الألوهة في رؤية الشيخ الأكبر ابن عربي

الألوهة في رؤية الشيخ الأكبر ابن عربي

 

 

الألوهة في رؤية الشيخ الأكبر ابن العربي

بقلم: محمد الصالح الضاوي

 

(1)

مقدمة عن حقيقة الألوهة

في رؤية الشيخ الأكبر ابن العربي[1]

الحمد لله، حمدا يوافي حق العبودية، ويعظم حق الألوهية، بالآداب المحمدية والشمائل الأحمدية. وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة تعرفنا بربنا يوم يتجلى لنا في المحشر، فلا ننكر مثل المنكرين، ولا نرتاب كالمرتابين، ولا نتردد كالمترددين.

أما بعد،

“الألوهة” موضوع أساسيّ في رؤية الشيخ الأكبر حول الكون والإنسان والحياة، بل هو من المواضيع التي تحدث الفرق بين أهل الرسوم والظاهر من جهة، وبين أهل العرفان والباطن، من جهة أخرى. فالألوهة، بما هي نسبة للإله، ومرتبة عقلية، تمثل روح التنزيه والتجريد المطلوب تجاه الذات…. فبالألوهة يقع الانزياح بالجدال الكلامي من كنه الذات الغامضة، إلى المرتبة المتعينة منها، تعينا عقليا، بحيث يكون الادراك العلمي لها… وانفتاح الأبواب المغلقة…. واتضاح الأجوبة على الأسئلة الحرجة التي طالما أزمت فكرنا الإسلامي.

وقد تكرر مصطلح “الإله” و”الألوهة” و”الألوهية” في الفتوحات المكية، عدة مرات،  مثيرا العديد من القضايا، التي تتمحور حول العقيدة، بما هي حلول لمسائل كلامية جدالية، سبق وأثارت خلافات بين علماء الإسلام باختلاف مذاهبهم. وقد عمل الشيخ الأكبر على ايلاء موضوع الألوهة الأهمية الكبرى لما لها من تأثير على قضايا بعدية… بل نكاد نجزم أن أهم موضوع عقدي على الإطلاق هو: معنى الألوهة وقضاياها، باعتبار أن العلم بها، ييسر الولوج إلى نظام معرفي عرفاني متكامل، يقطع مع الترددات الفقهية والكلامية والتفسيرية والفلسفية، التي سادت الفكر الإسلامي.

وقد دفع الشيخ الأكبر بمسألة الألوهة إلى أقصى ما يمكن للعقل إدراكه منها، استنادا إلى الشرع، واعتمادا على منهج تفريغ “المحل” من كل الشوائب، لتلقي المعرفة الكشفية الإلهامية من لدن الله تعالى، فجاءت النتيجة محيرة للعقول، مبيّنة حقائق، لم تكن موضوع بحث من قبل، أو لم تكن متيسرة للفلاسفة وعلماء الكلام والفقهاء.

وقد كرر الشيخ مسائل الألوهة في العديد من كتبه، سواء بالألفاظ نفسها أو بألفاظ قريبة منها، أو بنفس المعاني، وأكثر ما جاء ذلك واضحا، كان في كتاب المعرفة[2]، ورسالة المسائل[3]، وكان الشيخ في عرضه للألوهة وحقائقها، يرد على الفرق الإسلامية، وخاصة على المتكلمين المعتزلة، {وعلى الأشاعرة في بعض المواقف}، فيضحك لجهلهم، حيث هربوا من التشبيه الجسماني إلى التشبيه العقلاني، الذي سموه: تنزيها، وهم في الحقيقة ما نزهوا إلا أنفسهم، لأن التنزيه تقييد[4]، من جهة، ورفض للتشبيه الشرعي، من جهة أخرى، فكان إلههم المنزه مجعولا عقليا، ومقيدا بألفاظهم وتأويلاتهم. يقول الشيخ في هذا الخصوص[5]:

