تمهيد- المدرسة الفلسفية العراقية المعاصرة التي ظهرت مع قيام قسم الفلسفة في العراق عام 1949م، أنبتت في داخلها مدرسة متميزة في التصوف، ظهر فيها أعلام كبار كان لهم باع طويل في درس التصوف من حيث فلسفته وتاريخه وشخصياته ومناهجه وطرائقه وميتافيزيقاه، وتحقيق نصوصه وشرحها لاسيما عند بعض كبار صوفية الإسلام.
يمثل المدرسة الصوفية العراقية شخصيات كبيرة يمكن تقسيمها على أجيال، يمثل الجيل الأول في هذا الميدان، الدكتور كامل مصطفى الشيبي (ت2006م)، والأستاذ الدكتور قاسم السامرائي (؟)، والأستاذ الدكتور عرفان عبد الحميد فتاح (ت2007) ، موضوع بحثنا ودرسنا هنا، والأستاذ مدني صالح (ت2007)، والأستاذ الدكتور ناجي عباس التكريتي (1931-؟)، والدكتور عبد القادر العاني (؟)، والأستاذ الدكتور علي حسين الجابري (1942-؟)، وغيرهم ممن تخرج على أيديهم جيل من المتخصصين بالتصوف وفلسفته، ونظرية المعرفة الصوفية، والأدب الصوفي، وغير ذلك من موضوعات التصوف.
أما الجيل الثاني فهو الذي نبت من زرع الجيل الأول وأصبح باسقاً مثله، ويمثل هذا الجيل في الدرس الصوفي العراقي المعاصر، الباحثة المدققة الدكتورة نظلة أحمد نائل الجبوري (1956-؟)، والدكتور عبد القادر موسى المحمدي والدكتور ناجي حسين جودة (1955-؟)، والدكتور ياسين حسين، والدكتور جواد كاظم عبهول، وغيرهم ممن لا تسعف الذاكرة ذكرهم.
وبما أن هذا البحث غير متخصص بسرد منهج ونتاجات شخصيات الجيلين في المدرسة العراقية المعاصرة في التصوف، سوى ما كتبه عرفان عبد الحميد فتاح في هذا المجال، لهذا فإن البحث سيتوجه للكشف عن إسهام هذه الشخصية في المدرسة الصوفية العراقية المعاصرة، وما قدمته من نتاجات تخص التصوف فلسفة وتاريخاً ومنهجاً، وطرائقاً، وتجربة ونظرية معرفة، وموضوعات أخرى. وقد سبق وأن تناولنا في مقال سابق نشر في موقع كتابات تحت عنوان منهج التأويل في الخطاب الفلسفي العراقي المعاصر، عرفان عبد الحميد فتاح إنموذجاً، سيرة الرجل بالتفصيل، ولهذا سوف لن نكرر ما ذكرناه هناك، بل نحيل عليه للإطلاع.
أولاً- مؤلفات عرفان عبد الحميد فتاح وأبحاثه في التصوف:
1. التصوف صفاء ومشاهدة، بحث، مجلة كلية الآداب، جامعة بغداد، ع15، 1971-1972.
2. نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها، كتاب، بيروت 1974.
3. خصائص التجربة الصوفية، بحث، مجلة الرسالة الإسلامية، بغداد 1975. أعيد نشره في كتابه دراسات في الفكر العربي الإسلامي، عمان 1991.
4. نقد ابن خلدون للتصوف، بحث، مجلة الرسالة الإسلامية، بغداد (؟). أعيد نشره في كتابه دراسات في الفكر العربي الإسلامي، عمان 1991.
5. التصوف بين الأصالة والتحريف، بحث، مجلة الرسالة الإسلامية، بغداد (؟).أعيد نشره في كتابه دراسات في الفكر العربي الإسلامي، عمان 1991.
6. معالم التصوف البغدادي وخصائصه، بحث، مجلة الرسالة الإسلامية، بغداد (؟).أعيد نشره في كتابه دراسات في الفكر العربي الإسلامي، عمان 1991.
7. مدرسة العراق الصوفية، بحث، ضمن بحثه التفصيلي المدرسة العراقية (علم الكلام، الفلسفة، التصوف)، والصادر في كتاب العراق في موكب الحضارة، الجزء الثالث، بغداد 1988.
8. في التصوف المقارن، ملاحظات منهجية، بحث، صدر في مجلة إسلامية المعرفة، السنة 9، ع36، ربيع 2004م.
9. مناجاة فكرية بين حجة الإسلام الغزالي وخادم القرآن الشيخ النورسي، بحث، مجلة النور للدراسات الحضارية والفكرية، ع2، تموز 2010 ، ويبدو ان هذا البحث قد صدر بعد وفاته.
ثانياً- فلسفة التصوف
1. تعريف التصوف: في كتابه الرئيسي نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها، يضع عرفان عبد الحميد فتاح فصلاً مطولاً يعرض فيه لتعريف التصوف، مفتتحاً القول بصعوبة وضع حد أو رسم للتصوف، عند كل من اشتغل بالتصوف أو كتب عنه سواء من قدماء الصوفية المسلمين أو من المحدثين من فلاسفة الغرب، مستنداً في ذلك على مرجعيات عربية إسلامية قديمة واستشراقية حديثة.
فمن الكتب العربية القديمة التي اعتمدها عرفان عبد الحميد فتاح في حكمه هذا: كتاب الكلاباذي (ت358هـ) التعرف لمذهب أهل التصوف، و كتب أبي حامد الغزالي (ت505هـ) مثل إحياء العلوم الدين والمنقذ من الضلال، والتي تعتمد في مرجعياته الصوفية كتاب قوت القلوب في معاملة المحبوب لأبي طالب المكي (ت386هـ)، وكتب الحارث المحاسبي، والمتفرقات المأثورة عن الجنيد البغدادي وأبي بكر الشبلي وأبي يزيد البسطامي، فضلاً عن كتاب جلال الدين الرومي (ت672هـ) مثنوي ومعنوي، وكتاب الشيخ أبو حفص عمر السهروردي (ت632هـ) عوارف المعارف، وموقف ابن خلدون (ت808هـ) تبعاً لمؤلفاته المقدمة وشفاء السائل في تهذيب المسائل.
أما الكتب والمرجعيات الاستشراقية التي اعتمدها في الحكم على صعوبة وضع تعريف للتصوف، فكانت بشكل رئيسي كتابي المستشرق أرنولد نيكلسون الصوفية في الإسلام، ترجمة نور الدين شريبة، القاهرة 1951، وفي التصوف الإسلامي، ترجمة أبو العلا عفيفي، القاهرة 1947، فضلاً عن كتاب الفيلسوف الأمريكي وليم جيمس، التجربة الدينية .
ويؤكد عرفان عبد الحميد فتاح مرة أخرى هذا الحكم على صعوبة وضع تعريف جامع مانع للتصوف على حد قوله، وذلك في أبحاثه الموسومة، الأول تحت عنوان خصائص التجربة الصوفية والمنشور ضمن كتابه دراسات في الفكر العربي الإسلامي، بيروت 1991، ص291 وما بعدها، والثاني نقد ابن خلدون للتصوف والمنشور ضمن كتابه دراسات في الفكر العربي الإسلامي، سالف الذكر، والثالث بحثه في التصوف المقارن، ملاحظات منهجية.
إذ يرى عرفان عبد الحميد فتاح أن التصوف ظاهرة دينية تتسم بالعالمية، فلا تتقيد بحدود الزمان والمكان والأجناس واللغات والأديان، أو الدوائر الحضارية، فلا وطن لها ولا تاريخ ميلاد، فمع هذه السمة العالمية للظاهرة، فإنّ من الصعب إنْ لم يكن من المستحيل وضع تعريف جامع مانع للتصوف يتضمن كل مفرداته، كتجربة جوانية وجدانية وخبرة دينية، وهو ما استقرت عليه آراء الباحثين في الظاهرة على اختلاف أديانهم وتباين مناهجهم، ممن تناولوها بالدرس والتحليل، سواء من الصوفية أنفسهم أو ممن درسها من مؤرخة التصوف المقارن، فليس لتعريف مهما دق أن يكون ذا معنى شاملاً وواضحاً، ويتضمن جملة الخبرات التي توصف عادة بالوعي الصوفي، إنه شَبَه المفاهيم النفسية الأخرى التي لا تسمح بطبيعتها بالتعريف، وتستعصي عليه.
بناءً على ذلك، سوف نعرض هنا لموقف عرفان عبد الحميد من صعوبة إيجاد تعريف للتصوف، جامع مانع، بعد أن نعرض لوجهة نظر ابن خلدون التي قدمها مسوغاً لحكمه هذا.
يقول: أما العلامة ابن خلدون، فقد تعرض للتجربة الصوفية، وأشار على صعوبة وضع تعريف شامل للتصوف، وصرح أن محاولة الكثيرين للتعبير عن التصوف بلفظ جلي يعطي شرح معناه، لم يفسر قولاً من أقوالهم بذلك، وهو يرجع (أي ابن خلدون) هذه الصعوبة لعملين:
الأول: إن تعريفات التصوف لم يقصد الصوفية بها تعريف التصوف تعريفاً علمياً شاملاً يستوعب كل صوره وجزئياته، بل قصدوا بها التعبير عن أحوالهم الخاصة، في لحظة معينة محدودة، فهي تعبير عن مواجدهم وأحوالهم ومقاماتهم التي يتدرجون فيها.
ثانياً: إنَّ التطور السريع الذي اتسع فشمل كل مرافق الحياة الإسلامية نتيجة لاتساع الدولة الإسلامية، واشتمالها على بلاد ذات ثقافات دينية سابقة على الإسلام،….، تعرضت كلمة التصوف لهذا التطور فكانت تتسع فتكتسب بمرور الزمن معاني جديدة تبعدها شيئاً فشيئاً عن مدلولها الذي عرف بها يوم وجدت،…، وهكذا رأى ابن خلدون أن المعاني الجديدة التي طرأت على كلمة التصوف كلما امتدت بها الحياة كانت ذات أثر بعيد في تعدد تعاريف التصوف، كما أن هذه الكلمة وقد تعددت معانيها واتسعت لم يعدّ ينطبق عليها حدٌّ واحد.
لهذا يقدم عرفان عبد الحميد فتاح عرضاً لجملة من التعريفات التي قدمت للتصوف، القصد منها الوصول إلى تعريف يقرب من معانيه ويوضح مبناه، ويحدد غايته.
فمن هذه التعريفات للتصوف تعريفات ظهرت بعد القرن الثالث للهجرة التاسع للميلاد، تأخذ بالجانب الأخلاقي، إذ عنت هذه التعريفات بالكلام في دقائق أحوال النفس والسلوك، وغلب عليها الطابع الأخلاقي، وهذا الاتجاه شاع عند كل من أبي حفص الحداد، بقوله: التصوف تمام الأدب، وأبي الحسين النوري (ت265هـ)، بقوله: ليس التصوف رسماً ولا علماً، ولكنه خلق، وأبي بكر الكلاباذي (ت233هـ)، بقوله: التصوف خلق، فمن زاد عليك في الخلق، فقد زاد عليك في الصفاء.
ولكن هذه التعريفات للتصوف في بعدها الأخلاقي، يرى فيها عرفان عبد الحميد فتاح، تعريفات لا تعبر عن التصوف تعبيراً دقيقاً، ودليله في هذا الحكم، أن هؤلاء الذين ذكروا هذه التعاريف الأخلاقية ذكروا هم أنفسهم تعريفات أخرى، وذلك أمر يدل على الأقل دلالة لا لبس فيها، أنهم لم يروا كفاية الجانب الأخلاقي في تحديد التصوف وتعريفه.
وفي مقابل ذلك هناك من الصوفية من اتجه في تعريفه للتصوف إلى التسوية بين الصوفي والزاهد في المفهوم، فحينما يسمع كثير من الناس كلمة الصوفي يفهم منها معنى الزاهد، وليس من شك أن الصوفي، لا يتعلق قلبه بالدنيا، وهو شديد الرغبة عنها وعن ترفها وملذاتها، بيدَّ أن الزهد في الدنيا شيء والتصوف شيء آخر. فلا يلزم من كون الصوفي زاهداً أن يكون التصوف هو الزهد.
