زراعة النّور في كون منشور
الحَرْثَة الرابعة.. المسامحة والغفران
بقلم د. سعاد الحكيم
سألت شابّاً في مطالع العشرينات: ماذا تفعل إن آذاك أحد؟ فقال بسرعة: أقتله. جفلتُ من جوابه، وأدركتُ أنّ عنفه هو فورة غضبٍ ضدّ شخصٍ لا ملامح له ولا هويّة، وربما هو غَضَبٌ مبهم من جرّاء الحالة الإنسانيّة العامّة. فانزحتُ بأسئلتي نحو تجربته الحياتيّة وخبرته الشخصيّة فسألته أحاوره: لو كان الشخص الذي آذاك هو أباك أو أمّك ماذا تفعل؟ قال: أتغاضى عن الأذى ولا أبادله بمثله. فسألته: إن تغاضيتَ عن أذى شخصٍ تحبّه أو تحترمه (أب، أمّ، معلّم…) فهل يظلّ قلبك نقيّاً تجاهه؟ قال: لا، أشعر بالغضب والغيظ، دون كراهيّة أو حقد. قلت: وكيف يذهب غضبك ويمّحي؟ قال: إن اعتذر، أو غيّر معاملته لي فأظنّ أنّني سأطوي صفحة وأبدأ من جديد.
وسألت رجلاً صديقاً، شيّبته الكتب الفلسفيّة والتجارب الإنسانيّة: ماذا تفعل إن آذاك أحد؟ فقال وكأنّه يقرأ في دفتر مفتوح، علمتُ فيما بعد أنّه يحدثّني عن قطعة حقيقيّة من خبرته الحياتيّة: إن آذاني أحد فلا أعاقبه ولا أوذيه ولا أحقد عليه ومهما كانت الأذيّة كبرى، ولكن إن أحوجته ظروف الحياة إلى خدمةٍ مني وقصدني لأساعده، فإنّي غير مستعدّ لأن أخدمه وإن كان ذلك في مقدوري. وبكلام آخر، فإنّ صديقي هذا يحمله خلقه الكريم على الصفح عمّن أساء إليه وعلى تجاوز الأذيّة والإساءة ولكنّه غير مستعدّ لأن يُحسن لمن أساء إليه.
وسألت نفسي، وأنا أقلّب صحائف تاريخ حياتي: وأنا، ماذا أفعل إن آذاني أحد؟ هل أتصرّف بتلقائيّة مشاعري، أم ألتفت إلى النصّ الإسلاميّ ليكون سلوكي مبنياً على بيّنة شرعيّة؟ وحدّقتُ في منعطفات حياتي، وتساءلت: هل مارستُ أسلوباً واحداً ونمطاً وحيداً في ردّات فعلي مع أذى الآخر، أم تنوّع أسلوبي بحسب مزاجي الجوّاني، وظرفي البرّاني، ومرحلتي العمريّة، وبحسب محبّتي لهذا الآخر، وبحسب تاريخه في صحبتي؟! ونظرتُ في المرّات التي ضعفت فيها عن مغفرة إساءة لشخصٍ فعمدتُ إلى هجره واجتهدتُ في أن يكون هجري جميلاً وليس بربريّاً. كما نظرتُ في المرّات التي غفرت فيها إساءات يكبو عند عَتَبَاتها معظم الناس، وقبل أن أزدهي بنفسي وأُعجب بقدرتي على المغفرة، سألت نفسي وفتّشت فيها: هل كان تسامحي مع هذا الآخر من أجله ولإعطائه فرصة جديدة حقيقيّة، أم من أجل نفسي لأحمي نقاء سيرتي وصفاء قلبي ورضاء ربّي، أم لسبب يغوص في قاع وعيي وأعجز عن البوح به حتى لنفسي؟ وبكلام آخر هل كان تسامحي برّانياً وفي أعماقي هجران مقنّع؟!
