وكأنما انقطع تواصلهما فجأة إذ عندما نظر يونس باتجاههما كان قد انصرفا ولم يخلفا وراءها سوى طاولة خاوية.

وينكشف فعل التقبيل الناقص من خلال يونس الشخصية المحورية للرواية، ففى ذروة حديثه مع خطيبته سايا عن موسى كليم الله، أى الذى نجح فى الاتصال الفعلى المباشر، نلقاه يحتضن يدى سايه بيديه ثم يلصق جبهته لا شفتيه بهما، إنه لا يستطيع التقبيل. وفى موقف آخر يتجلى فيه عدم قدرته على الاتصال أو التقبيل ، يطلب من سايه أن تضع أصابعها على سماعة الهاتف ، ثم يقبل سماعة الهاتف ويقول : شكراً كان هذا رائعاً جداً. ويتكرر نفس هذا الموقف ولكن بشكل آخر ، عندما يضع شفتيه على باب شقة سايا، متخيلاً أنها تتكئ على الباب من الداخل ، ويقبل ذلك الموضع من الباب الذى يتخيل أنها تضع أصابعها عليه. إن فعل التقبيل دائماً ناقص لا يصل إلى منتهاه بالتوقف أو بوجود حاجز وسيط بين الطرفين، ويجسد ذلك شخصيات الرواية الرئيسية والفرعية. لا غرابة إذن أن يفترق الآذان (النداء الإلهى العلوى للبشر) عن الصلاة (محاولة البشر إقامة الصلة مع الإله) وبالتالى أن يكون المصلى دون مصلين.

ويمثل الوجه المدخل الثالث الذى تقدمه عبارة العنوان المفتاحية لفك شفرات هذا العمل الأدبى. وعلينا فى مستهل تحليل الوجه إعادة فتح المجال الدلالى، الذى يرتبط بالوجه، ويقوم على الفعل الثلاثى (وَجَهَ). فيقال أن الوجه يعنى الجهة ووجه الرأى هو الرأى نفسه، والمواجهة هى المقابلة بالوجه، وتوجه أو اتجه أى سعى نحوه وإليه. والشئ الموجَّه هو ما جعل على وجه واحد لا يختلف ، أما الوجيه فهو صاحب الجاه والمنزلة ووجوه البلد هو أشرافه. ويضع المجال الدلالى للكلمة لبنات أبنية الوجه؛ القصدية والتلاقى الأمامى والثبات أى عدم الاختلاف وعلو المقام أى الصدارة. وبعيداً عن مكونات الوجه الطبيعى ، العينين والأنف والفم والأذنين، يعتبر الوجه مقارنة ببقية أعضاء الجسم هو أكثر موضع يحتوى على عضلات يتم تحريكها بشكل لا يكاد يتوقف من أجل التعبير عن الانفعالات الإنسانية وإرسال الإشارات إلى أفراد النوع الإنسانى. لا غرابة إذن أن يلتقى الوجه باعتباره سطحاً عاكساً مع المرآة على المستوى المجازى مثلما يبين محمود رجب فى فلسفة المرآة. ولقد كان الإنسان بأكمله وليس الوجه فقط يعد مرآة مجازاً فى تراث المرايا إلى جانب مرآة الله ومرآة العالم ومرآة السحر(2).

فقد استخدم مجاز المرآة مع الإنسان بأكمله كوسيلة لتوضيح فكرة أن الإنسان عالم صغير المتجذرة فى الحكمة الهندية وانتشرت منها إلى الفلسفة اليونانية حتى وصلت إلى الفلسفة الحديثة والمعاصرة. ولم يكن الإنسان مرآة عاكسة للكون الكبير فحسب ، بل كان مرآة عاكسة للآخرين من بنى جنسه ، إذ تظهر مختلف الكتابات الأدبية والدينية والفلسفية الأزواج والآباء والأبناء والإخوة والأصدقاء باعتبارهم مرايا يعكس بعضها بعضاً، كما يوضح الحديث النبوى الذى استشهد به المتصوفة (المؤمن مرآة أخيه). ويؤكد رجب أن مجاز المرآة لم يقتصر على الإنسان عموماً وإنما يرى أن “أعضاء الإنسان الظاهرة مثل الوجه والعين .. نالت قسطاً وافراً من التشبية بالمرآة” (3). وبالنسبة للوجه، وهو مدار اهتمامنا فى هذا التحليل بأكمله، فهو مرآة من نوع غريب؛ ففى بعض الأحيان يكون مرآة تتسم بالصدق والأمانة وتتمتع بقدرات فائقة “على التعبير والكشف عما يعتمل فى داخل نفس الإنسان من مشاعر وانفعالات”. وفى أحيان أخرى، يكون الوجه ” مرآة مخادعة مرائية”، لها قدرات فائقة على إخفاء نفس المشاعر والانفعالات فى داخل نفس الإنسان. وباعتباره الوجه نوعاً غريباً من المرايا، يعكس ويخفى ، يعلى محمود رجب من مكانته ليجعله “علامة تميز الإنسان”، ويخلص لذلك إلى أن “الإنسان وحده ، فضلاً عن الله سبحانه ..له وجه . أما الحيوان فلا وجه له وإن كان له رأس” (4).

ولكن ماذا يحدث إذا نظرنا للوجه من الخلف وليس الأمام ، ليس كشئ له مجاز يعبر عنه (مثل مرآة الوجه) وإنما كمجاز يعبر عن شئ آخر (مثل وجه الآخر). ويمكن الاستفادة فى هذا الإطار بأفكار الفيلسوف الفرنسى إيمانويل ليفيناس الذى تقوم فلسفته على مفهوم الوجه ، فهو وإن لم يكن الفيلسوف الوحيد الذى يولى الوجه الإنسانى اهتمامه، غير أنه بالفعل الوحيد الذى يجعل منه مصطلحاً مركزياً لفلسفته (5). وينهض تصور ليفيناس للوجه على فصم العلاقة بين كلمة الوجه والمحيا أو ملامح الوجه أو تعبيرات الوجه وما يتصل بذلك من الشخصية أو الوضعية الاجتمعية أو الموقف، بمعنى كل ما يرتبط بالسياق الذى يصبح من خلاله الشخص الآخر مرئياً وقابلاً للوصف بالنسبة لنا. وإنما الوجه بالنسبة للفيناس هو “ما يهرب من نظرتنا فى محيا الآخر عندما يلتفت لنا”. وذلك الآخر غير مرئى حيث لا يمكن اختزاله فيما يظهر وبالتالى “يكشف عن نفسه كوجه بالتحديد “، وبعبارة أخرى لما كان ذلك الآخر أكثر من مجرد صورة ، فليس من المستطاع إعادة إنتاجه أو تلخيصه أو تمثيله بواسطة صورة. على أن عدم قابلية غيرية الآخر للاختزال فى المظهر إنما هو الجانب الآخر لقابلية الوجه للإصابة بمعنى قابليته للاختزال إلى ما يظهر سواء كان ذلك هو المحيا وتعبيرات الوجه أو المكانة الاجتماعية والانجازات أو هيئة الصحة والمرض (6). ويتسم الوجه بالفقر الجوهرى ، الذى يتضح من العرى الذى يظهر الوجه من خلاله، إذ يجرى تسليم الوجه بمنتهى العجز لتلك “النظرة الوقحة” التى تلاحظه وتتفرس فيه. ولعل البرهان على ذلك الفقر الجوهرى للوجه الذى يشهد عليه تعريه هو محاولة التموية على ذلك العوز من خلال اتخاذ هيئة ما أو وضعية معينة أو ارتداء الملابس أو وضع مواد التجميل (7).

 

ولعل السؤال الذى يطرح نفسه هو أنه إذا كان الوجه هو ما يفلت من النظر إلى محيا الآخر، بمعنى أنه لا ينعطى بحيث تتم رؤيته كشئ أو موضوع ، فكيف يصلنى على الإطلاق؟ فالوجه هو انتهاك أو تعليق أو هزيمة للمثلية أو لملكية الأنا. وتتمثل الإجابة على ذلك فى أنه لا يوجد نمط واحد لانعطاء الظواهر أو عرضها لنفسها، وبالتالى ينعطى الوجه أو يظهر ذاته فى نمط النداء، وذلك النداء هو ما يخاطبنى فى وجه الآخر. ولذلك فاستقبال الوجه لا يعنى النظر إليه أو رؤيته وإنما استشعار صدمة وصوله، وهكذا يظل الوجه غير مرئى لأن ظاهريته أو ظهوره يرتبط بالكلام وليس الرؤية (8). وبناء على هذا ، لا يشكل الوجه كنداء أخلاقى ضرورة طبيعية أو أنطولوجية، مثل ضرورة سقوط الأشياء وفق قانون الجاذبية . وإنما “لابد” أو “يجب” التى تؤكد ذاتها فى النداء كنمط لانعطاء الوجه يتناقض مع القهر أو الاضطرار ، ولكنه مجرد دعوة للتجاوب مع سلطة لا تضطرنا إلى شئ وإنما تطلب فقط من خلال الإلتماس. وبذلك تغدو السلطة التى تصلنى من الوجه كتحريم للقتل مثلاً، كما فى ذلك الأمر الأخلاقى “لا تقتل”، “سلطة عزلاء” أى أنها “تنادى على إرادتى الحسنة والحرة بغرض المساعدة” (9). ولتلخيص ما سبق يمكننا أن ننقل عن لافيناس قوله :”إن هذا النداء على مسئوليتى الذى يصدره الوجه هو ما يحددنى ويأمرنى وينادى على” وكذلك “فى هذا النداء الذى يخاطبنى فى وجه الآخر أفهم بصورة فورية .. الروحانية أو الخبرة المعاشة للإنسانية الأصيلة” (10).

وإذا نظرنا لمفهوم الوجه عند لافيناس من خلفه، أى وضعنا بين قوسين كون الوجه المشكلة الأخلاقية المركزية لدى هذا الفيلسوف وكونه جعل الأخلاق هى الفلسفة الأولى وليس الميتافيزيقا، فعلينا أن نسأل ما هو التجديد الذى أدخله لافيناس على الفينومينولوجيا فى دراسته للوجه. يرى جان لوك ماريون أن لافيناس عكس اتجاه مبدأ القصدية عند هوسرل، الذى يتعلق بأن الوعى هو دائما وعى بشئ ما، وبالتالى بدلاً من أن يكون اتجاه قصدية الوعى من الأنا إلى الموضوع، كما هو الحال عند هوسرل ، سيغدو اتجاه القصدية المضادة، عند لافيناس، مرتداً من الموضوع إلى الأنا. وتجد القصدية المضادة عند لافيناس جذورها فى مفهوم الوجه الذى استبدل به لافيناس الموضوع، الذى يتقوم أو يتشكل عند توجه قصدية الوعى إليه كظاهرة. ولهذا فالوجه، كأساس للقصدية المضادة عند لافيناس، إنما هو ظاهرة مضادة، لا تعطى نفسها حتى تُرى مباشرة  بواسطة  النظرة، بل تفرض على تلك النظرة ثقلاً لا يقبل الاختزال إلى موضوع يتشكل بتوجه القصدية إليه. وبعبارة أخرى ، فإن تلك الظواهر المضادة كالأوجه لا تنعطى فى مشهد معين بل تخترق مجال الرؤية – المتولد عن النظرة – بما هو غير قابل للرؤية كأنها “ومضات باهرة آتية من مصدر منير تبهرنى وتثبت نظرتى وتلقيها لترتد على نفسها “ (11).

وهكذا، إذا لم يكن الوجه بحسب لافيناس ظاهرة يمكن تحليلها فينومينولوجيا وإنما ظاهرة مضادة تنشئ قصدية مضادة ، وهى أيضاً تتسم بالفقر الجوهرى الذى يبرزه تعرى الوجه واحتياجه إلى هيئات وأمارات تخذها ملامح المحيا، إذا كان ذلك كذلك فإن اتصال مفهوم الوجه بالله سيحمله إلى مستوى آخر أعلى ، مثلما هو الحال فى تلك الآية الكريمة (أينما تولوا فثم وجه الله). ولعل السؤال الذى سيثور هنا، هل سيغدو للوجه معنى جديد عند اتصاله بالله يكشف عن ماهيه أخرى له غير التى خلص إليها لافيناس أم سيثبت المعنى الجديد نفس ماهيته الوجه التى خلص إليها لافيناس؟ ويبدو أن الطريق للإجابة على هذا السؤال يبدأ بالتعرض لكيفية تناول الرواية ذاتها لوجه الله ثم محاولة استنباط الدلالات المرتبطة بوجه الله فيها.

فى آخر حديث بين يونس وخطيبته سايه قاد إلى انفصالهما، ذكرت أن يونس روى لها حلماً رأى فيه أنه ذهب هو وشقيقته إلى سهل ما وسمعا صوت الله يسألهما عما يبحثان . وعندما أجابه بأنهما يبحثان عنه ” نحن نبحث عنك يا رب”. قال الصوت أنه لم يكن هناك داع لقطع هذه المسافة للبحث عنه، وأضاف الصوت أنه عند مائدتهما الفارغة وفى تجاعيد وجه أمهما وسعال جدتهما ، وفى آلام المرأة ساعة الولادة ، وفى تشقق أكف الفقراء والمساكين ، وفى محدودية أفكار الفيلسوف الذى يحاول إثبات وجوده، وفى اطمئنان صلاة الليل العابد، وفى ابتهاج الأطفال وحزن الأرامل. واستمر الصوت يعدد بلا توقف وبلا نهاية ما كان يمكن أن يلقى يونس وأخته وجه الله عنده.

