التصوف إسلاميا: قراءة في المصدر والمعرفة والتجربة
عصام بوشربة
تقديم :
يعتبر التصوف بوجه عام فلسفة حياة، و نظرة للوجود تنعكس صورتها على سلوك الإنسان الآمل لتحقيق كماله الأخلاقي، و عرفانه بالحقيقة، وسعادته الروحية، وبهذا المعنى نجد أن التصوف لا يقف عند حدود جنس معين أو لغة أو دين، فهو تجربة روحية مرتبطة بالإنسان، ووجوده كظاهرة عرفت لدى الهنود و الفرس و اليونان و اليهود و المسيحيين لتبرز شمسها عند المسلمين ، ولما كان الاختلاف سنة تعتري طبيعة البشر، لزم عن هذا أن لها دورا في اختلاف طبيعة تجاربهم الروحية؛ من حيث استمداداتها والأسس التي ترتكز عليها والخصائص التي تميزها.
من هنا نجد أن المتصوفة الذين نشؤوا في البيئة الإسلامية انطلقوا من تجاربهم الروحية من منطلق إسلامي أصيل جاعلين من القرآن وسلوك النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته مثالا يقتدى به في العقيدة والعبادة والسلوك، وإن وجد هناك تأثير وتأثر بين التصوف الإسلامي وغيره من أشكال التصوف التي عرفت في بيئات أخرى، فهي مرحلة يخضع لها أي فكر في تطوره، كما أن لهذا التأثير مجالات محددة لا تمس أصول ومبادئ التجربة الصوفية الإسلامية في خصوصيتها .
أولا: الأصول الإسلامية للتصوف
يستمد التصوف في الإسلام أصوله من :
أ- القرآن الكريم
ب- السنة النبوية
ج- سلوك الصحابة
د- الواقع
الأصل الأول : القرآن الكريم مصدر المقامات والأحوال
يقوم السلوك الصوفي على مجاهدة النفس في طي مراحل القرب من الله، التي تأخذ في سيرها معراجا روحيا قوامه فيما يعرف عند الصوفية بالمقامات والأحوال، ولهذا حرص الصوفية في كتبهم على بيان أن هذه المقامات والأحوال تستند جميعها إلى القرآن الكريم([1])، و من الشواهد التي تؤكد حقيقة ذلك :
_ مقام التقوى: في قوله عز وجل:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ “([2]).
-مقام الزهد: ” أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا “([3]).
– مقام التوكل:” وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا “([4]).
– مقام الرضا:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ“([5]).
-المعرفة والإلهام الحاصل من التقوى والتخلق فمرده إلى قوله تعالى:” وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ “([6])، وقوله: ” فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا “ ([7]) .
– حال الخوف مرده إلى قوله تعالى:” تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ “([8]).
-حال الرجاء مرده إلى قوله تعالى: ” مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ([9]).
– حال الذكر في قوله تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا “([10]).
– حال الدعاء في قوله تعالى:” أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ “([11]) .
وفق هذا التصور يتضح لدينا” أن البذور الأولى للتصوف الإسلامي؛ من حيث هو علم المقامات والأحوال، أو بعبارة أخرى من حيث هو علم للأخلاق الإنسانية والسلوك الإنساني، موجودة في القرآن الكريم، ومن هنا يكون التصوف من حيث نشأته الأولى آخذا من القرآن”([12]) ، وأن هذه المنطلقات” كلها وغيرها كافية لإلهام عطاء معنوي عظيم واسع في شأن الله والإنسان والعالم، وبالأخص في مورد ارتباط الإنسان بالله “([13]).
الأصل الثاني: سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم
يرى الصوفية في تحنث النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء على أنها البذرة الأولى التي نبت منها التصوف، فلقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يتحنث في غار حراء كلما أقبل شهر رمضان، وكان يقضي في خلوته كل سنة الليالي ذوات العدد، فأتاح له الله بذلك كل صفاء القلب([14]) .
وهو معنى عميق ذهب إليه المتصوفة، فهو تأكيد على إنسانية التصوف كتجربة مفتوحة من جهة، ومن جهة أخرى تأكيد على الذاتية والفردية التي لا تكاد تجاوز من تعرض لهذه التجربة أو عاشها، إضافة إلى هذا أنها تمنح صاحبها صفاء الطبع ونقاء التأمل يغيران نظرته السابقة ، فهي أشبه من نقلة من عالم إلى عالم دون وضع اعتبار لحدود الزمان والمكان .
ومن هنا يأخذ الصوفية بمبدأ (العزلة) و (الخلوة) كمرحلة من مراحل السلوك، استنادا في ذلك إلى خلوة النبي صلى الله عليه وسلم ، كما يروي ذلك أبو هريرة رضي الله عنه أن :” أول ما بدء به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم .. ثم حُبب إليه الخلاء، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك..حتى جاءه الحق وهو في الغار“([15]) ولهذا جاء كلام أبي حامد الغزالي ليقدم فوائدا للخلوة تتمثل في:” التفرغ للعبادة والفكر، والاستئناس بمناجاة الله تعالى عن مناجاة الخلق، والاشتغال باستكشاف أسرار الله تعالى في أمر الدنيا والآخرة ، وملكوت السموات والأرض، فإن ذلك يستدعي فراغا، ولا فراغ مع المخالطة، فالعزلة وسيلة إليه”( [16]) .
