“قواعد العشق الأربعون”.. قراءة عاشقة
هالة القاضي
لم أنس قط ذلك اليوم الذي أنهيت فيه قراءة هذه الرواية، عندما بكيت بكاء مولود جديد، يتنسم هواء دنياه لأول مرة. كانت لحظة مميزة! أيقنت فيها سر ثنائية الحياة! أن سر الإنسان يكمن في آخر يعكس ماهيته!
تدور أحداث الرواية في ثنائية من الزمن؛ الأول في العصر المعاصر ترصد فيه الكاتبة التركية إليف شافاق حكاية (إيلا) و(عزيز)، وكيف جمعهما القدر، وتطورت علاقتهما لتصبح علاقة عشق حقيقية. وبالتوازي تتجلى الحكاية التاريخية بين (شمس التبريزي) و(جلال الدين الرومي)، وهي علاقة عشق إنساني أخرى تؤثر إيجابيًّا في تدعيم علاقة العشق الأولى.
إنها رواية مزدوجة، فيها ثنائية من العشق؛ ثنائية من اكتشاف الذات، لم تكن (إيلا) تعرف نفسها إلَّا بحب عزيز، ولم يكن الرومي يعرف سر وجوده إلَّا بلقاء شمس والتوحد معه.
وتبدأ فيها الأحداث بواقع حياة (إيلا) الزوجة والأم التي ترى العالم من نافذة حياتها الضيقة، ثم تقفز من النافذة عندما تلتقي (عزيز) عبر أفكار روايته التاريخية. فتتغير (إيلا)؛ ومن ثم تتغير حياتها في نهاية المطاف، وتترك خلفها أربعين عامًا لامرأة أخرى غير التي ولدت من جديد على أفكار قواعد العشق الأربعين. ويتغير (الرومي) بلقاء (شمس) أيضًا، فيتغير سلوك حياته الطبيعي كعالم ورجل دين، ويتعجب كل من حوله من هذه العلاقة الغريبة التي تجمعه مع شمس، تتعجب زوجه (كيرا) التي ابتعد عنها وعن بيته بظهور شمس، ويتعجب ابنا الرومي من أمر أبيهما الذي صار في نظرهما منقادًا وراء شمس محتجبًا عنهما.
وإن ذلك التغيير المستنكر سواء في حياة (إيلا) أو حياة الرومي كان سببًا في الكمال الذي تغيَّا الوصول إليه؛ يقول الرومي [ص417، 418]: “لقد فعل (شمس) كل ما فعله كي أصل إلى درجة الكمال، لكن أهالي البلدة لم يفهموا ذلك على الإطلاق. تعمد شمس أن يذكي نار الثرثرة، ويستثير الأعصاب الحساسة… …، وبسبب إيمانه بأنه يجب تحطيم جميع الأصنام التي تقف حائلًا بين العبد والله، بما في ذلك الشهرة والثروة والمقام؛ بل حتى الدين، فكّني (شمس) من جميع القيود التي كانت تقيدني بالحياة”.
إن هذه الثنائية من العشق التي خلقتها الكاتبة في زمانين مختلفين، وبطريقتين مختلفتين- كانت أداة مؤثرة ورائعة في إبراز فكرة العشق الإنساني الذي يحطم القيود الدنيوية، ويتحلل منها؛ ابتغاء الوصول إلى الكمال.
وإن هذه الرواية رغم ما بها من أفكار إنسانية صوفية عميقة جدًّا، ومن أسلوب فلسفي في أحيان كثيرة، فإنها لم تخل على الإطلاق من عنصر التشويق الذي يحمس القارئ ويجذبه إلى نهايتها في سلاسة ويسر، وهذا ما دفعني إلى قراءتها في يومين متواصلين بلا كلل أو ملل!
كان من المشوّق ذلك الانتقال السريع بين زماني أحداث الرواية، وكذلك التداخل المفرط بين الزمانين، كأنهما في سباق متواز! وكان من المشوّق أيضًا استقلال الحديث عن كل شخصية بصورة منفردة تحت عنوان باسمها، وكأنها سيرة ذاتية لشخوص الرواية؛ لأن السرد كان يأتي على لسان كل شخصية، ونادرًا ما لجأت الكاتبة إلى راو يسرد الأحداث. وإن لقراءة السيرة الذاتية متعة خاصة تختلف عن الرواية التي تتكئ على الراوي والحوار بشكل أساسي. إنها سيرة ذاتية لـ(الرومي) و(شمس) و(إيلا) و(عزيز) و(كيرا) و(كيميا) و(وردة الصحراء) و(سلطان ولد) و(علاء الدين)… وغيرهم من الشخصيات الثانوية.