قدّمتُ بهذه الأسئلة وهذه التساؤلات، لأقول: إنّ التّسامح مع إساءة الآخر مسألة إنسانيّة متشابكة، وإنّ النّاس ليسوا سواسية في تعاملهم مع ما يصيبهم من إساءات وأذيّات، بل أكثر من ذلك فإنّ الشخص الواحد لا يتبع نهجاً واحداً في التّعامل مع إساءة الآخر وأذاه.. ولأقول أيضاً بأنّ مجاهدة الإنسان نفسه لتشريبها حلية التّسامح والمغفرة والصّفح والتّجاوز، تغتني إن هي انفتحت على تجارب الجماعة الإنسانيّة وعلى الحكمة الأخلاقيّة البيّنة في النصّ الدّيني.. وأنّ الآخر، القريب والغريب، المجاور والبعيد، هو أقرب درب للمصالحة مع الذّات، ومع الحياة والكون، ومع الله تعالى.. وأنّ التّسامح مع الآخر والعفو عنه – من منظور إنسانيّ ودينيّ – يُشعر المرء بالرّضى عن ذاته ويؤهّله للغفران الإلهيّ.
المحبّة والرّحمة يولّدان التّسامح والمغفرة:
ورد الاسم الإلهيّ «الغفور» في القرآن الكريم – بصيغ مختلفة – تسعين مرّة أو أكثر بقليل، وهذا دليل للإنسان على أنّ الله تعالى يحبّ أن يغفر للمذنب وللعاصي.. ونستدلّ على تولّد المغفرة – في الإسلام – من المحبّة ومن الرّحمة، من كون القرآن الكريم جمع بين هذه المعاني الأسمائيّة الثّلاثة (المغفرة والرّحمة والمودّة)، فأخبر تعالى عن نفسه بأنّه )الْغَفُورُ الرَّحِيمُ( [الأحقاف 8]، وبأنّه )الْغَفُورُ الْوَدُودُ( [البروج 14]، وبأنّه )رَحِيمٌ وَدُودٌ( [هود 90].. وبذلك نستدلّ على أنّ الغفران يقترن في القرآن بالمودّة التي هي المحبّة الثّابتة، وبالرّحمة التي هي اسم جامع يدخل فيه الرّفق والشفقة ودفع الضرّ واللّطف والإعانة والإحسان.. فالله سبحانه هو الودود المحبُّ لخَلْقه جميعاً، وهو الرّحيم بهم… وعلى صفة هذين الاسمين يتخلّق البشر بأخلاقهم الكريمة، ليتولّد من محبّتهم للنّاس جميعاً ومن خلق الرّحمة المغروس في أعمالهم: التّسامح والتّغافر بين النّاس.
ومن هنا، نستنبط، أنّ الإنسان يكون مستعدّاً للتّسامح وللعفو والغفران بقدر ما في قلبه من محبّة ورحمة للجنس البشريّ عامّة.. ولا يعوّل – أخلاقياً – في الغفران على الحبّ العاطفيّ، لأنّه من السّهل جدّاً أن نغفر لمن نحبّ، فالحبّ من طبيعته أنّه يعمي ويُصمّ، بل يعوّل على المحبّة الإنسانيّة الشّاملة التي تنظر إلى المسيئين كلّهم بالحنان نفسه.. فالكلّ أمام فيض التّسامح سواء.
هل الغفران قيمة مطلقة في الإسلام؟
نصل إلى سؤال يطرح نفسه: هل الغفران – في الإسلام – هو قيمة مطلقة، صالحة لكلّ زمان ومكان وإنسان؟ وهل من يصفح ويغفر ويعفو هو دائماً، وفي كلّ الظّروف، أفضل ممّن يؤاخذ بالذّنب ويصرّ على القصاص العادل؟
بعد دراسة عشرات المواضع في القرآن الكريم وفي الحديث النبويّ الشّريف والسّيرة المحمديّة الطّاهرة وجدتُ أنّ الغفران ليس قيمة مطلقة في الإسلام، بل هو قيمة عظمى ولكنّها تتحرّك في إطار قيمة تحكمها وهي: الحكمة.
