إلماعات حول البعد الفني الديني في الهوية المغاربية
محمد التهامي الحراق
لا مراء أن كل هوية تتحدد بتعدد سماتها وتغتني بتنوع روافدها؛ ذلك أن أي تعيين أحادي للهوية هو حتما مصادرة لحقيقة هذه الهوية من حيث هي بالضرورة هوية لها التعدد والتنوع والصيرورة سمات ثابتة وعلامات لازمة. من هنا يستمد حديثنا عن البعد الفني والجمالي في الهوية الدينية المغاربية شرعيته بل وضرورته، ذلك أن الانتماء الديني لهذه الأقطار لم يكن يتجلى فقط في المستويات التعبدية والعلمية والقضائية؛ بل كان يحضر ويتمظهر في شتى أنحاء الحياة الاجتماعية والثقافية والفنية؛ فمن خلال كل أشكال التعامل وأنماط العيش في الفضاءات الخاصة أو العامة؛ كان البعد الهوي الديني حاضرا بالقوة والفعل؛ ذاك ما نقف عليه في المظاهر الحياتية الثقافية من عمارة ولباس وطبخ وأشكال تحية وطقوس احتفال وأعراف الأفراح والأتراح…إلخ. وما يستأثر باهتمامنا هنا هو البعد الفني الديني في الهوية المغاربية، فكيف حضر هذا البعد في المجتمعات المغاربية؟ وما هي بعض تجلياته ووظائفه؟
من المعلوم أن تنوع الروافد العربية والأندلسية والإفريقية والأمازيغية والمتوسطية للهوية المغاربية قد بصم بقسماته وتقاسيمه الهوية الثقافية المغاربية، ولما كان الإسلام هو المصهر الذي تآلفت وتذاوبت فيه هذه الروافد كان البعد الديني هو البؤرة التي تبلورت من خلالها المعالم القاعدية للشخصية المغاربية. ومن ألمع المظاهر الجمالية التي تحقق من خلالها ثقافيا هذا البعد هو الموسيقى بتعدد ألوانها وأساليبها، وأخص هنا “الموسيقى الدينية” أي تلك الأشكال الترنيمية التي تحضر متلبسة بالمظاهر التعبدية والطقوس الروحية؛ بدءا من تجويد القرآن الكريم إلى صيغ الأذان وتتويب المهللين فوق المآذن ورواية حديث الإنصات في صلاة الجمعة وصيغ الذكر والتسبيح الجماعي في الأعياد والمناسبات وعقب الصلوات؛ وصولا إلى ألوان الإنشاد الديني من مديح نبوي وسماع وأذكار الطوائف والطرق الصوفية ;والتي تحضر في كل المناسبات الاجتماعية مصاحبة حياة الفرد من المهد(العقيقة) إلى اللحد(التأبين)؛ وتنتعش خصوصا في مناسبة المولد النبوي الشريف..إلخ.
إن هذه الأشكال الترنيمية، سواء أكانت قراءات وإنشادات فردية أم جماعية؛ إنشادات بالحناجر والأصوات دون مصاحبة بالمضارب والمعازف والآلات؛ أم مصاحبة بها أو ببعضها أو بجلها، فإن هذه الترنيمات قد عملت بواسطة الأشعار البهية في الإنشاد، فصيحها وموشحها وزجلها وملحونها، والأنغام الشجية في التلاوة والإنشاد، سواءمنها ذات الأصل الغرناطي في الموسيقى الأندلسية الجزائرية أو البلنسي في المألوف الليبي والتونسي أو الإشبيلي البلنسي في طرب الآلة الأندلسية المغربية؛ فضلا عن تلك الأنغام ذات الجذور الإفريقية أو الأمازيغية، هذه الترنيمات الدينية قد عملت على ترسيخ الهوية الإسلامية في الوجدان المغاربي، و المساهمة في تحقيق نوع من التلحيم الروحي للمجتمع بما حملته من قيم دينية وحضارية تبدت بوضوح في أغراض الإنشاد الذي انتقلت من الأغراض الدنيوية في مدونات الموسيقى الأندلسية المغاربية إلى أغراض دينية ومديحية وصوفية إن في تلك الموسيقى أو في الفنون الدينية المنبثقة من رحمها كالمديح النبوي والسماع الصوفي وأذكارالطوائف.
هكذا انتقلنا من الغزل والتشبيب والخمريات الحسية ووصف العشايا والطبيعة ومجالس الأنس واللهو إلى أغراض المولدياتوالشمائليات والحجازيات والتصلياتوالاستشفاعياتوالتوسليات ومحبة المصطفى صلى الله عليه وسلم في المديح النبوي؛ وإلى أغراض محبة الأولياء ومحبة الحق وتغزلات الحقيقة العرفانية والخمريات الصوفية والتوحيد الإشاري الخاص وغيرها من أبواب كلام القوم في السماع وأذكار الطوائف الصوفية.