وخير من يمثل هذا الموقف في التفرقة بين الزهد والتصوف، عمر السهروردي صاحب كتاب عوارف المعارف، إذ يقول: التصوف غير الفقر، والزهد غير الفقر، والتصوف غير الزهد، فالتصوف اسم جامع لمعاني الفقر ومعاني الزهد مع مزيد أوصاف وإضافات لا يكون الرجل بدونها صوفياً، وإن كان زاهداً وفقيراً، ومثل هذا الموقف في التمييز بين التصوف والزهد نجده عند القدماء من أمثال ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس، وابن خلدون في كتابه شفاء السائل في تهذيب المسائل، وعند المحدثين ولاسيما المستشرقين كولدزيهر في كتابه العقيدة والشريعة في الإسلام، ونيكلسون في كتابه في التصوف الإسلامي.
أما ابن خلدون فقد نظر للتصوف من وجهة النظر السُنية الملتزمة، بقوله: هو حسن رعاية الأدب مع الله في الأعمال الظاهرة والباطنة بالوقوف عند حدوده، ويعتقد عرفان عبد الحميد فتاح أن هذا التعريف للتصوف هو الذي يميز هذه الطريقة، ويعطي تفسيرها على ما كانت عليه عند المتأخرين من السلف، والصدر الأول من المتصوفة.
وهناك من الباحثين من خلط بين الصوفي والعابد، فإذا سمعوا شخصاً كثير العبادة، قالوا عنه: إنه صوفي، ولا ريب أن الصوفي كثير العبادة،…، ولكن هذا التعريف للتصوف لا يقبل به عرفان عبد الحميد فتاح، إذ يستند في التفرقة بين العابد والزاهد والصوفي على كتاب الإشارات والتنبيهات للفيلسوف ابن سينا (ت428هـ)، إذ يقول هذا الأخير، ما نصه: إنَّ المُعرض عن متاع الدنيا وطيباتها يخص باسم الزاهد، والمواظب على فعل العبادات من القيام والصيام ونحوهما يخص باسم العابد، والمنصرف بفكره إلى قدس الجبروت مستديماً لشروق نور الحق في سره يخص باسم العارف. والعارف عند ابن سينا هو الصوفي، وشبيه بقول ابن سينا ما ذهب إليه أبي العباس أحمد بن زروق، بقوله: من غلب عليه طلب العبادة كان عابداً، ومن غلب عليه ترك الفضول كان زاهداً، ومن غلب عليه النظر للحق بإسقاط الخلق كان عارفاً.
وهذا الموقف الأخير من تعريف التصوف أصبح ينظر إليه من خلال مناهج المعرفة عند الصوفية ومذاهبهم في الوجود. وهو ما نجده في أقوال بعضهم ممن نقل التصوف من مضمون العبادة والزهد إلى أنظار فلسفية ومذاهب في طبيعة الوجود والمعرفة.
وبعد أن استعرض عرفان عبد الحميد فتاح التعريفات المتعددة للتصوف وربطها ببنيتها الأخلاقية والمعرفية والوجودية، نجده يأخذ بتعريف للتصوف قال به أبو بكر الكتاني (ت322هـ)، ونصه: التصوف صفاء ومشاهدة. إذ يعدُّهُ تعريفاً شاملاً متكاملاً للتصوف، باعتباره مذهباً في المعرفة له وسيلته، وينتهي إلى غاية، أما الوسيلة فهي الصفاء، وأما الغاية فهي المشاهدة، فالوسيلة تؤدي إلى تصفية القلب، بقهر الشهوات ومغالبة الهوى،…، والغاية هي الوصول إلى معرفة الله تعالى بتحصيل صفات الكمال والقوى الروحية التي تؤدي إلى الوصول إلى الله.
ولكن يبقى اختيار عرفان عبد الحميد فتاح للتعريف الأخير للتصوف، على وفق رأينا محط نظر، ومثار لإشكاليات عدّه، منها: إنّ اختياره أيضاً وقع تحت تأثير البعد الفلسفي الوجودي والمعرفي والنفسي السايكلوجي، مبتعداً عن البعد الخلقي والديني له، ولربما جاء ذلك من تخصصه في الفلسفة وتأليفه فيها، فضلاً عن عدم ممارسة التصوف تجربة روحية من قِبَله، على الرغم من أنه جاء من بيئة دينية محافظة كان للتصوف فيها حضوراً بارزاً.
2. اشتقاق مصطلح التصوف
يذهب عرفان عبد الحميد فتاح إلى القول إنّ اشتقاق مصطلح التصوف، اختلف فيه الباحثون والدارسون والمهتمون بشأن التصوف، ناهيك عن كبار رجالات التصوف، إذ يصرح في بحثه التصوف المقارن بالقول: أن الباحثين في تاريخ التصوف المقارن أرجعوا جذر المصطلح Mysticism في اللغات الأوربية إلى أنه مشتق من الكلمة اليونانية Muein، التي تفيد الصمت وكم الأفواه، وهي كلمة في أصلها اليوناني كانت وصفاً للمراسيم السرية الخاصة، والانخراط في صفوف الأديان الظلامية السرية، والتي كانت تفرض على المُنضّم إليها الالتزام بالسرية التامة والامتناع عن إفشاء أسرار الجماعة، ضناً بها على الأغيار، ومخافة من عداوة خصومهم لهم.
أما في كتابه نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها، فيقدم رؤى أخرى لاشتقاق هذا المصطلح، قائلاً: إنَّ اشتقاق لفظ الصوفي موضع خلاف بين العلماء قديماً وحاضراً،…، مما حمل هذا الخلاف العلماء قدماء ومحدثين على تقديم فرضيات متعددة، ويمكن حصرها في ثلاثة أوجه.
ولكن عرفان عبد الحميد فتاح قبل أن يجلب تلك الفرضيات يجلب نص أبي القاسم القشيري (ت465هـ) الذي يقول: هذه التسمية (صوفي) غلبت على هذه الطائفة، فيقال رجل صوفي، وللجماعة صوفية، ومن يتوصل إلى ذلك يقول له متصوف، وللجماعة متصوفة، وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق، والأظهر أنه كاللقب.
أما أوجه الاختلاف كما قلنا في اشتقاق مصطلح الصوفي، فهي على وفق رأيه، تقوم على ثلاثة فروض، فضلاً عن رابع، وهي:
الأول- أن يكون الصوفي منسوباً إلى (صوفة)، وهو اسم رجل كان قد انفرد بخدمة الله سبحانه وتعالى عند بيته الحرام، واسمه (الغوث بن مرّ)، فانتسب الصوفية إليه لمشابهتهم إياه في الانقطاع إلى الله، وهذا هو رأي ابن الجوزي (ت598هـ) في تلبيس إبليس، والطبري في تاريخه، وزكي مبارك في كتابه التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق، والزمخشري في أساس البلاغة، والفيروز آبادي في القاموس المحيط، وكامل مصطفى الشيبي (ت2007م) في بحثه رأي في اشتقاق كلمة صوفي، مجلة كلية الآداب،1962، في حين خالف هذا الرأي السراج والكلاباذي وأبي القاسم القشيري والسهروردي، وعرفان عبد الحميد فتاح.
ويستند عرفان عبد الحميد فتاح في رفضه هذا الاشتقاق للفظة تصوف تبعاً لشخص اسمه صوفة، على رؤية تذهب إلى ربط مجمل الظاهرة بالبعد الاجتماعي والتاريخي، بعدِّ أن العربي في جاهليته كان قليل الاكتراث بالدين، ضعيف الاستجابة للمنبهات الروحية، وذلك أمر فرضته طبيعة الحياة الصحراوية القاسية، التي لا تعين على نمو وازع ديني قوي عند أبنائها، فضلاً عن أن شواهد شعرية قوية من الشعر الجاهلي والتاريخ الجاهلي، تدل على أن الوثنية العربية قبيل الإسلام، كانت وثنية متفسخة متهرمة، لم تتمكن من الاستيلاء على مشاعر العربي ووجدانه وفكره وعواطفه، ناهيك عن لا عبرة بالأخبار الضعيفة التي يراد بها على أن الكلمة لها وجود في عصر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أو قبل الإسلام، فإن متصوفة القرنين الثالث والرابع الهجريين اعتبروا أنفسهم الورثة الروحيين للنبي، فلم يترددوا في اصطناع الأدلة التي تؤيد دعواهم، وربط تجاربهم الروحية بالسُنّة النبوية، أو بحياة العرب الروحية قبل الإسلام.
الثاني- وهذا الفرض يذهب إلى أن مصطلح صوفي إنما يرجع أصله إلى كلمة (سوفيا) اليونانية، وهذا الرأي تبناه من القدماء أبي الريحان البيروني (ت440هـ)، ومن المستشرقين جوزيف فان هامر، ومن العرب المحدثين جورجي زيدان ومحمد لطفي جمعة. وملخص رأي البيروني يفيد إلى أن لفظة (سوف) في اليونانية تعني الحكمة، وبها سمي الفيلسوف فيلاسوفيا، أي محب الحكمة، فلما ذهب في الإسلام قوم إلى قريب رأيهم سموا باسمهم، ولم يعرف اللقب بعضهم، فنسبهم للتوكل إلى الصفة، وأنهم أصحابها في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، فصُحِفَ بعد ذلك فصيَّر من صوف التيوس. أما المستشرق جون فان هامر فذهب إلى أن الصوفية ينسبون إلى الهنود القدماء المعروفين باسم الحكماء- العراة، وان الكلمتين العربيتين صوفي وصافي مشتقان من نفس الأصل الذي اشتق منه الكلمتان اليونانيتان سوفوس وسافيس، وأيده فيما ذهب إليه من الباحثين العرب جورجي زيدان ومحمد لطفي جمعة.
ولكن عرفان عبد الحميد فتاح يعترض على هذا الفرض، ويعدّهُ غير صحيح، لأن كلمة سوفيا التي تدل على الحكمة عند اليونان قُصِد بها ذلك المنهج الذي قوامه البحث النظري المجرد في الوجود للوقوف على حقائقه وماهيته، مما لا يتصل بالسلوك العملي إلا قليلاً، وإن ظهرت نزعات فلسفية روحية لدى اليونان فإن فلسفتهم فيها تدعوا إلى التطهر، الذي سبيله النظر العقلي والتأمل الفلسفي، في حين التصوف الإسلامي طريقة في السلوك قواعدها ورسومها ذات الطابع العملي، مع ملاحظة أن كلمة فلسفة وفيلسوف يعدان لفظان دخيلان على العربية كما ذهب إلى ذلك الفارابي، في حين لم ينص على أن كلمة صوفي وتصوف دخيلة على العربية.
الثالث- هذا الفرض يذهب فيه أصحابه إلى أن لفظة التصوف اشتقت من لبس الصوف، وهو رأي تبناه مجموعة القدماء، وهم: السراج في اللمع، والكلاباذي في التعرف، والسهروردي في عوارف المعارف، وابن الجوزي، وابن تيمية في رسائله، وابن خلدون في كتابيه المقدمة و شفاء السائل، واليافعي في مرآة الجنان، فضلاً عن المختصين في الدراسات الصوفية ومعظمهم من المستشرقين، وهم: فون كريمر، ونولدكة في مقال له نشر عام 1894م، وكولدزيهر في العقيدة والشريعة، ونيكلسون في كتابه التصوف الإسلامي، وماسينون، وآربري.
وفي هذا يقول السراج في اللمع: الصوفية عندي والله أعلم نسبوا إلى ظاهر اللباس، ولم ينسبوا إلى نوع من العلوم والأحوال التي هم بها متمرسون، لأن لبس الصوف كان دأب الأنبياء والصديقيين وشعار المساكين المتنسكين.
ويميل عرفان عبد الحميد فتاح إلى هذا الفرض، على اعتبار أنه لقب وضع للدلالة على هذه الطائفة، وإلا لا يشهد للاسم في العربية قياس ولا اشتقاق، ثم تصرف الناس في ذلك اللقب بالاشتقاق منه، فقيل: متصوف، وصوفي، والطريقة تصوف، والجماعة متصوفة وصوفية.
ويضيف إلى ذلك، أن لبس الزهاد للصوف لم يكن تقليداً للرهبان، بل كان بمثابة إشارة إلى نزعتهم الروحية المنهجية، يعني أنهم يرمزون به إلى الفناء ونذر النفس الإنسانية قرباناً في سبيل رضى الله تعالى وحبه.
