القرآن الكريم في فكر سيد حسين نصر
بقلم: زياد المي – تونس
لا يمكن الحديث عن القرآن عن سيد حسين نصر دون معرفة خلفيته النظرية والعقائدية والفكرية، وخاصة نظرته للدين عموما وللإسلام خصوصا، والتي يشترك فيها مع رواد “المدرسة التقليدية” التي نشأت في الغرب منذ عشرينات القرن العشرين حتى اليوم، هذه المدرسة وعلى رأسها السويسري فريتجوف شوان FrithjofSchuon (ت1998)، والذي عبّر حسين نصر في عدة كتب عن تبنيه لمقولاته وإعجابه بأطروحاته؛ هذه المدرسة التقليدية تقوم على مسلّمات تحكم تعاملها مع المسألة الدينية، من أهم هذه المسلّمات المرتبطة بموضوعنا هي الإقرار بما يسمى” الوحدة المتعالية للأديان”the transcendent unity of religions والذي توصلت له هذه المدرسة عن طريق بحثها الدائم عن أصالة متعالية جامعة للأديان قادرة على تفسير كل هذا التعدد الديني الذي عرفه البشر، فتعطي لكل دين شرعية وجود مستمدة من هذه الوحدة الأصلية؛ وصل أبناء هذه المدرسة إلى تحديد نوع من الوحدة الدينية الجامعة وقد حاولوا جاهدين فصلها عن المعنى المتداول حديثا، وهذا المعنى الحديث يقر بوحدة تقوم على توفيقية دينية syncrétisme، أو تبحث عن الوحدة الجامعة للأديان من منظور علموي بحت أي اعتبار أن الأديان متساوية من حيث هي مؤسسات لاعقلانية و بمجرد خضوعها للمناهج العلمية الحديثة قد تفقد الأديان نقاط تمايزها وتضاريس سماتها العقائدية والثقافية وتستوي في نسبيّة مطلقة لا تُثبت أي خصوصية لأي دين.
ولذلك غالبا ما تذهب هذه التفسيرات المعلمنة إلى ردّ أي وحدة لمسلمات تاريخية وأنثروبولوجية وذلك عن طريق عزل أي “قداسة” قد تقوّض هذه الوحدة باعتبار أن القداسة عنصر يتناقض مع مسلمات النمط المعرفي الحديث القائم على الموضوعية والنسبية في معالجته للقضايا الإنسانية المعقدة و خاصة الدين، ومن ناحية ثانية يكون الدافع لدعوات “الوحدة الدينية غير المتعالية” ليس المنهج العلموي فقط بل ضرورات العولمة وهو ما ذهب إليه عالم المستقبليات الفرنسي جاك آتالي Jacques Attali بدعوته لما يسميه La Religion Lego أي أن عمليات العولمة ستعزز القبول الدائم بأنماط جديدة متنقلة ومتغيرة تحوّل كل دين، وتجعله أكثر قبولا بالكونية، حتى العلمنة حسب رأيه التي فرضت نوع من الوحدة العلموية للأديان، سيخفت تأثيرها السلبي على الأديان لصالح نظام تعددي واحد تندمج فيه الأديان طوعا لا كرها.
المدرسة التقليدية تختص بمفهوم يسميه سيد حسين نصر Tradition primordial أي “تقليد أصلي” يسمى في الإسلام “الدين القيم” أو “السند” أو “الحنيفية الأولى” أو الشجرة ذات الأصل الثابت و الفرع الممتد للسماء المثمر كل حين، أو ببساطة فعل تسليم الأمر لله؛ كل الأديان تشترك في هذا المعنى وما اختلافها إلا اختلاف صُور طارئة ممكن التعالي عليها، وذلك بالبحث عن “حضور القداسة الإلهية” في كل دين وكيف استطاع كل دين أن يُعبر عنها، لذلك تكمن الوحدة الدينية عند المدرسة التقليدية في “الأصل” أي كلما رجع صاحب دين لأصل دينه كلما اقترب من هذه الوحدة، وهذا يخفي عقيدة ما وموقفا صارما من الحداثة والعصر الحديث يتجلى في إقرار هذه المدرسة، بأن الحداثة هي مرحلة علمنة و تسيد للكم و للمادة فهي حاربت القداسة في مختلف تجلياتها، أما العقيدة فهي مرتبطة بالإرث الهندوسي في الدورات الزمنية و الكونية Cycles Cosmiques الذي يعتبر هذا العصر هو عصر الكالي يوغا (कलियुग)/ Kali Yugaأي ذلك العصر الحديدي لعالم الروح و هذا التصور يتفق فيه مع الرؤية الإسكاتولوجية في الأديان التوحيدية.