[ثم إن العجب كل العجب من هذه الطائفة، هربت من التشبيه إلى التشبيه، وجعلت ذلك تنزيها، فضحك العقلاء لجهلهم فيما أتوا به، فإنهم ما عدلوا من التشبيه إلا إلى نفوسهم من المعاني المحدثة، فانتقلوا من ظواهرهم إلى معانيهم المحدثة القائمة بهم، فهربوا بهم إلى التشبيه بهم، وسموا هذا العدول: تنزيها. فنفوسهم نزهوا إن حملوها على المعاني الإلهية، أو الحق شبهوا أن حملوا على المعاني النفسية، وما لهم قدم يجول في غير هذا، فلو رجعوا إلى محل التحقيق، إذ حرموا الكشف، وقالوا: الحق سبحانه أثبت لنفسه هذه الأحكام في كتبه وعلى ألسنة رسله وسفرائه، والذات مجهولة عند الخلق كلهم، أي لا تعلم، وهذه أحكام للذات عندنا، والجهل بالحكم أقرب من الجهل بالذات، إذ لا تعرف حقيقة نسبة الحكم لهذه الذات المحكوم عليها به، حتى تعرف هي في نفسها، ولا معرفة بها، ولا معرفة بنسبة الأحكام لها، فكانوا لا يشبهون ولا يعيبون حكم تنزيه بعينه، بل يسلمون علم ذلك لمن وصف بها نفسه، وهو الله تعالى].

ويظهر الشيخ الأكبر سلفيته، ومنهجه الرباني القرآني، حين ينتقل بالحديث من الذات إلى الألوهة، فيثبت لها أحكاما وحقائق، في دائرة التشبيه والتنزيه معا. فيقول[6]:

[وقد روي عن بعض السلف، أنه سئل عن الاستواء على العرش، فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. فنحن ومن جرى على طريقتنا، من أهل العلم الذوقي المشهودي، فلا يسلك هذا المسلك البتة، فإن الذات تشهد ولا تنقال، ولا تزال الهوية منصحبة معها، ولذلك قال العارف: لا هو إلا هو، فأثبت الهوية بنفسها[7]. ولكن سلكنا مسلكا آخر تحتمله الألوهية لا الذات، وتعطيه حقيقة هذا الحكم، فهذه الأحكام كلها لها، وهي صحيحة في نفسها، وهكذا يقع الشهود فيها لمن شاهد، فستصل وترى].

ومسلك الشيخ الأكبر لا ينفي اعتقادات وتصورات الخصوم دفعة واحدة، بل يرى أن الألوهية تأخذ شكل الصور في الآخرة، فتتجلى كل الاعتقادات فيها من مجسمة ومشبهة وغيرهم. فالألوهة تظهر بصور متعددة، لتعدد الرائي، والعين واحدة. يقول الشيخ الأكبر[8]:

[وقد صح فيما أخرجه مسلم في صحيحه، من تحول الألوهية وتبدلها في صورة الاعتقادات والمعارف، وفيها اعتقاد المشبهة وغيرهم، ولا بد من إقرار كل طائفة في تلك الدراية، فلا بد من تجليها في صور اعتقاداتهم، وذلك راجع إلى المدرِك لا إلى المدرَك، فإن الحقائق لا تتبدل، ولهذا نقص، لمن خرج عن طريقتنا في أي حضرة تقع مشاهدة الألوهية، لهذا سمي عالم التمثل والتبدل برزخا، لكونه وسطا بين حقائق جسمانية وحقائق غير جسمانية، فتعطي ذات هذه الخضرة المتوسطة، هذه التجليات، تربط بها المعاني بالصور، ربطا محققا لا ينفك].

ويضرب الشيخ الأكبر مثالا، ويروي قصة، تعبر عن حقيقة الرؤى لا تكون إلا بسبب الرائي، لا بسبب تعدد المرئي، لأن الحقائق لا تتبدل. يقول الشيخ[9]:

[وقد أشار إلى هذا المقام، بعض العارفين، في حكاية أذكرها، بإسناد متصل إلى السري. قال الجنيد: قال السري: سمعت غليم الأسود يقول: من أقبل على الأشياء، وهو يراها، هربت عنه. ومن تركها، أتته. قلت له: كيف ذلك يا سري؟ قال: كان يذكر أنه كان يكسب ويجتهد، فلا يقوم بكفاية معيشته، قال: فقرأت هذه الآية: “قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم”[10] الآية، فتركت الكسب متوكلا على الله بالكفاية، فلو ضربت بيدي إلى هذه الإسطونة لصارت ذهبا، وضرب بيده على الإسطوانة، فإذا هي تلوح ذهبا.

ثم قال: يا سري، هذه الأعيان لا تنقلب، ولكنك هكذا تراه لحقيقتك بربك. فانظر في قوله: هكذا تراه، يعني الحق، وهكذا تراه، يعني المرئي، أي الرؤية عائدة على الرائي، يعني الصورة المشهورة للرائي].