الرابع- هذا الفرض على وفق عرفان عبد الحميد فتاح يذهب إلى أن المصادر الإسلامية المختصة قد أحصت وجوهاً أخرى لاشتقاق كلمة التصوف، منها: وجه ذهب إلى أن التصوف مشتق من صفاء القلب، وهذا هو ما صرح بشر الحافي (ت227هـ)، وأبو سعيد الخراز (ت268هـ)، والجنيد البغدادي (ت297هـ)، وهذا الأخير يقول: التصوف أن يختصك الله بالصفاء، فمن اصطفى من كل ما سوى الله فهو الصوفي. ولكن هذا الفرض كان مثار اعتراض من قبل أبي القاسم القشيري بعدِّه بعيداً عن مقتضى اللغة، إذ النسبة إلى الصفاء: صفي.
كما أن نسبة التصوف إلى الصُفّة هو الآخر مثار اعتراض من قبل ابن خلدون، الذي يصرح أن أهل الصُفة لم يكونوا مختصين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريقة في العبادة، بل كانوا أسوة الصحابة في العبادة والقيام بوظائف الشريعة، وإن اختصوا بملازمة المسجد للغربة والفقر.
ومما تقدم يظهر أن معرض الآراء التي قيلت في اشتقاق مصطلح التصوف لم يكن قاطعاً لدى الباحثين، إذ وجدنا جمهور من هؤلاء الباحثين ناهيك عن المتصوفة أنفسهم قد اختلفوا في اشتقاق اللفظ، وإن تبنى عرفان عبد الحميد فتاح الفرض الثالث، إلا أن تبنيه هذا ليس محط اعتراف من قبل باحثين آخرين يخالفونه الرأي.
3. خصائص التجربة الصوفية: كَتَب ونَشرَ عرفان عبد الحميد فتاح أكثر من بحث عن خصائص التجربة الصوفية، الأول- تحت عنوان خصائص التجربة الصوفية، مجلة الرسالة الإسلامية، بغداد 1975. والثاني- تحت عنوان التصوف المقارن، نشره في مجلة إسلامية المعرفة، ع36، لعام 2004. والثالث- نقد ابن خلدون للتصوف، ضمن كتابه دراسات في الفكر العربي الإسلامي، بين فيهم سمات وخصائص هذه التجربة العميقة في الفكر والسلوك الإنسانيين، ويمكن بيان رأيه في خصائص هذه التجربة، بالنقاط الآتية:
أولاً- إنها تجربة ذاتية وجدانية خالصة،…، وهي ثمرة معرفة مباشرة مما لا يمكن الإطلاع عليها، أي نقلها إلى الآخرين، في حين أُمكن تعريف علوم الفقهاء وحدها، لأنها علوم ورسوم تنال بالتعلم والاكتساب، وعلم التصوف مما لا يمكن حده، لأنه إشارات وبواد وعطايا وهبات يغرفها أهلها من بحر العطايا الذي لا ينتهي مدده، أي أن التجربة الصوفية تنزع إلى الاحتجاز دون المشاركة، ولا تستهوي إلا القلة من أتباع الأديان عموماً، وتنطوي بطبيعتها على نزوع باطني، فهي في جوهرها حالة نفسية وموقف وجداني، وفي هذا يقول أبو بكر الكلاباذي: مشاهدات القلوب ومكاشفات الأسرار لا يمكن العبارة عنها على التحقيق، بل تعلم بالمنازلات والمواجيد، ولا يعرفها إلا من نازل تلك الأحوال، وحلّ تلك المقامات.
ثانياً- التجربة الصوفية ظاهرة دينية تتسم بالعالمية، فلا تتقيد بحدود الزمان والمكان، والأجناس واللغات والأديان، أو الدوائر الحضارية، فلا وطن لها ولا تاريخ ميلاد، وهذه السمة (للتجربة الصوفية) أدت إلى صعوبة وضع تعريف جامع مانع للتصوف يتضمن كل مفرداته.
ثالثاً- التجربة الصوفية لا تتسم بالنسقية المنطقية، كما هو الحال في المذاهب الفلسفية والكلامية والفقهية. أو حدها بالتعبير عنها في مفاهيم دقيقة منضبطة، بعدِّ أن اهتمام الصوفي ينصرف عادة إلى ترجمة فحوى ومضمون التجربة التي يكابدها، ومن ثم فإنَّ العبارات مهما دقت لا تنقل المضمون الحقيقي للتجربة، لأن طرائق التعبير الجامدة عن المطلق والمقدس تعكس عدم الرضى عند صاحب التجربة الصوفية، فهو يتخطى ويتجاوز مثل هذه التعبيرات وتمظهراتها المتعددة، لأن المقدس المطلق يقع خارج العالم ويجاور صور تمظهراته الخارجية المشخصة المتعينة والمباشرة.
رابعاً- تمتاز التجربة بتجاوزها لمصدري المعرفة الإنسانية الحواس والعقل واستدلالاته، وبالتالي فصاحب التجربة الصوفية يعتقد أن الوسائل البشرية المعتادة في الخطاب غير قادرة عن التعبير عن الحقيقة الإلهية، بعدِّ أن الحقيقة الصوفية مما لا يمكن الإشارة إليها بالعبارات، وحتى الإيماءات الرمزية الغامضة التي يتوسل بها البيان الصوفي إلى مقصوده، لا تضيف جديداً إلى المقصود، إنها خبرة مخصوصة لا يمكن فهمها إلا من يتذوقها بذاته، أو من صوفي قرين له كابد التجربة بنفسه، والذي له نوع تذوق للمتجاوز، الخفي المستور وراء الرمز. أي أن المعرفة الذوقية للصوفية هي تجربة روحية خالصة وسامية، تجهد الذات الإنسانية خلال مراحلها الصاعدة من أجل التأحد، في صورة أخرى مع الحقيقة الكلية، إما على مستوى الإرادة أو الشعور أو الوجود، على وفق تنوع التجربة وتطورها وسموها، وفي كل هذه الحالات فإن التجربة تفترض وتتضمن تضاؤلاً مستمراً في الشعور بالأنا، وتولد ولادة معنوية سامية من جديد، وفي الغاية والنهاية يصل العارف ويتحقق معرفة مصفاة لا ريب فيها ومعها، فتنكشف له حقائق الأمور وتزول عنه الإشكاليات ويصبح ما كان غامضاً ومبهماً من قبل، واضحاً وبيناً بذاته.
خامساً- تتسم التجربة الصوفية بسمة مركزية هي عدم قدرة صاحب التجربة الصوفية نقل مضامين تجربته إلى الأغيار والآخرين ومرد عدم القدرة هذه تتصل بوسائل التعبير والاتصال التي تستعمل اللغة العادية والخطاب والفكر، إذ أن التجربة الصوفية لا تستوعبها اللغة العادية، فيضطر للتعبير عنها بلغة مخصوصة تتسم بالشعرية والتمثيل والرمزية والمجاز، وتنطوي عادة على التناقض، والرمز كما لا يخفى على الدارسين يستُر من المعاني قدر ما يُظْهر، فهو ظهور وخفاء معاً وفي آن واحد.
ويلاحظ ذلك الدارس للتجربة الصوفية من خارجها عندما تبلغ تلك التجربة ذروة عنفوانها أنها تتبدى في صيغة متناقضة وعبارات مبهمة غامضة، والتي اصطلح عليها بلفظة (الشطح) ، وقد لا تستوعب هذه الشطحات المراد، فلا يبقى أمام الصوفي إلا الركون إلى الصمت، بحيث إذا أراد النطق بما وجد لم يقدر، وهذا هو الخرس، أو كلل اللسان كما سماه محي الدين بن عربي.
وقد دافع ابن خلدون في كتابيه شفاء السائل والمقدمة عن الشطح وأصحابه، بل وبرر لهم أقوالهم، إذ اعتبرهم أهل غيبة عن الحواس، والواردات تملكهم حتى ينطقوا بما لا يقصدونه، وهذا هو الشطح، وصاحب الغيبة غير مخاطب، والمجبور معذور، فمن علم منه فضله واقتداؤه، حمل على القصد الجميل، من هذا ما وقع لأبي يزيد البسطامي وأمثاله، ومن لم يعرف فضله ولا أشتهر بمثلها وهو حاضر في حسه، ولم تملكه الحال، أي حال الفناء، فمؤاخذ، وبهذا أفتى الفقهاء وأكابر الصوفية بقتل الحلاج، لأنه تكلم في حضوره، وهو مالك حاله.
وهنا يقدم عرفان عبد الحميد فتاح دفوعه المنهجية بنجاح يستحق الإشادة والتنويه عن السبق التاريخي للفظ الخرس الذي نحته ابن عربي، على من جاء من بعده من الفلاسفة وعلماء النفس المعنيين بدراسة الظاهرة الصوفية، من أمثال الفيلسوف الأمريكي وليم جيمس 0ت1910م) في كتابه التجربة الدينية، والتي سماها بالاستعصاء على التعبير، وفتجنشتين (ت1951) في كتابه المقالات، والذي سماها ثمرة للتجربة الصوفية لا يمكن التعبير عنها.
سادساً- وتتسم التجربة الصوفية كونها ليست تجربة متشكلة وهوية ثابتة قارّة، بل هي تجربة نامية ومتطورة تبعاً لسلم المعراج الروحي الذي يكابده الصوفي. وهنا يجلب عرفان عبد الحميد وجهة نظر الغزالي التي تقول: وهؤلاء (الصوفية) أقوالهم تعرب عن أحوالهم، فلذلك تختلف أجوبتهم ولا تتفق، لأنهم لا يتكلمون إلا عن حالتهم الراهنة الغالبة عليهم.
سابعاً- إنَّ التجربة الصوفية تتجسد في أنماط متنوعة وصيغ متباينة، وتتخذ صوراً وتعبر عن نفسها في طرائق متعددة. ذلك أن المتصوف يحاول عادة وفي الغالب من الأحيان صياغة تجربته على وفق الدائرة الحضارية والثقافية ومحددات الإطار العقدي العام للدين الذي ينتمي إليه ويؤمن بأصوله الإيمانية، فيجتهد من أجل ربط تجربته الروحية بهما، أي تفسير محتويات الخبرة على وفق تعاليمها، طلباً للشرعية الدينية والثقافية لمشروعه الذاتي وتجربته الفردية التي هي من قبيل الوجدانيات. ولكن هذه المزية الأخيرة للتجربة الصوفية جعلتها ساحة مشاعة ومفتوحة للفوضى الأخلاقية ما لم تلتزم بأدبي العقل والدين معاً، وهو ما قرره وأكده الغزالي في كل كتبه ورسائله، أن حدد للوعي الصوفي إطاره الشرعي الموزون بالدين والعقل الذي هو كما أفاد ميزان الله في الأرض.
ثامناً- تمتاز التجربة الصوفية أيضاً في أنها تتمثل في حالة نفسية معينة ومخصوصة، فيها إلجاء وقسر للتحول من حياة تقليدية معهودة إلى أخرى جديدة غريبة عنها، إذ اصطلح الصوفية على هذه الحالة بالتوبة (Conversion)، وعرفوها: حالة تأزم حادة تصيب الإنسان، تكون مصحوبة بعدم الراحة، وذهاب الثقة بالمعقولات والمحسوسات، واضطراب مزعج في النفس تفقد معه اليقين والطمأنينة، وهذه الداعية الملجئة للتحول والانتقال قد تتخذ صورة نقلة سريعة ومفاجئة وعنيفة، أو تجيء في صورة انتقال تدريجي ومتراكم لا يكاد يُدرك أو يكون مَحسُوساً، ومهما كانت الحالة، فإنّ هذه الداعية المحفزة للتحول في النفس تتخذ عند الصوفية صيغة النداء والهاتف الغيبي، أو الصوت الخفي الذي يأتي من عالم الغيب يبشر بحياة جديدة في السلوك وفي غاية الحياة نفسها.
وبعد أن أحصينا خصائص التجربة الصوفية كما درسها عرفان عبد الحميد فتاح، وحددناها بثمانية خصائص، نجده قد عاد مرة أخرى للحديث عن هذه الخصائص في بحثه التصوف المقارن، استناداً على كتاب تنوعات الخبرة الدينية للفيلسوف البراغماتي الأمريكي وليم جيمس، والتي حدد هذا الأخير هذه الخصائص بأربعة خصائص مشتركة لكل التجارب الصوفية في العالم، وأضاف عليها خامسة في كتابه الفلسفة البراغماتية، ونظراً لأهمية ما قدمه وليم جيمس في حديثه عن خصائص التجربة الصوفية، سوف نوردها هنا لأهميتها وكما حددها عرفان عبد الحميد فتاح بعنوانات رئيسية، هي:
أ. الاستعصاء على التعبير.