انعكست كل هذه الخلفيات الفكرية والعقائدية على رؤية حسين نصر للقرآن الكريم، حيث لم يَعُد كتابا يُدرس بأسلوب أكاديمي بارد، يقوم على مقارنات مورفولوجية بين الإسلام و بقية الأديان الكتابية، فمثلا نلاحظ هذا الأسلوب في الاستشراق المسيحي الذي يقيم “مقارنات بين الرسول والمسيح وبين العهد الجديد والقرآن وبين العربية والآرامية وهي اللغة التي تكلم بها المسيح…، وكأن الدين الواحد المعياري هو المسيحية والذي صار هو الصورة المركزية التي تقاس عليها بقية الأديان؛ حسب سيد حسين نصر قد تفيدنا هذه المقارنات معرفيا لكن لا يمكنها أن تجيب عن سؤال مركزي تجاهل النمط المعرفي الحديث الإجابة عنه، وهو “ماذا يعني القرآن للمسلمين؟ “كيف يتجلى حضوره المقدس أو divine présenceعند المؤمن به؟ هذا السؤال هو ما ميّز أتباع المدرسة التقليدية، فالتجليات المختلفة لأصل واحد تجعل المقارنات المورفولوجية بين دين وآخر من خلال البحث عن تطابقات بين الأديان قد يكون هذا طامسا لخصوصية كل دين، وقد يتعسف عليه خاصة عندما نخرج باستنتاجات مفادها أن “القرآن” هو بمثابة “العهد الجديد”عند المسيحيين من دون البحث عن “الحضور المقدس” للكتاب في الدين الإسلامي وعند المؤمنين به؛ حسب سيد حسين نصر القرآن الكريم عند المسلمين ليس مجرد كتاب لدين كتابي بتعبير علم تاريخ الأديان المقارن بل هو “كلام الله” بما تحمله هذه العبارة من تبعات عقائدية وطقسية ورمزية…
و كما ذكرنا سابقا أن الذي يفسر نظرة سيد حسين نصر للقرآن هي خلفيته المستسقاة من المدرسة التقليدية والتي تقر بأصل واحد متعال، يحاول نصر البحث عمّا يوافق الحضور المقدس للقرآن الكريم في الأديان الأخرى والمسيحية بالخصوص، ولمعالجة هذه القضية يحاول نصر أن لا يدخل في النقاشات الكلامية في القرون الوسطى التي عرفها الإسلام حول “خلق القرآن” وهل هو كلام الله أم هو كتاب مخلوق …؟
لتجاوز هذه الإشكالية المركزية المترتبة عن اعتبار القرآن كلام الله يستحضر نصر أربعة رموز مركزية “مريم العذراء” و”السيد المسيح” و “النبي الأمي” و”كتاب الله”، من خلال هذه الرموز يرى أن السيدة مريم عذريتها كأمية النبي صلى الله عليه وسلم أي أنها أنجبت عيسى “كلمة الله” من دون أن يمسّها بشر، و النبي رغم أميّته استطاع أن ينطق بالوحي أي القرآن الكريم؛ هذه المقاربة تجعل حضور المسيح المقدس في المسيحية كحضور القرآن الكريم في الإسلام و جسد المسيح و دمه اللذان يعتبران هما بقية الله الباقية في المسيحية الأرثودوكسية الشرقية يعادل حضور القرآن الكريم، بل الصليب نفسه والذي يُجله المسيحيون رمزه القرآن الكريم في الإسلام، و يذهب نصر برمزيته أبعد من ذلك فيعتبر طهارة السيدة مريم من المس البشري كأمية النبي والتي تشبه الصفحة البيضاء التي تكتب عليها”كلمات الله”، فالوحي في المسيحية يكون في المسيح نفسه وفي الإسلام هو القرآن الكريم.
لم يكتف سيد حسين نصر بالبحث عن الوحدة المتعالية للأديان متجاوزا المقارنات النمطية بل حاول أن يبين أن لغة الوحي القرآني “العربية” ليست لغة عادية بل هي لغة مقدسة مُسحّرة Langue sacré magique وهذا ما يفسر أن المسلم حتى الأعجمي من الواجب عليه تعلم ما يكفيه ليقيم فروضه الدينية و ليس فرضا عليه إتقان اللغة العربية بل هي لغة طقسية فيها “البركة” الإلاهية و هو شكل من أشكال الاستحضار للمقدس حسب نصر، لذلك لغة القرآن كلغة نصوص الفيدا في البوذية، فلا يجب على البوذي أن يكون متقنا للسنسكريتية حتى يكون صالحا بل يكفي أن يعرف النطق بتلك الحروف،و في المسيحية بما أن المسيح هو “كلمة الله” ووحيه المتجسد في صورة بشر، فالقداسة بقيت لدم المسيح و جسده و ليس للغة العهد الجديد و هو ما يثبته طقس الخبز(جسد) و الخمر(دم) وقد تم التخلي عن هذه القداسة للجسد مع الفاتيكان II في الكاثوليكية اللاتينية عند تبني عقيدة ازدواج الطبيعة و كذلك في البروتستنتية، والتي يعتبرها نصر انحطت بالقداسة.