ثم يخلص الشيخ إلى بيان خطر الوقوف مع الصور المشهودة، لمن لم يتحقق، ولمن نقص علمه وكشفه، فيقول[11]:

[ومن هنا زلت لأقدام طائفة عن مجرى التحقيق، فقالت: ما ثم إلا ما ترى، فجعلت العالم هو الله، والله نفس العالم، ليس أمر آخر، وسببه هذا المشهد، لكونهم ما تحققوا به تحقق أهله، فلو تحققوا به ما قالوا بذلك، وأثبتوا كل حق في موطنه، علما وكشفا. فاترك تأويل الأخبار الواردة بالتشبيه لمن وصف بها نفسه، إذا لم تكن من أهل هذا الكشف والتحقيق، ولا تحمله عليك أصلا، فإنك تبطل أصلك حيث تعتقد نفي التشبيه، ومازلت منه، ولكن تركت التشبيه بالمخلوق المركب، وأثبته بالمخلوق المعقول. وأنى للممكن أن يجتمع مع الواجب بالذات في حكم أبدا. ].

ولا يكتفي الشيخ ابن العربي بمناقشة المتكلمين والأشاعرة والمشبهة، بل نراه يناقش الأولياء والعلماء في كل لقاءاته أو تجلياته وأسفاره الروحية،  مثل اعتراضه على ذي النون المصري في أحد تجلياته، وقول ذي النون للشيخ الأكبر: وهذا علم فاتني[12]، فالمسألة عنده هامة وخطيرة ولا يتسامح معها. بل نفس الموضوع: الألوهة، هو محور أحاديثه مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع كبار الصحابة، في كشوفاته العلمية والبرزخية.

 

 (2)

مفهوم الألوهة والعبادة

 بين علماء الرسوم والشيخ الأكبر ابن العربي

 

يجد الباحث نفسه في مواجهة معرفية بين المعنى اللغوي والكلامي الذي اتخذه العلماء طيلة قرون، وبين المعنى العرفاني الذي نحته الشيخ الأكبر من خلال تعدد النصوص والمداخلات التي تعرضت للألوهة، في مختلف كتبه وخاصة: الفتوحات المكية.

فمصطلح الألوهة (أو الألوهية) ينتمي إلى علم الكلام والفلسفة ثم إلى التصوف. دون أن ننسى أن ما قرر معناه منذ القديم: علماء اللغة. وسنرى كيف أن هذا المصطلح، لم يستطع التحرر من سلطان اللغة إلا مع الشيخ الأكبر.

فعلماء الكلام، مثلا، يرون أن الإلهية هي القدرة على اختراع الممكنات، وهو قول أبو الحسن الأشعري، كما أورده الباقلاني في الإنصاف[13]، وهذا التعريف، الذي يقصر الإلهية على الايجاد والقدرة[14]،  مقبول من أهل العرفان، على شرط الشيخ الأكبر في مفهوم الاختراع، الذي يقول في هذا الصدد[15]:

[إن أريد بالاختراع: حدوث المعنى المخترع، في نفس المخترع، وهو حقيقة الاختراع، فذلك على الله محال.

وإن أريد بالاختراع: حدوث المخترع على غير مثال سبقه في الوجود الذي ظهر فيه، فقد يوصف الحق على هذا بالاختراع.].

وربط بعض الأشعريين بين الإلهية والصفات الزائدة، وقالوا أن حقيقة الإلهية هي أن تكون ذاتا أزلية موصوفة بتلك الصفات، كما روى الشهرستاني في “نهاية الأقدام في علم الكلام”[16]:

[قالت الصفاتية من الأشعرية والسلف: إن الباري تعالى عالم بعلم، قادر بقدرة، حي بحياة، سميع بسمع بصير ببصر، مريد بإرادة، متكلم بكلام، باق ببقاء، وهذه الصفات زائدة على ذاته سبحانه، وهي صفات موجودة أزلية ومعان قائمة بذاته. وحقيقة الإلهية هي أن تكون  ذاتا أزلية موصوفة بتلك الصفات ].

وإشكالية هذا التعريف في الخلط بين الذات والألوهة، واعتبارها واحدا في المرتبة والتعين، والحال أن ذلك محال عند الشيخ الأكبر، حيث يقول في أحد نصوصه[17]:

 [ولكن هذا كله، أعني دخوله في التقييد لعباده، من كونه إلهاً لا من كونه ذاتاً، فإن الذات غينة عن العالمين، والملك ما هو غني عن الملك، إذ لولا الملك ما صح اسم الملك، فالمرتبة أعطت التقييد، لا ذات الحق جل وتعالى. فالمخلوق كما يطلب الخالق من كونه مخلوقاً، كذلك الخالق يطلب المخلوق من كونه خالقاً. ألا ترى العالم لما كان له العدم من نفسه، لم يطلب الخالق ولا المعدم، فإن العدم له من ذاته، وإنما طلب الخالق من كونه مخلوقاً، فمن هنا قيد نفسه تعالى بما أوجب على نفسه من الوفاء بالعهد].

