روحانيات النّاي عند الرومي

روحانيات النّاي عند الرومي

 

روحانيات النّاي عند الرومي

يوسف زيدان

مذ قطعت من الغاب والناس تبكي لبكائي

إنني أنشد صدرًا مزّقه الحنين

هذا المدخل هو أحد مداخل جلال الدين الرومي، وعنوان بحثي هو “روحانيات الناي عند الرومي” وسأوضح الآن كيف يمكن أن تكون هذه السطور الشعرية مدخلاً من مداخل كثيرة أخرى سأتعرض لها.

ظهر عند متصوفة المسلمين في القرن السادس والسابع الهجري نظرية تقول: إن كل الحقائق علمت من ذي قبل في عالم أشارت إليه الآيات القرآنية الشهيرة (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) [الأعراف : ١٧٢]

إذًا هناك إشهاد أول فإن الله جمع الأرواح قبل الخلق فكانوا كالنمل بين يديه وأشهدهم على نفسه، هذه الناحية ظلت مطمورة في الفكر العربي الإسلامي حوالي أربعة أو خمسة قرون . والمفسرون طبعا يتعرضون للآيات ويشيرون إلى العلم الأول.

أما الصوفية في القرنين السادس والسابع الهجريين فقد توسّعوا في هذا الأمر وخصوا هذا العلم الأول بعدة أسماء فهو عالم الذر.. عالم الخلق الأول، عالم الأرواح من قبل خلق الأجساد، وهو مابدأ به جلال الرومي وبدأ به أيضًا شاعرٌ عربيٌّ صوفيٌّ شهير هو ابن الفارض الذي استمعنا إلى قصيدة من قصائده داخل (غناء مولوي) وهو فن غير مقصود وغير واعي ولكنه أصاب كبد الحقيقة ، فالمعنى واحد فما قاله جلال الدين الرومي قاله عمرُ بن الفارض في خمريته الشهيرة :

شَـرِبْنَا عـلى ذكْـرِ الحبيبِ مُدامَةً          سـكِرْنَا بها من قبل أن يُخلق الكَرْمُ

إذًا هذا المعنى ولج منه جلال الدين الرومي إلى العالم الفني المزخرف المليء بالمنمنمات الفارسية، هو عالم صوفي كان لنظريته رواجًا في هذا الوقت،  وكأن شعراء الصوفية ومؤلفيهم أيضا يتوقفون كثيرا عند دلالات هذا العلم ولا يسمح هنا الوقت للإشارة إلى بقية تجليات هذا المدخل من مداخل جلال الدين الرومي وثمة مداخل أخرى.

تكررت الإشارات في الكتابات إلى أهمية دور جلال الدين الرومي، ولكن غاب عن الأذهان مسألة حيوية على صعيد الدخول إلى عالم جلال الدين الرومي مسألة أن والده بهاء الدين الرومي الذي كان تلميذًا لنجم الدين كبرى، وهو صوفيٌّ خوارزمي توفي في أول خروج التتار من أتباع الطريقة الكبروية -نسبة إلى نجم الدين كبرى مؤسسها- هي روح جلال الدين الرومي التي انطمرت في النصف الأول من حياته حين اشتغل بالفقه وبالمذهب الحنفي ولكن كانت الكبروية كامنة فيه .

لا يمكن فهم هذا العالم الزخرفي للمثنوي إلا باعتبار الكبروية والنظر إليها ، لكن نجم الدين كبرى كان لديه رؤى أخرى عن هذا العالم الإنساني المفكك ، الواحد في تفككه الذي لا تستطيع في مؤلفاته أن ينبض نسقا واحد للتأليف، إنما هو يعطي إشارات تماما مثلما فعل جلال الدين الرومي في المثنوي، هو يُركّب العالم من جملة تفاصيل كثيرة يعيد إنتاجها ويعيد بناء الدلالة فيها، وهو ما فعله نجم الدين كبرى في (فوائح الجمال وفواتح الجلال) وفعله أيضا شعرًا فارسيًّا فيما يسمى (الرباعيات) وتعرّض لأشياء تعرّض لها جلال الدين الرومي نصًّا.

 يقول مولانا جلال الدين الرومي: “بالعشق يصير يزيد بايزيد”. ويزيد بن معاوية المسمّى الفاجر وهو يزيد بن معاوية ابن أبي سفيان بن حرب بن أمية، الذي أمر فنصب له خيمة شراب فوق الكعبة وأما بايزيد فهو أبو يزيد البسطامي . ذات هذا المعنى ورد في رباعية لنجم الدين كبرى يقول:

       إن الحكام في أوان عزلهم       كلهم شبلي وبايزيد

       فإذا عاودوا لسلطانهم           فكلهم مثل شمر ويزيد

فهو أتي المعنى وقد دخل في ثوب جديد عند جلال الدين الرومي، وبالتالي فأحد المداخل الممكنة لفهم جلال الدين الرومي هو الطريقة الكبروية التي كان والده عليها والتي تواصل معها عن بعد.

