حوار مع ميشيل شودكيفتش

حوار مع ميشيل شودكيفتش

حوار مع ميشيل شودكيفتش

أجراه معه جعفر الكنسوسي مدير جمعية موسميات مراكشية،

ترجمة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب وهو ابن الشيخ الطيب الحساني الكبير، أحد أشهر المتصوفة في صعيد مصر خلال العصر الحديث.

         ميشيل شودكيفيتش، الفرنسي موطنا، المسلم دينا، الاستاذ البارز في مدرسة الدراسات العليا بالسوربون، ومترجم الفتوحات المكية الى الفرنسية، والعديد من مؤلفات الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي. كما كتب عنه أيضًا عددا من المؤلفات الهامة، من أشهرها (بحر بلا ساحل) ويعتبر من أهمّ الدارسين للتراث الصوفي الاسلامي، ومن كبار رجال الطريقة الأكبرية.

         *السؤال:بعد مرور قرن من الزمان على بدء الدراسات الجامعية في ميدان التصوف، لماذا ترون أنّ هذا الحقل لا زال بكرًا، وأنّه في انتظار المزيد من الدراسات؟ ثم ما هي –في رأيكم- الاتجاهات التي يجب أن تسلكها هذه الدراسات؟

        *الجواب: لم تكن الدراسات الجامعية عن التصوف في أي وقت مضى بالدراسات الوافرة أو الكثيرة. وما أظنها اليوم تلقى اهتماما سواء فيما يتعلق بعدد من الباحثين او الاماكن التي يجب ان يشغلوها في المؤسسات الاكاديمية. ولا مفرّ من القول بأن ما أنجز من دراسات في هذا الحقل- على مدى قرنين من الزمان- لم يكن كشفا او ارتيادا لآفاق جديدة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، بل نقول: ان الأمر كان على العكس من ذلك، اذ الوثائق التي ينبغي تحليلها والنصوص التي ينبغي نشرها وترجمتها كثيرة ومهمة ولا زال هناك الآلاف من الصفحات المكتوبة التي تحتاج الى دراسة فاحصة واذا أخذنا في الاعتبار الوثائق والنصوص التي تنتمي الى الفترة التي تشغل اهتماماتي – وهي فترة ما بين القرنين-: السابع والتاسع الهجريين فإن أبحاثا ودراسات كثيرة يجب ان تكتب بوجه خاص عن: القونوى، عفيف الدين التلمساني، ابن سبعين، الجيلي...ونقول انه باستثناء بعض الابحاث المتألقة في مجالات الدراسات الصوفية، فان دراسات الباحثين المسلمين عن هذه الفترة جاءت هي الاخرى محبطة للآمال، فكثير جدا مما نشر من النصوص نشر بنهج متسرع، وكيفما اتفق، برغم ادعاء التحقيق العلمي لنشر هذه النصوص، وكثير من الاطروحات الجامعية- أيضا- كتب بمستوى علمي دون المتوسط، ويسوده قدر غير قليل من التكرار واجترار ذات الافكار ورغم ادعاء الكثيرين بأن ثمة تقدما ملموسا في الدراسات الصوفية في الغرب فاننا نلاحظ على هذه الدراسات انها- على المستوى المنهجي- وقعت في تقابل او تعارض ترتبت عليه آثار كريهة، ونعني به التقابل بين طريقتين متصادمتين في البحث: احداهما تعتمد على البحث اللغوي وتنغلق في التفسير الفيلولوجي للنص الصوفي، والاخرى تعتمد على البحث الميداني وسط التجمعات الصوفية الشعبية. وهذه الطريقة او تلك تعجز تماما عن اكتشاف حقيقة التصوف، لأن التصوف في الاسلام نبض حي متغلغل في النفوس، وليس نظرية ميتة محنطة نكتفي في التعرف عليها بالانكفاء على نصوص المخطوطات وفحصها وتحليلها وايضا لا يمكن ان نستبين حقيقة التصوف الاسلامي من مجرد ملاحظة الصور الشعبية، ورصدها وتسجيلها في المولد والاحتفالات، دون ان يكون للباحث قدم راسخة في التراث الصوفي تمكنه من اكتشاف المغزى الحقيقي المختبئ وراء الظواهر الشعبية التي يرصدها

         السؤال: من بين المدارس الفكرية الغربية التي تهتم بموضوع التصوف كيف تقيّمون:ما قدمه ماسينيون في دراساته المعاصرة عن هذا الموضوع؟ما ينبغي ان نعتبره ونستبقيه من أفكار هنري كوربان؟ اذا تركنا دائرة الاستشراق والمستشرقين فهل تعتبرون أعمال: ميشال فالسان أعمالا رائدة في دراسة التصوف في الغرب؟