أما تعريفات الفقهاء والمفسرين المعتمدة على تعريفات اللغويين، فأمرها بحاجة إلى تبسيط ومناقشة وعرض على المفاهيم الأكبرية لمعرفة حدود كل رؤية ومجالها.

 

1-الألوهة والعبادة

أول الملاحظات الخاصة بالتعريف، تتعلق بارتباط الألوهة بمعنى العبادة، وهو ما تقرره المعاجم والقواميس اللغوية. ففي المعجم الوسيط[18]، نقرأ:

[أَله فلَان إلاهة وألوهة وألوهية: عبد. وَفُلَانًا ألها: أجاره وآمنه.

أَله: فلَان إلاهة وألوهة وألوهية: عبد، وألها: تحير وَإِلَيْهِ لَجأ،  وَعَلِيهِ اشْتَدَّ جزعه، وبالمكان أَقَامَ.

ألهه: اتَّخذهُ إِلَهًا وعده إِلَهًا.

تأله: تنسك وَتعبد وَادّعى الألوهية.

الْإِلَه: كل مَا اتخذ معبودا (ج) آلِهَة]

وفي الصحاح[19]:

[أله: أَلهَ بالفتح إِلاهَةً، أي عبد عبادة. ومنه قرأ ابن عباس رضي الله عنهما: (ويذرك وإلاهتك) بكسر الهمزة. قال. وعبادتك. وكان يقول: إن فرعون كان يعبد في الارض].

وارتباط الألوهة بالعبادة، انتقل إلى المفسرين والفقهاء، فتبنوا هذا التعريف، بتمامه وكماله، والأمثلة عديدة، منها ما قرره البيضاوي، ونقله عنه الآخرون[20]، وما قرره صاحب الفواكه الدواني، في شرحه لرسالة ابن ابي زيد القيرواني، حيث يقول[21]:

[أصل الله: إله، وهو قول البصريين، وإنه وصف، فاختلف فيما اشتق منه، فقيل: من أله يأله ألاهة وألوهة، بمعنى عبد، وقيل: من أله إذا تحير؛ لأن العقول تتحير في معرفته، أو من ألهت إلى فلان: أي سكنت إليه، لأن القلوب تطمئن بذكره، والأرواح تسكن إلى معرفته، أو من أله: إذا فرغ من أمر نزل إليه، وقيل غير ذلك كما في البيضاوي، فعلم مما قررنا أن المختلف فيه بالاشتقاق وعدمه، إنما هو أصل لفظ الجلالة لا لفظها، خلافا لما جرى عليه الألسنة وفي عبارة كثير من المؤلفين، ونقل الأستاذ أبو القاسم القشيري، أن جميع أسمائه تعالى صالحة للتخلق بها أو التعلق إلا لفظ الجلالة فإنه لا يصح إلا للتعلق[22]، ومعنى التعلق: الاعتماد والتوكل عليه والافتقار إليه، ومعنى التخلق: الاتصاف، فإن نحو الرحمن والحليم يمكن أن يتصف بمعناهما بعض المؤمنين، نحو فلان حليم أو عنده رحمة.].

والشيخ الأكبر نفسه، في الفتوحات، يقر بهذا المعنى اللغوي ولا ينفيه، حيث يقول[23]:

[فلو صدقوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، في أنه رسول من عند اللّه، الذي يطلبون التقرب إليه بعبادة هؤلاء الآلهة، فما سموهم آلهة إلا لكونهم جعلوهم معبودين لهم، لأن الإله هو المعبود، والآلهة العبادة، وقد قرىء: ويذرك وإلهتك[24]، أي وعبادتك، وإذا قال: وآلهتك، يقول: والمعبودين الذين نعبدهم].

