زراعة النّور في كون منشور .. صحبة الكون
بقلم: د. سعاد الحكيم
يدل لفظ «الصحبة» – في اللغة – على الملازمة. وأجمل أشكالها وأعلاها عندما تقترن بالألفة والمحبة، ولا تكون مجرد ملازمة جسمانية لا روح فيها ولا متعة.
وقد درج الناس على أن «الصحبة» لا تقع إلا بين المتشاكلين وأبناء الجنس الواحد. ومن هنا؛ يشار أحياناً إلى الزوجة بلفظ: الصاحبة، وإلى رفيق العمل أو زميل الدراسة أو الجار القريب بلفظ: الصاحب. وأجمل مشهد للصحبة في تاريخ البشرية نراه في الجيل الأول من المسلمين الذي آمنوا بالرسول المصطفى صلوات الله عليه وكانوا معه في كل أمر، وعُرفوا باسم: الصحابة الكرام.
ومع أن أذهان الناس عند ذكر لفظ «الصحبة» تسارع إلى تصور نمطٍ من العلاقات الإنسانية المتبادلة، إلا أنه يمكن توسعة هذا المفهوم للصحبة ليشمل كل أشكال الملازمة الواقعة بيننا وبين الكون المحيط، بكل أشيائه وكائناته.
نظرت في حياة الناس حولي ونظرت في حياتي ونظرت في الدفاتر والكتب؛ بحثاً عن وجود صحبة بين الناس وبين الكون، وليس فقط بين الإنسان وأخيه الإنسان، فتراءت لي أربعة أشكال من الصحبة، أُجملها فيما يأتي:
1 – صحبة المُلْكية
يشتري الإنسان منزلاً في المدينة، أو يستأجره، ليقيم فيه مع أهله، وحيث إنه لا ينتفع به فارغاً خاوياً، فيشتري المفروشات اللازمة والحاجيات الضرورية ليضعها في جنباته. وقد يشتري أيضاً سيارة أو منزلاً إضافياً في قريته أو في جبل أو على شاطئ بحر لتمضية عطلات نهاية الأسبوع أو الصيف.. إن هذه الأشياء المذكورة كلها التي تحيط بالإنسان وتلازمه، داخلةٌ في ملكيته ويمكن أن يتصرّف فيها بما يشاء. والسؤال: هل ترتّب ملكية الأشياء صحبة معها، وما حقوق هذه الصحبة؟
يعبّر الكثير من الناس عن صحبتهم لممتلكاتهم بشكل لا شعوري، تلقائي وعفوي، وربما تتلوّن هذه الصحبة بثلاثة ألوان: أولاً، لون الحب؛ نسمع رجلاً أو امرأة تقول: أحب بيتي، أحب أشيائي، أحب حديقتي، أحب سيارتي، وأحب كل ما لدي [حتى وإن كان ما لديها قليلاً]. ثانياً، لون الكره؛ نسمع آخر أو أخرى تتشكى وتتذمّر، تقول: أكره هذا البيت (فهي في لا وعيها لا تراه يخصّها فتشير إليه بعبارة: هذا البيت، وليس بيتي)، أكره هذا الأثاث إنه مقيت، أكره هذه السيارة القديمة. ثالثاً، لون عدم الاستقرار وإرادة التغيير؛ نسمع شخصاً ثالثاً أو امرأة ثالثة تعبّر عن سخطها تقول: هذا البيت ضيق المساحة، لا تدخله الشمس، يمتص ضجيج الشارع، لن نرتاح حتى ننتقل منه إلى منزل أفضل.
إذن، إن العلاقة مع أشياء الكون التي نمتلكها تؤثر على مزاجنا الإنساني.. فإن كانت صحبتنا لأشياء محيطنا الملازمة لنا تتصف بالإيجابية، ارتوت النفس بالرضى، وانعكس الرضى جواً من الألفة والمحبة داخل العائلة. أما إن كانت صحبتنا لهذه الأشياء تتصف بالسلبية، فينسكب السخط في النفس، وينعكس داخل العائلة مولّداً النفور والخصومة والشجار.