أما عن حياته صلى الله عليه وسلم بعد البعثة، فقد كان يأخذ نفسه بالتقشف في المأكل والملبس، مقبلا على التقوى والخوف والصبر والرضا والشكر والعكوف على العبادة، وكل هذا كان منبعا ومصدرا لما كرّس له الصوفية أنفسهم من الرياضة والمجاهدة، ولما كانوا يتقلبون فيه من منازل ومقامات، هي عندهم سبيل العبد إلى التصفية والقرب من الله([17]).
وقد احتفت كتب السيرة والشمائل بصفاته صلى الله عليه وسلم الخلقية والسلوكية والروحية، نشير إلى أمثلة منها، والتي اتخذها الصوفية سلوكا ونبراسا في تجربتهم الروحية ، فأما عن تهجده واعتكافه، فقد جاء عن المغيرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم يصلي في الليل حتى انتفخت قدماه، فقيل له: أتَكلُّفٌ هذا، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: “أفلا أكون عبدا شكورا “([18])، وقوله صلى الله عليه وسلم” يا أيها الناس توبوا إلى الله ، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة”([19]) .
ودعوته صلى الله عليه وسلم إلى الزهد والتقرب بالنوافل، حيث قال :” ازهد في الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما أيدي الناس يحبك الناس” ([20]) .
ومن الأحاديث التي تدور عليها الممارسة الصوفية الحديثان الصحيحان “من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولازال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعيذنه” ([21]) .
والحديث الصحيح الذي كان سبب وروده سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام وعن الإيمان ثم عن الإحسان ، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم:”الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك “([22]) .
الأصل الثالث: حياة الصحابة وأقوالهم
اتخذ الصوفية سلوك الصحابة وأقوالهم الدالة على التقشف والزهد والإقبال على الله والإعراض عن الدنيا ، معينا يغترفون منه و يتمثلونه في تجاربهم ، ومن هذه الآثار نذكر:
روي عن أبي عثمان الهندي أنه قال: “رأيت على عمر رضي الله عنه قميصا فيه اثنتي عشرة رقعة، وهو يخطب ، وروي عن عمر رضي الله عنه قوله: رحم الله امرئ أهدى إلي عيوبي”([23]) .
ويروى عن أبي بكر أنه كان يطوي ستة أيام وكان لا يزيد على ثوب واحد، وكان يقول: “إذا دخل العجب بشيء من زينة الدنيا مقته الله حتى يفارق تلك الزينة “([24]) .
وهذه الآثار وغيرها اتخذها الصوفية نبراس سير، وأنموذج جسّد السلوك الصوفي في التاريخ، واحتفت كتب التصوف بفصول تسرد خصال الصحابة وصفاتهم، ومواقفهم، وهذا الاعتناء يمكن أن يصدق عليه الاقتداء الحقيقي بالسلف، وحضور للسلف في حاضر السالك عمليا ، وليس رجوعا للسلف قولا وإسفافا .
الأصل الرابع: واقع الحياة الإسلامية
كانت الظروف السياسية والاجتماعية التي عرفتها البيئة الإسلامية دور في تغذية الاتجاه الصوفي في الإسلام، ذلك أنه قد طرأت على حياة المسلمين منذ القرن الثاني الهجري ظروف حضارية جعلتهم يهتمون بالجانب المادي على حساب الجانب الروحي، ومن أهم هذه الظروف :
أ- قيام الدولة الأموية وتفشي الإقبال على الدنيا والإسراف في الملذات والشهوات .
ب- اعتناء علماء الفقه والتفسير بشكلية الدين وظاهره دون الجوهر .
ج- ميل علماء الكلام إلى اعتماد العقل لتحقيق اليقين في العقائد .
أ- قيام الدولة الأموية وتفشي الإقبال على الدنيا والإسراف في الملذات والشهوات:
أدى وجود المسلمين بعد الفتوحات في مجتمع متعدد المشارب الحضارية، خاصة وأنه كان في المنتمين إلى هذه الحضارات انجذاب للدنيا بما فيها تمجيد للمال واللذات وحياة البذخ، فاغتر المسلمون بهذا اللون من الحياة متناسين حياتهم الأولى، والمقصد الأساسي من الفتوحات، وهو نشر الإسلام وتطبيقه وتعليمه لأهالي البلاد المفتوحة([25]) .
فنجم عن هذا الوضع ظهور فريق آخر ثار على هذا اللون من الحياة ، نتيجة لما رأوا فيه من إهمال لروح التشريع، وهو ما جاء في كلام ابن خلدون:” عندما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده ، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة”([26]) .
وشجعت سياسة بني أمية هذا الانحراف عن المسار الرسالي فزادت حدة اللهف على الدنيا وجمع المال بحجة إنفاقه في سبيل الله، وأثروا خزائنهم، وفرضوا الضرائب والمكوس على شعوب الدول المفتوحة، إلى درجة وصل بهم الأمر إلى منع الناس من الدخول في الإسلام حتى يبقوا تحت سلطتهم وفي حمايتهم (أهل الذمة) حتى يستمروا في دفع الجزية إلا أن جاء عمر بن عبد العزيز وأبطل هذا فيما بعد([27]) .
ففزع خيار المسلمين وأطهرهم من هذه الحالة التي آلت إليها الأمة، وذهبوا مذهبا ينقض الروح ويحفظ كيانها، فاتجهوا للعبادة والزهد، وأنشئوا مدارسا تعنى برباط بذلك وتشدها إلى حقيقتها الأصلية([28]) .