ب. النسقية الفكرية: أي اتفاق معظم متصوفة العالم على اختلاف أديانهم ومشاربهم وأوطانهم على جوهر التجربة الصوفية. ويعدونها المعرفة التي تنتجها هذه التجربة، معرفة يقينية حقاً، ولا يعتدون بالمعرفتين الحسية والعقلية.
ج. اللحظة والتلقائية: ويراد بها الغياب اللحظي المؤقت للوعي والإدراك، بالذات والاعتبار، في مقام الشهود عند صوفية الإسلام، أو الفناء عن السوى كما عبر عنه ابن تيمية، وعن كل ما يدرك بالحس، وعن كل ما يخطر في العقل، بل عن كل فعل وشعور، وذلك بالاستغراق بالكلية في المنطق، أو كما عبر عنه صوفية الإسلام بحصر القلب في الله تعالى وتركيز التأمل في صفاته.
د. السلبية التامة:ويقصد بها أن السالك للطريق الصوفي من حيث أنه معراج روحي صاعد، ورغم ما يبذله من جهد ومعاناة أثناء سيره المحفوف بالعقبات للارتقاء من مقام إلى الذي يعلوه طلباً للتحقق بالمعرفة اليقينية الحقة، فهذه المعرفة معرفة متلقاة في صورة وهب إلهي ومنحة ربانية، وليس للصوفي إلا أن يتحضر ذاته ويتهيأ لاستقبال الأنوار الإلهية في صورة إلهام وكشف لدني، والانتقال من عالم الظلمات والجهل والرغبات والشهوات والإرادات إلى عالم النور الساطع والمعرفة الحقة التي لا تحتاج إلى دليل من خارجها.
هـ. التأحد بين الذات والموضوع: هذه الخاصية على وفق عرفان عبد الحميد فتاح، بالرجوع إلى كتاب وليم جيمس الفلسفة البراغماتية، تعدُّ من أخص أوصاف التجربة الصوفية، وفي مختلف التجارب الصوفية العالمية، بل إنّ التصوف في جوهره ودلالته الأولى والدقيقة، لا يعني إلا الاتحاد مع الخالق تعالى عند صوفية الأديان السماوية، أو مع النفس الكلية الكونية في غيرها، وهو ما صرح به الفيلسوف أفلوطين، والقبالة اليهودية.
إنَّ الخصائص للتجربة الصوفية، التي عرض لها عرفان عبد الحميد فتاح، تواجه على وفق رأيه أكثر من اعتراض من قبل الباحثين المختصين بتاريخ التصوف ومدارسه، إذ نجد على وفق قوله: طائفة من الباحثين تعتقد إن التجربة الصوفية بهذه الخصائص متماثلة في جميع الأديان، في حين نجد طائفة أخرى تعتقد خلاف هذا الرأي، إذ أكدت أن لكل دين تصوفه الخاص به الصادر عن تعاليمه ومحدداته، وهذا رأي تبناه مختصون بالتصوف ينتمون للديانة اليهودية على وجه الخصوص، منهم زيهنر وجيروشوم شخوليم.
في حين يصرح هو حول هذين الموقفين من خصائص التجربة الصوفية، بالقول: إن كلا المنهجين يكملان بعضهما البعض، دونما تضاد بينهما، فينصرف الباحث عندئذ إلى رصد العوامل المعقدة المتضافرة، الذاتية لنشأة الظاهرة في كل دين، ثم يحاول التماس وجوه الشبه والمماثلة بين التجارب الصوفية في الأديان، من غير وقوع تحت التأثيرات الظاهرية للمنهج الشكلي الذي همه التماس الأشباه والنظائر، وردّ اللاحق إلى السابق بوحي سابق من نظرية التأثير الأجنبي الذي يُغفل ويسقط من الاعتبار فعل العوامل الذاتية في نشأة الظاهرة وتطور مبانيها.
4. الأنماط والنماذج العامة للتجربة الصوفية: أربعة أنماط، نمطان أصيلان، ونمطان كاذبان أو ممسوخان على وفق عرفان عبد الحميد فتاح في بحثه المشار إليه آنفاً وتحت عنوان في التصوف المقارن، ففي فقرة مهمة من هذا البحث يتحدث عن أنماط التجربة الصوفية، استخلصها من خلال ما أحصاه مؤرخوا التصوف العالمي وعلماء النفس والاجتماع المحدثين، فالنمطان الأصيلان هما:
نمط الوعي المنفتح على الخارج: وهو النمط الذي تتأحد الذات الإنسانية مع العالم الخارجي، ويصطلح على تعريفه بالنمط المنفتح على الخارج، أو التصوف المكتسب، وأحياناً سمي بالتصوف الطبيعي أو الوعي الجواني المنأخذ بالطبيعة وجمالها، ويغلب على هذا النمط ألا يكون ذا مضمون ديني، وفيه تتأمل الذات الإنسانية الطبيعة ومظاهرها الجمالية المشخصة والمتعينة في الخارج، وتتصورها على ما فيها من تنوع وتضاد: وحدة مؤتلفة نابضة بروحانية كامنة وخفية وتسري فيها، وروحانية تتجاوز التنوع في الأفراد المشخصة إلى معنى الوحدة والجمال المطلق الخفي وراءها،…، وهذه هي حال النفس الإنسانية عند القائلين بهذا النمط من الوعي الصوفي،ففيها نزوع فطري موروث للتأحد مع الكل الكوني، وأن هذا التأحد هو مصدر الحيوية في الإنسان وباعثها. والنمط المنكفيء على الذات: وهذا النمط من الوعي الصوفي كما يقول عرفان عبد الحميد فتاح هو النمط الأكثر تطوراً من سابقه، بل هو المراد والمقصود من مصطلح التجربة الصوفية، وفيه يفقد الصوفي وعيه عبر عملية تطهرية شاقة فيها مكابدة ومعاناة معيشة، بمثابة معراج روحي في درجات متصاعدة، عرفت عند صوفية الأديان السماوية الثلاثة بالفناء، وينتهي هذا المعراج إلى غياب الوعي بالذات والاغيار، بل وزوال وفناء الوعي بكل معطيات الحس والفكر، أو الاستجابة لدواعي الرغبات والشهوات، بالتأحد بالكلية في الحق الواحد المطلق في لغة الفلاسفة من الصوفية، أو بالخالق تعالى في لغة متصوفة الأديان السماوية، فتختفي كل تفرقة بين الذات وموضوع إدراكها، وهو المقام الذي أسماه الغزالي وصوفية الإسلام بالاستغراق بالكلية في الله تعالى، وسماه ابن تيمية بالفناء الشهودي تمييزاً له عن الفناء الوجودي، وعرف في تصوفات الديانة الهندوسية بالاتحاد بالنفس الكلية عبر معراج روحي تطهري.
وهذا النمط من اللاوعي كما يقول عرفان عبد الحميد فتاح يتحقق للصوفي نوع من المعرفة ليست كسبية تنال بحيلة الدليل وإعمال الفكر، بل هي معرفة تنفث في روع المتصوف، إنها معرفة منح وعطايا يغرفها الصوفي الواصل من بحر العطاء الرباني اللامتناهي، وهي المعرفة اللدّنية والحكمة الخالدة، تبدأ في صورة لوامح ولوامع وبوارق، عابرة ولحظية، ثم تستقر وتتمكن في صيغة معرفة حقة، تتسم بأنها يقينية، وتتسم باللحظية والمباشرة، من غير حجاب وواسطة من حد أو عقل، وبالصدق الضروري.
أما النمطان الممسوخان أو الكاذبان فهما: نمط الوعي الصوفي المستثار بالعقاقير: وهو وعي صوفي ممسوخ أو كاذب يتمثل بفقدان الوعي عن طريق تناول العقاقير والمخدرات وتناول حبوب الهلوسة، وهذا النمط يصطلح عليه علماء النفس والاجتماع بالحالات الصوفية المستثارة بالمواد الكيمياوية،…، ولا يعين أبداً على تطور وسمو جواني وأخلاقي، بل بالعكس يسوق إلى تحطيم الشخصية الإنسانية، ويعوقها نفسياً واجتماعياً وأخلاقياً، وخير من يمثل هذا النمط الكاذب في الوعي الصوفي في دائرة الفكر الصوفي في الإسلام على وفق عرفان عبد الحميد فتاح، هم: طوائف الغلاة مثل (القلندرية والقزلباشية والعلى إلهية والبكتاشية والنوربخشية والنعمة الإلهية والتختجية)، وقد أطلق عليهم لقب المستوصفة، من قبل معارضيهم من المتصوفة الملتزمين بأدبي الشرع والعقل. إذ أن هؤلاء الغلاة أباحوا شرب الخمر في حلقات السماع وسموها مدامة حيدر، وعرف عنهم تناول المخدرات كالحشيشة قبل إقامة مجالس العربد- طقسية، كما ويظهر عليهم نوع من الجذب الصوفي مثل الجنون المؤقت وحالات الإغماء والاستغراق في أحلام اليقظة، وإدعاء الخوارق والشعبذة، ونمط الوعي لصوفي الناتج عن الإصابة بأمراض عصابية: وهذا الآخر هو نمط وعي صوفي ممسوخ أو كاذب،…، وهو يمثل حالات من الشذوذ النفسي ومظاهر لأمراض عصابية،…، مثل الهستيريا والكبت المزمن والانهيار العصبي، وسواها من الأمراض النفسية الأخرى، وهذه تعدّ حالات استثنائية وغير سوية في نظر المنكرين لاعتبار حالات من الوعي الصوفي، فلا يجوز ولا يصح على وفق نظرهم إدراجها ضمن أنماط الوعي الصوفي. ومن هنا اصطلحوا عليها بالتصوف المنتحل والفاسد الذي لا اعتبار له
ولقد تعرض هذان النمطان الكاذبان أو الممسوخان، إلى نقد عنيف مواقف عدم رضى من قبل كبار المتصوفة في الفكر الإسلامي، كالجنيد البغدادي وأبي القاسم القشيري والغزالي وعبد الوهاب الشعراني، ناهيك عن الفقهاء كالذهبي وابن تيمية والتهانوي صاحب كشاف اصطلاحات الفنون.
ويعزو عرفان عبد الحميد فتاح سبب ظهور هذا الأنماط الممسوخة التجربة الصوفية، إلى طبيعة التجربة الروحية كونها تجربة وجدانية عاطفية محضة، وهي مشروع بطبيعته منفتح على الفوضى الخلقية والانحراف في العقيدة والسلوك، وهذا ما يزودنا به تاريخ التصوف في الأديان جميعاً، إذ نبتت في أحضان الحركات الصوفية (الرصينة) النزعات العدمية الآثمة والاستهانة بالأحكام الشرعية والتحلل منها، وادعاء الدجل والشعبذة والمخاريق، لتصبح التجربة الوجدانية ساحة مشاعة لنمو الأساطير والخرافات والكهانة الكاذبة، والرؤيات المختلفة، وتعاطي السحر والاعتقاد بالقوة السحرية للحروف والأرقام ( الجماعات الحروفية في التصوف الشيعي والتصوف اليهودي).
5. نظرية المعرفة الصوفية: يرتبط الحديث عن نظرية المعرفة عند الصوفية ارتباطاً مباشراً بالحديث عن خصائص التجربة الصوفية التي فصلنا القول فيها في الفقرات السابقة، وهو ما حاولنا أن نبرزه هنا في جدلية بحثية لدى عرفان عبد الحميد فتاح.
وقبل الحديث عن نظرية المعرفة عند الصوفية، نقول أنا وجدنا أن نظرية المعرفة عندهم احتلت مكانة متميزة في الدراسات العلمية حول التصوف وميتافيزيقاه ومواقفه الوجودية والقيمية، لأن المتصوفة على العموم اتخذوا طريقاً مغايراً بالكلية للطرائق التي اتخذها الفلاسفة في المعرفة، من حيث مصدرها وطبيعتها وإمكانها .