إن أول دلالة يمكن استنباطها من المشهد السابق هو أن تمظهر أو انعطاء الوجه (وهو وجه الله هنا) حدث فى الرؤية أو الحلم ، وهو ما يعنى أن إمكانية استقبال وظهور وجه الله لا تحدث على المستوى الحسى أو العقلى ، بل على المستوى الخيالى، إذ كان هذا المستوى يتمثل لدى الصوفية والأحلام. وفى سياق هذا الحلم ، يتحقق ما ارتآه لافيناس من فصل بين الوجه والمحيا، فضلاً عن حدوث النقلة فى نمط انعطاء الوجه من الرؤية التى ترى بالبصر إلى الحديث الذى يدرك بالسماع، فلقد كان الوجه الإلهى يعطى نفسه ليظهر للرائى أى الحالم من خلال الصوت الذى كان يسأل ويجيب ويضيف ويعدد الحالات. وتتمثل الدلالة الثانية ، التى يمكن استنباطها من انعطاء وجه الله فى الحلم من خلال الصوت ، فى أن الفيلسوف الألمانى إرنست بلوخ كان محقاً فى معارضته لنظرة فرويد السلبية للاوعى الذى هو مصدر الأحلام، باعتباره بحسب فرويد مكمن الرغبات الجنسية المكبوتة التى لم تعد فى الوعى. ولهذا يمكننا القول أن بحسب منطق فرويد يعد اللاوعى الجانب الحيوانى فى الكيان الانسانى ، لكن بلوخ على النقيض من ذلك يرى فى اللاوعى قابلية خلاقة تحدد مجال الممكن وبالتالى يعتبره أى  اللاوعى جوهرياً بالنسبة للوجود الإنسانى (12).وهكذا يبرز انعطاء الوجه الإلهى فى الحلم صحة رأى بلوخ فى اعتبار اللاوعى كمصدر للحلم قابلية خلاقة وعنصراً جوهرياً للوجود الانسانى، إذ من خلال الحلم الذى ينبعث من اللاوعى أمكن استقبال وجه الله. وإذا تابعنا ما يذكره لافيناس بخصوص نمط انعطاء الوجه كظاهرة عكسية تفرز قصدية عكسية تتوجه من الوجه، الذى استبدل الموضوع من خلاله، إلى الأنا – على عكس القصدية المتجهة من الأنا إلى الموضوع كما عند هوسرل- فسنجد أن هذه الظاهرة العكسية بقصديتها العكسية تتمثل فى الصوت الذى يتوجه بالحديث إلى الحالم فى حلمه . فالصوت المسموع فى الحلم هو نمط انعطاء وجه الله، ولا يختلف ذلك عما خلص إليه تحليل لافيناس من تغليب عنصر الحديث على الرؤية فى ظهورية الظواهر. لكن ذلك الصوت نفسه يحيل الأنا إلى ظواهر أخرى مرئية ومسموعة ومحسوسة بالحس ومدركة بالمشاعر ومعقولة بالعقل ينعطى فيها وجه الله ليظهر نفسه للأنا ، غير أن هذه الظواهر تتبع القصدية الأصلية لهوسرل فتتوجه من الأنا إلى الموضوع، كما أنها برغم انعطاء الوجه الإلهى فيها – بحسب الصوت- إلا أنها لا تصدر عن الله مباشرة كالصوت، بل تصدر عن الإنسان ذاته أو الآخرين أو مخلوقات الكون. وعند هذه النقطة تحديداً لا يستطيع تحليل لافيناس للوجه الإحاطة بكل انواع الظهور أو الانعطاء للوجه الإلهى كما فى خبرة الحلم الواردة فى الرواية. ويدفعنا ذلك إلى الاستعانة بما يسمسه وليام تشيتيك بنظرية الأسماء عند ابن عربى، علها تكشف لنا عن ماهيه الوجه فى ارتباطه بالله.

ليس بالمقدور استخلاص تصور الأسماء الحسنى من أعمال الشيخ الأكبر فى هذا الحيز المحدود، لأن تلك مهمة قد تستغرق عمراً بأكمله. ولهذا ستتم الاستعاضة عن ذلك بطرف مما كتبه الأستاذ تشيتيك عن تصور ابن عربى للأسماء الحسنى ضمن ما جاء فى تناوله لميتافيزيقا الخيال عند الشيخ الأكبر . وفى هذا السياق ، يؤكد تشيتيك أن الأسماء الحسنى هى أهم مفهوم جاء فى أعمال ابن عربى على الإطلاق، فكل شئ ، سواء كان كونياً أو إلهياً، يرد إليها . وبرغم أن الأسماء تشير إلى الذات الإلهية ، إلا أنها والذات لا تشكلان حقيقتين منفصلتين، وإنما هناك حقيقة واحدة، هى الذات الإلهية، تسمى باسم معين فى سياق معين ومن وجهة معينة. ويعطى تشيتيك مثالاً على ذلك بالإنسان الفرد، الذى قد يكون أباً وزوجاً وابناً وأخاً وصديقاً وما إلى ذلك دون أن يتعدد ليكون أشخاصاً كثر(13). ويشير كل اسم من أسماء الله الحسنى إلى صفة من صفات الله، وفى نفس الوقت لهذا الاسم أثر يمكن اقتفاؤه فى الكون. وبالتالى تشير الأسماء الحسنى ، كالخالق والبارئ والكريم والعدل والغفور والجبار مثلاً ، إلى تلك العلاقات بين الذات الإلهية والكون، الذى يفتقر فى وجوده إلى الذات ويمكن رد كل شئ فيه إلى واحدة أو أكثر من الصفات الإلهية (14).

ويربط ابن عربى بين الوجه والأسماء الحسنى ، وفق تشيتيك، فى تناوله لتلك الآية الكريمة (أينما تولوا فثم وجه الله). فلو أردنا معرفة وجوه الله، فما علينا سوى التأمل فى الأسماء الحسنى باعتبارها الجذور الإلهية لكافة الأشياء فى الوجود. “إن كل إسم من الأسماء الحسنى يمثل “وجهاً لله” ولا يعتقد أحد أن لتلك الأسماء / الوجوه نفس الآثار. ففى حين أن الجنة هى محل لظهور أثر صفة أو وجه الرحمة الإلهية ، فالجحيم هو محل لظهور أثر صفة أو وجه الغضب الإلهى(15). وبكلمة واحدة ، هناك ذات إلهية واحدة، ولكن الأسماء تمثل تعدد الوجوه، التى تتخذها الذات الإلهية فى علاقتها مع المخلوقات فى الكون(16). وينقل تشيتيك عن ابن عربى قوله: ” الأسماء برازخ بيننا وبين المسمى، وهى تنظر إليه [من ناحية ] لأنها تسمية وتنظر إلينا [ من ناحية أخرى ] لأنها تضفى علينا آثار المسمى .وبذلك تجعل المسمى معلوماً لنا وتجعلنا معلومين [لأنفسنا]” (17).

إن ارتباط الوجه بالله فى إطار نظرية الأسماء الحسنى لابن عربى يرفع تحليل الوجه إلى مستوى عال تذوب فيه الإشكالات ، التى واجهت تحليل لافيناس للوجه. فلما كان الوجه/ الوجوه الإلهية هى علاقات الذات الإلهية مع الكون المخلوق وكل شئ فيه، وبالتالى فهى تشير فى اتجاهين إلى الصفة الإلهية وإلى موضع أثرها فى الوجود، فهى تفسر كيف يكون الوجه الإلهى ظاهرة عكسية، كما شرحها لافيناس ، تتأسس على قصدية عكسية وفى ذات الوقت ظاهرة عادية تقوم على قصدية متوجهة من الأنا إلى الموضوع. وبحسب ما ورد فى حلم يونس، سيظهر وجه الله فى صوته الذى يتحدث سائلاً ومجيباً ومرشدا،ً وفى نفس الوقت سيظهر فى أثره فى الكون، سواء أكان ذلك الظهور فى تجاعيد وجه الأم أو سعال الجدة او أكف الفقراء المتشققة أو النظرات الكسيرة لوالد طفل مريض أو محدودية أفكار الفيلسوف الذى يحاول إثبات وجود الله أو اطمئنان صلاة العابد أثناء الليل أو التوبة المتكررة التى تتكسر على ضمور الضعف الإنسانى.

وبالإمكان دفع التحليل خطوة أبعد من ذلك بحيث يعاد تعريف المفاهيم من جراء احتكاكها بالموضوع، تماماً مثلما فعل لافيناس من خلال تقليبه لمفهومى الظاهرة والقصدية. وبالتالى إذا قلبنا ظاهرية هوسرل لنجعل الظهور أو التجلى الإلهى هو نموذج لظاهرية الظواهر،يمكننا إذن أن نعيد تعريف مفهوم القصدية ، وهو أحد المفاهيم الأساسية فى التحليل الظاهراتى لهوسرل. وربما يكون ما يرد هنا مجرد شبة محاولة تفتقر إلى النضج والعلم الكافيين، لكن هذا حال كل بداية على أى درب. إن الفيلسوف المصرى محمود رجب يؤكد أن القصدية تعد عند هوسرل وأتباعه “الاكتشاف الأكبر فى الظاهريات”، ويعدها الدارسون أيضاً “الدافع الأساسى” وراء مراحل تطور الظاهريات عند هوسرل. وتعنى القصدية بصفة عامة أن الوعى هو دائماً وعى بشئ ما، فكافة أفعال الشعور كالإدراك الحسى أو التخيل أو الحب أو الكره أو التذكر أو الحكم أو الظن أو التوقع إنما تتوجه نحو شئ ما (18). وفى شرحه لكلمة القصد Intentio، يذهب رجب إلى أن معناها هو التوجه نحو ، ” فكل تجربة معيشة، وكل سلوك نفسى يتوجه نحو شئ ما” (19). وإذا كان رجب قد استبدل الصيغة العامة للقصدية (الوعى هو وعى بشئ ما) بتعبيره الخاص (التوجه نحو)، فإن وضعه للتوجه فى قلب القصدية، التى هى أسلوب وجود الوعى، إنما يفتح الباب أمام استدعاء مفهوم الوجه الإلهى ، بكل ما ذكر بشأنه فى نظرية الأسماء لابن عربى، لإعادة تعريف مفهوم القصدية . ولعل ذلك يقلب الأمور رأساً على عقب لما كان هوسرل، فيما ينقله عنه رجب ، يجعل تجربة الإدراك الحسى، باعتبارها التجربة الأصلية التى تستمد منها جميع الأفعال الأخرى قدرتها على التاسيس، نموذجاً للفعل القصدى ويوضح القصدية كلها من خلاله (20). وسيكون رائدنا فى هذه العملية هو تلك الآية الكريمة (أينما تولوا فثم وجه الله)، بمعنى أن التوجه إلى أى شئ ، باعتباره أثراً لصفة إلهية أو وجه الله، إنما هو تعلق بوجه الله أو توجه نحوه. بحيث تغدو القصدية فى هذا المقام علاقة اتصال فى اتجاهين بين وجه الإنسان الذى يتوجه ووجه الله الذى يُوجه إليه. وتصبح هنا تجربة التعلق بوجه الله أو تولى وجه الله هى التجربة الأصلية التى تستمد منها كافة أفعال الوعى أخرى قوتها التاسيسية. ويتضح هذا المعنى الجديد لمفهوم القصدية من خلال مفهوم الرجوع إلى الله عند ابن عربى، فالإنسان دائماً فى حالة عودة أو توجه نحو الله، سواء اضطرارياً أو اختيارياً. وفى حين يشارك الإنسان بقية المخلوقات نفس الطريق، فى حالة الرجوع الاضطرارى ، إذ أنه يولد ويعيش ويموت ويختفى، كالمخلوقات الأخرى، سواء أراد ذلك أم لم يرده أو أحبه أو لم يحبه، فهو يختار طريقه للرجوع إلى الله فى حالة الرجوع الاختيارى ، إذ أنه قد يختار طريق الرسل والأنبياء أو طريق الهوى والشهوات . وأى طريق يختاره يحمله إلى الله، وإن كان إلى وجه  مختلف من وجوه الله، فمنها ما يحمله إلى وجه الرحيم الغفور المنعم ومنها ما يسوقه إلى وجه المنتقم الجبار شديد العقاب(21). وهكذا تصبح تجربة التوجه إلى الله باعتبارها نمط الوجود الإنسانى تجربة أصلية لأفعال الإنسانى الأخرى وتحدد أسلوب وجود الوعى الإنسانى أو قصديته أى توجهه إلى أى شئ وكل شئ، سواء كان إلهياً أو كونياً . ولعل هذا يؤسس لما يسميه الراهب الكاثوليكى جوزيبى سكاتولين بالقصدية المتسامية، وإن كان قد أوردها فى سياق مختلف هو تفسيره لتجربة التعددية الدينية المصاحبة للتاريخ الإنسانى. فيشير سكاتولين إلى أن الحضور الإلهى يقود ويساند الخبرات الدينية المختلفة فى التاريخ الإنسانى ، وبالتالى ليست تلك الخبرات الدينية ثمرات لمجاهدات إنسانية فقط. ونتيجة التسامى الوجودى المركوز فى الكيان الإنسانى تنشأ القصدية الجوهرية أو المتسامية فى الفكر الإنسانى (أى كنمط وجود الوعى الإنسانى ، لو أردنا قراءة كلمات سكاتولين فينومينولوجياً ). ويذهب سكاتولين نتيجة لذلك إلى أن هذه القصدية المتسامية تكسب اللغة البشرية أبعاداً متسامية، بمعنى أن تتجاوز معانى اللغة البشرية المدلولات الامبريقية الشائعة فى الحياة اليومية. وتغدو اللغة البشرية فى عمقها ” كلام الله مع البشر” لأنها مصاحبة ومدعمة وموجهة بالحضور الإلهى من الأصل (22).