ومن هنا، فإن صحبة الملكية تفرض على الإنسان المالك جملة حقوق، منها: أن يرضى الإنسان بما رزقه الله تعالى، ويحمد ربه الجليل الأعلى على نعمة أرضٍ تقلّه ومنزلٍ يستر عوراته. وأن لا يمدّ العين بنظرة اشتهاء إلى ما عند الآخرين، وأن يحترم نعمة الله تعالى ويحب ما يمتلك ويؤنسنه.. وهذا ليس بغريب، فقد كان سيدنا رسول الله عليه صلوات الله، يحمد الله سبحانه ويشكره على كل نعمة، كما كان صلوات الله عليه يفرد أشياءه وأمتعته أحياناً بأسماء تخصها، فيسمّي مثلاً سيوفه كل واحد باسم.
2 – صحبة الانتفاع
إن الإنسان لا يعيش في بيته فقط، بل ينتفع بأشياء كثيرة مشتركة مع غيره. ومنها: الشارع الذي يدخل منه إلى بيته ويخرج منه إلى عمله أو دراسته. والحديقة العامة الواقعة في منطقته، أو منطقة قريبة أو بعيدة والتي يلعب فيها أولاده مع غيرهم. والمجمّعات التجارية التي يتسوّق منها أو يلتقي في مقاهيها ومطاعمها مع أهله وأصدقائه. مدخل بنايته وموقف سياراتها الذي يتشاركه مع جيرانه. الساحات العامة. الأفنية. الشوارع.. باختصار، إن الإنسان يتحرك في مساحات كثيرة لا يملكها، وهي مشتركة مع غيره. وهذه المساحات المشتركة لها حقوق واجبة الرعاية أثناء الانتفاع بها، وترتب جملة مسؤوليات، ومن أهمها: الحفاظ على النظافة والمشاركة بالعناية بها إن أمكن.
علّم سيدنا رسول الله عليه صلوات الله المسلمين أن النظافة جزء من الإيمان، وأنه لا يكفي أن يكون الإنسان نظيفاً في بدنه وملابسه ومسكنه وخاصة ملكه وينتهي إحساسه بالمسؤولية أمام عتبة داره، بل يتوجب عليه حفظ نظافة المساحات المشتركة بين الناس والمشاركة بتنظيفها إن استدعى الأمر. يقول صلوات الله عليه: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها: قول لا إله إلا الله. وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق)).
ولفظ الأذى الوارد في الحديث النبوي الشريف يضم كل ما يؤذي الناس في الطريق: سواء أكان أذى مادياً كالقاذورات التي تنقل الجراثيم والأوبئة، أو كقطع الحديد المسنّن والشَّوْك والأشياء الحادة والحُفَر التي قد تتسبب بحوادث السير، أم كان أذى معنوياً ومادياً يتمثّل في الروائح الكريهة والأصوات العالية والتعليقات الحادة من شبابيك السيارات.
وليس أدل على احتفاء المسلمين بمسؤولية الدولة والإنسان عن نظافة الشوارع، ما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أنه قال حين قدم البصرة والياً: «إن أمير المؤمنين عمر (بن الخطاب) – رضي الله عنه – بعثني إليكم، أعلّمُكُم كتابَ ربّكم عزّ وجلّ، وسُنّة نبيّكم محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، وأنظّفُ لكم طُرُقَكم».