ولهذا خصص عرفان عبد الحميد فتاح لدرس هذا الموضوع الحيوي عند المتصوفة، فصلاً مطولاً هو الفصل السابع في كتابه نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها، تناول فيه بالدرس والتحليل المعرفة عند الصوفية، وكيف هي العلاقة بين الشيخ الصوفي والمريد (طالب التصوف)، لينتقل بعد ذلك إلى دراسة نظرية المعرفة الصوفية على وفق التنميط الفلسفي لنظرية المعرفة، مصادرها وطبيعتها وإمكانها، وإن كان هو يقف في عرض لنظرية المعرفة عند مصدرها فحسب، والذي هو ليس بالحسي ولا بالعقلي بل هو الحدسي أو الإلهامي أو الإشراقي (سنفصل هذه الاصطلاحات بعد قليل)، على اختلاف الألفاظ واتفاق المضمون. فضلاً عن ذلك، يخصص للحديث عن المعرفة الصوفية في أبحاثه الأخرى التي نشرها في كتابه دراسات في الفكر العربي الإسلامي.
فالتصوف إلى جانب كونه سلوكاً في الحياة كما يصرح عرفان عبد الحميد فتاح، هو منهج في المعرفة، أساسه التأمل الباطني والمجاهدة الروحية والرياضة القلبية، وسواها من السبل التي تأخذ بالصوفي السالك في مدارج المعرفة حتى ينتهي فيها إلى اليقين ومشاهدة الحقائق على ما هي عليه. مُصَفاة خالصة دفعةً أو قريباً من دفعة.
إذن، الصوفية أدخلوا في مناهج المعرفة ونظرياتها لوناً جديداً من المعارف التي تقوم على الإلهام أو الكشف أو ما يعرف عندهم ويصطلحون على تسميته (الإشراق) ، الذي هو ظهور الأنوار العقلية ولمعانها وفيضانها بالإشراقات على النفس عند تجردها.
ويعتقد عرفان عبد الحميد فتاح جازماً، إنّ الصوفية في تبينهم للمعرفة الإشراقية إنما يصدرون عن فكر أفلاطوني ممتزج بالغنوصية، فلفظة الغنوصية كلمة يونانية تعني المعرفة، أما في الاصطلاح فيقصد بها: نوع معين ولون خاص من المعرفة، هي المعرفة التي سبيلها التأمل الباطني والكشف والإلهام.
أما دواعي تنبني صوفية الإسلام المعرفة الإشراقية، فهي على وفق عرفان عبد الحميد رد فعل على وقوف الفقهاء عند ظواهر النصوص الشرعية، واستغراق علماء الكلام في الدقائق الجدلية، مما دفع بالصوفية إلى الحط من شأن الظاهر، ودفعهم لالتماس المعاني الباطنية من النصوص عن طريق التأويل الرمزي. فأحال هذا التأويل الرمزي المسرف بدوره الصوفية إلى دائرة الغنوص الواسعة، وإلى الفكر الأفلاطوني المختلط بالعناصر الشرقية ذات النزعة الروحية، فكان هذا بداية النزاع والشقاق الذي صار يتسع تدريجياً بين الصوفية من جهة، وبين الفقهاء والأصوليين والكلاميين من الجهة الأخرى، فصار الفقهاء والمتكلمون يرمون الصوفية بالزيغ والبدع ومحاولة تجاوز حدود الشرع بإسقاط تكاليفه، بدعوى الوصول إلى اليقين، وصار الصوفية يتهمون خصومهم بالجمود عند الرسوم والصور الخارجية للشرع المُنَزَل.
هذه المواقف المتباينة معرفياً، دفعت المتصوفة إلى تبني مصدراً للمعرفة عن طريق الكشف والذوق والإلهام، عن طريق ما ينفثه البارئ تعالى في قلب المؤمن الذي بلغ درجة المكاشفة، بعد أن فشل برأيهم طريق الاستدلال العقلي والقياس المنطقي الذي تبناه الفقهاء والمتكلمون. مما دفع الفيلسوف ابن رشد من جهته أن يرد على الصوفية في نقدهم الطريق الاستدلالي العقلي للمعرفة اليقينية، وذلك في كتابه مناهج الأدلة في عقائد الملة، ص149، من نشرة محمود قاسم، بقوله: وأما الصوفية فطرقهم في النظر ليست طرقاً نظرية، أعني مركبة من مقدمات وأقيسة، وإنما يزعمون: أن المعرفة بالله، وبغيره من الموجودات، شيء يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية، وإقبالها بالفكرة على المطلوب، ويحتجون لتصحيح هذا بظواهر من الشرع كثيرة،…، ونحن نقول (=ابن رشد) إنّ هذه الطريقة وإنْ سلمنا بوجودها، فإنها ليست عامة للناس بما هم ناس، ولو كانت هذه الطريقة هي المقصودة للناس لبطلت طريقة النظر، ولكان وجودها بالناس عبثاً.
إنّ موقف الصوفية من مصدر المعرفة، لم يأتي دفعة واحدة، على ما يصرح به عرفان عبد الحميد فتاح بالاستناد على موقف ابن خلدون في المقدمة، بل مرّ هذا الموقف من تبني الإلهام والكشف والإشراق بمراحل حتى استوي نظرية في المعرفة كما عرضنا لها.
وخير من يعرض لنظرية المعرفة الصوفية، واتخاذها الكشف والذوق والإشراق دليلاً للوصول إلى الحقيقة اليقينية هو الفيلسوف أبو حامد الغزالي في كتابه المعروف والمشهور (المنقذ من الضلال)، إذ عرض الغزالي ونقد في هذا الكتاب الطرق الموصلة للمعرفة ولاسيما طرائق الحس والعقل، وتبنى الطريق الصوفي فيها، وهذا ليس مجال شرح موقف الغزالي من المعرفة الحسية والعقلية والصوفية.
وفي ضوء ذلك، ونتيجة لتبني طريق الكشف والإلهام والإشراق عند المتصوفة منهجاً للوصول إلى اليقين، نجدهم اتخذوا طريقين أوسبيلين لذلك، الأول عملي سلوكي قيمي، والثاني نظري بحت.
الطريق العملي أو السلوكي القيمي: اتخذه الصوفية من أمثال الغزالي وابن عربي، فتحقيق الغاية في هذا النوع من التصوف منوطاً بإتباع السلوك والالتزام بمجموعة القواعد والرسوم التي اصطلحوا عليها بـ(الطريقة)، إذ ربطوا بين الطريقة ورسوم الشريعة وأحكامها، وجعلوا انكشاف الحقائق ثمرة توافق بين الخلوة والزهد ومراتب السلوك من جهة، والالتزام بحسن سياسة الشرع وصدق المتابعة لرسول الله صلة الله عليه وسلم، من جهة أخرى.
أما الطريق النظري: فقد جعل الصوفية النظريين أو فلاسفة التصوف من أمثال الفارابي وابن سينا عملية الإشراق والوصول إلى كنه الأشياء وحقائق الأمور وسيلتها الرياضة العقلية، التي غايتها منع الشواغل عن الحواس قصد تحصيل المعارف العقلية،…، ومذهبهم هذا يتحقق إذا تمكنت النفس أن تتجاوز في المعرفة حدود البدن الضيقة، كما تتجاوز حدود العالم المحسوس، عندها تتعلم الحقائق والأسرار، وذلك إذا تجرد صاحبها من الماديات، وتفرغ للبحث والنظر، حتى إذا فارقت البدن انكشف لها جميع الحقائق وصارت في عالم الحق، أو عالم العقل أو عالم الديمومة.
لقد دفعت هذه المواقف لدى الصوفية من نظرية المعرفة، وتبنيهم لطريق الإشراق أو الإلهام، عرفان عبد الحميد فتاح أن يوجه لهم النقد والاعتراض، من خلال تبني الطريق المنطقي العقلي الذي يعتمد الاستدلال وأحكامه، يقول: إنا نرى في دعوى الصوفية إلى معرفة سامية معصومة عن الخطأ، وسيلتها الإلهام وميزتها الصدق والإطلاق، إنكاراً لشهادة الحس، وإبطالاً للاستدلال العقلي، وإذا كانت المعارف العقلية والحسية متجددة نامية من حيث أنها خاضعة للنقد والتمحيص، فإنّ دعوى الصوفية أن معرفتهم من قبيل المعارف اللدنية المطلقة، كان سبباً زاد من ركود حركة الفكر في الإسلام، ونسخ (=إبطال) دور العقل في عمليات الهدم والبناء والتعديل والتجريح. إذ كيف يمكن إخضاع مثل هذه المعرفة التي هي فوق طور العقل لنقد العقل وشهادة الحس، وهي معرفة بطبيعتها تسمو على قيود الواقع الموضوعي وحدوده. وتتجاوز مقولات العقل ولغته ومنطقه، بل وترى فيه معرفة تقوم على ساقٍ خشبية واهية ولا تسوق إلاّ إلى الوهم والخطأ والظن.
ثالثاً. التأويل الصوفي
لا يضع عرفان عبد الحميد فتاح في كتابه نشأة الفلسفة الصوفية، أي تحديد لمعنى التأويل عند المتصوفة، بل يصدر حكماً مفاده بأهمية وضرورة التأويل في هذا الميدان، مستنداً في ذلك على رأي الشيخ عمر السهروردي (632هـ/1145م) صاحب كتاب عوارف المعارف، الذي عدّ التأويل وسيلة حاولوا بها الجمع والتوفيق بين نصوص الشرع المنزل والأنظار الفلسفية التي استمدوها من دوائر الفكر الأجنبي. ذلك أن التفسير المألوف المعتمد على المأثور مما لا يتسع المجال فيه كما يقول السهروردي: إلا القول المنقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده، أما التأويل فتمتد العقول فيه بالباع الطويل.
ولكن، من جهة أخرى يذهب عرفان عبد الحميد فتاح بعيداً في توجيه النقد للمتصوفة ولاسيما المغالين منهم في التأويل، وبالأخص الذين أفادوا من النتاج الفلسفي اليوناني دون غيرهم من المتصوفة الذين سلكوا المنهج العقلاني المعتدل كما يسميهم هو والذي سنشير لهم لاحقاً.
استطاع غلاة المتصوفة برأي عرفان عبد الحميد فتاح أن يوجهوا النصوص الشرعية الى معان غير تلك التي تدل عليها ظاهرها،…، يقول: اعتمد غلاة الصوفية في هذا الخصوص على الفكر الأجنبي المتمثل في النظرة الأفلاطونية ومذهب الغنوصيين فكما أن رجال الأفلاطونية لم يروا في الألفاظ إلا ظلالاً شاحبة للحقيقة المجردة وقالوا: ان المعرفة الحقة اليقينية لا تدرك إلا بالتأمل الباطني العميق والمجاهدة النفسية في درجات الكشف العليا حين تتضح خلالها للمتأمل الحقائق على ما هي عليه. كذلك اعتمد فلاسفة الصوفية هذه الدعوة وزعموا: ان الوقوف على ظاهر نصوص الشرع حجاب يمنع من الوصول الى حقائق الأمور، وأن العلم الظاهر يدخله الظن والشك، والمشاهدة ترفع الظن وتزيل الشك، وهكذا أحلوا علم القلوب المبني على التأمل الباطني محل العلم المستمد من كتب الفقهاء.
ويستمر عرفان عبد الحميد فتاح بتوجيه نقده لغلاة الصوفية ، من خلال الحديث عن أثر الغنوصية في دعواها ان المعرفة الحقة طريقها التأمل الباطني والمجاهدة النفسية والتطهر الروحي، فتلاقى الغلاة مع مذاهب الغنوص في معارضتهم لنوعي المعرفة العقلية والدينية وهذه الأخيرة سبيل ثبوتها احترام النصوص الشرعية والابتعاد عن استعمال الرخص والتأويلات التعسفية فيها.
إن موقف عرفان عبد الحميد فتاح هذا يفهم منه إنه لا يحبذ التأويل الذي مارسه غلاة المتصوفة الذين أخرجوا النص الديني من مجاله الذي ورد فيه في القرآن الكريم الى مجال آخر غارق في الرمزية الإشارية، على وفق معطيات أسهم فيها بكل مباشر فكر فلسفي يوناني يُطلق عليه فكر أجنبي، متمثلاً بالفيثاغورية والأفلاطونية، وفكر إسلامي فرقي لا يلتزم بقواعد اللغة ودليل العقل والشرائط التي وضعها له العلماء، متمثلاً بغلاة الشيعة من أمثال المعمرية والخطابية والجناحية والمغيرية والعجلية، ممن اتخذوا من التأويل وسيلة لهدم الدين ودك معاقله وجعلوه طريقاً ينتهي بهم إلى إسقاط التكاليف واستحلال الحرمات وادعاء النبوة والإلوهية…، وفكر ديني متمثلاً باليهودية والمسيحية والمجوسية، كل ذلك صهر من قبل هؤلاء الغلاة المتصوفة في مزيج ديني فلسفي عجيب لا تكاد تتعرف فيه على مصادر الفكر الأصلية إلا بعناء وجهد.