ملف وفاة الإنسان

بعد استكمال التناول الظاهراتى لثلاثية (قبلَّ) و(الوجه) و(عنى)، التى طرحها المؤلف كعبارة مفتاحية فى العنوان ، وفى قصة العاهرة وسائق التاكسى ، لفك شفرات هذا العمل ، بعد ذلك يتعين سحب الخيطين الدراميين فى الرواية وهما وفاة الإلة ووفاة الإنسان. ولا يتجلى ارتباطهما ببعضهما البعض بصورة أفضل مما ورد فى الجملة الختامية لسفر فوكو القيم “أركيولوجيا المعرفة”. ” إنكم قد تكونون قتلتم الإله تحت ثقل كل ما قلتموه، ولكن لا تتخيلوا أنكم ، مع كل ما تقولونه، سوف تخلقون إنساناً يعيش أطول منه [أى الإله]” (23). وبناءً على هذا، تبدو وفاة الإنسان، التى تتجلى فى الخيط الدرامى المتعلق ببارسا- ماهيتاب ، وكذلك وفاة الإله، التى تتجلى فى الخيط الدرامى المتعلق بيونس –بارسا، وجهين لعملة واحدة ، سواء فلسفياً كما يتضح من مقوله فوكو السابقة أو دراميا كما يتضح من الخطين الدراميين الرئيسية للرواية . فلتقلب أوراق ملف بارسا- ماهيتاب فى الرواية!

وسيراً على نفس منوال هذه الدراسة فى البدء من الهامش والرجوع إلى القلب، سوف أقوم الآن بتجميع المكالمات الهاتفية الغريبة التى كان يتلقاها يونس على مدار الرواية، وتخاطبه فيها سيدة باللغتين الفارسية والإنجليزية. وقد اتضح للقارئ فيما بعد، قرب نهاية الرواية، أن تلك المكالمات أتت ليونس جراء الإعلان الذى نشره فى الصحيفة طلباً للمعلومات عن الدكتور بارسا وأن السيدة المتحدثة فيها ليست سوى ماهيتاب، جسد الجريمة إذا جاز القول.

تصور المكالمة الأولى بطريقة خيالية مسعى أو مأساة الدكتور بارسا، التى تجسدت فى علاقته بمحبوبته ماهيتاب؛ “لقد كان يطرق الباب ولكننى لم أفتح. وأصر لكننى أبقيت الباب مغلقاً. وتوسل لكننى تجاهلته”. وتخبرنا المكالمة أن بارسا كان حائراً تماماً وضائعاً، لكنه أصر على حل المشكلة. إذن تتمثل القطعة الأولى من الأحجية التى تقدمها لنا مكالمة ماهيتاب فى وجود مشكلة كالباب أصر بارسا على طرقها لحلها، والغريب فى هذا الأمر أن الحديث يشي بأن مفتاح المشكلة / الباب بيد ماهيتاب وهى قد رفضت فتح الباب رغم إصرار بارسا وتوسله لها . ولعل ما ذكره بارسا، حسبما أوردته ماهيتاب ، من أنه أراد أن يسردها أو يحكيها [أى ماهيتاب] يوحى نوعاً ما بوجود ارتباط بين ماهيتاب وحل المشكلة، او ربما أنها هى ذاتها المشكلة والحل فى آن واحد . وتواصل المكالمة الثانية التصوير الخيالى لمأساة بارسا، إذ يدور الحديث فيها حول مسبح ولعبة الركض حول المسبح ، أى ركض بارسا فى إثر ماهيتاب . ومع كثرة الدوران ، أصيب بارسا بالدوار حتى سقط فى الماء ، وسمعت ماهيتاب صوت سقوطه بل وتطاير الماء على رأسها ووجهها، وعندما توقفت عن الدوران لتحدق فى الماء ، لم يحدث شئ ولم يطف بارسا أبداً على السطح ، لقد غرق فى القاع. إذن تتمثل القطعة الثانية من الأحجية التى تقدمها لنا مكالمة ماهيتاب الثانية فى أن المشكلة كالمسبح، الذى سقط بارسا فى عمق مائه وغرق جراء الدوار الذى أصابه من الدوران حوله. وهنا كان دور ماهيتاب ليس فى رفضها فتح الباب ولكن فى رفضها للتوقف، إذ أسرعت بالركض حول المسبح مما أجبره على الإسراع هو الآخر ، كما رفضت طلبه بعدم التوجه إلى الحافة وذهبت إلى هناك واستمرت فى الدوران بسرعة أكبر. ليس هناك من شك، لما تحمله هذه الصورة الخيالية بين طياتها ، فى أن ماهيتاب هى المشكلة التى أصابت بارسا بالدوران والحل الذى يطارده وسقط فى الماء وغرق بسببه . لا غرابة إذن أن تصفها إحدى صديقاتها ليونس بالقسوة والبرودة، كما لو كانت تحملها مسئولية ما حدث لبارسا. وتكشف لنا المكالمة الثالثة والأخيرة بصورة أكثر وضوحاً وأقل شاعرية عن مأساة الدكتور بارسا ودور ماهيتاب فيها . ومن دون تكرار كلمات ماهيتاب، فإن محسن بارسا عالم وضعى يحاول قياس كل شئ بالفيزياء والرياضة. ولا شك أنه كان يعيش حلم جاليليو القديم المتعلق بإمكانية تلخيص الكون فى معادلة رياضية، ولكن فى كل مرة كان يجرى فيها حساباته، لم تكن المسائل تنضبط فيضطر إلى محو حساباته وإجرائها من جديد بسبب وجود شئ غامض وغائب،  شعر بوجوده دون أن يدرك كنهه . ومع استمرار بحث بارسا عن ذاك العنصر الغائب الغامض فاضت أسئلته وازدادت حيرته وضل طريقه. هنالك التقى بارسا بماهيتاب ، فكانت هى الإجابة على كل أسئلته الصعبة، أى أن ماهيتاب، أو العشق أو القلب أو المشاعر، هى المستوى الذى طرح عليه بارسا أسئلته ووجد ضالته فيه. ولكن مع الأسف ، لم يكن عثوره على الإجابة انتصاراً لمشروعه العلمى، وإنما هزيمة له، لأن على ذلك المستوى لم تكن الأدوات العلمية التى آمن بها بارسا تجدى نفعاً.

لا غرابة إذن أن ألقى بارسا بكل أدواته وفارق ذاته كعالم، فلقد كانت لحظة توصله للإجابة هى نفس اللحظة التى ثبت لديه فيها عدم جدوى وصلاحية العلم ذاته، ومن هنا كانت مأساة بارسا ودور ماهيتاب فى حلها وتعقيدها فى آن واحد. وبالفعل تستحق ماهيتاب ، من وجهة نظر بارسا، أن تكون قصة تحكى ، كما يستحق بارسا نفسه، من وجهة نظر ماهيتاب ، أن يكون قصة تروى . وليست هذه الرواية محل الدراسة سوى محاولة من كاتبها لتقديم هاتين الروايتين وقد تشابكتا مع بعضهما البعض ، ولذلك تحاول دراستنا هذه من جانبها فض الاشتباك بين هاتين الروايتين وغيرهما من الروايات المتداخلة المتشابكة فى النسيج الروائى.

وسيراً على ذلك، سأقوم الآن بتقليب أوراق الملف الرسمى لقضية انتحار الدكتور محسن بارسا لدى الجهات الرسمية، التى تقدم صورة مختلفة تماماً لنفس الشخص . بداية يحتوى أوراق قضية بارسا ملف ممزق باهت يبلغ عدد صفحاته 343 صفحة . ويتكون الملف، الذى وضعت فيه صورة لبارسا (الوجه)، من عدد من المستندات الرسمية، هى كالتالى:

  • ملخص تقرير قاضى التحقيق: ويصف واقعة الانتحار بالتفصيل ، حيث حضر الدكتور محسن بارسا حوالى الساعة السابعة وخمسين دقيقة، مساء الأربعاء، التاسع من أكتوبر عام 1993، إلى الطابق الثامن من بناية “نكين آبى” وألقى بنفسه من نافذة غرفة مطلة على الشارع. وهذه الغرفة هى مكتب مبيعات لشركة تنتج مبيدات حشرية ، وقد توفى المذكور فوراً. ولم يكن فى غرفة المكتب سوى السكرتيرة وتدعى “فرانك جوهر أصل”.
  • نص التحقيق مع الشاهدة : وتؤكد الشاهدة أن السيد بارسا حضر إلى المكتب وطلب منها شراء عدداً من المبيدات الحشرية، وكانت هيئته ، وملابسه توحيان بالجنون، إذ أن ملابسه لم تكن تتناسب مع برودة الطقس . وعندما ذهبت الشاهدة لتحضر له إحدى المطبوعات عن المبيد الحشرى، لم تجده فى الغرفة بعد أن عادت، فاعتقدت أنه ذهب إلى مكان آخر وسيعود بعد برهة. وقد أدركت الشاهدة ما حدث عندما نظرت من النافذة ورأت جثة فى وسط الشارع وسمعت ضجة الناس الذين ركضوا نحو الجثة.
  • تقرير الطبيب الشرعى : يؤكد أن القتيل توفى على أثر نزيف حاد فى الدفاع وأنه ثبت بعد معاينة الجثة بدقة كسر الساقين والعمود الفقرى والكتف الأيسر والعنق والقفص الصدرى وبعد القيام برفع البصمات عن الجثة ومسرح الحادث، ثبت بصورة قطعية أن الحادث لم يكن بفعل فاعل.
  • تقرير أخصائى التحليل النفسى فى الدائرة القضائية: ينقسم إلى قسمين الأول يحلل الأسباب الانتحار بوجه عام ويذهب إلى أن حدوث القتل أو الانتحار يرتبط بوجود حالة سلوكية شاذية تأسر الإنسان، وهذه الحالة مردها إلى أزمة معضلة عجز الإنسان عن حلها أو ظن أنه عاجز عن ذلك. ولذلك لا يجد أمامه سوى أحد مخرجين: إما محو المشكلة برمتها عن طريق ارتكاب جريمة قتل، او محو حل المشكلة من خلال الإقدام على الانتحار . وفى هذا الاطار يأتى القسم الثانى من التقرير ليتناول أسباب انتحار بارسا ، وباعتقاد المحقق أن العمل الفكرى الشاق والعزوبة واليأس المجهول هو ما دفع برسا للانتحار . غير أنه لم يوضح سبب يأس بارسا المجهول ولم يجد ما يقدمه فى هذا الصدد.

إنها صورة أخرى لبارسا، تلك التى تقدمها أوراق الملف الرسمى لقضيته، وربما لا تتفق مع الصورة التى قدمتها شذرات مكالمات ماهيتاب الهاتفية سوى فى أمرين: أن بارسا أقدم على الانتحار ، وأن دافعه ما يزال مجهولاً . ولكن ربما يقدم لنا بارسا نفسه عن نفسه صورة تقترب أو تبتعد عن هاتين الصورتين، عندما أعاد خلق وجوده كذات خطابية أو الأنا الواردة فى النصوص التى قام بتأليفها . ولدينا منها هنا المذكرات التى كتبها على جهاز الكمبيوتر والمخطوط الذى لم يفرغ من كتابته ودفتر الملاحظات أو اليوميات وخطاب غرامى كان قد كتبه إلى ماهيتاب . وفى كل نص من هذه النصوص يقوم بارسا بتسكين نفسه كذات أو أنا خطابية، تنتقل من موقع إلى آخر، حيث يستمر وجوده الخطابى أو الحقيقى فى هذه النصوص، حتى بعد انتهاء وجوده غير الخطابى أو الواقعى. وسأحاول فيما يلى أن أرى كيف ينعكس وجه بارسا أو يقوم بارسا بعكس وجهه على المستوى الخطابى، سواء شكلت هذه النصوص كلها خطاباً واحداً أو مساحة خطابية تتداخل فيها خطابات مختلفة (الخطاب العلمى/ خطاب السيرة الذاتية / خطاب الرسائل الغرامية / خطاب اليوميات) ولم تكن الأنا الخطابية سوى نقطة تقاطعها ، بكل ما حدث فى تلك الأنا – من جراء ذاك التداخل الخطابى – من تصدعات وتناقضات وتشققات واهتزازات. ولذلك سوف أقوم بقراءتها كلها كنص واحد أو كمساحة خطابية واحدة، يمكن متابعة تشكل الذات الخطابية لبارسا فيها، بحسب ترتيب وضعها فى الرواية وليس بحسب ترتيبها الزمنى الخاص بها، إن كان لها ترتيب فعلى. وستكون شخصية يونس هى يد المؤلف التى تعثر على هذه النصوص وتقدمها لنا بمجرد القراءة أحياناً وبالتعليق والشرح أحياناً أخرى. فلقد كان يونس يكمل دور بارسا فى البناء الدرامى حيث يتقاطع ويتصل الخطان المتوازيان فى ذاك العالم غير الإقليدى.

