تأمّلات في سيرة عمرو بن العاص
بقلم: دنيس جونسون ديفز (Denys Johnson-Davies)
(البـيان)
عندما بُعث الرسول الكريم كان عمرو بن العاص واحداً من أبرز شباب مكة، وقد ولد في عائلة تجمع بين الثراء والقوة، وقدر له أن يكون على موعد مع القدر باعتباره الذي سيقود جيشاً إسلامياً ضد الرومان الذين كانوا يحتلون أرض مصر، وأن يحررها من حكمهم الوحشي.
عاش عمرو بن العاص حياة حافلة، وكان شأن الكثيرين من رجالات مكة البارزين معارضة الإسلام في مستهل البعثة. وقد ترجم هذا الموقف عملياً إلى القتال ضد المسلمين في معركة بدر، التي هزمت فيها قريش على يد قوة من المسلمين أقل عدداً وعدة.
وشارك عمرو بن العاص في معركة أحد أيضاً في صفوف المشركين، حيث انعقد لواء الفوز فيها للمسلمين أولاً، إلا أن انسحاب الرماة المسلمين من مواقعهم أتاح للمشركين أخذ زمام المبادرة، غير أنه بمرور الوقت أحرز المسلمون المزيد والمزيد من الانتصارات على المشركين.
وفي أعقاب معركة الخندق، بعثت قريش عمرو بن العاص إلى الحبشة، لمناشدة حاكمها النجاشي إعادة المسلمين الذين كانوا قد هاجروا إليها فراراً بدينهم.
ويعتبر المؤرخون أن هذه الزيارة إلى الحبشة، كانت نقطة تحول شديدة الأهمية في حياة عمرو بن العاص، فهو بعد أن عبر البحر شق طريقه إلى قصر النجاشي حاملاً الكثير من الهدايا الثمينة، وعندما سأله النجاشي عما يود الحصول عليه لقاء هداياه، بادر إلى القول إنه يتمنى على النجاشي أن يسلمه الرجل الذي كان الرسول قد بعثه إلى بلاط الحبشة ليتحدث هناك باسم المسلمين الذين لجأوا إليها، وقد أثار هذا الطلب ضيق النجاشي، الذي أشاد بالرسول الكريم، قائلاً، إن رسالته ورسالة المسيح ينبعان من اصل رباني واحد.
وسأل عمرو: لماذا لم تؤمن بما جاء به الرسول الجديد؟
أحدث سؤال النجاشي تأثيراً بالغ العمق في نفس عمرو، ووجد نفسه يمعن التفكير في الرسول والرسالة التي جاء بها. مضى عمرو يتساءل عن السر في أنه لم يلتحق بركب أولئك الذين آمنوا بالإسلام وتعاليمه السمحاء، التي أشاد بها حاكم الحبشة المسيحي.
وفي طريق عودته إلى مكة عقد العزم على زيارة الرسول الكريم في المدينة، وأن يكتشف بنفسه على نحو مباشر السر في أن هذا العدد الكبير من الناس قد اعتنق الإسلام.
قدر لعمرو خلال رحلته عبر الصحراء من مكة إلى المدينة، أن يلتقي بقرشي آخر يشاركه في صدارة شباب مكة، وهو خالد بن الوليد، الذي كان قد حارب المسلمين في معارك عدة، ومن بينها بدر وأحد، وكان خالد بدوره في طريقه إلى المدينة للقاء النبي، صلي الله عليه وسلم.
كان النبي يجلس في المسجد الذي كان قد شيده في المدينة، عندما بلغه نبأ قدوم الرجلين من مكة لمقابلته. وكان خالد هو الأول الذي استقبله الرسول، وأعلن إسلامه بين يديه. وعندما جاء دور عمرو في إعلان إسلامه، قام بذلك بطريقة أظهرت شخصيته وكونه رجلاً يحرص على التفكير بعناية في كل ما يفعله قبل أن يقدم عليه.
قدر لهذا الموقف القائم على الحرص على التدبر، أن يكون أعظم نقاط القوة في شخصية عمرو بن العاص وفي مسار حياته قائداً عسكرياً ورجل سياسة، فقد قال للرسول الكريم، إنه على الرغم من كونه يريد أن يعلن إسلامه، فإنه سيفعل ذلك بشرط واحد، فتبسم الرسول وسأله عن هذا الشرط، فرد عمرو بأنه يود أن تغفر له خطاياه التي اقترفها في الماضي.
وعندئذ سأله الرسول الكريم عما إذا كان يعرف أن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، وعند ذلك بادر عمرو بن العاص إلى النطق بالشهادتين، لتمتد مسيرته المضيئة التي يستحق كل منعطف منها التوقف عنده طويلاً.