والحكمة هي نعمة إلهيّة للإنسان، تمكّنه من استنباط العمل المناسب في الظّرف (الكونيّ والإنسانيّ) المناسب. ولو تأمّلنا في المواضع القدسيّة المشار إليها لوجدنا أنّ الغفران لو فاض بإطلاقٍ كأشعّة الشّمس على الكون لربّما نفع أناساً وأضرّ بأناس، ولربما أيضاً تسبّب بكوارث إنسانيّة، فقد نغفر لشخصٍ فيتمادى في غيّه ويخسر مستقبله وحياته.. ممّا يستدعي التوقّف والتفكُّر بحكمة: متى نغفر، وكيف، ولماذا، وأين؟ وغير ذلك من المساءلة والأسئلة. وهذا يقودنا إلى الفقرة الأخيرة.
كيف نتصرّف عندما نتعرّض للأذى؟
إنّ الغفران هو عمليّة بين طرفين: متلقٍّ للأذيّة وفاعل للأذيّة. أي متأذَّىٍ ومُسيء. والطّرفان فاعلان ومؤثّران معاً في عمليّة الغفران.
إنّ الطّرف الأوّل الذي هو المتأذَّى، وبعد أن استعدّ بما نوّر به جوانيّته من المحبّة الإنسانيّة والرّحمة الشّاملة والالتزام بقيم الإسلام، أصبح قادراً على ترك النّظر في ذاته، ومفارقة الحنوّ على جراحاته، ليلتفت إلى عمل الشّخص المسيء بتجرُّد وانفتاح وحكمة وخلق كريم.. لقد أصبح جاهزاً للتّسامح والصّفح.
وفي المقابل فإنّ الطّرف الثّاني الذي هو المسيء، فنجد أنّ الإسلام قد رتّب عليه رواتب بعد إتيانه بالإساءة؛ منها أن يعتذر عن إساءته ويُبدي ندمه، ويجتهد في تطييب قلب المتضرّر (ماديّاً أو معنويّاً) من أذيّته، ويعمل جاهداً على إصلاح ما أفسد. وهذه الأعمال الحكيمة هي غير مكلفة وتعيد التصاق المسيء بجوهره الإنسانيّ الراقي، وفي الوقت نفسه لها فعل السّحر فهي على الأغلب تُبرئ قلب المتأذَّى ممّا يجد من الغضب والغيظ والقهر، ومن الإحساس بالهوان عند الآخر. إذن، أوجد الإســلام للمســيء مخارج تساعده على لمس قلب الشّخص المتأذَّى منه، وعلى محو أثر الأذى من نفسه، ممّا يجعل عمليّة الصّفح والمغفرة مستساغة للنّفس البشريّة وموافقة للطّبع الإنسانيّ.
الآن، وبعد أن فرغ الإنسان من شأن نفسه وألزمها سلوك الخلق الكريم، يلتفت إلى الانشغال بتقديم الأفضل للمسيء، فنجد أنّ الإسلام يقدّم له خيارات ثلاثة؛ وعليه – بالحكمة – أن يختار منها ما يوافق المسيء ويصلحه، وهو في كلّ ذلك يُعدّ غافراً سموحاً وإن اضطرته الحكمة إلى العقاب:
الخيار الأول هو القصاص.. إنّ الإنسان المملوء محبّة ورحمة من فَرْقِه إلى قَدَمِه، حين يختار القصاص فإنّه لا يختاره لشفاء غلّ نفسه، بل يختاره لأنّه يرى أنّه درب صلاح المسيء وأنفع له من الغفران. وقد رخّص الإسلام للمتأذَّى وللمعتدَى عليه بأن يقتصّ لنفسه، ولكن فرض عليه شرطيْن في القصاص: الشّرط الأوّل، أن يبثّ الحياة في قلب المعاقَب، وبالتالي لا يكون العقاب انتقاماً ولا تدميراً، يقول تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) [البقرة 179]. والشّرط الثّاني، أن يكون القصاص عادلاً، موزوناً بالمثل، لا ظلم فيه ولا تعسّف. يقول تعالى: (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) [الشورى 40].
