غارس بذرة مولانا جلال الدين
خالد محمد عبده
﴿والشمس وضحاها﴾
أشرقت الشمس في حياة سلطان العلماء بهاء الدين وَلَد بميلاد ابنه، جلال الدين الرومي، في 30 أيلول/ سبتمبر 1207م. يمكن للمؤرخ أن يرجّح هذا التاريخ ويدافع عنه حسبما تؤكد الوثائق، ويمكنه أن يشكّك في أن يكون ذلك اليوم هو اليوم الذي شهد ميلاد الرومي بناء على وقائع رُويت في كتاباته، ويمكننا أن نشارك الوالد التقي فرحته بميلاد هذا الطفل/ المحيط، الذي يشعل القارات بكلماته العشقية، ونَقَلَ بميلاده الثاني مسيرة والده من بلخ إلى قونية إلى العالم أجمع.
﴿قد أفلح من زكّاها﴾
“والآن إذا ما وجدتَ في نفسك محبة لله ولصفات الله فاعلم أن ذلك إنما هو طلبُ الله لك.. وإذا كان ميلك إلى الجنة وطلب الجنة فإن ميل الجنة هو الذي يطلبك.. وإذا كان لك ميلٌ إلى إنسان فإن ذلك الإنسان أيضاً يطلبك.. فإنه مُحالٌ أن يأتي تصفيقٌ من يدٍ واحدة”.
هذه الجملة من معارف بهاء ولد، الذي كان سبباً في إنجاب رجُلِ قوت الروح ونكهة العرفان مولانا جلال الدين، نشهد أثرها في كلمات الرومي في ما بعد:
لا يُوجدُ عاشقٌ قطّ يكون باحثًا عن الوصل
إن لم يكن معشوقه باحثاً عنه
وعندما لمع في هذا القلب برق حبِّ الحبيب
اعلم أن الحبّ موجودٌ يقينًا في ذلك القلب
وعندما صار حبُّ الحقِّ في قلبك زائداً
فعند الحقِّ يقيناً حبٌّ لك
فلا يتأتى تصفيق منك أبداً من يدٍ واحدة من يديك دون الأخرى.
﴿ووالدٍ وما ولد﴾
قد قرأنا الكثير عن سيرة مولانا من خلال الروايات والأخبار، لكننا لا نهتم كثيرًا بوالده! ظنّاً منا أنه كأي والد يغيب اسمه بميلاد ولده، ربما إن ذكرنا بعض كلماته التي تجد مثيلاتها صدى عند جمهور الرومي، يهتم البعضُ بالتعرّف على غارس بذرة الشجرة المثمرة.
يقول سلطان العلماء: محوتُ نفسي ومحوتُ الصّور من نفسي؛ لكي أرى الله! قلتُ في نفسي: أمحو هذه عن الله لكي أراه، وأتصل بمنافعه على نحو أسرع. ذكرتُ اسم الله فاتصل ضميري بالله، ورأيتُ الله في معنى الربوبية وصفات الكمال. رأيتُ أن كيف والكيفية ليست لائقة لذاته وصفاته، فقلتُ في نفسي: إن عالم الله شيءٌ آخر.
لم تلق شخصية والد الرومي اهتماماً كبيراً في كتب التاريخ، وكذلك لم تلق كالرومي اهتماماً عربياً ولم تُعرف بعد.. تخصّص أكثر من مستشرق في الكتابة عن شخصية والده كماير وريتر من الألمان، وآربري من الإنجليز.
كان بهاء وَلَد مقيماً في بلد اشتهرت قديماً بوجود الأولياء والصوفية كإبراهيم بن أدهم وشقيق البلخي والبسطامي وحمدون القصّار ونجم الدين كُبرى وغيرهم، ويحلو للرواة أن يجعلوا والد الرومي متصلاً بالكبراوية، وبمؤسسها نجم الدين، إلا أن المدققين في السيرة من الباحثين وأبرزهم العلامة فروزانفر يقطع بعدم الاتصال بين بهاء ولد ونجم الدين كبرى، كما ينفي مطلقًا خصومة والد مولانا الرومي مع فخر الدين الرازي صاحب التفسير الكبير.
وإن كان الرومي يذكر الرازي كثيراً في معرض الإنكار في المثنوي الشريف وغيره من الكتابات فهذا راجع إلى إنكار الرومي قدم الاستدلال الخشبية، وتفضيله لمنهج الذوق وما يملأ الروح… ولعل في ما يقوله الرازي ما يدعم إنكار الرومي وشمس تبريزي عليه، إذ نُسب إليه في أخريات حياته هذه الكلمات:
نهـايةُ إقـدام العقـول عقــال
وأكثر سعـي العاملـين ضـلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
وحاصل ديننـا أذى ووبـال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
ويقول الرازي أيضاً: “لقد تأملتُ الطرقَ الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن. أقرأ في الإثبات الرحمن على العرش استوى، إليه يصعد الكلم الطيب. وأقر في النفي: ليس كمثله شيء.. ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي”.
على أن هذه الجملة الأخيرة للرازي، يمكن لمن تدبرها أن يفهم الكثيرَ من معارف الصوفية، التي لا تُدرك بطول النقول، أو كثرة الكلام!