عثر يونس أول ما عثر عند زيارته لمنزل بارسا على مخطوط كبير الحجم يحمل عنوان  (تحليل رياضى للمفاهيم البشرية) ويتضمن هذا المخطوط المشروع الفكرى / العلمى الذى كرس بارسا جهوده من أجله وفقد حياته بسببه. ويتكون المخطوط من مقدمة وقسمين، وقد أتى بارسا فى المقدمة على ذكر استعانته بأصدقاء له من مختلف التخصصات من العلوم الطبيعية والإنسانية من أجل استكمال هذا المشروع، ومع ذلك فهو لا يشعر بالارتياح إذ يتشكك فى الصفة العلمية لهذا البحث، ولا يعتبره أكثر من مجرد أطروحات أولية . ويدور المشروع حول محاولة بارسا وضع تصور للعلاقات بين المفاهيم الإنسانية باستخدام لغة الرياضيات، التى تعبر عنها المنحنيات المأخوذة من علم الهندسة المستوية والمجسمة ، من أجل الوصول إلى مجتمع نموذجى. ولعل ما يورده مؤلف الرواية عن مشروع بارسا لا يبتعد كثيراً عن التصورات الأولى لعلم الاجتماع عند أوجست كونت، الذى أطلق على هذا العلم اسم الفيزياء الاجتماعية ، حيث حاول استخدام المناهج والأساليب العلمية، التى حققت نجاحات هائلة فى العلوم الطبيعية، وخصوصاً على الفيزياء، من أجل دراسة المجتمع والوصول إلى القوانين التى تحكم حركة المجتمع والظواهر القائمة فيه، وبالتالى تسمح بإمكانية التحكم فى تلك الظواهر ، وذلك على غرار مسعى العلوم الطبيعية لمعرفة القوانين الحاكمة للظواهر الطبيعية من أجل التحكم فيها(24). وعودة إلى مخطط بارسا، ينقسم القسم الأول منه إلى بحثين يحاولان دراسة الأبعاد الكمية والنوعية للمجتمع النموذجى الذى تتحقق فيه السعادة . ويتناول البحث الكمى تلك الأبعاد المتعلقة بمساحة الأرض وعدد السكان والتوازن النوعى بين السكان ونسبة القوة العاملة والناتج القومى والاستقرار السياسي والقوة العسكرية، ودور تلك الأبعاد فى تزايد سرعة نمو المجتمع. أما البحث النوعى فيقوم بتحديد الأوزان النسبية لمحددات مثل الاقتصاد والثقافة والحرية والتقنية والمذهبية والفن والصحة والتعليم، ومقارنة تلك الأوزان بالمستوى المرغوب فيه لها فى المجتمع النموذجى المنشود. ويبحث القسم الثانى من البحث فى العناصر الهدامة المخربة، التى تلقى بالمجتمعات فى حالة الركود والتخلف، مثل السرقة والاحتيال والعنف والقتل والاختطاف والتزوير، وقد ألحق بذلك إحصائية مفصلة عن عوامل الشذوذ الاجتماعى فى إحدى الولايات الأمريكية . إذن يستلهم بارسا بصورة جلية التصورات الوضعية لكونت سواء عن مفهوم العلم ودوره وأدواته أو عن المجتمع من حيث تكوينه وتطوره وغايته. ولا يعدو ذلك محاولة مد التفكير العلمى، الذى حقق نتائج مذهلة على المادة أو فى المجال الطبيعى، إلى المجال الإنسانى ، من أجل فهمه والتحكم فيه وتسييره إلى وجهه وغاية معينة. وكما أمكن صياغة الوجود الطبيعى فى معادلة بلغة الرياضيات، سيجرى السعى لصياغة الوجود الإنسانى بكافة أبعاده بنفس تلك اللغة للرياضيات ، لا غرابة إذن أن وجد يونس فى كراس المخطوط، فى معظم الصفحات ، أشكالاً هندسية كالمنحنيات.

وإذا كان هذا هو التصور المبدئى لبارسا عن مشروعه العلمى، فلابد أن يثور السؤال عما أنجزه منه فى الواقع. ويقدم لنا دفتر يوميات بارسا نفسه الإجابة على ذلك. فلقد قدر أنه إذا عمل بالوتيرة التى يسير بها، فسوف يتمكن من الفراغ من الكتاب فى غضون ثمانية أشهر ، وكان بالفعل قد انتهى من الفصل الرابع فيه. ويعيد بارسا فى يومياته تلخيص الغاية المركبة للمشروع، فهو يحاول معرفة قابلية المفاهيم الإنسانية للقياس الكمى مثل الموضوعات الفيزيائية، ولكن من دون فقدان معناها ، أى – إذا حاولنا تفسير ذلك – من دون أن يكون عليه اختزال أبعاد هامة فى الظواهر الإنسانية حتى تقبل ذلك القياس الكمى كالظواهر الطبيعية . ويقود ذلك إلى غاية أعمق يدركها بارسا جيداً ألا وهى وحدة العلم، أو ما عبر عنه بكلماته من أنه يسعى إلى “ربط العلوم الفلسفية والعلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية ، بل مزجها معاً”. وفى بداية الأمر، بعد أن وضع بارسا تصوره وعمل فيه بنشاط ، كان راضياً عن عمله، ويبدو أن مشروعه أثار اهتمام طلابه أيضاً ، بدليل إشارته فى يومياته إلى وجود طلاب مجدين فى فيزياء الكم. وتجدر الإشارة إلى أن النظرية النسبية وفيزياء الكم قامتا بتحطيم نسق العلم الكلاسيكى ، الذى دشنه نيوتن ويقوم على فكرتى السببية والحتمية وتصور الكون كآلة قابلة للفهم والتفسير والتنبؤ، وساعدتا على الانتقال إلى نسق العلم المعاصر، حيث وضعت كافة تلك المسلمات موضع شك، وجرى نفى السببية التى استبدلت بفكرة التعالق (entanglement ) والحتمية التى حلت محلها فكرة عدم اليقين أو الاحتمالية (25). وهكذا كان بارسا يسير فى تدريسه- كما تكشف يومياته – فى مسار فكرى معاكس إن لم يكن مصادماً لغاية ومسلمات مشروعة الفكرى الذى اعتنقه . فلا غرابة إذن أن يلاحظ يونس زيادة تدريجية فى الفواصل بين اليوميات . ويبدو أن تركيز بارسا نفسه قد انتقل من التصور الكلاسيكى للعلم إلى التصور المعاصر الذى استغرق تفكيره وجهده خلال التدريس، ومن هنا أخذ يشكو من تزايد العطلات التى تعطل الدراسة ويصفها بالعبثية – برغم كونها من الناحية العملية فرصة هائلة له ليتفرغ للعمل فى مشروعه – بل ويكتب فى دفتر يومياته بصراحة أنه ليس له رغبة للعمل فى كتابه، ويردف ذلك بأنه “يحتمل ألا ينتهى الكتاب فى التاريخ الذى توقعته”. وهكذا تقدم لنا اليوميات صورة واقعية عن أداء ومعدل إنجاز بارسا فى مشروعه العلمى، وتكشف تلك الصورة عن بداية قوية ثم تعثر وعدم رغبة فى العمل وأخيراً الاحتمال الصادم بعدم الفراغ من الكتاب فى التاريخ المتوقع أو ربما أبداً . ولم يتكشف  برغم ما ورد فى اليوميات عن فيزياء الكم والتدريس والعطلات – السبب الحقيقى وراء التعثر والتوقف واحتمال إلغاء المشروع.

تتركنا اليوميات فى حيرتنا من التحول الذى طرأ على موقف بارسا من مشروعه العلمى؛ من الحماسة إلى الفتور والتكاسل ثم احتمال الإقلاع . لكن إحدى رسائله الغرامية لمعشوقته ، التى أعطتها إحدى صديقاتها ليونس كى يقرأها لنا ويضمها إلى أعمال بارسا أو ملفه، تسلط الضوء على ما قد يكون حدث لبارسا ، وربما يؤيد ولو من بعيد التأويل السابق المتعلق بوقوع بارسا كضحية فى الفجوة بين الإبستمولوجيا الكلاسيكية والمعاصرة للعلم.

ودون تكرار ما ورد فى نص الرسالة ذاته ، يتمنى بارسا أمرين فى منتهى التناقض. إنه يتمنى أولاً لو لم يكن ذاته ، لو كان شيئاً آخر (صخرة / خشبة / تراباً) أو شخصاً آخر (زبالاً / خبازاً/ خياطاً / طبيباً/ وزيراً)، لو لم يوجد هو ولم توجد هى ، وكان بإمكانه محو كل شئ، كما لو كان كتابة على سبورة الدرس. وفى مقابل ذلك يتمنى ثانياً لو كان شيئاً محيطاً بمحبوبته (لبنة فى الجدار / حفنة تراب الحديقة/ قبضة الباب) أو جزءاً منها (يدها / عينها / رئتيها). وحينئذ سيغدو هو هى – وهى هو ، ويصيرا “واحداً” أو “شخصاً مثنى”. وبرغم تضاد هاتين الأمنيتين، إذ تتعلق الأولى باللاكون والثانية بالكون، إلا أنهما يقودان إلى نفس النهاية ، الاندماج مع المحبوب فى كيان واحد . ويرتفع هذا التضاد الظاهرى، إذ أدركنا أن بارسا يتحدث عن المفارقة بين الغياب والحضور كخطوات ضرورية للشهود والفناء. فالأمنية الأولى ضرورية فلابد من الغيبة عن الذات والخروج منها من أجل الحضور والشهود، وكلاهما لابد ينتهى به المقام إلى الفناء فى المعشوق . إذن تعبر هذه الرسالة الغرامية عن علاقة عشق تصل إلى حد الحب الصوفى فى اللفظ والمعنى. ألم يكن بارسا يعشق محبوبته لدرجة حبه لصوتها بغض النظر عن الكلام وكان يحب التحديق فى وجهها على لمس يديها؟ ألم يمتزج وجوده كلياً بروحها وفاض حبه لها لدرجة أنه لم يكن يريد الزواج بها قط؟

كشفت النصوص السابقة ، لحد الآن ، عن وجود مستويين فى الذات أو الأنا الخطابية التى تشكلت وتطورت بين ثنايا تلك التكوينات الخطابية . فهناك المستوى العلمى – العقلانى الذى يبدأ بالمفاهيم ويستنبط المؤشرات ليقيس الظاهرة ، فى إطار العلاقة الموضوعين بين الذات العارفة والموضوع محل الدراسة، بكل ما فى تلك العلاقة من حواجز ومسافات يعبر هنا تعبير مارتن بوبر أنا – ذاك (I-it) . وهناك المستوى العرفانى – الوجدانى الذى لا يبدأ من العقل ولكن من الوجود ويرفع الحواجز ويطوى المسافات فى إطار علاقة انفتاح وعشق وفناء لا بين ذات وموضوع وإنما بين عاشق ومعشوق، كما يجد ذلك تعبيراً عنه بمصطلح مارتن بوبر أيضاً أنا – أنت (I- Thou). والسؤال الذى يطرح نفسه ، كيف حدثت تلك النقلة من المستوى العلمى – العقلى إلى المستوى الوجدانى – العرفانى، هل يمكن ربط ذلك بالتصدعات التى أصابت مشروع بارسا العلمى ، مما جعله يقفز من مستوى معرفى لآخر، دون أن يحاول أو ربما يتمكن من فهم ما قام به؟ فكانت النتيجة أن تحول هو نفسه ومحبوبته إلى لغز كبير لم يستطع سبرغور ، مما قاده إلى حتفه.

للإجابة على ذلك، نحتاج إلى استرجاع بعض مسلمات الإبستمولوجيا المعاصرة للعلم التى لمسها بارسا فى تدريسه وعاينها شهوداً فى عشقه ورغبته فى الفناء. وتذهب د. يمنى الخولى إلى أن مبدأ اللاحتمية (Indeterminism) يلخص ويبلور الإبستمولوجيا المعاصرة للعلم، وكنقيض لمبدأ الحتمية، تشير اللاحتمية إلى نفى التحديد الدقيق دقة مطلقة للأحداث بكل تفاصيلها اللامتناهية فى الصغر أو الكبر . وبالتالى ، يحل الترابط الإحصائى محل الترابط السببى بين المتغيرات ، ولم يعد حدوث الحدث يتبع الإطراد الحتمى وإنما الاحتمالية التى تتأسس على ترددات بنسب مئوية لوحظت فى الماضى ويفترض أنها ستسرى فى المستقبل (26) . إن مبدأ اللاحتمية السابق ، لابد أنه سينسف مشروع بارسا من الداخل، حيث أن تقويض مبدأ الحتمية فى المجال الأصلى الذى نشأ فى كنفه أى العلوم الطبيعية، سيعنى لا معقولية محاولة تطبيقه فى مجال آخر يتناول ظواهر بطبيعتها غير نمطية . وسيؤدى انهيار الحتمية إلى سقوط فكرة العلية أو السببية، وهو ما سيخرب فكرة بارسا عن المجتمع النموذج القائم على علاقات ارتباطية بين السعادة والعوامل البناءة والهدامة . ويستتبع انهيار الحتمية والسببية ، بحسب رأى د.يمنى الخولى، تبخر اليقين تماماً من دنيا العلم ودخول عنصر المصادفة فى بنية الطبيعة . وستسترد المصادفة مكانتها فى تفسير الأحداث بدلاً من ارجاعها إلى جهل الذات العارفة وعجزها عن استيعاب الأسباب / العلل التى تفضى إلى الظاهرة (27). ليس هناك غرابة فى أن تجعل هذه الأمور بارسا يفتر عن العمل، فلم يعد هناك يقين يقيم عليه كأساس صلب تصوره عن المجتمع النموذجى، بل مصادفات احتمالية ليس بمستطاع أحد أن يتنبأ بها. وقد حدثت له هو فى حياته تلك المصادفة التى خرقت نمط حياته الجامعية المنظم الرتيب، ألا وهو لقائه بماهيتاب كإحدى طالباته ووقوعه فى حبها. ويبدو أن ذلك الحدث لم يكن سوى مصادفة بعيدة الاحتمال بالفعل، لأن والدة بارسا نفسه لم تكن على علم بها، بل لم تكن تتخيل حدوث مثل هذا الأمر أصلاً بسبب طبيعة ابنها ونمط حياته الذى تعرفه.