         الجواب: ان تقييم اعمال ماسينيون وكوربان لا شك يحتاج مساحة أكبر من هذه الصفحات المتاحة الآن لكن أكتفي بالاشارة الى اهم الجوانب الايجابية في اعمالهما – حسبما يبدو لي- أما ماسينيون فقد استطاع عن طريق تحليل لغة التصوف ومفرداتها ان يخرج بحقيقة ثابتة، مؤداها: ان القرآن الكريم هو الأصل الذي يجب ان يرتد اليه الباحث وهو يفتش عن اصول التصوف الاسلامي وجذوره، بمعنى ان التصوف في الاسلام نابع من الاسلام ذاته أعلن ماسنييون ذلك في الوقت الذي ردد فيه الكثيرون- ولا يزالون يرددون حتى اليوم- ان التصوف في الاسلام انما هو حصاد أمشاج أو أخلاط تكونت من عقائد وسلوكيات غريبة عن الاسلام… !

         وامر آخر ايجابي في اعمال ماسينيون، هو ان كتاباته عن الحلاج، وبرغم ما ترتب على هذه التفسيرات من القصد السيء والفهم المشوش في وجهات النظر، خصوصا لدى بعض الاوساط المسيحية في الغرب- نقول: بالرغم من كل ذلك فان كتابات ماسينيون هذه نجحت في ان تلفت نظر جماهير الغرب الى ابعاد جديدة في التصوف الاسلامي ما كانت لتعرفها من قبله. لكن ماسينيون كان يحمل روحا عدائية تجاه ابن عربي، بل انه لم يترك عبارة قاسية الا استخدمها وهو يكتب عن الشيخ الاكبر.

         وعلى العكس من ماسينيون وجدنا “كوربان” يعرض لكتابات “ابن عربي” ومؤلفاته في تعاطف قوي، بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، وهذا بالرغم الاخطاء المؤسفة التي اقترفها كوربان وهو يفرض على تراث ابن عربي أحكاما جاهزة ونتائج مسبقة لم تخطر ببال ابن عربي ولم تدر بخلده. لكن تعاطفه هذا مكنه من فهم كثير من معطيات فكر ابن عربي الاساسية بأفضل مما فهم به بلاسيوس ونيكولسون و أبو العلا عفيفي وقد كان تعاطف كوربان– في تلك الفترة- بمثابة المبرر الشرعي وراء الدراسات الجامعية التي انطلقت في جامعات الغرب- بعد ذلك- عن ابن عربي وتصوفه وأفكاره.

         *السؤال:ذكرت في أحد مؤلفاتك الأخيرة أنه منذ نهاية القرن التاسع عشر- وخصوصا في عالمنا العربي- نشات ظاهرة إحياء ميراث ابن عربي وتجديد مدرسته “الأكبرية” لكن هذا التجديد لم يكن على نفس المستوى فيما يتعلق بالدراسات الجامعية، اضافة الى الاعمال الجادة التي تمت في هذا المجال أعمال قليلة بل نادرة… ما هو تفسيركم لهذه الظاهرة؟

         الجواب: حديثي عن تجديد مدرسة ابن عربي في القرن التاسع عشر لا يعني – بالطبع ان تعاليم الشيخ كانت مجهولة أو مهجورة من قبل، او ان سلسلة التواصل التي نقلت فكره الى مختلف الأجيال اللاحقة له كانت مبتورة ثم عادت الى الاتصال في القرن التاسع عشر لكن ما حدث انه مع تعرض العالم الاسلامي لغزو الايديولوجيات الغربية التي حاولت استلاب وتذويب هويته الذاتية، ومع انتشار التفسيرات والتبريرات التي حاولت- من جانبها- تشويه المفاهيم الاسلامية الاصيلة – انبثق كما قصد به – في جزء أساسي منه- ابراز التراث واظهار أهميته ومكانته في مجال البحث عن الذات. وقد جاءت ظاهرة احياء مدرسة ابن عربي بمثابة الصورة المثلى او التعبير الاتم عن هذه الاهمية التي يكتسبها التراث في تأكيد الذات أمام الغير. وقد اضطلعت بهذا التجديد ثلة من الشخصيات المختلفة، بعضها مغمور وغير معروف. وبعضها مشهور وذائع الصيت مثل الأمير عبد القادر الجزائري الذي تحدثت- في موضع آخر- عن دوره الهام في تواصل ميراث الشيخ الأكبر هذا وقد اتخذ احياء مدرسة ابن عربي وتجديدها صورا عدة، لكنها كانت أقل ظهورا في دوائر الطرق الصوفية على اختلاف أسمائها. غير ان هذا الاحياء ظهر واضحا مع حركة الطبع والنشر، خصوصا مع نشر المؤلفات العديدة لابن عربي.لكن ما نشر من هذه المؤلفات في البلدان العربية وما أغرى به هذا النشر من دراسات وأبحاث أكاديمية، كان –دائما- ناقصا ولا يشفي الغليل، ومن ناحية أخرى أثارت هذه الدراسات جدلا بلغ –أحيانا- حد العنف ضد ابن عربي، ولا زال هذا الجدل يتجدد ويشتعل اواره حتى الان وقد أحدثت حركة الإحياء هذه وما صاحبها من أبحاث ودراسات في الغرب تأثيرا لا يقل عن مثيله الذي أحدثه في الشرق، يدلنا على ذلك هذا الاهتمام المتزايد الذي يوليه الغرب لابن عربي.

