رحلة الصوفي الأولى
طالب عيسى
مدير المركز الثقافي البغدادي
-1-
الأسفار الأربعة
الأسفار الأربعة تعني الانتقالات المعنوية المهمة التي يمر بها المتصوف في طريقه للكمال المطلق، حيث يسير الصوفي في درجات الكمال وينتقل من مرحلة الى مرحلة أخرى، وبالأحرى الانتقال إلى مرحلة أكمل فاللاحق عبارة عن (السابق مع زيادة) وهذه من أهم قواعد الكمال الحقيقي، وهكذا يواصل المتصوف رحلته المعنوية متنقلاً بين هذه الاسفار الأربعة التي تعد القوام العام لعالم التصوف الحقيقي والواقعي.
وقد ذكر المحقق محمد رضا القمشئي الأصفهاني أن: (السفر هو الحركة من الموطن، متوجها إلى المقصد بطيّ المنازل). وقال القشيري في رسالته: إن السفر هو:(ارتقاء من صفة إلى صفة) و عبّر ابن عربي في رسائله عن السفر بأنه: (توجّه القلب إلى الحق تعالى بالذّكر) وبعبارة أخرى له: (ان السفر عبارة عن القلب أذا أخذ في التوجه إلى الحق تعالى بالذكر).
ففي هذه الأسفار الأربعة يتنقل الصوفي بين المقامات والأحوال ويكتشف الحالات المعنوية المدهشة للعالم الأكبر فتتحقق الحكمة (وَتَحْسًبُ أَنَّكَ جِرْمٌ صَغِيرٌ، وَفيك انطَوَى العالمُ الأكبرُ).
وهكذا تعد هذه الأحوال والمقامات أهم المحطات الفرعية التي يتوقف عندها المسافر (الصوفي) ويتزوّد بزاده المعنوي فيها .
وقد صنّف القوم التصنيفات الكثيرة والعديدة جدًّا في هذا المجال لعل أهمها ما ألفه السراج الطوسي (المتوفي386هـ)، والمسمّى(اللُّمع) سماه (كتاب الأحوال والمقامات)، كما يتناثر في جملة كثيرة من الكتب معاني هذه الأحوال والمقامات كما في الرسالة القشيرية لأبي القاسم القشيري (المتوفي 465هـ) وفي قوت القلوب لأبي طالب المكي (المتوفي 386 ) وغيرها من المصادر.
-2-
السفر الأول
السفر الأول هو الرحلة الأولى التي يرتكز عليها المتصوف في الاتجاه نحو الكمال المطلق، وهو سفر معنوي لا مادي ويعبر عنه بأنه من (الخلق) إلى (الحق)، وفيه تقع أغلب المقامات ومنها (الزهد، التوكل، الرضا، التسليم، المحبة، الشكر) في حين لا مقام في السفر الثاني غير مقام التوحيد ..
ويلبث الصوفي في هذه المقامات مدة من الزمن ثم ينتقل إلى المقام الذي يليه، ويكون أرفع من الأول وخلال هذا الـ(اللبث) يتولد لديه استعداد للانتقال إلى المقام اللاحق عن طريق الأحوال، وهي التي تكون محطات ثانوية في المقام من أجل التهيؤ للدخول والانتقال في المقامات العالية والتي يصطلح عليها بـ(البرازخ العليا).
-3-
تجرد
ويعتبر هذا السفر وكما يعبرون عنه بسفر (تجرد)، حيث يتجرد الصوفي من ثلاث حُجب رئيسية ومهمة في رحلته نحو معشوقه المطلق، فالأول: هو (حجاب الأفعال)، حيث يصل فيه المتصوف إلى مرتبة لا يرى فيها أفعاله ، ويراها أفعال الكمال المطلق بل ولا يلتفت حتى إلى أفعاله الشخصية، وهنا تنكشف حقيقة الفعل الإنساني له ويعبر عنه بمصطلح (المحو).
الثاني: هو التجرد عن (حجاب الصفات)، حيث يفنى العبد عن صفاته وخصائصه فلا يلتفت لها، وينكشف له أن هذه الصفات عارية لا وجود لها ويعبر عنه بمصطلح (الطمس).
والثالث: هو (حجاب الذات) وهو الأرقى حيث لا يلتفت إلى ذاته فضلا عن أفعاله وصفاته، فيجتاز (حجاب الأنا)، وكما يقال: ( وجودك ذنب لا يقاس به ذنب آخر) حيث(كل من عليها فَان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)، ويعبرعنه بمصطلح (المحق).