ومن أعظم معالم الثورة العلمية، وأكثرها ارتباطاً بحالة بارسا هنا ، هو مبدأ اللاتعين (Indeterminacy Principle )  الذى صاغه فيرز هايزنبرج . وهذا المبدأ هو نقيض فكرة الموضوعية الكلاسيكية، التى تضع مسافة فاصلة بين الذات والموضوع وتؤكد عدم حدوث تفاعل أو تأثر بينهما. أما مبدأ اللاتعين هذا فهو يهدم تلك الفكرة من اساسها ويؤكد على ضرورة حساب الأثر المتبادل بين الباحث وموضوع بحثه، إذ أنهما لابد متفاعلان. ويجعل ذلك من العلاقة بين الباحث وموضوع بحثه ، قضية مشتركة بين العلوم الإنسانية والطبيعية وليس قضية تنفرد بها الأولى. ولما كان مبدأ الحتمية قد افترض أن التفاعل بين الباحث وموضوع بحثه سيفسد نتيجة البحث ويؤدى إلى فشله(28)، يمكننا إذن أن نفهم سر الفتور الذى أصاب بارسا وتكاسله أيام العطلات وحتى اعتقاده بعدم الفراغ من البحث فى التاريخ المحدد. ولكن بارسا عاين ذلك التفاعل المتبادل فى علاقته بماهيتاب ورآها كيف تقوض موضوعيته كأستاذ معلم. لقد كانت علاقة بارسا بتلامذته هى أجلى مثال على الموضوعية والمساحة القائمة بين الذات والموضوع، فقد كانت أسئلة امتحاناته صعبة ودرجاته شحيحة، ويمثل الإمتحان هنا الحاجز القائم بين الذات والموضوع فى علاقة برسا بتلامذته. ولم يكن يعنيه على ما يبدو هنا كراهية الطلبة له، كما يدل على ذلك فرحهم أو بعضهم لانتحاره بحسب ملاحظة يونس ، لأنه أفرغ المساحة الفاصلة بين الذات والموضوع من كل قيم، إلا الموضوعية، ومن كل مشاعر . لكن هذا الجدار العازل بين بارسا ، الأستاذ أو الذات العارفة ، وبين الموضوع أو الطلبة، أخذ يتحطم بداخله. ولعل الدلالة على تآكل هذا الحاجز الفاصل وانهيار علاقة الذات – الموضوع معه، هو ما كتبه الأستاذ بارسا ذو الأسئلة الصعبة ، الشحيح الدرجات، على ورقة إجابة ماهيتاب، عندما حصلت على درجة عالية ،” أنا سعيد ، سعيد جداً”. لقد كانت تلك الأنا فى المقولة السابقة مختلفة تماماً عن الأنات السابقة فى مشروع بارسا العلمى، لقد كانت أنا وسط بين علاقة أنا –ذاك وما ستفضى إليه لاحقاً فى رسالته غرامية من علاقة أنا – أنت . إنها علامة على تآكل حاجز الذات- الموضوع، مما يؤذن بانهيار تلك العلاقة تماماً، ومعها مشروع بارسا العلمى ، ليدخل فى علاقة جديدة تمتعه بقدر إفسادها عليه حياته ومألوف أفكاره ومناهجه ومفاهيمه ومسلماته. لا غرابة إذن أن يتمنى لو لم يكن هو ولم تكن هى ولو استطاع محو كل ما سبق ، مثلما يفعل أثناء التدريس عندما يمحو الكتابة عن السبورة بعد امتلائها كى تعود بيضاء ناصعة وقد أفرغت ما كتب عليها من قول ثقيل.

تختلف مذكرات بارسا التى كانت على جهاز كمبيوتره، شكلاً ومضموناً عن النصوص السابقة ، وتثير قراءة سطورها إحساساً بالدهشة، عبر عنه يونس نفسه، من أن بارسا العالم الرياضى ذا الحسابات الدقيقة باستطاعته كتابه نص بهذه الشاعرية . وبالفعل سيكون بمثابة تشوية لتلك اللغة الشاعرية، التى بين أيدينا برغم أنها مترجمة، لو حاولنا إعادة إنتاجها فى هذا الموضع، إلا أن ذلك لن يمنع من الاستعانة بقبسات منها. يصف بارسا نفسه وماهيتاب تطرق بابه وتأبى التوقف أو الرحيل برغم مطالبته لها بذلك، فقد كان المكان مزدحماً للغاية. وعندما بكت وأبكته معها فتح لها الباب وأراها المكان الذى هو فيه. وكم كان ذلك المكان مزدحماً بالفيزياء والفلسفة والفن والمنطق والكتب والمجلات والجرائد والمساطر والحاسوب والأوراق والكلام وبمشاعر الوحدة والجراح واليأس والضيق والدموع والفوضى والضباب والصمت والخوف والحزن والغربة. وقد اختلطت هذه المشاعر وازدحمت . وللدهشة الشديدة ، صارحت ماهيتاب بارسا أنه ما من سر مكنون لديه أو أنه لن يعثر على حقيقة خافية، لأنها هى السر المكنون. وما أن أعملت عينا ماهيتاب سحرهما فيه إلا وكانت كطوفان اقتلع قلبه من مكانه واكتسح كل الكلام والفلسفة والمساطر والأوراق والمشاعر والجراح والظلام، التى صارت كأوراق ممزقة تذروها الرياح فى يوم عاصف. وحينئذ صار المكان مرتباً وأضئ نوره وقبعت هى فى قلبه كسر مكنون.

عن أى شئ يتحدث بارسا؟ يتحدث عن حالته الوجودية التى حجبها عنه “الكلام والكلام” الذى وجده فى الفيزياء والفلسفة والفن والمنطق ، وما نجم عن ذلك من مشاعر الوحدة والكآبة والحزن والخوف. ولكن تلك المصادفة نادرة الحدوث المتعلقة بلقائه بماهيتاب ووقوعه فى حبها أدخلته فى معايشة وجودية لخبرة العشق، وهو يشرح تلك الخبرة والمعايشة بلغة شاعرية، من العبث فهمها بالعقل لأنها تتجاوزه وتحلق فوق مستواه، بل لابد لمن يتناولها أن يكون هو الآخر قد عايش وخبر وعاين وذاق. وما أن ملكت خبرة العشق على بارسا نفسه حتى اكتسحت كل ما لديه من أفكار أو لنقل أوهام فصارت رمالاً متحركة أو أوراقاً ممزقة. واكتشف بارسا أنه لا توجد حقيقة فيها وإنما الحقيقة فى خبرة العشق ، وحينئذ صار قلبه رحباً متسعاً منيراً بعد ازدحامه وظلمته وكآبته . ولعل السؤال الذى يثور الآن ، هو أى مكان هذا الذى وصل إليه بارسا أو أى موضع وصلت إليه أناه الخطابية بعد طول ترحال من موضع إلى آخر ؟

لندع بارسا نفسه يصف لنا أين هو :” كلما شربتك ازداد عطشى أكثر، يا رياً هو سبب عطشى! يا أمر حلاوة وأخف الأثقال! أنت أكثر أفراح حياتى حزناً ، وأكثر سبب يفرح له خرق وجودى. يا حادثة بسيطة معقدة! لم لا تحرقينى يا أبرد شعلة فى الوجود؟! يا ريشة ثقيلة محررة من أكثر الطيور المهاجرة المجهولة فى هذا الكون ! أين مدينة الطيور؟” . إنه حقاً مكان غريب هذا الذى يصفه بارسا ففيه يرتفع قانون الثالث المرفوع ليغدو هو ولا هو، إنه مكان الفرح الحزين والحلاوة المرة والشعلة الباردة والبساطة المعقدة والريشة الثقيلة. لكن بارسا نفسه يتساءل عن مكان هذا المكان، وليس هناك من سبيل إلى الإجابة على هذا السؤال إلا باستخدام مصطلح “نكجا آباد”، الذى استخرجه لنا هنرى كوربان من تراث التصوف الفارسى. ويذكر أن هذا التعبير غريب للغاية ولم يرد فى أى من المعاجم الفارسية، على حد علمه، بل قام السهروردى بتركيبه من الجذور الفارسية. إذ أن كلمة (آباد) تعنى مدينة أو بلداً ، أما (نكجا) فتعنى لا أين، وبالتالى يعنى هذا التعبير حرفياً بلد اللامكان. ولا يشير نكجا آباد بحسب كوربان إلى مكان آخر ننتقل إليه وإنما إلى مكان ليس متضمناً فى أى مكان بحيث لا يغدو من الممكن فيه الإجابة على سؤال أين، لأن هذا السؤال ذاته يفقد معناه فيه. إننا بصدد واقع روحانى لا يوجد فى أى “مكان” أو “أين” بل إن المكان أو “أين” يوجدان فيه ، ووفق هذا التصور فإن الواقع الروحانى هو الذى يحيط ويغلف ويحوى ما يسمى بالواقع المادى (28). ولما كان بارسا قد وصل إلى هذا المكان أو بالأصح اللامكان ، فإن انتحاره أو فناءه يغدو أمراً مفهوماً مع كل تنطوى مسيرته عليه من متعه وعذاب، تماماً مثل احتراق الفراشة تماماً بعد وصولها إلى النار ، بكل ما يحمله ذلك من لذة النظر إلى النور وألم الاحتراق بالنار.

ملف وفاة الإله

ولكن “أين أنت من ذلك يا يونس؟”، إن هذا هو السؤال الذى سأله على رضا ، صديق يونس ، فى ختام خطاب وجهه إلى الأخير تعليقاً على مذكرات بارسا السابق الإشارة إليها، بعد أن قرأها. ولعل هذا هو السؤال الذى يتعين علينا سؤاله الآن بعد فراغنا من تصفح ملف بارسا ، من أجل ربطه بملف يونس . لقد كانت الأنا الخطابية لبارسا تتقافز بين سطور نصوصه متنقله من موضع إلى آخر حتى انتهى بها الحال إلى اللاموضع أو النكجا (اللأين)، فابتلعت الأين وأزالتها ومن ثم زالت معها. ولهذا يغدو سؤال على رضا ” أين أنت من ذلك يا يونس؟ ” أكتر إلحاحاً وإثارة وخطورة . والحقيقة أن ملف يونس هو ملف برسا، أو بصورة أدق فإن يونس هو بارسا ، فلم يكن بارسا سوى أحد الشخصيات فى ملف يونس، وليس يونس سوى مراقب خارجى لملف بارسا. إننا نعرف ما نعرفه عن بارسا من البحث الذى يقوم به يونس والنصوص التى يقرأها لنا، ونعرف ما نعرفه عن يونس من خلال دورانه المستمر حول شخصية بارسا ومعارفه ونصوصه وأفكاره. إن يونس هو الذى جمع لنا البيانات عن بارسا وقام بإجراء المقابلات مع معارفه وقرأ لنا النصوص التى كتبها بارسا ، أى أنه قام بكل خطوات العمل البحثى ، لكنه لم يكتب كلمة واحدة فى أطروحته للدكتوراه عن أسباب انتحار الدكتور محسن بارسا، لأنه لم يستطع فهم سبب انتحار بارسا.

ولهذا من أجل الإجابة على سؤال الأين ليونس، أى لتحديد موقع يونس، وجب استخراج يونس من موقعه كمراقب خارجى فى النصوص التى كتبها بارسا أولاً أى تتبع الأنا الخطابية ليونس كموضع فى نصوص بارسا، ثم استخراج يونس من نص الرواية ذاتها كأنا خطابية أخرى يصنعها القيام بإجراءات البحث العلمى. فلنعد مرة أخرى إلى نصوص بارسا من أجل تسليط الضوء على موقع يونس فيها . لقد كان يونس وهو يتصفح مخطوط بارسا (التحليل الرياضى للمفاهيم الإنسانى ) ليعرضه علينا، ممداً على سريره. ويبدو أنه لم يتضح له من المخطوط سبب انتحار بارسا، إذ طلب من صديقه على رضا قراءة المخطوط وإخباره بما إذا كان قد عثر على شئ يتعلق بانتحار بارسا. وكان عدم الفهم لدى يونس يدفعه نحو اليأس، حيث كان يدرك أن هذا المشروع أصابته شظاياه بشئ ما وأن بارسا الذى صار فى عداد الأموات ” إن لم يقبرنى ، فلن يخبرنى لماذا انقبر!”.