وفي جهة علماء الجزيرة العربية، نجد من يجعل فرقا بين الألوهة والعبادة، بإضافة عنصر ثالث وهو: المحبة والتعظيم، وهو تعريف تميزوا به من الناحية اللغوية ومن الناحية المعنوية، حيث فارقوا ما جرى عليه أهل الظاهر، وإن كنت أعتبره بدعة من بدع القوم، وتقوّل على لغة العرب، فإن الشيخ العارف بالله سيدي عبد الباقي مفتاح، يرى فيه وجه من الصواب. يقول أحد شراح كتاب التوحيد[25]:

[فالألوهية مأخوذة من: ألَه يأْلَه إِلهة وأُلُوهةً: إذا عُبد مع المحبة والتعظيم. يقال: تَأَلَّه إذا عُبد مُعَظَّمًا مُحَبًّا، ففرقٌ بين العبادة والألوهة، فإن الألوهة عبادة فيها المحبة، والتعظيم، والرضا بالحال، والرجاء، والرغب، والرهب، فمصدر أَلَه يأْلَه: أُلُوهة وإلهة؛ ولهذا قيل: توحيد الإلهية، وقيل توحيد الألوهية، وهما مصدران لأَلَه يأْلَه.

ومعنى (أَلَه) في لغة العرب: عبد مع المحبة، والتعظيم. والتأَلُّه: العبادة على ذاك النحو].

ويظهر، أن هذا الشارح، يخلط بين العبودية والألوهية. فالعبادة والطاعة مع المحبة والتعظيم، هي حقيقة العبودية، وليس الألوهية. وشتان بين الألوهية أعلى المراتب، والعبودية أسفلها. يقول الشيخ الأكبر[26]:

[اعلم أن حقيقة العبودية تقتضي طاعة المعبود ومحبته..].

ولعل الإشكال في مثل هذه التعاريف، اعتبارها “الذات” هي الموضوع، حيث ما فتئ العلماء يبحثون في ذات الله، وقد منعوا من ذلك، في حين كان البحث العرفاني الأكبري في الألوهة باعتبارها وصفا للذات ومرتبة من مراتبها، وتعينا من تعيناتها، وتقييدا لها. ومن هذا المستوى، نكتشف طريقين للعبادة لدى الناس: طريق من جهة الألوهة فقط، معراة عن أي تعلق، حيث تتجلى الألوهة في الوجود كله، ومن عبد الحجر أو الشخص أو النجم، فقد عبده من جهة الألوهة المتصف بها، لا من جهة عينه. وطريق من جهة الذات، من كونها تستحق الألوهة. والسعيد يجمع بين الطريقين، لأن الإنسان قائم على التركيب، لا على الأحدية، بخلاف الذات. يقول الشيخ الأكبر في باب معرفة منزل التبري من الأوثان [27]:

[فاعلم يا أخي، أن هذا المنزل هو منزل من منازل الستر والكتمان، وتقرير الألوهة في كل من عبد من دون الله، لأنه ما عبد الحجر لعينه، وأنما عبد من حيث نسبة الألوهة إليه، ولهذا ذكرنا أنه من منازل الكتمان والستر. قال تعالى: “وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه”[28] “ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله”[29] فما ذكروا قط إلا الألوهية وما ذكروا الأشخاص، ولكن لم يقبل الله منهم العذر، بل قال: “أنكم وما تعبدون من دون الله” أي الذي أنفرد بهذا الاسم “حصب جهنم”[30] وهو قوله: “وقودها الناس والحجارة”[31] وهو كل من دعاكم إلى عبادة نفسه أو عبدتموه، وكان في وسعه أن ينهاكم عن ذلك، فما نهاكم، فمثل هؤلاء يكونون من حصب جهنم.

فالموحد يعبد الله من طريقين: من طريق الذات، من كونها تستحق وصف الألوهة، ومن طريق الألوهة، فالسعيد الجامع بينهما[32]، لأن العابد مركب من حرف ومعنى، فالحرف للحرف، والمعنى للمعنى، فلذلك لم تعبد الذات معراة عن وصفها بالألوهية، ولم تعبد الألوهية من غير نسبتها إلى موصوف بها، فلم تقم العبادة إلا على ما تقتضيه حقيقة العبد، وهو التركيب، لا على ما تقتضيه حقيقة الحق، وهو الأحدية، ولهذا يكون القائل في عبادته: وفاء لحق الله: غير مصيب إذا أراد الذات، فإن حقيقتها الأحدية، وقد يمكن أن يصح قول من قال: أنما أعبده وفاء لحق الربوبية لا لحقيقتها، إذ كل حق له حقيقة، فالحق، من ذلك، به تتعلق العبادة من العابد، والحقيقة هي الأحدية التي لا تتعلق ولا يتعلق بها].