من هنا شكلت هذه الفنون، بأغراضها الدينية وبجماليتها اللحنية وروحانيتها الأدائية وخصوصيتها على مستوى التلقي، عاملا رئيسا في صياغة الهوية الدينية للشعوب المغاربية، حيث ساهمت في ترسيخ محبة الرسول صلى الله عليه وسلم في سائر الأوساط، مع ما تستجلبه من اتباع واقتداء بسيرته العطرة؛ كما عملت على الإسهام في السمو بالأفئدة فلانت القلوب لذكر الله وتشبعت بما تدعو إليه محبة الحق ومعرفته من تخلق وتحقق بقيم التواد والتسامي والتسامح والتراحم والوسع في معاملة الخلق، فكان أن ظهرت آثار تلك القيم في الأذهان والسلوك فساهمت في تغذية الأواصر الدينية للجماعة وتقوية مناعتها الروحية؛ ومن ثم لعبت تلك الفنون دورها في الحفاظ على المعالم الإسلامية للشخصية المغاربية، وبالنتيجة المساهمة في صيانة البعد الثقافي الإسلامي في الهوية المغاربية.
إن هذه الوظائف التي اضطلعت بها هذه الفنون تدعونا إلى أن نلتفت إلى بعض مظاهر ثقافتنا للتعريف بها وإعادة امتلاكها حتى نجدد أدوارها ونبعث آثارها المذكورة في الأجيال الجديدة، لا سيما في ظل الشروط العالمية المعاصرة التي تهدد فيها العولمة الشرسة والشرهة كل الهويات الفقيرة بالذوبان والانمحاء؛ ذلك أن الوعي بقيمة وأهمية هذه الفنون الدينية في صياغة الهويةالمغاربية يُخرج الاهتمام بها من دائرة الاهتمام الأكاديمي أو ترف البحث العلمي إلى العناية بها باعتبارها مظهرا ثقافيا باذخا يسهم في تشييد فسيفساء الهوية المغاربية، وهو ما يدعونا من جهة أخرى إلى نبذ تلك الرؤى الفلكلورية التي ترى إلى تراثنا بأعين غربية ترى فيه غرائبية نابعة من متخيل غربي عن هويتنا لا من قراءة منصفة تقرأها من داخل نسقها و وفق شرائطها التاريخية والمعرفية والثقافية المخصوصة.
لا يعني هذا أننا ندعو إلى تسييج هويتنا بسياج وثوقي مغلق لا يقبل أي تفاعل أو تثاقف، وإنما نسعى إلى تجاوز نظرتين متطرفتين في معاملة تراثنا الفني الديني؛ الأولى تمجده تمجيدا أعمى دون أن تعي شروطه ومرجعيته وأصوله ووظائفه، وهي بذلك تسهم في تشويهه وإفقاده حياته وحيويته وتلقى به في مهاوي الجمود والإهمال فيما هي تدعي صونه والمحافظة عليه؛ ونظرة أخرى تنظر إلى هذا الموروث بنوع من الازدراء والاحتقار معتبرة إياه إنتاجا ماضويا وأثرا باهتا من آثار الماضي لم يعد له من دور سوى تعريف الأحفاد تعريفا متحفيا بما أبدعه الأجداد، وهي النظرة التي يتبناها المتشبعون بـ”ثقافة” السوق والاستهلاك والذين لا يرون في هذه الأعمال سوى فلكلور يؤثث مصايف السياح ويلبي متخيلهم السحري عن موروث شرقي غرائبي الملمح شهرزادي الهوى.
بتجاوز النظرتين يمكننا أن نستحضر فنوننا الدينية كمكون بنيوي في ثقافتنا وعنصر أساس في فسيفساء هويتنا المغاربية؛ ومن ثم يصبح هذا الموروث منتميا إلى الذاكرة بقدر ما هو منتم إلى راهننا الثقافي؛ وذلك باستحضار ما يمتلكه هذا الموروث من طاقة روحية وأدبية وفنية عابرة للأزمنة أو قابلة للتحيين. ولعل ما تشهده هذه البلدان من إرهاصات نهضة في الفنون الدينية، عناية وتوثيقا وتداولا ودراسة وتعريفا ونشرا، أوضح دليل على بداية بروز رؤية أصيلة تجعل من هذا الموروث ذخيرة قابلة للاستثمار في الإجابة على مختلف الأسئلة التي يطرحها الراهن بتجاذباته وتحدياته وإكراهاته؛ بحيث نتحاور مع منتَجنا الثقافي حوارا يستدعي منه ما به نبدع حاضرنا ونحقق خصوصية هويتنا، ونكون بذلك قادرين على التثاقف مع سائر الهويات دونما تعصب وانغلاق أو ذوبان و استلاب.
لذا لزم محض اهتمام أكبر لهذا البعد الفني الديني و إيلاؤه مزيد رعاية ونظر، وذلك لنقل الاهتمام به إلى مساقات وفضاءات علمية و تربوية وتعليمية واجتماعية وفنية كفيلة بإعادة تثمير وظائفه الروحية والثقافية في النفوس والحياة؛ بما يكافئ قوة حضور وفعل هذا البعد في صياغة الهوية الثقافية والدينية لمجتمعات الغرب الإسلامي.