أما دفتر يوميات بارسا، الذى سجل فيه انطباعاته عن معدل انجازه لمشروعه، فقد كان يونس يقرأه فى زاوية منعزلة من صالة الانتظار بالمطار وهو ينتظر الطائرة التى ستقله إلى اصفهان. وبرغم قراءة يونس للدفتر وتصفحه بعض أوراقه لنا، لم يزد تعليقه على تلك الملاحظة بخصوص ازدياد الفواصل بين تواريخ اليوميات شيئاً فشيئاً . أى أنه لحد الآن قد أحاط بمشروع بارسا ولكن من دون أن يفهم علاقته بانتحاره ، وعلم تعثر المشروع من اليوميات، ولاحظ إصابة بارسا نفسه بالملل واليأس من المشروع، ولكنه ربما  لم يفهم أيضاً لماذا حدث ذلك وعلاقته بانتحاره . غير أن موقف يونس سيختلف وهو يقرأ إحدى الرسائل الغرامية التى كتبها بارسا لحبيبته، فقد كان يقرأ الرسالة هذه المرة وهو يسير بين آلاف الأشخاص الغارقين فى مشاهدة واجهات المحلات، اى لم يكن ممداً على السرير أو جالساً للانتظار ، بل كان يتحرك . وما أن فرغ من قراءة الرسالة، حتى تحطمت الحواجز الفاصلة بينه كذات عارفة وبين موضوعه، وانطوت تلك المسافة التى يرسخها مبدأ الموضوعية، فقد شعر ربما بنفس مشاعر بارسا ووصف ما كان يشعر بارسا به . فهو يقول :”شعرت بأن روحى قد ألقيت من حالق، من سطح بناية ذات ألف طابق؛ وأفعم وجودى بألم غريب “.

وأخيراً ، عندما كان يونس يقرأ مذكرات بارسا التى تركها على جهاز كمبيوتره، فقد كان يجلس فى حديقة مهجورة وكان الأطفال يركضون كى يطلقوا طائراتهم الورقية من حوله. وبعد قراءته لجزء من المذكرات شعر بالاستغراب من كتابة بارسا لذلك النص الشاعرى ، ثم اندمج فى القراءة مرة الأخرى ليلاحظ أن أحد النصوص كتب قبل أسبوع من حادث الانتحار. ولم ينتزعه من القراءة سوى تكاثف ضجة الأطفال على الأرض حوله، بحيث لم يعد يستطيع التركيز فى القراءة. وبعد أن فرغ من قراءة أوراق بارسا ثم رسالة على رضا له، التى ختمها بسؤاله (أين أنت من ذلك يا يونس؟) ربما ليشعره بوجود ارتباط بين بارسا وبينه وإن خفى عليه، نهض من على المقعد وخطا عدة خطوات، “ولكن انتابنى صداع شديد وبشكل مفاجئ، فاتكأت على شجرة حتى أتمالك نفسى”. إذن ، لا يقدم لنا استقصاء الأنا الخطابية ليونس كمراقب خارجى لنصوص برسا صورة واضحة ، فهو لم يفهم أو ربما لم يتفاعل مع موضوعه الذى عمى عليه فى البداية ، لكن الحواجز بينه وبين موضوعه قد انهارت وأخذ يشعر بالصداع والألم والأهم من ذلك بالسقوط من مكان مرتفع . بعبارة أخرى، لقد تماهى يونس مع بارسا بحيث صار يشعر بمشاعره ويحس بإحساسه . ولكن السؤال الذى يثور فى الذهن، كيف وصل يونس إلى هذه الدرجة من التماهى مع بارسا ولكن من دون أن يفهم لماذا انتحر بارسا، وهو ما جعله لا يكتب كلمة واحدة فى رسالة الدكتوراه برغم سيره خطوات فى البحث .

وربما تغدو الإجابة على هذا السؤال ممكنة إذا تمت متابعة يونس كأنا خطابية، لا تقع على هامش نصوص بارسا، وإنما كذات عارفة أنتجها القيام بإجراءات البحث العلمى حتى وإن لم يكتب كلمة واحدة. فلنبدأ من البداية . تدور أطروحة الدكتورة ليونس حول موضوع الانتحار، وهو يأخذ انتحار الدكتور محسن بارسا عالم الفيزياء النابغ ، الذى حصل على شهادة الدكتوراه الخاصة به من جامعة برنستون الأمريكية ،كحالة دراسية لهذا الموضوع. وكان يونس قد درس الفلسفة ثم تحول إلى دراسة علم الاجتماع فى مرحلة الماجستير وكذلك فى الدكتوراه، التى يقوم بكتابتها. ولما كان تناول موضوع الانتحار يقع فى إطار دراسة يونس لعلم الاجتماع، فإن من الطبيعى أن يعتمد فى دراسته على النظرية الاجتماعية لدور كايم. وهو ما يدل عليه تعليقه لرسم توضيحى لنظرية دور كايم على الحائط فى مكتبه بالطابق السابع من بنايه مؤسسة البحوث الاجتماعية.

ويهدف دور كايم من دراسته للانتحار إلى الوصول الى القوانين العامة الحاكمة للمجتمع، بما يجعل علم الاجتماع قادراً على تقديم حلول لمظاهر عدم التكيف الاجتماعى فى المجتمع. ويرى دور كايم أن الإسهام الأساسى لدراسته عن الانتحار لا يتعلق فقط بسبر غور تلك الظاهرة الاجتماعية ، وإنما أيضاً بالاسهام المنهاجى لهذه الدراسة . وبالنسبة له، فإن المنهج السوسيولوجى يقوم على مبدأ أساسى، ألا وهو أن الوقائع الاجتماعية ينبغى أن تدرس كأشياء أو موضوعات تقع خارج الوعى الفردى . ويعنى ذلك أن الظواهر الاجتماعية لا ترجع إلى التكوين النفسى للأفراد – لأن ذلك بحسب دور كايم سيحرم علم الاجتماع من الأساس الصلب الذى يقوم عليه – بل إلى كيان أكبر يسيطر على الفرد،ألا وهو الواقع الاجتماعى أو الجمعى. وبالتالى، لا يحدد الفرد بتكوينه النفسى وغرائزه الظواهر الاجتماعية، بل إن القوى الاجتماعية من ظواهر ومؤسسات جمعية تحدد سلوك الأفراد . ويتيح ذلك الأمر لعلم الاجتماع بل ويحتم عليه أن يكون موضوعياً، أى يعتمد مبدأ الموضوعية السالف شرحه ، لأنه يتناول وقائع محددة ومادية كتلك التى يدرسها علماء النفس والأحياء(29) .

واستناداً لهذه المقاربة الدوركايمية لموضوع الانتحار، لابد أن يدرس يونس الوسط الاجتماعى المحيط ببارسا، حتى يعرف تأثير القوى الاجتماعية على سلوكه الفردى (المتمثل فى الانتحار فى حالتنا)، وأن يتجاوز أو يغض الطرف عن العوامل النفسية المرتبطة ببارسا باعتبارها خارج نطاق الحقل المعرفى الذى طرح موضوع الدراسة فيه، فهو سيركز فقط على الأسباب والأنماط الاجتماعية للظاهرة فقط . ومن هنا نستطيع أن نتفهم المسار الذى انتهجه يونس فى جمعه للبيانات حول الوسط الاجتماعى لبارسا، وكذلك نستطيع أن نرى لماذا لم تجد تلك الخطوات أو الاجراءات المنهاجية نفعاً فى فهمه للظاهرة . بل إن ازدياد حجم البيانات التى جمعها أغرقه فى التفاصيل وحجب عنه الرؤية وشتت انتباهه بعيداً عن السبب الحقيقى المفسر للموضوع، وهو انتحار بارسا . ومع كل خطوة بحثية كان يونس يخطوها، كان يبتعد فى الحقيقة عن موضوع الدراسة ويزداد عدم فهمه له. فلنتابع يونس فى إجراءات بحثه وجمعه للبيانات.

كان ملف قضية بارسا فى أرشيف المحكمة هو أول مصدر للبيانات لجأ يونس إليه، وتسير محتويات الملف، الذى سبق تناوله فى اتجاهين . الاتجاه الأول ينفى أية شبهة جنائية عن الحادث ، وبالتالى يبرر من الناحية القانونية حفظ القضية وسحبها من آليات النظام القانونى ، وهو أمر لا يهم يونس من قريب أو بعيد. والاتجاه الثانى يحلل أسباب الانتحار، وهو ما يهم يونس ، لكنه يعزو الانتحار إلى العمل الفكرى الشاق والعزوبة واليأس المجهول . وقد تساءل يونس بالفعل عن ماهية هذا اليأس المجهول وعن سبب يأس بارسا من الأساس . ولعل ما يبرز إحساس يونس بأن الملف القضائى لبارسا، إنما يقدم صورة مضطربة هو ما جمعه يونس نفسه من معلومات أولية عن بارسا تجعله يشك فى هذا التفسير لانتحاره ، ناهيك عن أن هذا التفسير النفسى ليس ما يسعى وراءه يونس حسب منهاجه الدوركايمى .

ومن هذه المعلومات الأولية أن بارسا عالم فى الفيزياء حاصل على أعلى الشهادات من أرقى الجامعات الغربية، وهو يشغل وظيفة مرموقة وله مؤلفات علمية ويقوم بتدريس علوم فيزيائية عالية المستوى . وعلى الصعيد الشخصى، فهو إنسان فى غاية النظام والترتيب والالتزام والنبوغ، فمن أين يأتى إذن هذا اليأس المجهول ؟ وقد تأكد يونس من عدم صحة هذا التفسير لانتحار بارسا عند مقابلته للسيدة فخرية والده بارسا، التى وفرت له معلومات شخصية عن بارسا وأتاحت له وثائقه ومخطوطاته . لقد عاش بارسا حياة توفرت له فيها كافة سبل الراحة ، إذ عزم والداه ، كما ذكرت والدته ، على أن يهبا للمجتمع ولداً صالحاً. وبرأى الأم، فقد كان بارسا مفخرة وتعد خسارته أمراً فادحاً ليس بمستطاع المجتمع الأكاديمى تعويضه. بل أكثر من ذلك نفت الأم تماماً أطروحه اليأس لأنها ولدها لم ييأس ويتذمر قط، وإنما كان صاحب عقل راجح ومنطق سليم ورزانه وحسن تصرف، مما جعله ينظر نظره علمية إلى كل شئ وكل شخص. وسردت الأم ليونس البرنامج اليومى لولدها، الذى لم يكن يحيد عنه، حيث كان يحيا وفق نظام يستند إلى تخطيط دقيق كالساعة. ومع ذلك فقد روت الأم أن بارسا صار أكثر عزلة قبل وفاته بشهرين وكان يقضى أكثر أوقاته فى المنزل، منعزلاً فى غرفة مكتبه. وأوردت الأم ملاحظة شديدة الأهمية، وهى أن بارسا ما كان بإمكانه الوقوع فى الحب لأنه كان يعشق عمله (المطالعة والتدريس) فحسب ، بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

لم تساعد المعلومات التى جمعها يونس، حتى الآن، فى الوصول إلى تفسير لانتحار بارسا، وحتى تلك المعلومة التى حصل عليها من صديق الدراسة القديم لبارسا لم تفده فى شئ. فقد أخبره ذلك الصديق الذى يعمل مسئول تفتيش الحيوانات فى المذبح أنه شاهد مع بارسا فيلما أجنبياً قبل انتحار بارسا بثلاث ساعات . وذكر له الصديق تعجب بارسا من قدرة السينما على حل المعادلات المعقدة . ويبدو أن بارسا كان يشير هنا إلى قدرة الفن القائم على التصوير والخيال على الإحاطة بكافة أبعاد الوجود الانسانى ، وهو الأمر الذى أخفق فيه العلم كما يشهد بذلك مشروع بارسا نفسه، ولكن يبدو أن يونس فاتت عليه هذه المسألة، لأنه كان ينظر فى اتجاه مختلف تماماً.

وكانت مقابلة يونس لصديقة ماهيتاب، شهرة بنيادى، حاسمة من حيث تأكيدها ليونس أن كل ما قام به من جمع للبيانات لن يقود إلى تفسير انتحار بارسا. فقد أزاحت شهرة الستار عن جانب آخر لبارسا لم يكن يونس قد رآه حتى وقتذاك. بداية ، لم تلاحظ شهرة أى شئ على بارسا يوم انتحاره، إذ قام بتدريس محاضراته كالعادة ، لأنه رجل رزين وقور لا يظهر انفعالاته أبداً. ووصفت شهرة ليونس، ولنا أيضاً، تجربة حب بارسا لماهيتاب ، تلك التجربة التى لم تكن لها علاقة بتفاهات العشق. وليس هناك حاجة هنا للاستطراد فى وصف تلك التجربة، حيث تم التعرض لها آنفاً عند تناول ما أسمته الدراسة الحالية ملف بارسا، ولأن المقصد هنا هو متابعة خطوات يونس. لكن فض الاشتباك ليس بهذه السهولة، فلقد انتحر بارسا بعد فشل مشروعه العلمى ومروره بخبره حب أفناه عن نفسه، وغيبه عنها بما تحمله الكلمة من معنى ، وحمله إلى مكان اللامكان، ولما كان بارسا نفسه لم يفهم هذه التجربة، وما كان له أن يفهم ما ليس قابلاً للفهم، فقد ظلت ماهيتاب بالنسبة له سراً مكنوناً ولغزاً محيراً، وبالتالى لم يعرف بارسا سبب انتحاره وشاركه يونس هو الآخر فى عدم الفهم، أى أنهما التقيا سوياً وتواجهها على أرضية عدم فهمها المشترك لسر انتحار بارسا، ألا وهو العشق، الذى تجسده ماهيتاب أو ترمز إليه. وعلى هذا الأساس يمكن القول أنه برغم الأسبقية الزمنية لبارسا ، إلا أن يونس لم يكن يقتفى آثار خطوات بارسا، بل كان يسير معه فى مسار مواز تماماً. لقد ابتدآ من نفس نقطة محاولة الفهم عن طريق العلم الوضعى (علم الاجتماع) وكلاهما قاده البحث إلى الفشل ، وكلاهما مر بخبرة حب كابدها وشعر بها دون أن يفهمها. ويثور هنا السؤال هل ستكون نهاية الرجلين واحدة أم لكل نهاية مختلفة؟ وتستدعى الإجابة على هذا السؤال الخوض فى خبرة الحب التى مر بها يونس نفسه، من خلال استعراض علاقته مع خطيبته ساية.