ويعتقد عرفان عبد الحميد فتاح جازماً أن التأويل بلغت قمة المغالاة فيه ومنتهاها عند الإسماعيلية وجماعة إخوان الصفا والحلاجية وغيرها من الفرق التي ربطت التأويل الإشاري بألوان العلوم المستترة الغامضة من كيمياء وسحر وشعوذة واشتغال بالحروف والأعداد. كما ويضع مع هؤلاء الغلاة جلال الدين الرومي (672هـ/1273م) في كتابه المثنوي، ومحي الدين بن عربي (ت 638هـ/1240م) الذي يذهب بالتأويل الى نهاية خطيرة تكاد ان تحول القرآن إلى قرآن جديد.
وبرؤية لا تخلوا من اعتماد المنهج العقلاني الوسطي في الحكم على هذا النوع من الغلو في التأويل، يرى عرفان عبد الحميد فتاح ان هذا التأويل المغالي قد واجه نوعاً من الازدراء والتنديد من قبل الفقهاء والمحدثين وأرباب النظر والاستنباط وعموم المفسرين. فضلاً عن متصوفة يطلق عليهم اصطلاحاً صوفية أهل السنة، منهم: السري سقطي، والجنيد البغدادي (ت297هـ/909م)، والسراج الطوسي، والكلاباذي، وأبي القاسم القشيري (ت467هـ/1074م)، وأبي حامد الغزالي (ت505هـ/1111م)، والهجويري (ت465هـ/1060م) صاحب كتاب كشف المحجوب. إذ رسم هؤلاء المتصوفة للتأويل على وفق رأيه قانوناً ينظمه، إذ أوجبوا الامتناع عن التأويل من غير برهان عقلي قاطع يستدعي الصيرورة إليه، وتشددوا في منع تغيير الظواهر من غير ضرورة داعية، واشترطوا ألا ينتهي التأويل إلى هدم ركن ثابت في الدين.
رابعاً. فلسفة التوحيد عند الصوفية وصورها: للتوحيد صور ورؤى ترتبط بالإنسان منذ تاريخه الأول، منها ما يتصل بالشرائع والعقائد، ومنها ما هو خاضع للتفلسف بشكله الميتافيزيقي الخالص أو بشكله العقيدي الديني أو ما يطلق عليه اصطلاحاً بعلم الكلام أو الثيولوجيا، ومنها ما يتصل بالتصوف طريقاً وتجربةً ونظراً، ومنها ما يتصل بفلسفة العلم ومناهجها، ولقد بَحثت هذه الطرائق في التوحيد، فتعددت طرائقه حتى وصلت أدلة إثبات وجود الله إلى ما يقرب من أكثر من مائة دليل ودليل، لا بل ارتبط كل دليل منها بكل فرقة كلامية أو فيلسوف عبر تاريخ الفكر الإنساني بعامة. إذ اتخذ كل فريق لإثبات دعواه في التوحيد مقدمات ومنطق خاص به استخدمه للوصول إلى حقيقة التوحيد الإلهي، فكل الطرائق التي أنتجها العقل الإنساني وعبرت عن ما في داخلها من مواقف، اتخذت مسارها بالاعتماد على الأقيسة والاستدلالات المنطقية العقلية، سوى الطريق الصوفي، الذي استعمل طريق المجاهدة والتربية الروحية للوصول إلى التوحيد الخالص، وهو ما ميزه بحق عن بقية تلك الطرائق، فلا استدلال عقلي ولا قياس منطقي ولا غير ذلك عند المتصوفة، سوى طريق الكشف أو الإلهام أو الذوق أو الحدس الذي يقود السالك الصوفي نحو الوحدانية المطلقة، وهذا ما سنجده في تصوراتهم للتوحيد، عند بحثنا لها آنفاً، ومثلما وجدناه من قبل في بحثهم عن نظرية المعرفة.
حاول عرفان عبد الحميد فتاح أن يحدد في الفصل الأول من القسم الثالث من كتابه نشأة التصوف الإسلامي، صور التوحيد عند الصوفية، بعد أن قدم لهذه الصور بسياحة فكرية تاريخية أخذت جانب علم الكلام وأغفلت جانب الفلسفة، وله عذره في ذلك، لأن بحث هذا الموضوع موضوع صور التوحيد عند الفلاسفة في كتبه الأخرى، ولاسيما كتابه دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية، وكتابه الفلسفة الإسلامية دراسة ونقد. وبدورنا سوف نعرض لما قدمه في هذا الجانب لصلته بفلسفة التوحيد عند الصوفية.
إذ يقول: من أجل فهم مذاهب فلاسفة الصوفية لابد من استعراض جملة الاتجاهات التي تبلورت في الفكر الصوفي في الإسلام بخصوص الوحدة الإلهية، ذلك أن المسلمين وإنْ اتفقوا على توحيد الله تعالى وتنزيهه عن المشابهة والمماثلة، إلا أنهم قد اختلفوا في تحديد الصلة القائمة بين الربوبية وعالم الخلق، أو بين الحق والخلق، كما يرد على لسان الصوفية، أو بين اللامتناهي الذي يتعالى عن أي صفة تحدد له مكاناً وزماناً، والمتناهي المقيد في وجوده بمكان وزمان معين، كما يرد على لسان الفلاسفة.
وقبل أن يعرض عرفان عبد الحميد فتاح وجهة نظر الصوفية في التوحيد، يستعرض الرؤية العقيدية الكلامية له، تلك الرؤية التي خير من قدمها ودافع عن وحدة الذات الإلهية وتنزيهها عن المشابهة فرقة المعتزلة الكلامية، إذ قدمت هذه الفرقة على وفق عرفان عبد الحميد فتاح تصوراً تجريدياً مطلقاً للإلوهية، أدى بدوره كما يقول: إلى ردود فعل عنيفة تبلورت ابتداءً في دوائر الصوفية التي حاولت من جانبها أن تتخطى هذه المسافة الفارقة بين الحق (الله) وبين الخلق (العالمين). وتنقل التوحيد من صورته العقلية التجريدية والجدلية إلى مضمون روحي، مهما تباينت صوره وأشكاله.
والصور للتوحيد ثلاثة، كما قدمها الصوفية، هي:
1. صورة التوحيد الإرادي (الفناء عن عبادة السِّوى): يعدّ عرفان عبد الحميد فتاح هذا اللون من صياغة شيوخ الصوفية الذين التزموا بقواعد الشرع ونصوص الكتاب وهدي النبوة. إذ حاولوا به تفسير الإسلام تفسيراً ذوقياً في ضوء العقل والمعاناة الروحية. مع ملاحظة أن هذه الصورة التوحيدية عند المتصوفة تقر بمبدأ ثنائية الله والعالم، إلا أنها محاولة لإدراك الوحدة الإلهية ووعي بها في مستوى الإرادة. إذ أن الصوفي صاحب المقام تذوب إرادته في إرادة الله، وتفنى رغائبه في رغائب الله. فلا يريد العبد إلا ما يريده الله، ولا يحب إلا ما يحبه الله. وقد أطلق عليه ابن تيمية اصطلاح (الفناء عن عبادة السِّوى)، وهو حال النبيين وأتباعهم، يفنى العبد فيه، بعبادة الله عن عبادة عما سِواه. فقد فني من قلبه التأله لغير الله وبقي في قلبه تأله الله وحده.
وخير من عبر عن هذه الصورة التوحيدية عند المتصوفة، أبو عبد الله التستري (ت283هـ)، بقوله: السكون إلى الله. ومثل ذلك قال أبو الحسين النوري: الصوفية قوم لما تركوا كل ما سوى الحق، صاروا مالكين ولا مملوكين، وقال الجنيد في ذات المقام: التصوف أن يختصك الله بالصفاء، فمن أصطفيَ من كل ما سوى الله فهو الصوفي، وقال أبو محمد رويم (ت393هـ): التصوف استرسال النفس مع الله على ما يريد.
2. صورة التوحيد الشهودي (الفناء عن شهود السِّوى): هذه الصورة تذهب إلى تحقق الوحدة لله تعالى في ذرى المشاهدة والتأمل، وهذا يعني إتحاد العبد مع الله اتحاد عيان ومكاشفة ومشاهدة، لا اتحاد جواهر وأعيان، إذ يتحقق هذا التوحيد بعد فناء الصوفي عن وجوده الخاص وعن الأغيار من حوله.
ويوضح عرفان عبد الحميد فتاح ما يميز هذه الصورة للتوحيد عن سابقتها عند الصوفية، هي أن الحقيقة الإلهية لا تظهر في هذا المقام بمظهر الأمر والنهي أو الشريعة والقانون،…، بل تتجلى الإلوهية لصاحب هذا المقام الذي هو مقام الاصطلام، في صورة ذات مقدسة يهيم في مجالها، ويتعشق كمالها، ويفنى في وجودها. وهكذا، بمقدار تضاؤل ذاتية العبد وتقلصها، يكون دنوه من حال الفناء… إلى ذرى المشاهدة والمكاشفة.
والصوفي في هذه الصورة للتوحيد يرى الثنائية بين الله والعالم، ولكنه وقد استولى الرب تعالى عليه وأفناه عن ذاته، يشهد الوحدة في الوجود كله شهوداً ذوقياً، أو كما عبر عنه فريد الدين العطار بقوله: بفناء الجزئي في الكلي.
وقد تبنى هذا الطريق في التوحيد على وفق هذه الصورة الحلاج وأبي يزيد البسطامي، ويفصل ابن تيمية من جهته القول في هذه الصورة للتوحيد عند الصوفية، ولكن يوجه لهم النقد من جهة ويعذرهم من أخرى، في حين يلتمس ابن خلدون العذر لهم في أقوالهم وتصريحاتهم التي يشم منها رائحة الشطح المملوء بالرعونة، في حين يصفهم عرفان عبد الحميد فتاح، بقوله: ومع سمو هذه المنزلة وعلوها، فإنها دقيقة جليلة، بل وباب للمزلة (للزلل) عظيم، يشرف منه الصوفي المستهلك في الحق على السقوط في دائرة العدمية، وإسقاط الفرائض، ودعوى الحلول أو الاتحاد بالله. فهي صورة بعيدة نوعاً ما عن الشرع الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبالتالي فهي صورة فلسفية أكثر منها صورة دينية عقيدية.
3. صورة التوحيد الوجودي (الفناء عن وجود السِّوى): هذه الصورة هي الثالثة من صور التوحيد لدى الصوفية، تبناها أصحاب مذهب وحدة الوجود وأنصاره،، وعلى رأسهم محي الدين بن عربي، إذ يرى أصحاب هذا المذهب الوجود وجوداً روحانياً خالصاً، وبه يحاولون التوفيق، بل الجمع بين الواحد والمتعدد، وربط اللانهائي بالنهائي، والمطلق بالنسبي والمتغير، ومن ثم إلغاء الثنائية، والفصل التام بين الله والعالم، فيتراءى لهم الله والعالم حقيقة واحدة، هي علة نفسها، ومعلولة ذاتها،…، وهي نظرة فلسفية في طبيعة الوجود، ولا يرى صاحبها معها إلا حقيقة وجودية واحدة، يطلق عليها اسم الله تارة، واسم العالم تارة أخرى، فالحقيقة الوجودية في نظر أنصارها: وحدة في جوهرها متكثرة في صفاتها وأسمائها، لا تعدد فيها إلا بالاعتبارات والنسب والإضافات، وهي قديمة أزلية لا تتغير، وإنْ تغيرت الصور الوجودية التي تظهر فيها، فإذا نظرنا إليها من حيث ذاتها، قلت: هي الحق، وإن نظرت إليها من حيث مظاهرها وتجلياتها قلت هي الخلق، فهي الحق والخلق، والواحد والكثير، والقديم والحادث،…، وغير ذلك من المتناقضات، ولكنها متناقضات لاختلاف في الاعتبارات لا في الحقيقة.