ومما كان من التشويق أيضًا هذه القواعد الأربعون، التي وردت في النص بلا إقحام أو ترتيب، وجاءت على لسان الشخوص، وسرد أكثرها شمس التبريزي الصوفي الذي يسبح في العشق الإلهي. وهذه القواعد وغيرها من عبارات صوفية وأساليب فلسفية عميقة أخذت تملأ الروح وتشبعها من فكرة العشق والنقاء والمحبة والارتقاء، وكل ذلك يبعث على بهجة الروح.
يقول (شمس التبريزي) في إحدى قواعد العشق [ص162]: “لكن الحب وحده هو الذي يطهّر قلوبنا”. ويقول (عزيز) لـ(إيلا) عندما بلغت الأربعين [ص168]: “إنكِ تتلقين مهمة جديدة في الأربعين، حياة جديدة! لقد بلغت الرقم الميمون وأكثر الأرقام التي تبشر بالخير. مبروك! لا تقلقي لأنك كبرتِ سنة. فلا يمكن لقوة التجاعيد ولا الشعر الشائب أن تتحدى قوة الأربعين!”. إنها رواية تبث الأمل والتفاؤل، لا عبر هذه النصوص وحسب، وإنما في فكرتها، فرغم موت (شمس) و(عزيز) في نهاية المطاف، فإن حياتهما امتدت بتأثيرها في (الرومي) و(إيلا)، فقد حال العشق بينهما وبين الموت!
ولا يمكن أن نغفل الثنائية الأبدية بين الخير والشر، بين المحبة والكره، وبين التطرف والتسامح؛ تلك الثنائية التي أبرزتها الكاتبة من خلال شخوص ثانوية كانت تسير بالتوازي مع الأحداث دون إقحام. فكان الصراع بين ابني الرومي (سلطان ولد) و(علاء الدين)، الأول يدافع عن أبيه ويتفهمه، والآخر شديد العداء لشمس وعلاقته بأبيه. وصراع آخر بين (وردة الصحراء) -البغي- ومن تعمل معهم، وصراعها كذلك مع نفسها. وصراع المتعصب مع المجتمع ذلك الرجل الذي يكره الفلاسفة والصوفيين، ويحرض على العنف والقتل. وصراع (كيميا) و(كيرا) مع المجتمع الذي يفرض قيودًا على المرأة ويرفض تعليمها ونبوغها. إنها أنواع كثيرة من الصراعات سلطت الضوء على كثير من سلبيات مجتمع كانت وما زالت إلى الآن.
ولا يمكن ألّا أتحدث عن الرواية كعمل روائي مترجم إلى العربية، فقد شرعت في قراءتها متربصة بالمترجم؛ بسبب من طبيعة عملي في تصحيح الكتب المترجمة، وسرعان ما جاء هذا التربص لصالح المترجم خالد الجبيلي؛ الذي استطاع أن ينقل النص في قالب لغوي عربي بامتياز، وربما إن لم يكن يعرف القارئ بشأن الترجمة لاعتقد أنها كُتِبَت بالعربية. وهذه الترجمة المميزة أعلت من شأن الرواية جدًّا، وأسهمت في وصولها إلى القارئ العربي. وكان إحكام الترجمة على مستوى اختيار الألفاظ وصياغة العبارات وتركيب الصور البديعية.
إن رواية قواعد العشق الأربعين ليست كأي رواية أخرى ترصد حال من الحب والعشق بين رجل وامرأة؛ وإنما ترصد عشقًا إنسانيًّا راقيًا بين البشر جميعًا، يقول شمس التبريزي [ص400]: “فكل حب وصداقة حقيقيين هما قصة تحوّل غير متوقع، ولو بقينا ذات الشخص قبل أن نحب وبعده، فهذا يعني أن حبنا لم يكن كافيًا”.
ولعلي لم أرصد سلبيات أزعجتني كقارئة عادية لهذه الرواية؛ ذلك ربما لأنني قرأتها بعين العاشقة!
نُشر هذا المقال بالاتفاق مع موقع (حكايا)، وسوف يزودنا الموقع بكتاباته المتصلة بالجانب الصوفي، مع وافر الشكر للقائمين عليه.
كتابة جميلة عن الرواية