  • السؤال: كيف استطاع فكر ابن عربي ان يتبوأ مكانة عليا في الاسلام؟

         الجواب: حاولت في مقدمة كتابي الاخير أن أبين – من خلال شواهد عديدة- ان تأثير أفكار ابن عربي تخطى دائرة التلاميذ الذي يجهرون بانتسابهم اليه في صراحة ووضوح، وامتد الى شخصيات يمكن ان نعدهم من بين اعداء الشيخ وخصومه، كما امتد هذا التأثير- عميقا- الى اوساط لم يسبق لها ان قرأت كلمة واحدة من تراثه، بل حتى الى اوساط تجهل اسمه ولا تعرف عنه شيئا. ولذا فإني أحيلك- في هذه النقطة-الى ما قلته هناك في كتابي الاخير

  • السؤال:قلتم في بعض كتاباتكم: ان تاليف ابن عربي نسيج محكم مترابط، وأكدتم على أن الترتيب الدقيق في خيوط هذا النسيج وعقده مرتبط بالقرآن الكريم… هل يمكن لنا ان نفهم تراث ابن عربي فهما حقيقيا بدون ان نفترض ان القرآن الكريم يشكل الخلفية الاساسية في هذا التراث؟

        الجواب: أعتقد انني استطعت ان اثبت في كتابي الذي أشرت اليه سابقا- ان تآليف ابن عربي لا يمكن ان تفهم فهما حقيقيا، سواء في مضامينها وفي صورتها الخارجية، أو حتى في تقسيمها وترتيبها، الا بالنظر الى القرآن الكريم والاستناد اليه وغني عن البيان بعد ذلك ان نقرر ان فهم تراث ابن عربي لا يثمر ثمرته الحقيقية الا اذا كانت ادوات هذا الفهم ملحقة أساسا بروح القرآن الكريم.وابن عربي انما يخاطب في تآليفه هؤلاء الذين يذكرهم رجع الصدى في كلمة او كلمتين – من تراثه- بالآية القرآنية او السورة التي تلهمه بهذه الفكرة او تلك دون ان يتضمن كلامه- فيما يكتب- ذكرا صريحا لآيات القرآن الكريم.

        *السؤال: تذكر كتب الطبقات ان رابعة العدوية كانت تمثل التجسيد الحقيقي لمدرسة الحب الالهي الخالص في التصوف الاسلامي في بغداد ابان القرنين: الثاني والثالث الهجريين وقد يفهم من هذا التجسيد أو هذا النموذج الحي للحب الالهي (المباشر) شيء من تجاهل أهمية دور النبي صلى الله عليه وسلم في محبة الله تعالى او لنقل “أهمية الاسوة الحسنة” في طريق الحب الالهي…ما هي الأهمية التي يكتسبها مفهوم الاسوة الحسنة والذي يظهر بكل وضوح في كتابات ابن عربي؟

         الجواب: ببساطة شديدة اقول انه مع غياب الانموذج النبوي او الاسوة الحسنة لا يمكن التفكير بحال من الاحوال – في قضية الولاية في الاسلام لأن الولاية (بمعنى التولي، وهو وصف خاص بالله تعالى) لا ينالها العبد الا بالاقتداء او بالاسوة الحسنة في النبي صلى الله عليه وسلم والحب الالهي الخالص الذي يمثله أنموذج رابعة انما يستمد وجوده – ايضا- من إطار الاسوة الحسنة وحقيقة الامر انه ليس ثمة الا وصف الاخلاص، ولا يعبد الله على الحقيقة الا هؤلاء الذين يخلصون له الدين وعبادة الله في هذا المستوى – مستوى الاخلاص- لا يبقى معها اي تعلق او التفات لغير الله تعالى