القرآن عند سيد حسين نصر مزدوج التأثير هو كتاب للقيادة والتشريع أي فيه جانب يمكن عقله، و لكن هو كتاب مقدس بالمعنى السحري للكلمة فكل حرف فيه حضور مقدس و لذلك يبقى أجر تلاوة القرآن وبركته و إن تعتع فيه و لم يُفهم، فكما هو الصليب (رمز المسيح) مُقدس يستعاذ به كذلك كل حرف من حروف القرآن مقدسة و يستعاذ بها، و لذلك يشدد نصر على اعتبار القرآن ليس مجرد لاهوت مُعد للعقول خاضع لمنطق واضح بل نص مقدس لا يمكن مقارنته بأي نص بشري كما هو الصليب لا يمكن مقارنته بأي صليب آخر.
و يحضر أيضا رمز الصليب برمزية أخرى ليست جسد المسيح هذه المرة بل باعتباره رمزا فيه تقاطع بين العمودي والأفقي، فالمدرسة التقليدية تفرّق جيدا بين المتعالي والمحايث، المتعالي هو الصراط المستقيم العمودي، أما المحايث فهو الأفقي و يدخل في ذلك كل الحركات الفاقدة للسند أو التوفيقية بين الأديان و غيرها…، أو تلك التي ضاعت فيها القداسة ولم تعد قداسة فيها تتجه عموديا بل هي تائهة يمينا و يسارًا لفقدانها لسندها، أما الاتجاه الثالث من الصليب وهو الذي يتجه للأسفل هم المعادون مباشرة للصراط المستقيم ممن غضب الله عليهم وهم يقفون في جهة تقابل التعالي، ويقف الإنسان في نقطة تقاطع الصليب بين كل هذه الخيارات والعوالم، كل هذه الرمزية موجودة في فاتحة القرآن و في الآية السابعة تحديدا.
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ( الاتجاه العمودي/ المتعالي للصليب)
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ (الاتجاه الأفقي/المحايث للصليب عن يمين و عن شمال)
وَلاَ الضَّالِّينَ ( الاتجاه للأسفل )
هذه الخلفية تجعل من سيد حسين نصر يستنجد بالتفسيرات الباطنية للقرآن الكريم وخاصة الإرث الصوفي السني والعرفاني الشيعي ولا ننسى أنه اشتغل مع شيخ المستشرقين هنري كوربان Henry Corbin (ت 1978) في مشاريع فكرية عديدة حول الفلسفة الإسلامية و تاريخ الإسلام في إيران و الهند وغيرها من المشاريع، هذا الاهتمام بالجانب الأسراري لم يمنعه من العناية بالفهم المتداول و الرؤية الاصولية للقرآن التي يرى صلاحيتها إن لم تنف مستويات اخرى من الفهم، فاللافت للنظر في مجمل طرح سيد حسين نصر هذا التوفيق المشترك بينهما و يتجلى هذا بالفعل في تفسيره الأخير للقرآن الكريم THE STUDY QURAN A New Translation and Commentary و هذا التفسير حرص فيه على مزيد من التوفيق بل جعله تفسيرا يتعالى على الخلافات الطائفية التي تعانيها الأمة الإسلامية الآن بين فهم سني و فهم شيعي للإسلام، لن نفهم هذه المسألة إلا إذا اعتبرنا أن سيد حسين نصر يتوجه بتفسيره للكتاب الأقدس عند المسلمين إلى مسلمي المهجر بالخصوص فهو أمام مسؤوليّة الأخلاقية انطبعت فعلا على أعماله السابقة و على عمله هذا الذي يظهر أنه أراد أن يتوجه فيه لمتلقين من مسلمين العاديين، هؤلاء الذين يتلون كتاب الله في أعيادهم و في طقوسهم و على كل أحيانهم و يرافقهم ببركته و بأوامره و بما يحويه من عقائد …، حرص نصر في تفسيره على أن يكون متخففا من أي تكلّف أكاديمي أو منهجي، وقد ساعده في ذلك المنهج الانجلوسكسوني الذي يتجه لعرض الأشياء في عالمها التداولي من دون تركيبها وتلبيسها، بالإضافة لطبيعة الاستشراق الأمريكي خاصة المدرسة التي اختصت بدراسة “حضارة الإسلام”، و حرصت كل الحرص على الأسلوب التصويري العملي قصد فهم أكثر عمق لتجليات المقدس في الأديان بعيدا عن أي أحكام قبلية، لقي تفسير سيد حسين نصر قبولا في الأوساط دينية العلمية في الأكاديميات الأمريكية خاصة في هذا الظرف من التحديات التي يعيشها الإسلام في المهجر والذي هو تحت سطوة الإرهاب والإسلاموفوبيا و العلمنة المباشرة و غير المباشرة.
و الحاصل من القول أن سيد حسين نصر يتعامل مع القرآن الكريم بخلفيات عدة أثرت على نظرته له منها انتمائه المعلن للمدرسة التقليدية، و حمله لمهمة أخلاقية وهي إرشاد مسلمي المهجر، بالإضافة لسعيه إلى التعالي على الخلافات المذهبية أو القوميّة و حتى الدينية في مستوى أعمق.
مقال جميل