علي سامي النشار والتصوف
بقلم: خالد محمد عبده
إن لم يكن من تلاميذنا أصدقاء، فليس لنا في النّاس من صديق
[مصطفى عبدالرّازق-مقدّمة الإسلام والتجديد في مصر لتشارلز آدمز].
اللهُ نورُ السّماوات والأرض مثلُ نوره كمشكاة فيها مصباحٌ، اختار من كتبوا كتاب المشكاة هذه الآية عنوانًا على الدراسات المهداة إلى روح العالم الأشعري علي سامي النشّار، بدأ الاهتمام بكتابات النشّار منذ وقت مبكّر، فقد نال كتابه نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام عناية من الدارسين وكرّمته الدولة المصرية إذ نال جائزة الدولة التشجيعية عام 1965 اعترافًا بجهوده في تأصيل الدرس الفسلفي، وفي هذه الجائزة كما يقول الأستاذ محمد مصطفى حلمي تعبيرٌ صادقٌ عما للكتاب من مكانة بين البحوث العلمية التي أخص ما ينبغي أن تتصف به من الخصائص هي الإضافة الجديدة التي تفيد العلم فائدة محققة.
في عام 1968 نشر الأستاذ النشّار دراسته عن (جهود الإسكندرية في التأليف الفلسفي)، وفي بدايتها يقول: “نحن نعلم أن الإسكندرية كانت مركزًا من مراكز التصوف الإسلامي، وقد شغل أول رئيس لقسم الفلسفة بجامعة الإسكندرية بالتّصوف وهو المرحوم الأستاذ الدكتور أبو العلا عفيفي وقد خصص الدكتور عفيفي حياته العلمية في دراسة الفلسفة الصّوفية لمحيي الدين ابن عربي، وكان أول من وضّح وجود مذهب فلسفي متكامل في تراث هذا الصوفي الإسلامي الكبير”.
وكتب النشّار مؤرخًا لحياته العلمية في هذا المقال يقول: وكانت قد تكوّنت في الإسكندرية مدرسة فلسفية إسلامية ذات نهج متناسق اتجهت نحو مصادر الفكر الفلسفي الأصيل تنفذ إلى أعماقه وتقوم بدراسته ونشره للباحثين، ويقوم بأمر هذه المدرسة الأستاذ الدكتور علي سامي النشار، أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة الإسكندرية، وقد نشر الدكتور النشّار كتابه الأوّل (مناهج البحث عند مفكري الإسلام) واكتشاف المسلمين للمنهج العلمي المعاصر (دار المعارف 1966) وفي الكتاب إثبات لتوصّل مفكّري الإسلام للمنهج التجريبي قبل أوروبا بعدة قرون، ثم البرهنة على أن هذا المنهج قد وصل إلى أوروبا، فتلقفه علماؤها وبنوا به حضارتهم الحديثة.
ثم اتجه النشّار نحو دراسة الفكر الفلسفي الإسلامي ونشأته وتطوّر هذه النشأة فكتب نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام الجزء الأول في 700صحيفة (دار المعارف 1966)، وفيه عرضٌ لقيامِ الفلسفة في الإسلام والدّوافع التي دعت لقيام هذا النّوع من الفلسفة فيها. ثم تتبع لنشأة أهل السّنة الأوائل ثم المجبّرة والقدرية والمجسّمة، وفي العام نفسه (1966) صدر له في دار المعارف بالقاهرة الجزء الثاني من هذا الكتاب، وفيه بحث نشأة التشيّع وأنماطه المختلفة، واتجاهاته الفلسفية المتعددة، ثم صدر الجزء الثالث من الكتاب عام 1968 وهو يبحث في التصوّف ومدارسه الأولى المختلفة ثم تطوّره إلى التصوف الفلسفي، وفي خاتمة الكتاب الذي بلغ 430 صحيفة يقول النشّار: وبعد فقد تجاوزنا الصفحات المقررة لهذا الكتاب، ولهذا سنتوقف عند إبراهيم بن أدهم، لكي نتابع الحياة الروحية في الإسلام في الجزء الرّابع من سلسلتنا عن نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام فنكمل بحث هذه الحياة لدى مدرسة خراسان والمدارس الأخرى التي لم نتناولها في هذا الجزء، وهي مدارس الجزيرة العربية ومدرسة مصر ثم مدارس المغرب، وذلك في القرنين الأول والثاني الهجريين. ثم نتابع حركة التصوف في القرنين الثالث والرابع الهجريين.