على الرغم من أن المسلمين كانوا قد فتحوا بلاد الشام بأسرها، إلا أنهم توقفوا طويلاً أمام نتائج استمرار سيطرة الرومان على مصر. ومن هنا بادر عمرو بن العاص إلى كتابة رسالة للخليفة عمر بن الخطاب أوضح فيها الأهمية الاستثنائية التي تتمتع بها مصر، وكيف أن الرومان يمكنهم بسهولة أن يهاجموا الشام انطلاقا منها، سواء كان ذلك برا عبر صحراء سيناء، أو بحرا انطلاقا من ميناء الاسكندرية.
أشار عمرو بن العاص كذلك إلى أن المصريين كانوا آنذاك يعانون أشد العناء في ظل الحكم الروماني الصارم. وطلب في ختام رسالته الإذن من الخليفة للانطلاق إلى مصر. مؤكدا أن أبناءها أنفسهم سيبادرون إلى الترحيب بجيش المسلمين باعتباره قوة جاءت لتحريرهم من نيران الرومان.
كانت مصر بلدا معروفا بالفعل للمسلمين، وكان النبي محمد صلى الله عليه وسلم، قد بعث قبل وفاته بسنوات رسالة إلى حاكمها المقوقس، حيث قوبل مبعوثه باستقبال حافل، وبعث المقوقس معها لدى عودته بهدايا قيمة إلى الرسول الكريم. وفي ذلك الحين، أكد الرسول الكريم أن الله سيفتح مصر للمسلمين، وأوصاه بأن يتخذوا منها جندا كثيفا لأن أبناءها خير أجناد الأرض.
غير أن الخليفة عمر بن الخطاب كانت لديه مخاوفه حيال اقتراح عمرو بن العاص بالانطلاق إلى مصر، فقد شعر بأن التعب قد نال من جيوش المسلمين التي خاضت غمار معارك عديدة ضد المشركين في العراق والشام، وبالتالي لا ينبغي ان يطلب منها في هذا المنعطف أن تخوض غمار حرب أخرى. وعلى الرغم من ذلك، فقد وافق الخليفة على أن يزحف عمرو بن العاص بجيشه باتجاه مصر..
ولكنه أضاف أنه يراد أن يستشير رجالاً آخرين حول مسألة الهجوم على مصر ذاتها، وسيكتب لعمرو بن العاص مجددا في هذا الشأن. أبلغ الخليفة عمرو بن العاص بأنه إذا أمره في رسالته الثانية بألا يواصل الزحف على مصر فإنه ينبغي عليه أن ينسحب. وكان عمرو بن العاص مصرا على أن يمضي قدما، ومن هنا فقد بادر إلى الزحف باتجاه مصر بأقصى سرعة يستطيعها جيش المسلمين.
وبينما كان لا يزال في فلسطين، وصلته الرسالة الثانية من الخليفة عمر بن الخطاب. كان عمرو بن العاص معروفا بحذقه وطموحه، ومن هنا فقد أدرك فحوى الرسالة، وقال لمبعوث الخليفة إن عليه أن يظل محتفظا بها إلى أن يضرب الجيش خيامه في مكان مناسب.
هكذا وبكلمات بارعة، تمكن عمرو بن العاص من تأجيل قراءة ما كتبه له الخليفة، وواصل على عجل الزحف بجيش المسلمين إلى الجبهة المصرية وعندما وصل إلى مكان قريب من العريش على ساحل سيناء، سأل بعض أبناء المنطقة عن المكان الذي بلغه الجيش فقيل له إنه يقف على أرض الكنانة. عندئذ فقط بعث عمرو بن العاص يستدعي مبعوث الخليفة ليقرأ الرسالة التي حملها معه أمام جيش المسلمين بأسره.
كان عمر بن الخطاب قد كتب في رسالته الثانية إلى عمرو بن العاص يقول إنه اذا بلغته هذه الرسالة وهو لم يدخل أرض مصر بعد، فإن عليه العودة بالجيش إلى أرض لشام، أما إذا بلغته الرسالة وقد دخل أرض مصر فإن عليه أن يمضي قدما ليفتحها، وعليه ألا يتراجع عن عزمه. عندئذ التفت عمرو بن العاص وسألهم: أليست هذه القرية جزءا من أرض مصر؟ فردوا عليه مؤكدين إنها كذلك. فأمر جيش المسلمين عندئذ بأن يمضي لمواصلة مسيرته في مصر.
كان عمرو بن العاص معروفا أيضا ببلاغته وأقواله التي كان يـُضرب بها الأمثال، ومن أقواله التي لا تنسى، ما ذهب إليه من تأكيد أن الرجل الفطن ليس هو الذي يميز بين الخير والشر، وإنما هو الذي يميز بين أهون الشرين الذين يعترضانه.