ومن خلال هذا النص، نكتشف أن العبادة ليست مرادفة الألوهة عند الشيخ الأكبر، وإنما تتعلق بها، من طريقين كما سبق ووضحناه. فالألوهة: برزخ بين الذات والعالم، فلها وجه إلى الذات، ووجه إلى العالم، ووجهها إلى الذات يُطبع بطابعها، ووجهها إلى العالم يتصف بتعدد الصور. وهذا البرزخ ليس في النهاية سوى الأسماء الحسنى التي تقف حجابا بيننا وبين الذات. يقول الشيخ الأكبر[33]:

[إن الحق بين الخلق وبين ذاته الموصوفة بالغنى عن العالمين، فالألوهة في الجبروت البرزخي، فتقابل الخلق بذاتها، وتقابل الذات بذاتها. ولهذا، لها التجلي في الصور الكثيرة، والتحول فيها والتبدل، فلها إلى الخلق وجه به يتجلى في صور الخلق، ولها إلى الذات وجه به تظهر للذات، فلا يعلم المخلوق الذات إلا من وراء هذا البرزخ، وهو الألوهة، ولا تحكم الذات في المخلوق بالخلق، إلا بهذا البرزخ، وهو: الألوهة. وتحققناها، فما وجدناها سوى ما ندعو به من الأسماء الحسنى].

وواضح الفرق بين قول العلماء من أهل الظاهر: الألوهة هي العبادة، وبين قول الشيخ الأكبر: الألوهة هي الأسماء الحسنى. ويستنتج من تعريفه أن الألوهة هي الذات المطلقة، من جهة، وهي مغايرة لها بالتقييد بالأسماء، من جهة أخرى[34]:

[ومعقول الألوهة خلاف معقول كونه ذاتا، فثنت الألوهة ذات الحق، وليست سوى عينها.].

كما أن العبادة ليست الألوهة، وإنما هي متعلق ومقصود الألوهة: مجلى الحق لأبصار العبّاد[35]:

[والألوهية مرتبة، تخيل العابد له، أنها مرتبة معبودة، وهي على الحقيقة، مجلى الحق لبصر هذا العابد، المعتكف على هذا المعبود، في هذا المجلى المختص.].

وبعبارة الشيخ ابو العباس أحمد التجاني[36]:

[الألوهية معناها: توجه الوجود كله إليه، بالعبادة، والخضوع، والتذلل، والمعرفة، والتسبيح، والسجود، فما فيها ذرة خارجة عن هذا الميدان……

)ويقول( الألوهية: هي المرتبة الجامعة المحيطة لله تعالى في جميع الموجودات فما في الوجود إلا داخل تحت الألوهية.].

ولعلنا لا نجانب الصواب، حين نقرر أن هذا التعريف الأكبري للألوهة، والذي خالف فيه علماء اللغة والمفسرين، لم يتفطن إليه الكثير من الباحثين المعاصرين، لالتباس الأمر عليهم من جهة الاشتقاق. فالشيخ الأكبر، وإن ينطلق من نفس الأصل، إلا أنه يخالف غيره في المصدر: الألوهة، وبالتالي، لا يمكن اعتباره موافقا لعلماء اللغة والمفسرين على الإطلاق، كما استنتجت ذلك الدكتورة سعاد الحكيم[37]:

[يباين ابن عربي بين الاشتقاقات الثلاثة للأصل أله: إله – الإله – الله، وهو بذلك يوافق علماء اللغة والمفسرين.

إله: كل ما عبد من صورة أو بشر أو شجر أو صنم…

الإله: كل ما عبد، ولكن قد يكون المعبود الحقيقي، ولذلك يستعملها أحياناً بمعنى (الله) فيقول: الإله الحق أو الإله المطلق… وأحياناً أخرى بمعنى (إله) فيقول: الإله المخلوق، الإله المجهول…

الله: هو المعبود الحقيقي].

فالموافقة لا تتجاوز ما ذكرته الدكتورة سعاد، على الخصوص.

 

 

[1] من مقدمة كتاب: الضاوي، محمد الصالح: حقيقة الألوهة عند الشيخ الأكبر ابن العربي-مخطوط بانتظار النشر-

[2] ابن عربي، محي الدين: رسائل ابن عربي،: كتاب اليقين وكتاب المعرفة، تحقيق وتقديم: سعيد عبد الفتاح، دار الانتشار العربي.

[3] ابن عربي، محي الدين: رسائل ابن عربي، تحقيق: محمد عزت، المكتبة التوفيقية، رسالة المسائل.