ب-اعتناء علماء الفقه والتفسير بشكلية الدين وظاهره دون الجوهر:
رأى عٌبّاد المسلمين وزٌهّادهم تضييق فقهاء الدين وتركيزهم على الجانب الظاهري والشكلي، إذ انساقوا وراء إطلاق الأحكام بالتحليل أو التحريم ، وقصروا الدين على الجوارح، وأغفلوا الجانب الروحي وما يقتضيه من مجاهدة و تطهر، ومما يصور لنا هذه الحالة ما كتبه ابن منبه إلى مكحول إنك امرؤ قد أصبحت فيما ظهر من علم الإسلام شرعا فاطلب ما بطن من علم الإسلام عند الله محبة و زلفى([29])، و كذلك ما جاء عن رويم البغدادي في قوله:” كل الخلق قصروا على الرسوم وقعدت هذه الطائفة على الحقائق، وطالب الخلق أنفسهم بظواهر الشرع، وهم طالبوا أنفسهم بحقيقة الورع ومداومة الصدق”.
كما ثار الصوفية ضد علماء التفسير الذين وقفوا من الآيات موقفا يتتبع ظواهرها، وما يقتضيه العقل منها، فذهبوا إلى تجاوز هذا من خلال التعمق والغوص في باطن المعاني، وباتحاد الفكر والجسد (السلوك)، وهو ما أكده أحمد زروق في قوله: “نظر الصوفي أخص من نظر المفسر وصاحب فقه الحديث؛ لأن كلا منهما يعتبر الحكم والمعنى ليس إلا، بينما يزيد الصوفي بطلب الإشارة بعد إثبات ما أثبتاه”([30]) .
ج-ميل علماء الكلام إلى الاعتماد على العقل لتحقيق اليقين في العقائد:
رأى الصوفية قصورا في ما اعتمده علماء الكلام من مصادر معرفية(العقل والنقل والحواس)، و كذلك ما نتج عن ما ذهب إليه الفلاسفة من بلبلة في الفكر واضطراب في النفس مشككين في طرقهم وأهدافهم، خاصة لما تبع ذلك الإعجاب بالنفس، وصرف الهمة إلى الانتصار على الخصم، وإبطال الحجج ولو بغير حق([31])، فشجع هذا الجو على الفرقة والاختلاف خاصة بين الأشعرية والمدافعين عن العقلانية، وهو ما حفز المتصوفة لكي يترفعوا عن هذا الميل المذهبي العقيم .
كما ساد ضعف الغيرة الدينية بسبب الميل الكلي إلى العقلانية الذي عرفه العصر العباسي الأول، مما انعكس سلبيا على الأخلاق، ونتج عنه قلة المبالاة بالالتزام الديني([32]) .
وهذا ما جعل الصوفية ينفرون من الجدل كوسيلة للمعرفة، وينهجون طريقا أكثر يقينا وثباتا رأوه يتجسد في المعرفة الذوقية، التي يصبح فيها القلب محلا للإدراك الذوقي، ولا يحصل هذا إلا إذا تخلص الإنسان من حجب الشهوة والهوى([33]) .
ثانيا :منهج المعرفة الصوفية
يعد التصوف في نظر أصحابه منهجا معرفيا يقوم على الكشف والإلهام إلى جانب كونه سلوكا في الحياة، وبناء على هذا المنطلق يشق الصوفي طريقه المعرفي على أساس التأمل الباطني، والمجاهدة الروحية والرياضة القلبية .
ويفرق الصوفية بين لفظ(المعرفة)ولفظ(العلم)؛ حيث ترتبط(المعرفة) عندهم بالتجربة المباشرة التي تنتج انطباعا خاصا أو لقاء مباشرا بموضوع المعرفة([34])، فهي تدل على نمط شديد الخصوصية من الإدراك والعلم تشير إلى طريقة خاصة، وتعتمد وسائل خاصة([35])، أما(العلم) فهو أكثر عمومية؛ حيث يدل على كسب المعلومات نقلا أو عقلا بالنسبة للإنسان، فالمعرفة تتطلب تجربة مباشرة، بينما العلم لا يشترط التجربة، ويجري استعمال اللفظين في التداول الصوفي بما يدل على معرفة الله أو العلم به([36]) .
وينبني على التفريق بين (المعرفة) و(العلم)، تفريق بين وسيلة كل منهما، فاعتبر الصوفية أن العقل والقلب كل منهما يختص بنوع من الإدراك، فسموا إدراك العقل علما، وإدراك القلب معرفة وذوقا، وسموا صاحب النوع الأول عالما، وصاحب النوع الثاني عارفا([37]) .
كما يعتقد الصوفية أن مركز المعرفة وأداتها هو القلب لا العقل، وهو مركز المحبة والتجلي الإلهي، وليس المراد بالقلب تلك المضغة الصنوبرية الجاثمة في الصدر، بل هو “لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلق ، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان، وهو المدرك العالم العارف من الإنسان، وهو المخاطب والمعاقب والمطالب”([38]) .
فالعقل عند الصوفية هو”غريزة جعلها الله عز وجل في الممتحنيين من عباده، لا يعرف إلا بفعاله في القلب والجوارح، لا يقدر أحد أن يصفه في نفسه، ولا في غيره بغير أفعاله لا يقدر أن يصفه بجسمية ولا بطول، ولا بعرض، ولا بطعم، ولا شم، ولا مجسة ولا لون ،ولا يعرف إلا بأفعاله “( [39]) .
وبذهب أبو حامد الغزالي إلى اعتبار أن العقل اسم يطلق على أربعة معان:
الأول:الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر البهائم، وهو الذي استعد لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفية الفكرية .
الثاني: العلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات .
الثالث: علوم تستفاد من التجارب بمجاري الأحوال .