***
في الفصل الثالث من كتاب فيه ما فيه، وعنوانه: “موتوا قبل أن تموتوا”، يذكر مولانا جلال الدين الرومي سؤال أحدهم: هل هناك طريق أقرب إلى الله من الصلاة؟
فيجيب: الصلاة أيضاً.
ولكن الصلاة التي ليست هي هذه الصورة الظاهرة فقط.
هذه “قالبُ” الصلاة؛ لأن لهذه الصلاة بداية ونهاية. وكل شيء له بداية ونهاية يكون قالباً!
لأن التكبير بداية الصلاة والسلام نهايتها، ومثل ذلك الشهادة، فإنها ليست الصيغة التي تقال باللسان فقط، لأن تلك الصفة أيضاً لها بداية ونهاية، وكل شيء يعبّر عنه بالحرف والصوت ويكون له أول وآخر يكون (صورة وقالباً)، أما روحه فغير محددٍ ولامتناهٍ، وليس له أول ولا آخر.
وثمة شيء آخر، هو أن هذه الصلاة أظهرها الأنبياءُ، والآن فإن نبيّنا (ص) الذي أوضح لنا هذه الصلاة هكذا يقول: “لي مع الله وقتٌ لا يسعني فيه نبي مرسل ولا ملك مقرب”.
وهكذا تحققنا من أن “روحَ الصلاة” ليس هو هذه الصورة الظاهرة فحسب، بل هو استغراق تام وغياب تبقى فيه هذه الصور جميعاً خارجاً، ليس لها مكان هنالك، حتى جبريل الذي هو معنى محض ليس له مكان أيضاً.
يدينُ مولانا في شرحه هذا لوالده بهاء الدين ولد، الذي كان مستغرقًا في وقت من أوقاته، وحان وقت الصلاة فلم يستمع للنداء وظلّ على حاله كما هو، اثنان من المريدين وافقا الشيخ ولم ينهضا للصلاة، اعتبرهما جلال الدين في صحبة الحق، فالشيخ هو القبلة التي لا يمكن لمن أراد التحقق أن يعطيه ظهره!
فسّر الرومي حال والده أنه فني عن “نحن” و”أنا” وفنيت هويته وتلاشى واستُهلك في نور الحق، تماماً كما يُقال: “موتوا قبل أن تموتوا”، وكل من يدير ظهره إلى نور الحق ووجهه إلى جدارٍ، لا بد أن يكون قد جعل ظهره إلى القبلة، ذلك لأن نور الحق هو القبلة.. نور الحقّ هنا كان والد الرومي بهاء ولد.
قد ينكرُ بعضهم صورةَ القصة كما اعتبر الرومي ووالده أن صورة الصلاة ليست وحدها الصلاة، بل هناك صلوات عدّة، أولها: ما كانت له بداية ونهاية، وأعظمها: ما انقطعت أو انتهت بتسليم أو ذكر، صلاةٌ يظلّ القلب فيها مفتوحاً على لا نهائي تُسمِعُ أذكارُه مَنْ في قبور الصورة قابعين.
هناك نصٌّ لبهاء ولد يمكن أن يوضح المعنى أكثر ورد في كتابه المعارف، يقول: تتبعتُ القرآن كلّه، فأدركت أن حاصل معنى كل آية وكل قصّة هو هــذا: أيّها العبدُ انقطع عن غيري، فإن الذي تصيبه من غيري تصيبه منّي، من دون مِنّة الخلق، وما تحصل عليه مني لا تحصل عليه من أحد، ويا من اتصل بي، اتصل بي أكثر! الصلاةُ اتصالٌ بالله، والزكاة اتصالٌ بالله، والصوم اتصالٌ بالله، وهذه أنواعٌ للاتصال، ولكلّ اتصالٍ لذّة مثلما أن الجلوس إلى جانب المعشوقة له لذة، وسواءٌ أقرأت القرآن من أوله أم من آخره، القرآن هو هذا: “يا من انفصلت عني، اتصل بي، لأن ما أُبِين من الحيِّ فهو ميّتٌ”.
هل كان الرومي وحده من يؤمن بأن الشيخ قبلة؟
كما عدّ الرومي والدَه قبلةً، عدّه شمسُ تبريزي قبلته، وروي عن شمس أنه قال: كنت أطلبُ شخصاً من جنسي، لكي أجعله قِبلةً وأتوجّه إليه، فقد مللتُ من نفسي.
وجّه الرومي وجهه شطرَ والده، وتلميذَ والده برهان الدين محقق ترمذي، وشيوخاً عدّة في الشام، وفي النهاية حُوّلت القِبلة في نهار طلعت فيه شمس الحق وتجلت في شمس تبريزي، لا يمكن إنكار أثر إشراق شمس الحق كما لا يمكن محو كل الحلقات السابقة على ظهوره.
﴿سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم﴾
ونختم هذا المقال بكلمة لـ سيد حسين نصر”لم يكن شمس مجرد معلّم صوفي للرومي. فجلال الدين قد درس التصوف لسنوات عديدة قبل لقائه به، لكن يبدو أن شمساً هو الرسول الإلهي الذي أظهر الحالة الروحية للرومي بهيئتها الشعرية“.