اهتم النشّار أيضًا بتحقيق التراث الإسلامي، ففي عام 1938 نشر كتاب اعتقادات فرق المسلمين والمشركين لفخر الدين الرّازي، وقدّمه بإعادة نشر محاضرة الصوفية والفرق الإسلامية، التي ألقاها فضيلة الشيخ مصطفى عبد الرازق في مؤتمر الأديان بلندن عام 1932، عرفانًا بجميل أستاذه. ونشر كتاب صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام للسيوطي (الخانجي 1947) لدعم نظريته في أن المسلمين أقاموا منطقًا تجريبيًّا.
ونقل إلى العربية كتاب فيدون لأفلاطون بالمشاركة مع نجيب بلدي والأستاذ عبّاس الشربيني (دار المعارف 1962). كما كتب كتابًا مطوّلاً عن هرقليطس فيلسوف التغيير (دار المعارف 1968) بالمشاركة مع أبي ريّان وعبده الراجحي.
ثم نشر ديوان أبو الحسن الششتري الشاعر الصوفي وتلميذ ابن سبعين (منشأة المعارف 1960) وهو صوفي أندلسي كتب أشعاره في قصائد وموشحات وأزجال وحقق النشّار هذه الأشعار وشرح ما استغلق من كلماتها وأفكارها. ويأتي نشره لهذا الدّيوان امتدادًا لجهوده في في درس هذه الشخصية، فقبل عشر سنوات 1951 كان قد حصل على الدكتوراه عن (أبي الحسن الشُشتري) تحت إشراف المستشرق الإنجليزي آرثر أربري، ووقت أن كان مديرًا لمعهد الدراسات الإسلامية بمدريد نُشر له في مجلة المعهد عام 1953 بحثًا مطوّلاً عن الششتري تحت عنوان: (أبو الحسن الششتري الصوفي الأندلسي الزّجال وأثره في العالم الإسلامي) (العدد الأول- السنة الأولى-مطبعة المعهد المصري مدريد). وفي سنوات الدرس والتحصيل كان قد نشر مقالاً في مجلة الأديب بعنوان: (صوفي أندلسي مجهول) 1944.
ولا تقتصر كتابات النشّار عن التصوف على هذه الكتابات فحسب، بل تناول في مقالاته وبحوثه الأخرى العديد من الموضوعات المتعلقة بالتصوف، فنشر في مجلة كلية الآداب العدد 1 عام 1959 بحثًا عن (أبي حامد الغزّالي ومعارضوه من أهل السنة) وفي مجلة الأزهر كتب مقالاً مطوّلاً عن أحمد الغزالي، وهو أخو حجّة الإسلام، لكنه غير مشهور عربيًا، ربما لأنه دوّن أغلب أعماله في التصوف باللغة الفارسية، وربما اشتهار الغزالي كمنظّر للتصوف السّني حجب عن أخيه الشهرة، وبخاصة أن أحمد الغزالي نُسبت إليه آراء تتعلق بالعشق ورؤية الجمال تجعله محل اعتراض عند الجمهور.
وفي مجلة الأزهر أيضًا كتب النشّار عن المذاهب الغنوصية في العالم الإسلامي، وأراد أن يكشف عن المجهول في تاريخ التصوّف، فتناول (الملامتية) في مقالين، في المقال الأول استعرض فيه ما كُتب عن الملامتية باللغة العربية، وبالطبع ذكر ما كتبه أبو العلا عفيفي من دراسة قدّمها بها نصًّا محققًا للسلمي عن الملامتية، ثم شفع ذلك بمقال عن الملامتية في عصورها الأخيرة، وانتقالها من مصر إلى تركيًا استعان في هذا المقال ببعض الترجمات عن التركية ساعده فيها الشيخ الكوثري رحمه الله.
وقد تخصص من تلامذة علي سامي النشّار في درس التصوف عبد القادر محمود، صاحب (الفلسفة الصوفية في الإسلام) دار الفكر 1965، كذلك عكف تلميذه كامل مصطفى الشيبي على درس الصلة بين التصوف والتشيع، وأخرج لنا كتابًا بهذا العنوان في مجلدتين، لا يزال مرجعًا حتى اليوم، ولعله كان على خطى أستاذه في الاهتمام بالشعر الصوفي، فحقق ديوان الحلاج والشبلي والسهروردي، وكتب صفحات مكثّفة من تاريخ التصوف.