الرابع: أن تنتهي قوة تلك الغريزة إلى أن يعرف عواقب الأمور، ويقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة ويقهرها، فالأولان بالطبع والآخران بالاكتساب([40])، إلى أن ينتهي الغزالي بالقول: “إنا نريد بالعقل:ما يريده بعين اليقين ونور الإيمان، وهي الصفة الباطنية التي يتميز بها الآدمي عن البهائم حتى أدرك بها حقائق الأمور”([41]) .
وهكذا انتقل الغزالي في تحديد معنى العقل من العقل باعتباره جوهرا بسيطا إلى كونه ملكة، فغريزة معرفة، فمعيار تمييز ببين الحق والباطل، فمستعير بالحال لمعرفة السلوك المناسب للمآل، على نهج من الإيمان واليقين .
وقد سعى المتصوفة لتدعيم نظرتهم بشأن العقل، تارة بكشف موارد الاضطراب الذي حصل في تحديد معنى العقل، والذي استنتجوا من خلاله عدم صلاحية كل دخيل اصطلاحي يعتبر أن العقل جوهرا، مشيرين إلى أن هذا التحديد هو من هفوات ابن رشد ومن سبقه من الفلاسفة، ورتبوا على هذه القناعة جملة من وظائف العقل منها :
أ- صورة الربط؛ بمعنى أن العقل هو إدراك القلب للعلاقة بين معلومين .
ب- صورة الكف؛ بمعنى أن العقل يمنح صاحبه من الوقوع يما يضر به من النزعات والشهوات والأهواء .
ج- صورة الضبط؛ بمعنى أن العقل هو إمساك القلب لما يصل إليه حتى لا ينفلت منه([42]) .
كما عمدوا إلى تعميم نظرتهم تارة أخرى بالعودة إلى النصوص القرآنية، واستقراء الآيات التي ورد فيها مادة (عقل)، إما بصيغة فعل المضارع على سبيل الاستفهام مثل قوله تعالى:” أتامرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون”([43]) ، أو على سبيل التقرير“لآيات لقوم يعقلون”([44]) ، أو على سبيل النفي:” أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون”([45])، فإذا تأملنا في الصياغة التي جاءت بها كلمة (عقل) ندرك من خلالها أمرين :
الأول: إن الفعل وصيغته إنما يدل على حدث في زمن وقع أو يقع في”الآن” غير قار، وهو بذلك يحدث عبرة أو يقظة أو ثقافة، حتى إذا ما استقرت وثبتت في مصدرها كانت عقلا أو فؤادا أو لبا أو قلبا([46]) ، ومن هنا كان الاستنكار على قوم في قوله تعالى:” أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ“([47]) .
الثاني: إن ذكر العقل كمصدر لفعل التعقل قد ورد كثيرا في الروايات والأحاديث على تنوع اهتماماتها العبادية أو الأخلاقية أو السلوكية أو المعرفية، بحيث أنه أسمى ما خلق الله “العقل” وليس من المفارقة أن يعد الصوفية القلب مركزا للإدراك الذوقي أو الفهم أحيانا، أو المعرفة اليقينية على الإطلاق، فقد جرى الاستعمال القرآني على اعتبار القلب محلا للإيمان الصحيح، ومركزا للفهم والتدبر([48]) ، وقوله سبحانه وتعالى :” فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ “([49])، وقوله سبحانه وتعالى:” لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ “([50]) .
وقوله سبحانه وتعالى:” خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ “([51]) ، وقوله سبحانه وتعالى:” ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ “([52]) .
فقصور العقل عن إدراك الأسرار الإلهية، هو ما حذا بالمتصوفة إلى الاستعاضة عنه بـ(القلب) الذي هو الأداة الوحيدة المؤهلة للمعرفة الحقة([53]) ، وفي هذا الصدد يقول ابن عربي:”ولما كانت الأنبياء صلوات الله عليهم لا تأخذ علومها إلا من الوحي الخاص الإلهي، فقلوبهم ساذجة من النظر العقلي لعلمهم بقصور العقل من حيث نظره الفكري عن إدراك الأمور على ما هي عليه والإخبار أيضا يقصر عن إدراك ما لا ينال إلا بالذوق”([54]) .
وبناء عليه فالمتصوف أثناء سلوكه لا يستعين بالعقل أو الحواس؛ لأنه يسعى إلى تكوين تجربته كلية، تساهم فيها الذات برمتها، وهذا يقتضي منه إلغاء منافذ العقل والحواس التي ينظر منها إلى العالم، وجعل هذا الأخير ينظر إلى نفسه من خلال الإنسان .
كما أن المعرفة التي تقتصر على العقل تعتبر في نظر الصوفي غير يقينية، لأنها غير مباشرة، فهي تستخلص من مقدمات معينة نتائج تلزم عنها، وبوسائط لا يمكن الجزم بمدى صدقها([55]) .
ويقدم أبو حامد الغزالي صورة واضحة عن حقيقة التجربة ومنهج السلوك عند المتصوفة من خلال تجربته الخاصة، فيقول:” أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وبعمل، وكان العلم أيسر علي من العمل، فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم…فظهر لي أن أخص خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعليم، بل بالذوق والحال وتبدل الصفات”([56]) .
فهذه شهادة صريحة من الغزالي تبين لنا أن التصوف في حقيقته (تجربة روحية)، يختلف منهجها تمام الاختلاف عن العلم، وهي بعيدة كل البعد عن عمل العقل الفلسفي، بل هي وليدة العمل ونتاج المجاهدة النفسية، فإذا كان للصوفي فلسفته كانت هذه الفلسفة تأييدا لمشاهدته الصوفية، وتجاربه، وليس شيئا مستقلا عنها([57]) .