[4] يقول الشيخ الأكبر: اعلم أن التنزيه عند أهل الحقائق في الجناب الإلهي، هو عين التحديد والتقييد…

فليراجع:

ابن عربي، محي الدين: رسائل ابن عربي،: كتاب اليقين وكتاب المعرفة، تحقيق وتقديم: سعيد عبد الفتاح، دار الانتشار العربي. المسألة 138 ص 248.

ويقول أيضا: اعلم أنه لا يخلو تنزيه عن تشبيه، ولا تشبيه عن تنزيه، وذلك لأن كل ما ننزهه عنه تعالى من صفات الخلق، فهو ثابت له عند ظهوره في المراتب الكونية، وهو التشبيه. وكلما شبهته به، وأثيت له من الكمال كالحياة والعلم، وباقي الصفات، فهو منفي عنه في مرتبة أحديته، وهو التنزيه.

فليراجع:

ابن عربي، محي الدين: رسائل ابن عربي،: كتاب اليقين وكتاب المعرفة، تحقيق وتقديم: سعيد عبد الفتاح، دار الانتشار العربي. المسألة 143 ص 250.

[5] ابن عربي، محي الدين: رسائل ابن عربي، تحقيق: محمد عزت، المكتبة التوفيقية، رسالة المسائل، صص 390 وما بعدها.

[6] ن.م.

[7] قال الشيخ الأكبر في موضع آخر:

[لقد صدق أبو سعيد الخرّاز، وأمثاله، حيث قالوا: لا يعرف الله إلا الله].

ابن عربي، محي الدين: الفتوحات المكية، الباب الثاني والسبعون، في الحج وأسراره.

[8] ن.م.

[9] ن.م.

[10] ن.م.

[11] ن.م.

[12] ابن عربي، محي الدين: رسائل ابن عربي،: كتاب اليقين وكتاب المعرفة، تحقيق وتقديم: سعيد عبد الفتاح، دار الانتشار العربي، ص 208.

[13] دغيم، سميح: موسوعة مصطلحات علم الكلام الاسلامي، مكتبة لبنان ناشرون، ط1، 1998، ج1، ص 207.

[14] يعتبر الشيخ الأكبر أن القدرة هي أخص خصائص الألوهة، حيث يقول في مقدمة الفتوحات:

 [النعت الخاص الأخص، التي انفردت به الألوهة، كونها: قادرة. إذ لا قدرة لممكن أصلاً. وإنما له التمكن من قبول تعلق الأثر الإلهي به].

ويقول أيضا في المقدمة:

[المتوجه على إيجاد كل ما سوى الله تعالى، هو الألوهة، بأحكامها ونسبها وإضافاتها. وهي التي استدعت الآثار. فإنّ قاهراً بلا مقهور، وقادراً بلا مقدور، صلاحية ووجوداً وقوة وفعلاً: محال].

[15] الفتوحات المكية، المقدمة.

[16]  دغيم، سميح: موسوعة مصطلحات علم الكلام الاسلامي، مكتبة لبنان ناشرون، ط1، 1998، ج1، ص 207.

[17] الفتوحات المكية، الباب التاسع عشر وثلاثمائة، في معرفة تنزل سراح النفس عن قيد وجه ما من وجوه الشريعة، بوجه آخر منها، وإن ترك السبب الجالب للرزق من طريق التوكل، سبب جالب للرزق، وإن المتصف به ما خرج عن رق الأسباب، ومن جلس مع الله مع كونه رزاقاً فهو معلول. [الباب الموافق لسورة الطلاق].

[18]  مجمع اللغة العربية بالقاهرة: (إبراهيم مصطفى/ أحمد الزيات/ حامد عبد القادر/ محمد النجار): المعجم الوسيط، نشر: دار الدعوة، 1/25.

[19] الفارابي، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري (المتوفى: 393هـ): الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، نشر: دار العلم للملايين – بيروت، ط 4، 1407 هـ‍ – 1987م، عدد الأجزاء: 6، ج 6 ص 2223.

[20] بن محسن، حامد بن محمد بن حسين: فتح الله الحميد المجيد في شرح كتاب التوحيد، تحقيق: بكر بن عبد الله أبو زيد، نشر: دار المؤيد، ط: 1 1417هـ /1996م، ص 120.

[21] النفزاوي، أحمد بن غنيم بن سالم (المتوفى : 1126هـ): الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، تحقيق : رضا فرحات، نشر : مكتبة الثقافة الدينية، ص 119.

[22] يجيز الشيخ التخلق بالإسم: “الله” بشروط، حيث يقول:

[من رأى أن هذه اللفظة: لفظة “الله” بمنـزلة الاسم العلم، واحتج: تنعت ولا ينعت بها، منع من التخلق بها … ومن رأى أنها اسم لمجموع الصفات الإلهية، جوز التخلق بها كسائر الأسماء الإلهية.