ويصفهم كلٌ من ابن تيمية وابن القيم أنهم أهل الوحدة الملاحدة، بل وكفروهم بصريح القول، إذ يصفون صورتهم للتوحيد بصورة الفناء عن الوجود السِّوى، باعتباره يتضمن إلغاءً مطلقاً لمعنى الثنائية الذي قرره القرآن الكريم، وشدد عليه علماء الكلام.
مما تقدم نخلص إلى أن عرفان عبد الحميد فتاح دافع عن الصورة التوحيدية الأولى لدى الصوفية لأنها صورة مرتبطة بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية، في حين وقف من الصورتين الأخريين موقفاً يشم منه رائحة عدم القبول، بل والنقد لهما. وهذا ما سنجد مصداقه في المبحث القادم عند دفاعه عن أصالة التصوف البغدادي العراقي الملتزم بآداب الكتاب والسنة النبوية المطهرة، في مقابل التصوف المغالي ذات التأويل المنحرفة والغارق في الرمزية البعيدة عن أصول اللغة العربية، كما يقول هو بذلك.
خامساً- أصالة التصوف الإسلامي: يقدم عرفان عبد الحميد فتاح دفاعياته عن أصالة التصوف الإسلامي، ويُبَرِز في ذلك هويته الخاصة به، التي تعبر عن شخصيته التي هي بمثابة عنوان وماهية له، حتى يصل به حال البحث إلى تخصيص عنوان خاص للتصوف العراقي بعامة والبغدادي بخاصة، وذلك في أكثر من مبحث من مباحث كتابه دراسات في الفكر العربي الإسلامي، ناهيك عن أبحاثه في موسوعة حضارة العراق، الجزء الثامن، 1985، وموسوعة العراق في موكب الحضارة، الجزء الثالث 1988. لذا سندرس في هذا الفصل هذه المحاور وعلى وفق الآتي:
1. التصوف الإسلامي بين الأصالة والتحريف: يبدو أن عرفان عبد الحميد فتاح، قد عاني كثيراً كغيره من الباحثين العرب المسلمين في صد الهجمات التي وجهت من قبل الباحثين العرب والمستشرقين، ممن درس تاريخ التصوف الإسلامي وتطوره من زهد إلى تصوف، إذ أن هؤلاء الدارسين من عرب ومستشرقين شككوا في أصالة التصوف الإسلامي وتطور الحياة الروحية في الإسلام، وربطوا ذلك بمجمل مؤثرات حضرت بقوة في الحركة الروحية في الإسلام في محاولة غير صادقة لسحب الأصالة عن هذا الحقل في داخل الفكر الفلسفي الإسلامي، فقالوا بوجود مؤثرات هندية وفارسية ويونانية وغيرها، أثرت في نمو وتطور التصوف الإسلامي، معتمدين في طروحاتهم المنهج التاريخي اللغوي (الفيللوجي) لإثبات دعواهم هذه.
لذا نجد عرفان عبد الحميد فتاح قد شمر عن ساعد الجد، وبحث في إثبات أن التصوف الإسلامي، تصور أصيل نابع من تطور الحياة الروحية في الإسلام، عادّاً إياه جانباً من جوانب الحياة الفكرية والروحية في الإسلام، وشديد الصلة بها، عنها صدر، ومنها تغذى، بعيداً عن التصورات والمفاهيم المنحرفة التي كادت عبر عمليات تلفيق مصطنعة أن تشوه حقائقه، وتفسد جوهره، فتبعده عن الإسلام، وما جاء به من عقيدة وتشريع.
وتكمن أصالة التصوف الإسلامي على وفق رأيه، باعتماده الكلي على مصدري الإسلام الخالدين: الكتاب والسنة، وهو ما ميزه عن الاتجاهات التحريفية التي كادت تفسد بنية الحركة الروحية، وهذه تعدُّ مسافة فارقة شاسعة، تفصل بين ما هو إسلامي وأصيل ومعتبر، وبين ما هو تشويه وتمويه وهدم لحقائق الإسلام وأصوله.
هذا من جهة، ومن أخرى تتميز أصالة التصوف الإسلامي وتبعاً لما صرح به أبو العلا عفيفي في كتابه التصوف الثورة الروحية في الإسلام، القاهرة 1967، إلى أن النزعة الروحية في الإسلام قد نشأت بفعل عوامل ذاتية مستقاة من حركة المجتمع العربي وتطوره، وهكذا جاءت هذه النزعة التي عرفت مطالعها بالزهد، صيحة نقد إيجابية مؤثرة وفاعلة للأوضاع الفاسدة التي شابت المجتمع من ذلك التفاوت الطبقي والتراخي الأخلاقي والصراعات المذهبية والطائفية، وغير ذلك.
فضلاً عن ذلك، تتميز أصالة التصوف الإسلامي، أنه نشأ حركة إصلاحية ذات مضمون إيجابي سليم، تريد تقويم الأخلاق وتصفية النفوس وتزكية العقول، وتطهير الأرواح، وإسقاط الاعتبارات المادية من الحياة، والدعوة إلى السمو والإيثار، وهذا ما جاءت به تعريفات الزهاد الأوائل لمناهجهم في الحياة، مؤكدة المعاني الأخلاقية والعمل على ترسيخها في واقع الحياة ودنيا البشر، حتى أصبح الزهد صنو سمو الأخلاق، ويؤكد ذلك ما ورد من نصوص في كتاب مدارج السالكين لابن قيم الجوزية، ترجع بأصولها إلى أبي حفص الحداد وأبي الحسن النوري وأبي بكر الكتاني، إذ يقول هذا الأخير: التصوف خلق، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في الصفاء.
ويثير عرفان عبد الحميد فتاح إشكالية منهجية ذات أهمية تذكر من منطلق التزامه بأصول الحركة الروحية في الإسلام المؤطرة بالكتاب والسنة المطهرة، عازياً سبب التحول من حركة روحية زهدية خلقية إلى حركة تصوفية فلسفية ميتافيزيقية مغالية هدميه، مفادها: أن حركة الترجمة للعلوم والمعارف والفلسفات التي جرت في القرن الثالث الهجري أيام بيت الحكمة العباسي، وما جرى من جرائها من عمليات تثاقف واسعة بين الفكر العربي الإسلامي ودوائر حضارية إنسانية أخرى، أدخلت المجتمع العربي الإسلامي في حوار إنساني رائع ومثير قلما شهد تاريخ الحضارة البشرية مثيلاً له، مما نتج عن هذا الحوار، أن تسربت إلى الحركة الروحية في الإسلام أمشاج خليطة من عناصر تلكم الثقافات الأجنبية الموروثة والمغتربة في قيمها ومناهجها عن الإسلام.
إذ أثرت هذه العملية التثقافية في انحسار مصطلح الزهد والزهاد، ليحل محله مصطلح التصوف والصوفية، للدلالة على أقوام صاروا يعرفون به،…، مما يعني في بعض دلالاته التاريخية تحولاً أيضاً من نزعة (زهدية) ورعة تقية ونقية، إسلامية في دوافعها ونشأتها، على الرغم مما شابها من سرف وغلو في العبادات لا يقرها الإسلام، فلا يقيم لها وزناً، إلى تيار فكري معقد ومركب شديد التنوع في أصوله ومبانيه، متعدد الجهات في مصادره ومنابعه، بعيد في ذلك كله في مفاهيمه وتصوراته عن عقيد الإسلام وفلسفته في الحياة، وقد ظل هذا الأمر مرافقاً لنشأة التصوف الإسلامي في بداياته الأولى، من حيث الغلو في التأويل الباطني الذي لا يتقيد بقواعد اللغة العربية وأساليبها في الخطاب، ويتجاوز في تفسيراته حدود الشرع وأحكامه، مع ونزعة شاذة في السير والسلوك، ليشكل في النهاية حركة هدمية غالية صيغت في صورة فكر تلفيقي، يجمع بين النقائض والأضداد، أطلق عليها الإسلاميون الملتزمون اسم (زنادقة الزهاد والصوفية) . حتى أن المصادر الإسلامية ربطت هذا المصطلح أصلاً بأشخاص من أمثال عبدك الصوفي وأبي هاشم الكوفي وجابر بن حيان، ممن لم تحفل بهم المصادر الصوفية كثيراً، ولم تشر لهم، بل غاب ذكرهم في سلاسل الطرق الصوفية ونسبها الروحي.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يحدد عرفان عبد الحميد فتاح، الأثر السلبي وصور الانحراف التي شابت التصوف الإسلامي نتيجة تأثير المصادر الأجنبية فيه، بالأتي:
1. التأويل الرمزي والإشاري، وقد تم تحديد هويته في فقرة سابقة، ولا داعي لتكرارها هنا.
2. إسقاط التكاليف الدينية واستحلال المحرمات.
3. القول بوحدة الأديان.
4. تواتر النبوة.
5. عقيدة أسبقية الروح على البدن. وهذه العقيدة نظر إليها في الإسلام من خلال فريقين، الأول فريق أهل التفسير والحديث، وقد ذهبوا إلى القول أن الروح مع أنها حادثة مخلوقة، فإنها كانت تتمتع بوجود ما سابق ومنفصل عن وجودها المتصل بالبدن،…، وفريق ثاني: هم المتكلمون والفلاسفة، إذ قال المتكلمون أن النفوس حادثة مع أبدانها،..، والقول بخلاف ذلك يقود إلى عقيدة التناسخ والرجعة، ولهذا اجتهد الفلاسفة من أمثال الفارابي وابن سينا والغزالي والفخر الرازي وغيرهم لردّ هذه العقيدة ودحضها. أما الصوفية فقد ذهبوا إلى فكرة الوجود السابق للروح على البدن، فكان لها في فكرهم وتراثهم أثر واضح، أقاموا عليها نظرياتهم في قدم النور المحمدي والإنسان الكامل والولاية الصوفية.
من هذا الذي تقدم، ونتيجة له، قامت ردّات فعل عنيفة وحازمة وتصحيحية من الصوفية المسلمين الكبار في القرنين الثالث والرابع الهجريين، لإثبات أصالة التصوف الإسلامي وهويته الخاصة به، والمتمثلة بالمنهج الصحيح الذي يعتمد الأصول السبعة وهي: كتاب الله، والاقتداء بسنة رسوله صلة الله عليه وسلم، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وإداء الحقوق. وهو ما قال به سهل بن عبد التستري والجنيد البغدادي وغيرهم من الصوفية الكبار الذين برزوا في هذين القرنيين الهجريين. ناهيك عما قال عبد الكريم القشيري والغزالي اللذان أطرا التصوف بمنهج محكم، وأسسا له رؤية متكاملة لمن أراد السلوك لهذا الطريق.
2. أصالة التصوف البغدادي العراقي وخصائصه: تحت هذا العنوان، يكتب عرفان عبد الحميد فتاح بحثه هذا في كتابه دراسات في الفكر العربي الإسلامي، محدداً صفات التصوف العراقي البغدادي وماهيته بأزاء التصوفات الأخرى التي ظهرت في العالمين العربي والإسلامي، ناهيك عن ذلك، يضيف على بحثه هذا نصين آخرين عن خصائص التصوف العراقي البغدادي، الأول، تحت عنوان: المدرسة العراقية (علم الكلام، الفلسفة، التصوف)، ضمن موسوعة العراق في موكب الحضارة، ج3، والثاني تحت عنوان: علم الكلام، الفلسفة والتصوف، ضمن موسوعة حضارة العراق، ج8.
يتميز التصوف العراقي البغدادي على وفق عرفان عبد الحميد بمزايا، منها: أنه تصوف عربي إسلامي عراقي تأسس في بغداد، وصدر عن شيوخ الطائفة الصوفية وإمامها بلا منازع الجنيد البغدادي، إذ حاول شيوخه أن ينحو به نحو التأدب في تجربتهم الجوانية الروحية بأدب الدين والعقل معاً، حتى صارت مدوناتهم لهذا معالم بارزة تجسد هذا الاتجاه المعتدل المتوازن، كما هو واضح وبَيِّنٌ في تآليفهم التي هي عمدة السالكين ومنهاج القاصدين، وهي كتاب اللمع لأبي نصر السراج، وكتاب التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي، وكشف المحجوب للهجويري، والرسالة القشيرية لأبي القاسم القشيري، وعوارف المعارف لشهاب الدين عمر السهروردي، وغيرها، إنَّ هذه السمة للتصوف العراقي البغدادي التي ارتبطت بالشيخ الجنيد، أصبحت تطلق عليه تحت عنوان مدرسة التوكل والصحوة، في مقابل تصوف مدرسة السُكر والملامة والشطحات، فرداني مغالي شاذ في السلوك والاعتقاد، تأسس بمدينة نيسابور الفارسية من قبل رمزها أبي يزيد البسطامي.