ويذهب طه عبد الرحمن إلى أن العقل الصوفي الذي يصطلح عليه”بالعقل المؤيد” يمثل أعلى مراتب العقل من حيث الفاعلية العقلية، ثم يليه العقل المسدد، ثم العقل المجرد في رتبة أدنى، قالبا بذلك هرم الترتيب عند الجابري القائم على تفاضلية يحتل العقل البرهاني قمة الهرم، ثم يليه العقل البياني ثم العقل العرفاني، ويدلل طه عبد الرحمن على موقفه هذا بأن المعرفة التي يختص بها العقل المؤيد متوسلة بالتجربة الحية فهو قائم على النظر العملي أو الملابسة(التجريب)، وعلى نمط من التربية مبني على تحصيل الأخلاق النموذجية وتوصيل المعاني الروحية([58])، كما يجوز على الصفة الكمالية في الممارسة العقلانية من جهة كونه يتقي الآفات الخلقية كـ” التظاهر والتقليد” والآفات العلمية كـ” التجريد والتسييس”، الذين يقع فيهما كل من العقل المسدد والمجرد .
ومن جهة أخرى يعتبر طه عبد الرحمن أن العقل المؤيد يتوفر على شروط كمال العقل المتمثلة في:” عدم انفكاك العلم عن العمل في الممارسة العقلية (اجتماع المقال والحال في التجربة الصوفية)، وعدم انفكاك معرفة موضوع أي علم عن معرفة (رؤية الله في كل شيء)، والاستزادة الدائمة في الممارسة العقلية من غير خروج إلى ما فيه احتمال الضرر (التقرب بالنوافل)”([59] ) .
ثالثا:مقومات التجربة الصوفية
التصوف في نظر أهله من حيث هو تجربة: طريقة مخصوصة تشتمل على مجموعة قواعد ودعائم ينشدها السالك في رياضته الروحية، مستهدفا غاية مخصوصة هي الفناء في الحق تعالى، والوصول عن طريق التطهر الروحي والمجاهدة إلى نوع من المعرفة التي تتجاوز في صفائها ووضوحها ألوان المعارف الأخرى([60])، وفي هذا الشأن يقول أبو حامد الغزالي:”هو العلم بكيفية تطهير القلب من الخبائث والمكدرات بالكف عن الشهوات، وإخماد القوى البشرية بقطع جميع العلائق البدنية، والإقتداء بالأنبياء صلوات الله عليهم في جميع أحوالهم، فبقدر ما ينجلي من القلب، ويحاذي به شطر الحق يتلألأ فيه حقائقه”([61]) .
وأول ركيزة أولاها الصوفية اهتماما هي استعداد السالك والمريد في خوضه غمار هذه التجربة، فوضعوا لذلك شروطا و آدابا تقيم وتضبط سلوكه في السير، فجاء عن أبي سعيد الخراز–رحمه الله– أن من أدب المريد، وعلامة صدق إرادته “أن يكون الغالب عليه الرقة والشفقة والتلطف والبذل، واحتمال المكاره كلها عن عبيده، وعن خلقه، حتى يكون لعبيده أرضا يسعون عليها، ويكون للشيخ كالابن البار، وللصبي كالأب الشفيق، ويكون مع جميع الخلق على هذا، يشتكي بشكواهم، ويغتم لمصائبهم، ويصبر على آذاهم”([62]) .
وفي هذه الرياضة وهذه المجاهدة، على الصوفي السالك أن يتخذ لنفسه مرشدا، أي رجلا محنك التجربة، عميق المعرفة، بصيرا بعيوب النفس، مطلعا على خفايا الآفات([63])، ولهذا شدد الصوفية على “الحرص على طلب شيخ صالح مرشد ناصح، عارف بالشريعة، سالك للطريقة، ذائق الحقيقة، كامل العقل، واسع الصدر، حسن السياسة، عارف بطبقات الناس، مميز بين غرائزهم وميولهم، وفطرهم وأحوالهم” ([64]).
وهكذا استقر الأمر بين الصوفية على أن تبعية السالك للشيخ أمر لازم لا يسع أحدا إنكاره وصار هذا بمرور الزمن من الأمور الضرورية، وقد برر الصوفية هذا الالتزام بأن مدارك هذه الطريقة ليست من قبيل المعارف الكسبية، وإنما هي ذات منبع وجداني إلهامي، ناشئة عن مجاهدة وعمل مخصوص، وهو ما لا يدرك بالمعارف الكسبية، وإنما يحتاج في تفسيرها إلى من عاش هذه التجربة فهو من يميزها بالعيان والشفاه، ويعلم هيئات الأعمال التي تنشأ عنها، وخصوصيات أحوالها([65]) .
ويتدرج الصوفي السالك المتأدب بأدب الشيخ في طريقه عبر سلسلة من المقامات، والمقام”هو الملكة الثابتة لما ينازله السالك من الصفات”([66])، فمعناه مقام العبد بين يدي الله عز وجل فيما يقام فيه من العبادات والمجاهدات والرياضات والانقطاع إلى الله عز وجل([67])، وترد عليه في ترقيه من مقام إلى مقام أحوال، وهي:” المواهب الفايضة على العبد من ربه، إما واردة عليه ميراثا للعمل الصالح المزكي للنفس المصفي للقلب، وإما نازلة من الحق امتنانا محضا، وإنما سميت أحوالا لتحول العبد بها من الرسوم الخلقية ودركات البعد إلى الصفات الحقية ودرجات القرب ، وذلك هو معنى الترقي”([68]) .