التخلق بهذا الاسم: أن تقوم في جمعيتك بمجموع مدلول هذا الاسم من حيث الأسماء التي لا تُعرف، فتكون في العالم مجهول النعت والوصف بوجه، وتكون مؤثراً في العالم بأسره بوجه، وغير العالم بنسبة خاصة: “ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم” 60 غافر، ولكن لا يُطلق وتكون مقصوداً للعالم بوجه. فمن حصل هذه المراتب فقد تخلق بالاسم، لا من حيث علميته، بل من حيث مفهوم ما يتصف به مدلوله لكونه بنعت… كما يستحيل أن يُدعى بهذا الاسم مطلقاً من غير تقييد بحال من الأحوال، وإن لم يظهر النطق، كذلك يستحيل أن يقصد المتخلق التخلق بهذا الاسم مطلقاً من غير تقييد بحال من الأحوال، وإن لم يظهر في نطق القاصد، ولكن من شرط المتخلق به معرفة حال القاصد على التعيين وإلا فما تخلق به.

فليراجع:

الشيخ ابن عربي – مخطوطة كشف المعنى عن سر أسماء الله الحسنى – صص 5 – 7 . نقلا عن موسوعة الكسنزان، مادة: الله.

[23] الفتوحات المكية، الباب التاسع والسبعون وثلثمائة، في معرفة منزل الحل والعقد والإكرام والإهانة، ونشأة الدعاء في صورة لأخبار وهو منزل محمدي. [الباب الموافق لسورة المائدة].

[24] قال تعالى: [وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ] 127 الأعراف.

[25] آل الشيخ، صالح بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم، التمهيد لشرح كتاب التوحيد، دروس ألقاها ثم طُبعت، نشر: دار التوحيد، ط: 1، 1424هـ – 2003م،  صص 6-7.

[26] رسائل ابن عربي: كتاب اليقين وكتاب المعرفة، تحقيق وتقديم: سعيد عبد الفتاح، دار الانتشار العربي. المسألة 112 ص 235.

[27]  الفتوحات المكية، الباب الخامس والسبعون ومائتان، في معرفة منزل التبري من الأوثان من المقام الموسوي، وهو من منازل الأمر السبعة. [الباب الموافق لسورة الكافرون].

[28]  23 الإسراء.

[29]  87 الزخرف.

[30]  98 الأنبياء.

[31]  24 البقرة، 6 التحريم.

[32] كأن الشيخ الأكبر يقصد بالعبادة من طريق الألوهة: غريزة التدين الوجودية التي تعتمل في كيان الإنسان وتدفعه إلى التعبد والتأله، حيث تتعدد صور التجلي الإلهي في الوجود، والتي يسميها بالعبادة الذاتية، وبين العبادة من جهة الذات المتصفة بالألوهة، وهي العبادة المطلوبة شرعا، والتي يسميها: العبادة الأمرية الوضعية.

يقول الشيخ الأكبر ابن عربي:

“العبادة في كل ما سوى الله على قسمين:

عبادة ذاتية: وهي العبادة التي تستحقها ذات الحق وهي عبادة عن تجل إلهي.

وعبادة وضعية أمرية: وهي النبوة”.

 فليراجع:

الحكيم، سعاد، المعجم الصوفي: الحكمة في حدود الكلمة، ط 1، سنة 1981، دندرة للطباعة والنشر، لبنان. ص776 وما بعدها.

[33] الفتوحات المكية، الباب السابع والخمسون وخمسمائة، في معرفة ختم الأولياء على الإطلاق، حضرة الجبروت وهي للاسم الجبار.

[34] الفتوحات المكية، الباب الرابع والستون وثلثمائة، في معرفة منزل سرّين من عرفهما نال الراحة، في الدنيا والآخرة والغيرة الإلهية”. [الباب الموافق لسورة طه].

[35] ابن العربي، محي الدين (ت 638): فصوص الحكم، تعليق: أبو العلاء العفيف، نشر: دار الكتاب العربي، بيروت، ص195.

[36] الكسنزان الحسيني، محمّد، موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه أهل التصوف والعرفان، ط 1 سنة 2005. مادة: أله.

[37]  الحكيم، سعاد، المعجم الصوفي: الحكمة في حدود الكلمة، ط 1، سنة 1981، دندرة للطباعة والنشر، لبنان. ص83.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!