ويعبر عن هذا السفر بعالم الكثرة، وما بعده بعالم الوحدة، وإن الإنسان في هذا السفر وجوده وهمي، وبعد ذلك يكون وجوده حقّانيًّا فيكون الصوفي قد أعلن بنهاية هذا السفر موته الأول، وقيام قيامته، وكما قال شيخ الإشراق السهروردي: (نحن لا نعتبر الحكيم حكيمًا حتى يستطيع بإرادته أن يخلع بدنه).
-4-
سفر المجاهدة
ومن مختصات هذا السفر أيضًا المخالفات والمجاهدات حيث أن هذا السفر هو سفر من عالم النفس، وهنا يكون الارتقاء في هذه المقامات بأمور أهمها :
المجاهدة وتعني إرغام النفس على ما لا ترغب .
أما المخالفة فهي منع النفس عما ترغب، وتتعدد المخالفات والمجاهدات باختلاف المقامات وأحوالها.
وحركة الصوفي التكاملية في هذا السفر هي حركة في مراتب التطهير من الحجب الظلمانية والحجب النورانية وخير شراب هو (المجاهدات) (وسقاهم ربهم شرابًا طهورًا)، والمقامات (هي استيفاء الحقوق المرسومة شرعا على التمام وهي مكتسبة بواسطة المجاهدات والرياضات الشرعية) كما ذكر ابن عربي في فتوحاته.
فرحلة الصوفي هنا رحلةُ خلاصٍ من عالم المادة والطبيعة وتكسير القيود والانعتاق من عالم النفس والانطلاق في عالم الروح (فَلا اقْتَحم الْعقَبةَ ، ومَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ )، فيغادر الصوفي في طريقه إلى الكمال المنشود مستعينًا بخطوات ترويض النفس، فيطوي المنازل تلو المنازل فحينئذ يتحقق له (السفر)، حيث يتجلى له الحق المطلق على قلبه .
وقد عجّت كتب التصوف بمثل هذه (المخالفات) والمجاهدات فيمكن الرجوع إليها لمزيد من البيان.
-5-
الماكثون
هنا نصل إلى الخاتمة وبعض النتائج الهامة، التي سأقتصر على ذكر نقطة واحدة منها وسأترك البقية للمستقبل:
من أجل فهم التصوف، لا بد من الاطلاع على مقامات هذا السفر والتعرّف عليها نظريًّا. إن أغلب المتصوفة هم أبناء لهذا السفر، لذلك يتكرر الحديث عنه في كتاباتهم، في حين أن الإسفار الثلاثة الأخرى أقل أهمية أو بمراتب أقل بكثير، لا سيما وأن اغلب الأسرار تقع بعد السفر الثاني، ومن الحكمة أن يتم منع تداول بعض الأسرار بمنظورهم بين العامة فحجبوها بالمصطلحات!
وهكذا فإن بعض المتصوفة توقّف للأسف في هذه المقامات فترة طويلة، فيُذكر أن أحدهم قد لبث في أحد المقامات أكثر من 25 سنة.
والسبب في ذلك هو التعلق بالمقام وأحواله، ولعل من الطريف ذكره أن من أكثر المقامات التي بقي الكثيرُ من المتصوفة فيها دون أن يجتازوها هو مقام المحبة لما فيه من الأحوال الرائعة، وبالتالي كانت الخسارة كبيرة على التصوف ففي الوقت الذي كان التصوف فيه بحاجة إلى (عرفاء كُمّل) كان أغلب المتصوفة يتلقون تعاليمهم من هؤلاء (الماكثون) طويلا في محطات الانتظار.
إنَّ أشهر شخصيات التصوف في القرون الأولى لم يصلوا إلى أعتاب السفر الثاني (من الخلق إلى الحق) وهو سفر العرفاء والفيصل الكمالي المهم بسبب موت أغلبهم معنويا في مقامات السفر الأول، فالغاية التي أرادها المتصوفة الحقيقيون هي الكمال لا الوصول، كما هو مستنتج في بعض الانتقادات الموجهة إلى بعض المتصوفة من قبل كتابات ابن عربي وأشعار جلال الدين الرومي، وهذا ما لم ينتبه إليه الباحثون ولم يتم تسليط الضوء عليه، ومن هنا فاني أجد الفرصة مناسبة لأثمّن جهود موقع (طواسين) على اهتمامه بعالم التصوف وإفساحه المجال أمام الباحثين والمهتمين بالشأن الصوفي لكشف الكثير من الحقائق الخاصة بعالم المعنى، متمنيا له دوام التوفيق والنجاح، وسائلا الله له ولكل القائمين على هذا الموقع الجميل الخير والمحبة والسلامة.