وقد اتفق كل من ابن عجيبة والهجويري والقشيري في تعريف الحال بأنه معنى يرد على القلب من غير تعمد، ولا اجتلاب ولا اكتساب من حزن أو بسط ، أو قبض، وهكذا …
وهذه المقامات التي يتدرج فيها السالك ، وكذا الأحوال النفسية المصاحبة لها تختلف من تجربة إلى أخرى، لذلك فقد اختلف شيوخ الصوفية في ذكر المقامات ووصف الأحوال، ومن ثم إن حاول أحدهم أن يرسم خطوات التطهر والتزكية والسمو الروحي، فإن خطته لن تتطابق بالضرورة وما رسمه الآخرون ([69]) .
أما بخصوص التزام الشريعة، فيركز إجماع شيوخ الصوفية على ضرورة التزام المريد في أثناء رياضته بأحكام الشريعة الظاهرة، والعمل بالتكاليف الدينية المكتوبة، باعتبار أن الالتزام بالكتاب والسنة هو المدخل الممهد إلى الرياضة والمجاهدة الروحية والتطهر النفسي([70])، فجاء على لسان الجنيد قوله:” الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، واتبع سنته، ولزم طريقته، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه “([71]) .
ولم يقف الصوفية عند حدود ظاهر الدين، ولم يفهموا في وقت من الأوقات حرفيته، ولا من الشريعة مجرد طقوسها، بل كانوا ينتهجون فهما يختلف عن فهم الفقهاء([72]) ، يشيرأحمد زروق(899ه-1493م) إلى هذا المعنى، وهو أن الناس في رجوعهم إلى الكتاب والسنة ثلاث مسالك: “منهم من تعلق بالظاهر دون النظر إلى المعنى جملة، وهم أهل الجحود من الظاهرية ، ومنهم من نظر إلى نفس المعنى، لكن جمعوا بين الحقائق فتأولوا ما يؤول وعدلوا ما يعدل، وهؤلاء أهل التحقيق من أصحاب المعاني، ومنهم من أثبت المعاني وحقق المباني، وأخذوا الإشارة من ظاهر اللفظ وباطن المعنى، وهم الصوفية المحققون، والأئمة المدققون”([73]) .
وقد أوجس أوائل الصوفية خيفة من المبالغة في التفرقة بين الشريعة والحقيقة بما قد يؤدي إلى التراخي في القيام بواجبات الشرع، فألحوا في المطالبة بظاهر الشرع([74])، وفي هذا يقول سهل التستري :”أصولنا سبعة أشياء:التمسك بكتاب الله تعالى، والإقتداء بسنة رسول صلى الله عليه وسلم، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة، وأداء الحقوق”([75]) .
ويقول أبو سعيد الخراز:” كل باطن يخالف ظاهرا فهو باطل”([76]) .
ومما يدل على أن التزام الصوفية بالشريعة، والإقتداء الدقيق بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلك الرسالة التي وجهها القشيري لصوفية عصره، لما رأى منهم فتورا واستخفافا بطاهر الدين، في قوله: “إن المحققين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم ولم يبق في زماننا من هذه الطائفة إلا أثرهم كما قيل: أما الخيام فهي كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائها”([77]) .
ومن جانب آخر فقد أنكر الصوفية على من ذهب إلى التفريق بين الشريعة والطريقة، فيقول سهل بن عبد الله: “احفظوا السواد على البياض، فما أحد ترك الظاهر إلا تزندق”، وعن أبي بكر الدقاق، قال سمعت أبا سعيد الخزار يقول: “كل باطن يخالف ظاهرا فهو باطل”([78]) .
ويعتبر الصوفية أن أعلى درجات القرب، ومنتهى المعراج إلى الله (المقامات) هو مقام الولاية، وللولي معنيان: “أولهما: هو الذي يتولى الحق حفظه وحراسته، فلا يكله إلى نفسه لحظة، بل يتولى رعايته على التوالي، ويديم توفيقه إلى الطاعات، وثانيهما: من يتولى عبادة الله وطاعته، فطاعته تجري على التوالي من غير أن تتخللها معصية، فيكون وليا بمعنى توالي طاعته لربه”([79]) .
ويرتبط بمقام الولاية خاصية الكرامة “وهي خرق العادة على غير المألوف والطبيعي، فهي تدخل في باب المعجزات”([80]) ، و”تظهر على عبد تخصيصا له وتفضيلا، وقد تكون باختياره ودعائه، وقد تكون بغير اختياره في بعض الأوقات”([81]) .
والكرامة نوعان: كرامة ظاهرة وأخرى باطنة، أما الظاهرة فهي التي يراها الغير، وقد تعود ثمرتها عليه، وهي كما سبق القول علامة على صدق الولي وعون له على طاعته ودالة على صدق دعواه، أما الباطنة فهي التي لا يراها سوى الولي ذاته، وهي خاصة به ومقوية ليقينه، وعليه سترها وإخفاؤها([82]) .
وأختم دعائم التجربة الصوفية، ومراحل السير الصوفي بجملة من الخصائص والمميزات التي يضفيها محمد إقبال على هذه التجربة، والتي نرى أنها جديرة بالوقوف عندها، لما فيها من إرشاد للباحث والدارس للتصوف:
-هي تجربة أو رياضة تصل إلى النفس مباشرة، وهي في هذا لا تختلف عن غيرها من مستويات التجارب الإنسانية التي تمدنا بمادة للمعرفة، فكل التجارب مباشرة، وكما أن نواحي التجربة العادية تخضع لتأويل موضوعات الحس لتحصيل العلم بالعالم الخارجي، فكذلك مجال التجربة الصوفية يخضع للتأويل لتحصيل العلم بالله ([83]) .