وعلى ذكر التواصل، هناك مسألة محيرة لدرس التصوف وهي كيف لم يشر جلال الدين الرومي إلى شيخ الصوفية الأكبر محيي الدين عربي؟! لدينا إشارة أن أستاذه قد أرسله إلى دمشق ليغترف من ابن عربي لكن هذا الكلام لا دليل عليه ولم يظهر محيي الدين بن عربي إطلاقا في تراث جلال الدين الرومي، وهذا عجيب لأن أهم أعمال محيي الدين ابن عربي “الفتوحات المكية ” كُتبت في قونيه بخط المؤلف، كتبها مرتين، بدأها في مكة، ثم الكتابة الثانية نسخة معتمدة كُتبت في قونيه، في نفس المكان الذي استقرّ فيه جلال الدين الرومي ولم يظهر أي شيء من فكر ابن عربي كإشارة صريحة في المثنوي؛ ولكن ما الذي قاله ابن عربي واشتهر به ؟ قال مثلا :

       لقد كنتُ قبلَ اليوم أنكِرُ صاحبي …… إذا لم يكنْ ديني إلى دينِه داني

   لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورةٍ … فمرعى لغزلان وديرٌ لرهبان وبيتٌ لأوثان

إلى أن يصل إلى البيت الأخير :

       أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهتْ … رَكائِبُهُ فالحُبُّ ديني وإيماني

أليس ذلك هو العشق الذي صاغه مولانا جلال الدين الرومي بالفارسية ؟ أليست طريقة الفتوحات المكية من حيث تشتت القضايا التي يجمعها نسق واحد في النهاية هي ذات البنية الأدبية للمثنوي.

مدخلٌ آخرٌ، المقدمة العربية للمثنوي فهو يبدأ بأن يذكر بأن هذا الكتاب هو أصول أصول أصول الدين، وللتوضيح: الدين عند المسلمين أصول وفروع والفروع يتناولها الفقهاء بالنظر، والأصول هي مجال علماء الكلام، أو علماء العقيدة، فنحن نعرف أصول الدين فكيف تكون هناك أصول لهذه الأصول؟ ليكن كما قلنا للمعارف السابقة ، لكنه يقول ثلاثًا : هذا الكتاب هو أصول أصول أصول الدين.

ويختار على طريقة لغة التأليف اللغة العربية ليدخل منها . لقد دخل جلال الدين الرومي إلى عالم التصوف من مدخل عربي استشعره عند ابن عربي وعند تلامذة ابن عربي الذين كانوا موجودين في المكان نفسه وأشهرهم صدر الدين القونوي، الذي كان معاصرًا للأكبرية نسبة إلى الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، وكانت نفس جلال الدين الرومي عامرة بالكبروية نسبة إلى نجم الدين كبرى، وكلاهما شكلا مدخلا لفهم هذا الزخرف اللغوي البديع الذي قدمه جلال الدين الرومي في كتاباته وأعماله.

توفي جلال الدين الرومي على أغلب الأقوال سنه ٦٧٢ هـ . في هذه السنة توفي أيضًا في الجانب الآخر من العالم الإسلامي نصير الدين الطوسي، ومن سنة ٦٧٠ هـ.  وحتى نهاية هذا القرن كانت وفيات الأعلام الكبار في التراث العربي فمن الممكن أن ندخل إلى جلال الدين الرومي من زاوية انتهاء عصر مشحون بالصوفية وبالعمل العلمي، في هذا الوقت الذي كان يكتب فيه جلال الدين الرومي المثنوي،  كان نصير الدين الطوسي هناك يعيد بناء العلوم القديمة، وكان علاء الدين ابن النفيس الشامي الأصل المصري بالإقامة والوفاة يعيد بناء الطب والصيدلة العربية، ثم يختفي كل هؤلاء ليدخل  القرن الثامن الهجري وما تلاه من قرون في سبات عميق، هذا السبات العميق هو الذي جعل جوهرة جلال الدين الرومي تتألق وإلا فإنه لم يظهر في السلسلة المولوية اسم آخر يقترب من أهمية المؤسس جلال الدين الرومي.

 

مقالات ذات صله

  1. عائشة موماد

    بحث هزيل كما وكيفا….والعنوان لا علاقة له بالقصاصات التي تم جمعها ولصقها من أجل تكوين هذا النص السيئ..

    الرد

الرد على عائشة موماد اغلق الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!