فضلاً عن ذلك، يتميز التصوف العراقي البغدادي، أنه توسل إلى تحقيق مبدأ الالتزام والتأصيل العقيدي للتجربة الصوفية، صوناً لها من السقوط في دائرة النزعات الهدمية المضادة للدين وأحكامه. بوسائل مختلفة عدة، يمكن حصرها في اثنين، هما:
أ. الجمع بين الحقيقة والشريعة: إنَّ مردّ هذا الجمع بين الشريعة والحقيقة لدى الصوفية وسببه، على وفق عرفان عبد الحميد فتاح، إنما يعود إلى الصراع العنيف الذي جرى بين الفقهاء والمتكلمين من جهة، باعتبارهم حراس الشريعة والقائمون على صيانة الشرع المنزل، ولاعتقادهم إن الشريعة هي الحقيقة، ولا فرق بينهما، وبين المتصوفة، الذي يتبنون دعوى الكشف والذوق والإلهام والاتصال المباشر بالحقيقة الإلهية المطلقة بديلاً، ولهذا صرح شيوخ الصوفية الكبار من أمثال الجنيد البغدادي والقشيري والهجويري، وقد صرح هذا الأخير: إلى وضع معادلة جامعة بين الحقيقة والشريعة، صارت فيما بعد معتمد الصوفية بعامة،…، فإقامة الشريعة بدون وجود الحقيقة محال، وإقامة الحقيقة بدون حفظ الشريعة محال، ومثلها كمثل شخص حي بالروح، فعندما تنفصل عنه الروح يصير جيفة، وتصير الروح ريحاً، فقيمتهما في اقترانهما ببعضهما البعض، وكذلك الشريعة تكون بدون الحقيقة رياء، وتكون الحقيقة بدون الشريعة نفاقاً، ولهذا كان لهذا الربط المحكم المسدد بين الحقيقة التي يتوصل إليها الصوفي بالكشف والإلهام، بعد تجاوز مقامات الطهر ومنازله ومقاماته وأحواله، وبين أحكام الشريعة جملة نتائج إيجابية مؤثرة وفاعلة في مسيرة الصوفية وتطورها.
منها: قطع الطريق على دعاة النزعات الهدمية من الإباحيين والحلوليين والزنادقة من المتصوفة المنتسبين إلى الطائفة، زوراً ونفاقاً وبهتاناً، وما كانوا يبشرون به من نظرات وأفكار وسلوك يتناقض مع الإسلام، ولا يتفق معه،…، ومنها: وهو الأهم والأجل، أن عودة التصوف إلى رحاب الشريعة وأحكامها قد صير التجربة الصوفية مشروعاً مقبولاً ومعترفاً به من علماء الدين، فأسبغ هؤلاء الفقهاء بدورهم على المنهج الصوفي الشرعية والاعتبار، من حيث أن الصوفية جعلوا الشريعة وأحكامها المرتكز الأساس الذي تستند عليه تجربتهم، وهي ما تقوم عليه الأمة، وتجتمع من حوله، وتصدر عنه، مما أبعد التصوف البغدادي العراقي من مخاطر الخروج عن منهاج الأمة.
ب- الصحبة الصوفية وآداب المريدين: كانت الوسيلة المؤثرة عند التصوف العراقي البغدادي من أجل أن تبقى التجربة الروحية مشدودة إلى الشريعة وأحكامها، وإلزام السالك المريد لطريق التطهر والمجاهدات بمجموعة من القواعد السلوكية، التي صارت لشهرتها تعرف عند القوم بآداب التسليك. وهذا الآداب السلوكية لدى الصوفية توجد في مجموعة مصادر حددها عرفان عبد الحميد فتاح، على وفق مجموعة مصنفات، منها:
الأولى- مصنفات ظهرت تاريخياً مع التصوف البغدادي العراقي واستمرت حتى منتصف القرن السادس الهجري، إذ انصرفت هذه المصنفات لتحديد آداب الصحبة الثنائية بين الشيخ والمرشد والسالك والمريد، وهي آداب أريد بها طرح بديل منهجي تربوي لآداب العلم والمتعلمين، بعد أن أصبح التصوف علماً له شيوخه وتقاليده ومدوناته،…، ومن هذه المدونات كما أشار إليها الغزالي في المنقذ من الضلال هي: كتب الجنيد البغدادي وأبي بكر الشبلي، والحارث المحاسبي وأبي طالب المكي، قوت القلوب، الكلاباذي التعرف، فضلاً عن كتب ومدونات أخرى، هي كتاب الكلاباذي التعرف، وكتاب عمر السهرودي عوارف المعارف، وغيرهم.
والقصد من تمرس المريد لطريق التصوف على هذه المدونات والكتب، هو لتربية روحية ترتاض عليها النفس، في التوجيه مع الحق عز وجل، والأدب مع النفس في المعاملة، والأدب مع الخلق في الصحبة، ولا يتحقق هذا إلا بحسن المعاملة، وحفظ السنة (الشريعة)، ومراعاة الآداب العامة في الحضر والسفر، وفي المأكل والمشرب . ولا يكون ذلك إلا على وفق برنامج تربوي شديد الدقة، يمر به طالب الطريقة بسنوات حددها الهجويري بثلاثة، كما ويرتدي لباس الصوفية وهي (المرقعة)، وهي لباس يتمزق شيء منه من الأصل يوضع فرقه رقعة، وهي التي تعدّ علامة الدخول في التربية الروحية، وهي شعار المتصوفة، …، وقد اجتهد شيوخ الصوفية لإثبات مرجعية هذا اللباس إلى عصر النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وقد أفاض عرفان عبد الحميد بحديث مطول عن هذا الموضوع فيه تفصيلات، يمكن الرجوع إليها.
الثانية- مصنفات أو مدونات ظهرت بعد المصنفات الأولى تاريخيا، رافقت نشأة الطرق الصوفية ببغداد، وهي: الطريقة السهروردية المنسوبة للشيخ ضياء الدين أبي النجيب السهرودي (ت563هـ)، وابن أخيه الشيخ أبي حفص عمر السهروردي (ت632هـ) والطريقة الرفاعية المنسوبة إلى الشيخ أبي العباس أحمد بن أبي الحسن الرفاعي البطائحي (ت578هـ)، والطريقة القادرية المنسوبة إلى الشيخ عبد القادر ابن أبي صالح الجيلاني (ت560هـ)، التي ظهرت في أواخر القرن السادس وبداية القرن السابع الهجريين، اهتمت بآداب المريدين، ووضعت قواعد عامة مشتركة وتقاليد انضباطية لحياة جمعية في صورة أخوة دينية. تدعوا إلى: حفظ الطهارة، والامتناع عن اتخاذ المسجد وغيره من أماكن العبادة مجالس للهو، ووجوب أداء الصلاة المفروضة جمعاً وجماعة، والالتزام بأداء صلوات النوافل وقيام الليل، والإكثار من التسبيح والاستغفار عقب صلاة الفجر، وتلاوة القرآن والختمة الجماعية له، وقضاء الوقت بين صلاتي المغرب والعشاء في قراءة الأوراد والذكر والاستغفار، والقيام على خدمة القادمين والمسافرين من الدراويش والفقراء السائحين، وتناول وجبات الطعام جمعاً وجماعة، والامتناع عن ترك المجمع إلا برخصة وإعلام سابق، وقضاء فضلة الأوقات في دراسة أحكام الشريعة وقواعد العقيدة، والذكر والتسبيح والاستغفار.
إنّ هذا المنهج الصوفي الذي اتسم بالاعتدال والذي نما وترعرع ببغداد وأرض العراق، وأطلق عليه اسم التصوف العراقي العربي، هو الذي استطاع أن يحصل لنفسه على الشرعية الدينية من جمهور العلماء والفقهاء، على اختلاف مذاهبهم، كما وتمكن هذا التصوف من خلال كتابات المؤرخ والمفسر عبد الرحمن السلمي (ت412هـ)، وتلميذه أبي القاسم القشيري، ناهيك عن أبي حامد الغزالي،…، أن يزدهر ويتطور مع الزمن.
تلك هي معالم المدرسة العراقية البغدادية في التصوف، مدرسة تعتمد التعاليم السُنية، ومنهجها المعتدل، وتحفظ للتصوف بهاؤه ونضارته، وتبقي التجربة الروحية مشدودة إلى أصلي الإسلام الخالدين الكتاب والسنة.
الخاتمة- مما تقدم، يظهر بجلاء مدى الجهد العلمي الكبير الذي بذله عرفان عبد الحميد فتاح لإرساء معالم مدرسة فلسفية عراقية في التصوف الإسلامي، تعتمد المنهجية العلمية الدقيقة من حيث عرض المادة العلمية وتنبني المنهج التاريخي من جهة والمنهج التأويلي والتحليلي من أخرى لإثبات أصالة التصوف الإسلامي بعامة والعراقي البغدادي بخاصة. بالرجوع إلى أمات المصادر المعتمدة في هذا الجانب، ناهيك عن اتفاقه مع آراء الباحثين في التصوف سواء من المستشرقين أم العرب الذي كان لهم السهم الوافر في البحث عن التصوف منهجاً وطريقة ومعرفة ورجالاً. أو المخالفة لهم فيما توصلوا إليه من نتائج، لربما تكذبها بعض النصوص الصوفية الإسلامية، وهذا هو ديدن الباحث العلمي الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم.
فضلاً عن ذلك، كان الهدف والغاية مما قام به عرفان عبد الحميد فتاح في درس التصوف الإسلامي، هو تقديم صورة عقلانية وسطية، بعيدة عن كل النزعات المنحرفة والغلو والتأويل الذي لا يتطابق مع أصول اللغة العربية ونحوها وصرفها وبيانها، بل وتقديم صورة عن هذا التصوف بما يتطابق مع الشريعة الإسلامية المتمثلة بكتاب الله وسنة نبيه وما جاءت به أقوال الصحابة والتابعين.
إذ قد نجح عرفان عبد الحميد فتاح على وفق ما أرى في تقديم صورة إيجابية عن هذا التصوف، مقبولة لدى معارضيه من الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة العقلانيين الذين ينظرون للتصوف على أنه طريق منحرف عن الشريعة وأحكامها وسننها.
عليه، فهذه دعوة مني للباحثين العراقيين المتفلسفين من الشباب، أن يجهدواً أنفسهم في البحث والدرس لكشف ملامح المدرسة العراقية الفلسفية المعاصرة، وما أدته من دور في إرساء المعرفة العلمية الحقة في مجال تخصصها، والمتمثلة بشخصيات فلسفية رفدت المكتبة العراقية والعربية والعالمية بدراسات ورؤى وتصورات وأحكام قيمة، منهم على سبيل المثال حسام محي الدين الآلوسي، وعرفان عبد الحميد فتاح، وكامل مصطفى الشيبي، وجعفر آل ياسين، وياسين خليل، ومدني صالح، وناجي عباس التكريتي، وكريم متى، وعبد الستار الراوي، وعلي حسين الجابري، ومحمد رمضان عبدالله، ومحمد جلوب فرحان، ونظلة احمد نائل الجبوري، وفضيلة عباس مطلك، وآخرين ممن لا يسع المجال لذكرهم.
إذ تتميز المدرسة هذه المدرسة العراقية الفلسفية، بالإنتاج النوعي للمعرفة الفلسفية دون الكمي، فعلى الرغم من قلة ما كتبت في مجال الفلسفة وفروعها المتعددة، إلا أنها بقيت محط احترام وتبجيل وتقدير كبيرين من قبل الباحثين المتفلسفين العرب وسواهم من العالمين الإسلامي والغربي، وعلى الرغم مما عانت هذه المدرسة من قلة تسليط الضوء على نتاجها المعرفي إعلامياً، إلا أنها بقيت محتفظة بهويتها المعرفية التي تعبر عن سمات الشخصية العراقية الفلسفية، التي ما زال البحث العلمي فيها بِكراً.
إنها دعوى عسى أن تجد لها من يأخذ بها ويشمر عن ساعد الجد، ليجد في ما كتب في هذه المدرسة من نتاج، أنه منجم معرفي كبير، يستحق الكشف عنه البحث والدرس فيه.