قبل الخوض فى خبرة العشق لدى يونس ، لابد من التأكيد على تماهيه التام مع بارسا حيث أن “كل وجودى صار بارسا. أمى وأختى وزوجتى وحياتى ، وحتى أنا أمسيت بارسا. اللعنة على بارسا، وعلىَّ أنا أيضاً”. وأهمية هذا التأكيد أنه سيغدو هادياً لمدى اتفاق أو اختلاف نهاية كل من بارسا ويونس، إذ أنهما بمقتضى هذا التماهى ينطلقان من نفس نقطة البداية. ويضاف إلى ذلك أن أطروحة يونس ، التى لم يكتبها ، عن بارسا صارت تحتل موضعاً مركزياً من حياته بما فى ذلك ارتباطه أو علاقته بسايه. فهو يرى أن وجوده، بمعنى شهادته الجامعية وعمله وشهرته وحبه ومستقبله، متوقف على إجابة السؤال المتعلق بلماذا انتحر بارسا ، وأنه إذا لم يستطع العثور على جواب علمى مفسر فلن ينال الدكتوراه وسيصير متخرجاً أبتر وشخصاً مغموراً ليس له وجود. ومن الناحية العملية، إرتأى والد ساية أنه لا يحق ليونس الحديث عن الاقتران بابنته ما لم يفرغ من أطروحته ونيل درجته العلمية. وبهذا صارت حياة يونس، بما فى ذلك علاقته بحبيبته، متوقفه على أطروحته عن بارسا، أو على حد تعبيره متوفقة على ميت . وتعد علاقة يونس بسايه نموذجاً على عدم القدرة على الاتصال ، الذى جرى الرمز له بفعل التقبيل ، إما بسبب عدم وصول الاتصال إلى منتهاه أو بسبب وجود حاجز يعوق الاتصال . فذات مرة فى ذروة إحدى المناقشات بينهما، حول حقيقة كلام الله لموسى (أى تحقق الاتصال فعلاً ووصوله إلى منتهاه أو التقبيل المباشر لوجه الإله الجميل) يحتض يونس يدى سايه بيديه ثم يلصق جبهته بهما. وأثناء حديث تليفونى بينهما، طلب منها يونس وهو يحادثها، وينظر فى ذات الوقت إلى صورتها الموضوعة تحت زجاج المكتب، أن تضع أصابعها على السماعة . وعندما قامت بذلك ، قبل هو سماعة الهاتف، وبرغم من عدم قيامه بالتقبيل أو الاتصال إلا بالنيابة أو بالوساطة، إلا أنه شعر شعوراً رائعاً للغاية . وحتى عندما أنهت سايه علاقتها بيونس وأغلقت باب المنزل، فقد وضع شفتيه على الباب لتقبيل الموضع الذى تخيل أنها وضعت أصابعها عليه، كأنه يقبلها قبلة الوداع.

تدور الأطروحة التى تقوم سابة بإعدادها حول كلام الله لموسى ، ومع أن يونس كان يعتقد أن عنصر  الأهمية فى الموضوع لا يتعلق بالمكان أى الوادى المقدس أو الأمر الإلهى لموسى بخلع النعلين، ودلالة ذلك.  وإنما “الأهم هو حادث الكلام نفسه؛ فموسى هو الإنسان الوحيد الذى سمع صوت الله”، ومع ذلك كان يونس يتنازعه شك عنيف يجعله يتقلب بين الإنكار والإيمان، وهو ما كان يجعل الحديث عن موضوع (كلام الله مع موسى ) فى منتهى الملل بالنسبة له. بل إن علاقة الحب بين يونس وسايه ذاتها قد تحطمت على صخرة هذا الموضوع، فبعد حوار عاصف بينه وبين ساية بصدد تجلى الله على جبل الطور ، كاشفها بما يعتمل فى نفسه من شكوك تجعله لا يستطيع الاستمرار فى الإيمان ولو بقدر مثقال ذرة بما تعتقده ساية عن الألوهية والوحى . ومع ذلك لم يكن يونس نفسه سعيداً أو حتى راضياًعما آل إليه حاله. ولما كانت ساية تؤمن بأن الله أصل الحياة وخالقها وعندما ينفصل كائن عن هذا الينبوع الإلهى ، ولا يستطيع الاتصال به، فستغيض الحياة فيه، لم يكن أمامها سوى خيارين. فإما أن تنسى الله من أجل حبها ليونس أو أن تضحى بحبها ليونس لوجه الله ، وبرغم ما ترتب على اختيارها من ألم ممزق لنفسها، فقد اختارت الخيار الثانى أى أن تئد حبها ليونس من أجل الحب الأكبر.

لقد كان الدافع وراء الخوض فى خبرة الحب عند يونس أو علاقته بحبيبته ساية ، هو ذلك السؤال عما إذا كانت نهاية بارسا ويونس واحدة أو مختلفة ، بعد أن انطلق كلاهما من نفس نقطة البداية وخاض كلاهما أيضاً خبرة  حب عنيفة تحمل سمات شديدة التقارب. ولما كانت حياة بارسا قد انتهت أو أنه أنهى حياته جراء تجرببة الحب التى كابدها واستمتع بها، يحق لنا أن نسأل هل مات يونس جراء تجربة الحب مثل بارسا وكانت نهايتهما واحدة؟ وتتطلب الإجابة على هذا السؤال فى البدء تحديد معيار الحياة والموت، ولعل هذا ما تقدمه سايه للقارئ بأجلى صورة . فلما كان الله هو مصدر الحياة ، لا يستطيع الإنسان تجاهل وجوده للأبد، لأن ذلك يعنى تجاهل الحياة ذاتها والإقبال على الموت، بمعنى أن الاتصال بالله هو الحياة والقطيعة مع الله هى الموت. لا غرابة إذن أن صارحت يونس برأيها ” لا أستطيع الحياة مع ميت. برأيى أنك إذا تجاهلت وجود الله يا يونس؟ فلن تختلف كثيراً عن الموتى”. واستناداً لذلك يمكننا أن نسأل (هل مات يونس؟)، وبالتالى تتطلب الإجابة على هذا السؤال إماطة اللثام عن الخط الرئيسى فى الرواية كلها، الذى يربط شخصياتها وحواراتها وأحداثها جميعاً، ألا وهو الاتصال الإلهى . ويتجسد ذلك الخط فى علاقة يونس بالله أو بعبارة أدق إشكالية الشك والإيمان بالله لدى يونس.

وإذا كانت الإجابة على سؤال “هل مات يونس جراء تجربة حبه مثل بارسا؟” تتطلب كشف الستار عن إشكالية الشك والإيمكان لديه، باعتبار أن الإيمان هو معيار الحياة والموت، إذا كان ذلك كذلك فإن الأمر يتطلب ابتداء كشف الغطاء عن نقيض الايمان ، ألا وهو الإلحاد . ولم يكن هذا المفهوم ذاته بعيداً عن تفكير يونس ، ففى مناقشة حامية الوطيس مع ساية فقد فيها أعصابه، صرخ قائلاً :” كل شخص يريد الابتعاد خطوة عن الأساطير والخرافات الموروثة ؛ إما أن يدفع بالجنون أو يتهم بالإلحاد أو يعتبر علمانياً ” [أضيف التوكيد]. وبرغم قرن يونس للإلحاد بالجنون والعلمانية باعتبارها أوصافاً للموقف المضاد للايمان، إلا أن الإلحاد يعتبر لديه ذروة هذا الموقف المضاد للإيمان. ويسدى إلينا عبد الرحمن بدوى صنيعاً هائلاً ، إذ يقدم فى تصدير كتابه (من تاريخ الإلحاد فى الإسلام) تصوراً عن خصوصية الإلحاد فى الحضارة الإسلامية ، وهو التصور الذى سيكون بمثابة مفتاح لفض مغاليق إشكالية الإيمان والشك لدى يونس.

يذهب بدوى إلى أن الإلحاد ظاهرة من أخطر الظواهر فى الحياة الروحية، وهى تنجم عن استنفاذ الطاقة الروحية والقدرة على الإيمان، بحيث لا يعود فى وسع النفس التى تلحد أن تؤمن . ويضيف بدوى أن شكل ظاهرة الإلحاد يختلف بحسب الوسط الحضارى الذى تنشأ فى كنفه ، وإن كانت كافة تلك الأشكال الإلحاد تقود فى النهاية إلى نفس النتيجة. بعبارة أخرى، برغم اختلاف الإلحاد فى أشكاله الحضارية فهو يبدأ من نفس النقطة، ألا وهى استنفاد كل القوى والإمكانات الدينية الخصبة فى سياق حضارة معينة، ويقود إلى نفس المآل وهو إنكار الدين. وتنبع خصوصية الإلحاد فى الوسط الحضارى الإسلامى ، بمنطق بدوى، لا من منطلقه أو مآله، ولكن من الشكل الذى يتخذه . فعلى خلاف الإلحاد الغربى، الذى عبر عنه نيتشه بمقولته الشهيرة “لقد مات الإله”, والإلحاد اليونانى القديم، الذى يذهب إلى أن “آلهة الأولمب قد ماتت”، نلقى الإلحاد فى الاسلام يتوجه نحو فكرة النبوة لا الألوهية ، ليقول فى النهاية “لقد ماتت فكرة النبوة والأنبياء”. وقد توجه الإلحاد فى الإسلام إلى فكرة النبوة والأنبياء ، ولم يتجه إلى الألوهية مباشرة بسبب أن المسافة أو الهوة الوجودية بين الله والإنسان، بحسب التصور الإسلامى، يفسح المجال للنبى كوسيط ينقل كلمة الله إلى الإنسان ، ومن هنا لعب الأنبياء أخطر الأدوار فى الحياة الدينية والسياسية، وبالتالى سوف يتوجه الإلحاد إلى القضاء على فكرة النبوة باعتبارها عصب الدين فى حضارة الإسلام. وبرغم تركيز الموقف الإلحادى فى الإسلام على النبوة، إلا أنه سيفضى إلى نفس النتيجة لأنه ” ما دامت النبوة هى السبيل الوحيد .. للوصول إلى الألوهية، [فإن الإلحاد بقطعه] إياه قد قطع فى الوقت نفسه كل سبيل إلى الألوهية كذلك” (30).

وسيحاول الجزء المتبقى من هذه الدراسة رؤية موقف يونس من قضية الإيمان فى مرآة مفهوم الإلحاد الذى يقدمه عبد الرحمن بدوى، ويستتبع ذلك البدء بالبحث عن جذور موقف يونس من مسألة الألوهية، وتمتد تلك الجذور فى النقلة التى مر بها فيما يتصل بالمستوى المعرفى الذى ستطرح فيه مسالة الألوهية. وتتضح تلك النقلة فى تخليه عن الحلم ، الذى حكاه لساية وذكرته فى به فى ختام آخر حديث دار بينهما. فقد رأى فيما يرى النائم أنه سمع صوت الله يسأله عم يبحث، وعندما أجابه بأنه يبحث عنه، أخبره أنه لم يكن هناك داع لقطع المسافات البعيدة فى الصحراء لأنه حيثما يولى فثم وجه الله. لقد انتقل يونس من هذا المستوى العرفانى القلبى فى طرحه لقضية الألوهية إلى مستوى علمى – عقلى عندما اختار دراسة الفلسفة ليدافع عن الدين، ومحوره الاعتقاد فى الله ، دفاعاً فلسفياً . وتكمن مشكلة هذا المستوى العقلى، حسبما يدرك يونس ذاته، فى أن الفلسفة تغلق الأبواب بنفس السهولة، التى تفتحها بها، وكأنما أغلقت الفلسفة الباب تماماً، بحيث أن الموقف الذى انتهى إليه أبعد تسع سنوات ضوئية، على حد تعبيره، عن موقفه المبدئى الراغب فى دعم الاعتقاد بأدلة العقل.