-الرياضة الصوفية كل لا يقبل التحليل، فحال المتصوف مهما ظهرت بوضوح ومهما بلغت من غنى، فإن التفكير فيها يصل إلى الحد الأدنى من درجاته، ويستحيل تحليل مدركات هذه الحال كما نحلل الإدراك الحسي .
-إن الحالة الصوفية عند المريد هي لحظة من الاتصال الوثيق بذات أخرى فريدة سامية محيطة تفنى فيها الشخصية الخاصة للمريد فناء موقوتا، وهي حالة موضوعية لدرجة كبيرة، ولا يمكن أن تعد مجرد عزلة في تيه الذات الخالصة .
-بما أن المعرفة الصوفية معرفة مباشرة، فمن الواضح أنه لا يمكن أن يطلع عليها؛ أي نقلها لإنسان آخر، وذلك لأن الحالات الصوفية أشبه بالشعور منها بالعقل، وما يعلنه الصوفي أو النبي من تفسير لفحوى محتويات شعوره الديني يمكن أن يبلغ إلى الناس على صورة قضايا، ولكن محتويات الشعور الديني نفسها لا يمكن الاطلاع عليها أي نقلها لغيره([84]) .
-إن اتصال المريد بالذات الأزلية، ذلك الاتصال المباشر الذي يبعث في نفسه شعورا بأن الزمان المتجدد لا حقيقة له، لا يعني الانقطاع التام عن الزمان المتجدد، فالحالة الصوفية باعتبار تفردها تظل متصلة بالتجربة العامة على وجه ما، ويتضح هذا من أن الحالة الصوفية سرعان ما تتلاشى، وإن كانت بعد ذهابها تخلف في النفس إحساسا عميقا بالسلطان([85]).
([1]) محمد عبد الله الشرقاوي ، الاتجاهات الحديثة في دراسة التصوف الإسلامي، د . بقية المعلومات ، 1993م ، ص57 .
([2])النساء ، الآية : 77 .
(6) الكهف ، الآية : 65
( 7)البقرة ، الآية 282 .
([12])أبو الوفا الغنيمي التفتازاني ، مدخل إلى التصوف الإسلامي ، ط3، دار الثقافة ، 1399ه/1979م ، ص43 .
([13])مرتضى مطهري ، الكلام والعرفان ، تعريب علي خازم ، ط1، الدار الإسلامية ، بيروت ، لبنان ، 1413ه/1992م ، ص80 .
([14]) الشرقاوي ، الاتجاهات الحديثة في دراسة التصوف الإسلامي، مرجع سابق ، ص158 .
([15])محمد بن اسماعيل البخاري ، الجامع الصحيح ، دط ، بيت الأفكار الدولية للنشر، الرياض ، السعودية ، 1419ه/ 1998م ، رقم الحديث : 6982، ص1334 .
([16]) الغزالي، الإحياء ، دط، مكتبة كرياطة فوترا ، سماراغ ، أندونيسيا ، دت، ج2، ص226 .
([17]) حمد مصطفى حلمي ، الحياة الروحية في الإسلام ، ط2، الهيئة العربية للكتاب ، ص23_26 .
([18]) مسلم ين الحجاج القشيري، الجامع الصحيح ، اعتناء ومراجعة : هيثم خليفي الطعيمي ، دط، المكتبة العصرية ، صيدا ، بيروت ، لبنان ، 1412ه/2004م ، رقم :7124، ص1057.
([19]) المرجع نفسه ، حديث رقم 7124، ص1057.
([20]) أبو عبد الله ابن ماجه القزويني ، السنن (4أجزاء في مجلد واحد) ، تقديم : محمد بربر، دط، المكتبة العصرية ، صيدا ، بيروت ، 1431ه/2010م، ج3، رقم الحديث: 4102، صححه الألباني في (صحيح سنن ابن ماجه ، ط3، مكتب التربية العربي لدول الخليج ، الرياض ، 1408ه/ 1988م ، كتاب الزهد ، باب الزهد في الدنيا ، مج2، ص 392.
([21])البخاري ، مرجع سابق ، حديث رقم 6502: ، ص29 .
([22]) مسلم ، مرجع سابق ، حديث رقم :93 ، ص29 .
([23]) أيو نصر السراج الطوسي ، اللمع ، تح عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور ، دط، دار الكتب الحديثة ، مصر ، 1380ه/1910م ، ص173 .
([24])داود علي الفاغوري ، التصوف من خلال النشأة والتطور ، تقديم ومراجعة: عبد الرحيم السلوادي ، دط، زهران للنشر ، عمان ، الأردن ، 1431ه/2010م ،ص40_41 .
([25])الفاغوري، مرجع سابق ص42 .
([26]) ابن خلدون ، المقدمة، ضبط وشرح وتقديم محمد الإسكندراني، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان ، 2012م، ص432 .
([27]) ابن خلدون ، مرجع سابق ، ص43.
([30])الفاغوري، مرجع سابق ،ص 46.
([31]) المرجع السابق ، ص47_48 .
([32]) محمد إقبال ، تطور الفكر الفلسفي في إيران : مساهمة في تاريخ الفلسفة الإسلامية ،تر حسين محمد الشافعي ومحمد السعيد جمال الدين ، ط1، الدار الفنية ، 1409ه/1989م ، ص83_84 .
([33]) المرجع السابق ، ص47_48 .