3 – صحبة الجوار
إنّ الكون المحيط بالإنسان، لا يشمل فقط بيته وممتلكاته والمساحات التي ينتفع بها مباشرة ، ولكنه يشمل أيضاً كل عناصر البيئة الطبيعية المحيطة به.. ومن هنا تتسع دائرة مسؤولية الإنسان ويطالب نفسه بأداء حقّ كل ما جاوره من عناصر الطبيعة؛ كالسهول أو الجبال أو الوديان أو السواحل، وأيضاً الأنهار أو البحار أو البحيرات أو الآبار.. يحمل شطره من المسؤولية عن البيئة الطبيعية. فإن كان جاراً لنهرٍ يحرص على عدم تلويثه برمي الأوساخ أو المياه القذرة، وإن كان جاراً لغابة ربما يشارك في التشجير أو يبلّغ السلطات عند أي محاولة لقطع الأشجار خلسة للانتفاع بثمنها،وإن كان جاراً لساحل البحر يحرص على إبقاء الشاطىء نظيفاً ويشارك في تنظيفه إن اقتضى الأمر. وإن وسّعنا حدقة الرؤية يصبح الغلاف الجوي صاحباً وجاراً للناس جميعاً على الأرض ويرتّب على كل إنسان مسؤولية عدم تلويث الهواء.. باختصار إن البيئة تصحب الإنسان ولها عليه حقوق الجوار، وأهمها: الإحسان ، وعدم التعرّض لها بأذى، وحراستها من كل أذى، والاقتصاد في الاستهلاك.
4 – صحبة السمع والبصر
إن الإنسان يصحب الكون كله صحبة السمع والبصر، يخرج إلى شاطئ البحر فيسمع صوت الموج، ويمشي في الغابة فيسمع حفيف الشجر، ينظر في السماء ليلاً فيرى جمال النجوم وحلاوة القمر، يمد بصره إلى الأفق وقت الغروب فيدهش من جمال الكون ويحار في تلوينات الوجود.
هذه الصحبة الجمالية للكون المحيط ترتّب أيضاً مسؤوليات على الإنسان، أهمها: مسؤولية السير في الأرض والتفكّر في خلق الله تعالى.
وختاماً..
لا تقف مسؤولية الإنسان في صحبته للكون عند حدود ذاته، بل يتعين أن تتسع لتشمل تنشئة أولاده على صحبة الكون. وتتلخص هذه التنشئة بحدود أربعة
1 – التربية على حسن صحبة أشيائه.. وهنا يحرص الأهل على تشريب الطفل عادة صحبة ألعابة بالألفة والرعاية والعناية والمحبة. فلا يتساهلون عندما يكسر لعبة نزقاً أو غضباً أو مللاً ليحصل على غيرها، ولا يتسمّحون معه حين يطلب ما في يد أخيه أو صاحبه من ألعاب وإن كان هو الطفل الأصغر بين اخوته.. كما يحرص الأهل على أن يألف الطفل غرفته وسريره ويحبهما ولا ينظر فيما لدى أصحابه وجيرانه، فيعلمونه منذ الطفولة معنى النعمة الإلهية والفرح بها وعدم اشتهاء نعم الآخرين.
2 – التربية على إحسان التصرف في المساحات المشتركة.. وهنا يحرص الأهل على إفهام الطفل معنى حُرْمَة المساحات المشتركة، وإن له فيها من الحق ما لغيره، وأنه يترتب عليه مسؤولية تجاهها عندما يأخذ حقّه في الانتفاع بها.. وهنا يتعين ألا يتسمّح الأهل مع أي محاولة من الطفل للتخريب، كرمي نفاياته على الأرض، أو كسر شيء من أشياء الشارع ، أو قطف الأزهار المزروعة لتجميل الساحات والشوارع ، أو مضايقة النّاس المتواجدين في الفضاء المشترك ، وغير ذلك من أنواع التخريب والمضايقات التي يقوم بها الطفل ببراءة عندما يسيّبه الأهل ليعبث بما يشاء في المساحات المشتركة.
3 – التربية على صحبة البيئة الطبيعية.. وهنا يحرص الأهل على الزرع في ذاكرة الطفل وخبرته أن الطبيعة لها على الإنسان حق الجوار، وأن البيئة هي صاحبة الإنسان في سفر الوجود.. فلا يؤذيها بتلويثها ليستمتع بها، والأجيال اللاحقة، نظيفة.
4 – التربية على إطلاق السمع والبصر في الكون.. وهنا يلفت الأهل الطفل إلى النظر في الآفاق، يصحبونه إلى شاطئ البحر ليرى جمال الخَلْق الإلهي وليس ليسبح فقط.. وكذا في المساء يلفتونه إلى النجوم والكواكب.. وكلّ ذلك ليدرك بنفسه عظمة الوجود وبديع خلق الله تعالى.