الخيار الثّاني هو الغفران.. وهنا يجتهد الإنسان الجاهز للعفو والتّسامح في أن يكون عفوه عن المسيء جميلاً: «الغفران الجميل».. فلا يذكّر المسيء بذنبه، ولا يمنّ عليه فيه، ولا يستكبر عليه بسببه، بل يتواصل معه عبر فعل الغفران، ويحرص على أن تكون لحظة روحانيّة الصّفح هي لحظة لقاء الإنسان بالإنسان.
أمّا إن كان المتأذَّى قد اختار أن يغفر، وهو غير مستعدّ – نفسيّاً وروحيّاً -، بل فعل ذلك عقلانيّاً لأنّ النصّ الدينيّ يحثّ على العفو ويرغّب فيه ويَعِد الغافر بثوابٍ من جنس عمله، فإنّ مسيرة غفرانه ستظلّ معرّضة للنّكوص إن لم يواكبها عمل حقيقيّ يقوم به لتهذيب نوازع نفسه وتنقية جوامع روحه.
الخيار الثّالث وهو الإحسان.. قدّم الإسلام مساراً ثالثاً يعلو مرتبة على الغفران بأشكاله، وهو مسار الإحسان إلى المسيء.
وهذا مسارٌ صعبٌ شاقٌّ إن كان لا يزال في نَفْس الإنسان بقيّة فخر وعُجب وانتصار للأنا والحنوّ عليها عند تلقّي صدمة الأذى. ومع ذلك، فهذا الدّرب ليس مهجوراً ولا قفراً خليّاً عن السّالكين، بدليل أنّ النّصّ الدّينيّ حثّ على الإحسان وحرّض عليه، وهو لا يحرّض على مستحيل. وكذلك فإنّ آثار أقدام أصحاب الهمم العالية والطّاقات الرّوحيّة الكبرى، من المؤمنين أهل الديانات جميعاً، لا تزال نديّة تتناقل أخبارها الأجيال.
وهذا الدّرب الثّالث، درب الإحسان، يولّد الحبّ والرّحمة في قلب الشّخص المسيء المستقبل للإحسان، لأنّ القلوب جُبلت على حبّ من أحسن إليها. وعندما تتولّد المحبّة والرّحمة في قلب المسيء فإنّه ينعطف على من أحسن إليه بالمودّة والرّحمة، فتتلاقى القلوب وتتّصل بمادّة الحبّ والرّحمة. يقول تعالى: )وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ( [فصلت 34].
وأختم، بأنّنا نعيش في زمن استغنى به الواحد من النّاس عن كلّ المحيطين به، بعائلته الصغرى وبأبويْه وبما لديه من أدوات تواصل إجتماعيّ. ولذا، فلم تعد العزلة الاجتماعيّة سيفاً مسلطاً على الإنسان إن كان فظاً غليظ القلب، وأصبح «الغلط مع الآخر» مميتاً للعلاقة في بعض الأحيان، حتى لو كان هذا الآخر أخاً شقيقاً أو صاحباً رفيقاً. وهذا التّصوّر للواقع لا يصدر عن ذمّ للزّمان، ولكنّي آمل منه أن يحرّك أصحاب العقول الرّشيدة والإرادات الطيّبة لإنتاج أساليب جديدة ومفاهيم جديدة تؤالف بين الحياة والنّصّ الدّينيّ واحتياجات النّاس وتطلّعات الشّباب.
كلام من ذهب
وراجعت خلاله كثير من مواقف حياتي