وحتى ندرك كيف أغلقت الفلسفة الباب على يونس بالنسبة لقضية الألوهية، فلابد من إيراد كيفيه طرحه لتلك المسألة على مستوى الدليل العقلى وما النتيجة التى انتهى إليها . يتحدث يونس عما يسميه توما الأكوينى، أخذاً عن أرسطو ، بالمحرك الأول الذى لا يتحرك (الدليل الحركى) وكذلك العلة بغير علة (الدليل السببى)، عندما يؤكد أن تحقق الحياة على كوكب الأرض، وهو احتمال أقرب إلى الصفر، “يدل على وجود إرادة قاهرة مسئولة عن وجودنا”. ولكن هناك مشاهدات أوردها يونس ذاته تفسد ما يسميه الأكوينى بالدليل الكونى أو الغائى ، بمعنى أن النظام الذى يقوم فى الكون ويوجهه إلى غاية محددة ليدل على وجود كيان عاقل أنشأ هذا النظام ويعمل على استمراره، وهذا الكيان هو الله. فبحسب يونس “كل يوم تداس حقوق الملايين من البشر على هذه الأرض.. الظالمون يسمنون دوماً، والضعفاء فى أصقاع العالم إما أن يصيروا ضحايا للفيضانات، أو تزلزل الأرض وتبتلعهم ، وإذا نجوا ينهشهم الفقر والجوع والمرض”. إذن تتعلق مشاهدات يونس بإشكالية أصل الشر فى العالم ، سواء ارتبط بأفعال الإنسان أو بالكوارث الطبيعية ، الأمر الذى يفسد الدليل الكونى لأنه يشهد على وجود اضطرابات جمه فى نظام الكون وغياب غايه واضحة له، وهو ما يفسد بدوره دلالة ذلك الدليل العقلى على وجود خالق للكون. ومن هنا يسأل يونس “إذا كان الله موجوداً، فلماذا كل هذا العناء؟ كل هذا الشقاء والشر الذى يصدر عن وجود المخلوقات؛ ما سببه؟ أين هى آثار القادر القدير؟”. واستمراراً لطرح مسألة الألوهية على المستوى العقلى، يأتى العلم “الأكثر ثقة وفى الوقت نفسه الأكثر صدقاً ” من الفلسفة ليخبرنا بكل تواضع أن إجابته على سؤال الألوهية هى “الجهل التام” الذى تلخصه جملة “لا أعلم”. وفى ظل عجز الفلسفة وجهل العلم، يأتى المنطق ليقول أن الفرضية الأفضل هى عدم وجود الإله، وهى أفضل وإلا لوجب وصف الإله بالظلم لخلقه للشرور والأمراض والكوارث، وتحميله للإنسان ما فوق وسعه من صعوبات لا يستطيع التغلب عليها . لا غرابة إذن أن يندهش يونس من اليقين الراسخ لساية تجاه الألوهية والنبوة والوحى، ويعتبر ذلك اليقين نابعاً من الجهل . ولكنه مع ذلك يتحسر على فقدانه لليقين ويلعن بالتالى كل معرفة تقود إلى عذابه المضنى.

يقول ابن عطاء الله السكندرى فى حكمه، “والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه، وإلا فمتى غاب حتى يستدل عليه”، ويشرح أبو العباس زروق ذلك بأن من يطلب الدليل على الله ليس من يشهده ، لأن الاستدلال إن لم يكن من عدم الوصول فهو من البعد والغيبة، بمعنى البعد والغيبة عن الله، لأن الحق ليس بغائب أو بعيد (31). وليس هناك خير من تلك الكلمات ليوضح كيف رافق الاستدلال العقلى ليونس على الله من الناحية المعرفية فصم العلاقة مع الله (البعد والغيبة) من الناحية الوجودية. وسوف يقود ذلك إلى تحديد شكل موقف يونس من مسألة الألوهية وما يتصل بها من مسائل أخرى لا تنفصم عنها . لنتتبع موقف يونس من الله بحسب الترتيب الزمنى لهذا الموقف فى العمل الروائى. فقد بدأ بسؤال نفسه فى المشهد الافتتاحى للرواية ، استقباله لصديقه الغائب مهرداد بالورود فى المطار، “هل الله موجود؟”.

وبعد برهة فى نفس موقف الاستقبال حدثته نفسه “ربما الله ليس موجوداً ” . وهكذا تقود الغيبة إلى السؤال والبحث والاستدلال وأخيراً النفى . ومرة أخرى وهو عائد من المحكمة ، كان يتساءل من أعماق روحه “هل الله موجود؟”، ولا أدل من أن معاناته للفقد، أى فقد وجه الله، هى التى دفعته للسؤال من تلك الملاحظة التى يسوقها المؤلف على لسان بائع السجائر، وهو يرى يونس كأنما يبحث عن شئ ما، “هل فقدت شيئاً يا سيدى؟”. ومرة ثالثة وهو مستغرق فى التفكير فى سبب اختيار بارسا لمكان انتحاره فى مكتب المبيدات الحشرية ، يقتحم عليه تفكيره ذاك السؤال الشاك الشائك” هل الله موجود أم أنه ليس موجوداً؟”.

ولا يتضح موقف يونس من قضية الإيمان بأجلى مما ذكره هو نفسه فى خضم مناقشة حامية مع خطيبته حول تجلى الله لموسى وحديث موسى مع الله، أى مسألة الوحى والنبوة . فبعد سؤاله لساية عما إذا كانت تعتقد فعلاً فى تجلى الله على جبل الطور وعما إذا كانت متأكدة من حدوث ذلك بالفعل، وصف ذلك بلفظ الأساطير وأكد بصوت عال ” إنها أساطير “. وفى غمره انفعاله صرح بموقفه من قضية الإيمان، قائلاً: ” كنت أعتقد فى هذه الأمور  حتى وقت قريب ، لكنى لا أستطيع الاستمرار الآن فى الإيمان مثقال ذرة.. لا أستطيع. أنا أيضاً لست راضياً عما آل إليه حالى”. لا يحتاج المرء مزيداً من الكلمات ليدرك فقدان يونس لإيمانه، وإنما يحتاج إلى أن يسترجع ما ذكره عبد الرحمن بدوى عن خصوصية الإلحاد فى الاسلام، بمعنى توجيهه إلى النبوة لا الألوهية. لقد اختلف يونس عما ذكره بدوى عن مناط تركيز الموقف الإلحادى ، ولكنه مع ذلك عرى موقفه الالحادى تماماً عند حديثه عن الوحى والنبوة، أما حديثه عن الألوهية فلم يكن يعدو الشك والتساؤل وليس النفى الصريح. على أن الأمر سيان بالفعل من حيث المآل، مثلما ذكر بدوى ، من حيث أن منتهى الإلحاد  هو تحطيم الاعتقاد أو الدين ، سواء سدد ضربته للألوهية أو للنبوة التى هى همزة الوصل بين الله والإنسان. والدليل على ذلك فى حالة يونس أن شكل موقفه عند الحديث عن الألوهية قد تراوح بين الشك والسؤال والنفى، ولكن هذه فى الحقيقة كلها شئ واحد. فالشك يأتى فى صورة خيار بين “إما” و “أو” أو يأتى فى صورة سؤال ، والشك فى جوهرة نفى لإثبات الوجود، وليس مجرد تعليق الوجود. وهكذا فالشك والسؤال والنفى ، سواء كان صريحاً أو مستتراً ، كلها أمر واحد، هو كيفية تجلى الموقف الالحادى ليونس سواء تعلق الأمر بالألوهية كالإلحاد الحديث أو بالنبوة كالإلحاد فى الوسط الحضارى الإسلامى.

الختــــام

ويثير الحديث عن الموقف الإلحادى ليونس السؤال المتعلق بما إذا كان هذا الموقف قد بلغ منتهاه ، الذى وصفه بدوى من قبل ، ويتصل بانهيار الاعتقاد والإعلان الكامل والصريح لوفاة الإله سواء مباشرة أو عن طريق النبوة؟ وتجعلنا إجابة هذا السؤال نجيب بحجرة واحدة على السؤالين الأصليين المتعلقين بما إذا كان يونس ما يزال حياً أم مات؟ وبما إذا كان قد وصل الى نهاية بارسا أم انتهى نهاية مختلفة عن وفاه بارسا؟ والمشكلة هنا أن يونس توقف ولم يصل إلحاده إلى منتهه ، إذ أنه لم يحسم أمره، وما زال يقف حائراً بين احتمالين لا ثالث لهما. أولهما : إذا كان الله موجوداً ، فيعنى ذلك أن الموت ليس نهاية كل شئ، وبالتالى يغدو افتراض عدم وجوده أكبر وأخطر مغامرة “خطر داهم استشعره حتى العظم”. ثانيهما : إذا كان الله غير موجود ، فيعنى ذلك أن الموت نهاية كل شئ، وبالتالى يغدو افتراض وجوده فى هذه الحالة أعظم خسارة لأنه يعنى تجنب كثير من الملذات ، والإنسان سيعيش مرة واحدة فقط. ومن هنا فيونس لم يمت كبارسا ولكنه ليس حياً ضمن الأحياء، بل تغدو مأساة يونس أعظم لأنه لا يستطيع استخدام أساليب الانعاش الصناعى لحياته من خلال إيجاد أديان بديلة أرضية كالأيديولوجيات أو بعث آلهة جديدة من مثوى الإله الميت كالإنسان أو الطبقة أو الشعب ، لأنه يعلم أن وفاة الإله تستلزم بالضرورة وفاة الإنسان، فلا وجود للثانى من دون الأول ، ولا عكس.

ولا يخرج المشهد الختامى للرواية كلها عن هذا الخطر فيونس يعلم الطفل الباكى كيف يطير طيارته الورقية وعندما بدأت تعلو نحو السماء ، كان قد تركها وترك وراءه المظروف الذى يحوى مذكرات برسا. وعندما وصلت الطائرة الورقية إلى السماء ، وصاح الطفل فرحاً بأنها وصلت إلى الله، كان يونس ما يزال على الأرض وطائرة الطفل هى التى وصلت إلى الله. تلك مأساة يونس مصورة فهو لا يستطيع الاستغناء عن الإله ولكنه لا يملك الوصول إليه. لا يمكنه تقبيله بعد أن فقد حاسة الإيمان ، ولكن بقايا الأشواق العلوية تجعله يحن إلى تقبيله، وكان حل هذه المعضلة أن يضع الطائرة فى يد الطفل أو أن يقبل عنه شخص آخر وجه الإله الجميل.

 

 

الهوامش

  • Luckner, Andreas, Martin Heidegger: Sein und Zeit, Paderborn: Verlag Ferdinand Schöningh, 2001,2 Aufl., pp.155-56.
  • محمود رجب ، فلسفة المرآة، القاهرة: دار المعارف ، 1994، ط1، ص 48.
  • المرجع السابق، ص 73.
  • المرجع السبق ، ص 74.
  • Burggraeve, Roger, Violence and the Vulnerable Face of the Other, Journal of Social Philosophy, vol.30, no. 1, Spring 1999, p43.
  • , pp.29-30.
  • , pp. 30-31.
  • Marion, Jean- Luc, The Voice without Name: Homage to Levinas, in Bloechl, Jeffrey (ed.), The Face of the Other & the Trace of God: Essays on the Philosophy of Emmanuel Levinas, NY: Fordham Univ. Press,2000, 1st ed, pp. 225-26.
  • Burggraeve, Roger, Violence and the Vulnerable …, op. cit, p.31.
  • Marion , Jean-Luc, op.cit,p226.
  • , p.224.
  • Ruitinga, Volker, An Exploration of the Concept Utopia : Guided by the Philosophy of Ernst Bloch, unpublished MA. Thesis, Rotterdam: Erasmus Universiteit, 2012,p25.
  • Chittick, William C., The Sufi Path of Knowledge: Ibn al – Arabi’s Metaphysics of Imagination, Albany: State Univ. of New York Press, 1989, p. 10.
  • , p.9.
  • , p.20.
  • , p.25.
  • , p.39.
  • محمود رجب ، المنهج الظاهرياتى فى الفلسفة المعاصرة ، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2006، ط1، ص 72.
  • المرجع السابق، ص 71.
  • انظر هامش رقم (1)، المرجع السابق ، ص ص 81-82.
  • Chittick, William C., op. cit., p.20.
  • جوزيبى سكاتولين، تأملات فى التصوف والحوار الدينى : من أجل ثورة روحية متجددة، القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2013، ص 102.
  • Foucault, Michel, Archaeology of Knowledge, translated by A.M Sheridan Smith, London : Tavistock Publications, 1972, 1st, p.211.
  • د.يمنى طريف الخولى، مشكلة العلوم الإنسانية : تقنيتها وإمكانية حلها، القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع 2011، ط1، ص ص 63-64.
  • لمزيد من التفاصيل ، المرجع السابق ، ص ص 48-53.
  • لمزيد من التفاصيل ، المرجع السابق ، ص ص 193-195.
  • المرجع السابق، ص 195.
  • Corbin, Henri, Swedenborg and Esoteric Islam, US: Swedenborg Foundation, 1999, 2nd ed, pp.4-7.
  • لمزيد من التفاصيل انظر:

Durkhein, Emile, Suicide, A Study in Sociology, London: Routledge Classics, 2002, 1st ed, pp. xxxiv- xxxviii.

  • عبد الرحمن بدوى ، من تاريخ الإلحاد فى الاسلام، القاهرة: دار سينا ، 1993، ط2، ص ص 7-8.
  • ابن عطاء الله السكندى، حكم ابن عطاء الله: شرح العارف بالله الشيخ زروق، تحقيق الإمام عبد الحليم محمود والدكتور محمود بن الشريف، القاهرة: الشركة القومية للطبع والنشر والتوزيع ، 2010، ص 42.

 

 

 

 

 

مقالات ذات صله

1 تعليقات

  1. رشا ماهر البدري

    قراءة تحليلية شيقة للغاية. لم أقرأ من مدة طويلة جدًا، منذ وفاة د.عبد الغفار مكاوي تحديدًا، دراسة تحليلة بهذا العمق والدقة. تناول مسهب، والتفاعل رحب، وبنية التأويلات في اتساق مدهش. على قدر جمال الرواية وما بها من تفاصيل إنسانية، وجودية ووجدانية، رغم معرفتي بها مترجمة للعربية وليس النص الأصلي، فإن دراستكم “نص” بأكمله. دراسة كادت تزداد جمالًا ورونقًا ووعيًا.
    شكرًا لكم د.صفار، وفي انتظار المزيد من الروائع.
    وفقكم الرحمن دائمًا.

    الرد

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!