([34]) طلعت غنام ، أضواء على التصوف ،دط، دار الزيني للطباعة ، مصر الجديدة ، مصر ، 1979م ، ص126 .
([35]) الشرقاوي ، الصوفية والعقل : دراسة تحليلية مقارنة للغزالي وابن عربي وابن رشد ، ط1، دار الجيل ، بيروت ، 1416ه/1995م، ص188 .
([36])غنام ، مرجع سابق ، ص126 .
([37]) أبو العلا عفيفي ، التصوف :الثورة الروحية في الإسلام ، ط1 ، دار المعارف ، القاهرة ، مصر ، 1961م ، ص256 .
([38]) أبو حامد الغزالي ، إحياء علوم الدين ، تقديم صدقي جميل العطار ، دط، دار الفكر ، بيروت ، 1423ه/2003م ، ج3، ص4 .
([39]) أبو الحارث المحاسبي ، شرف العقل وماهيته ، تح مصطفى عبد القادر عطا ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، ص19،20 .
([40]) الغزالي ، إحياء علوم الدين ، دار الأرقم ، ط1 ، 1998م ، ص128_132.
([41]) الغزالي ، المرجع نفسه ، ص128_132.
([42])طه عبد الرحمن ، العمل الديني وتجديد العقل ، ط2 ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، المغرب ، 1997م ، ص19 .
([46]) طه عبد الرحمن ، مرجع سابق، ص 19 .
([48]) عفيفي ، مرجع سابق ، ص 254 .
([50]) المجادلة ، الآية : 22 .
([53]) محمد آيت حمو ، ابن خلدون بين نقد الفلسفة والانفتاح على التصوف ، ط1، دار الطليعة ، بيروت ، لبنان ، 2010م ، ص137 .
([54]) محي الدين ابن عربي ، فصوص الحكم ، تعليق: أبو العلا عفيفي ، ط1 ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، لبنان ، دت، ص133 .
([55]) محمد آيت حمو ، مرجع سابق ، ص139_140 .
([56]) الغزالي ، المنقذ من الضلال ، تح جميل صليبا ، وكامل صياد ، دط ، دار الأندلس ، بيروت ، لبنان ، دت ، ص130_132 .
([57] )عفيفي ، مرجع سابق ، ص 15 .
([58]) عبد الرحمن ، مرجع سابق ، ص ص119_122 .
([59]) المرجع نفسه ، ص 146_153 .
([60])عرفان عبد الحميد فتاح ، نشاة الفلسفة الصوفية ، ط1، دار الجيل ، بيروت ،1413ه/1993م ، ص141_143 .
([61])الغزالي ، الإحياء ، تقديم صدقي جميل العطار ، مرجع سابق ، ج1، ص25 .
([62]) الطوسي ، مرجع السابق ، ص 276 .
([63]) فتاح ، نشأة الفلسفة الصوفية ، مرجع سابق ، ص144 .
([64]) عبد الله بن علوي الحداد ، رسالة آداب سلوك المريد، كتبه محمدصفوان محمود الصافي ، ط1 ، دار الحاوي ، 1414ه/1994م، ص51 .
([65]) ابن خلدون ، شفاء السائل و تهذيب المسائل ، تح محمد مطيع الحافظ ، ط1، دار الفكر ، دمشق ، 1417ه/1996م ، ص123_129 .
([66]) عبد الرحمن بن محمد الأنصاري ، مشارق أنوار القلوب ومفاتي أسرار الغيوب، دط، دار صادر، بيروت ، لبنان ، دت ، ص67 .
([67])الطوسي ، مرجع سابق ،ص65 .
([68]) عبد الرزاق القاشاني ، معجم اصطلاحات الصوفية ، تح عبد العالي شاهين ، ط1 ، دار المنار ، مصر ، 1413ه/1992م ، ص52 .
([69]) فتاح ، مرجع سابق ،ص150.
([70]) المرجع نفسه ، ص150_153 .
([71]) السيروان ، الصوفيون وأرباب الأحوال ، تقديم أح كفتارو ، ط1، السيروان للطباعة والنشروالتوزيع ، سوريا ، 1425ه/1995م ، ص60 .
([72]) عفيفي ، مرجع سابق ، ص119.
([73]) أحمد زروق ، قواعد التصوف ، ضبط وتعليق محمد بيروني ، ط1 ، سوريا ، دمشق ، 1424ه/2004م ، ص112 .
([75]) عز الدين السيروان ، الصوفيون وأرباب الأحوال ، تقديم أحمد كفتاو ، ط1، السيروان للطباعة والنشر والتوزيع ، سوريا ، 1425ه/199(م ، 82 .
([76]) السيروان ، مرجع سابق ، ص 91 .
([77]) أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري ، الرسالة االقشيرية، تح عبد الحليم محمود ومحمد بن شريف ،دط، دار المعارف، القاهرة ، دت،ج1، ص 16 .
([78]) عبد الرحمن بن الجوزي ، تلبيس ابليس ، دط، دار القلم ، بيروت ، لبنان ، دت ، ص214 .
([79]) القشيري ، مصدر سابق ، ج2 ، ص416 .
([80])حسن الشرقاوي ، معجم ألفاظ الصوفية ، ط1 ، مؤسسة محتار ، القاهرة ، مصر ، 1987م ، ص240 .
([81]) المرجع سابق ، ج2 ، ص521.
([82]) جاد الله ، مرجع سابق ، ص 135.
([83]) إقبال ، تجديد التفكير الديني ، تر عباس محمود، ط2 ، دار الهداية ، باكستان ، ص27_32 .