         *السؤال: نحن نعرف ان ابن عربي الف رسالته “روح القدس” من أجل الدفاع عن الولاية وأصالتها في بلاد المغرب، وهذه الاصالة أكدتها بعض الاوساط الصوفية في الشرق الاسلامي، بل اننا نجد ان لأولياء المغرب تفوقا بارزا تميزوا به في تاريخ التصوف في الشرق نفسه: كما هو الحال –مثلا- بالنسبة لسيدي أحمد البدوي وابي الحسن الشاذلي… هل يعني ذلك ان لأولياء المغرب دورا خاصا في تاريخ التصوف؟ واذا كان الأمر كذلك فما هي طبيعة هذا الدور على وجه التحديد؟

         الجواب: لم يكن الدفاع عن الولاية في المغرب هو السبب الوحيد- بل ولا السبب الاول- في تاليف ابن عربي لرسالة روح القدس. وبرغم عدم اتفاقي مع ما تقول عن الولاية والاولياء في المغرب فإني أؤكد ان تأثير شيوخ التصوف سواء في الاندلس او في المغرب، وبدءا من بداية القرن السابع هجري، كان تأثيرا قويا يستحيل تجاهله خصوصا تأثير الشيخ “أبو مدين” في طائفة كبيرة من تلاميذه واتباعه لكن أذكرك بان احمد الرفاعي وعبد القادر الجيلاني وبهاء الدين النقشبندي– وهم من أقطاب التصوف الاسلامي وقممه- ليسو مغاربة ولا أندلسيين.

         *السؤال:*ان التقاء ابن عربي بابن رشد الفيلسوف لم يؤد الى نتائج حاسمة او مقنعة: فابن عربي لم يغير طريقته في التأمل، لكن أفكاره وتعاليمه صيغت فيما بعد وعلى يد تلميذه المباشر “صدر الدين القونوي”، في صيغة فلسفية. ما هي الظروف التي أدت الى هذا التقابل المتعاكس؟

         الجواب: لا شك في ان مذهب ابن عربي الصوفي اعيدت صياغته على يد القونوي وعلى يد كثيرين غيره ممن جاؤوا بعد ذلك- في لغة متأثرة كثيرا باصطلاحات الفلسفة السينيوية واصطلاحات علم الكلام، ولا شك ايضا في ان هذا التوافق مع الاستعمالات العقلية السائدة في الميدان أمر محتوم لا مهرب منه، وبرغم ذلك فإن هذا التوافق مع الاصطلاحات الفلسفية والكلامية أدى الى نشوء نمط مدرسي- اسكولاتي- يعتمد على التكرار ويكاد يخلو من الخصوبة والابداع. من ناحية اخرى فان النظام الفكري لهذا النمط المدرسي عرض تراث ابن عربي لجدل عنيف شنه خصوم هذا التراث واعداؤه.

         *السؤال: أوضحتم في إحدى ندواتكم عن التصوف ان هذه التسمية الجارية (التصوف) لا تغطي كل الابعاد الروحانية في الاسلام…هل يلزم تحديد كل من التصوف، الملامية، الفتوة؟ وكيف نحدد كلا من هذه الأنماط الروحية الثلاثة؟

         الجواب: من السهل ان نقول في شيء من التبسيط: ان كل ما نصنفه تحت مصطلح “صوفية” لا يدل على هذه الطائفة بل ان الصوفية انفسهم كثيرا ما ينكرون تسميتهم بهذا الوصف ويصرون على رفضه. وحقيقة الامر ان “السلمي” هو اول من بدأ معه استخدام كلمة “صوفي” واستعملها في حديثه عن العرفاء في الاسلام بدون تمييز بينهم والدليل على ذلك هذه التسمية التي اختارها لكتابه الذي تحدث فيه عن هؤلاء العرفاء وهو: “طبقات الصوفية”، مع انه كان يعي ان هؤلاء لم يكونوا على شاكلة واحدة، وانما كانوا يتوزعون بين مشارب واذواق شديدة التفاوت جعلت لكل منهم هوية روحية متميزة. هذا وقد أوضح “روجر ديلادرييه” في ترجمته الرائعة للملامية من طبقات الصوفية للسلمى- ان مصطلح ملامية وفتيان استخدم بمعنى اكبر من دلالته التاريخية المرتبطة بالصور الروحية السائدة في خراسان، لقد استخدم هذا المصطلح بشكل أعم للدلالة على صور الولاية الموجودة في كل مكان وزمان أما فيما يتعلق بتجديد هذه الانماط الروحية فانني لا استطيع ان اغامر فيه أو اجترئ عليه، ولكن اكتفي بان اشير الى ان المعنى المشترك بين الملامة والفتوة هو انكار الذات ورفض الرغبات والشهوات بكل ما تحمل هذه الكلمات من معان ومن أبعاد والفتى هو الذي يقدم الاخرين على نفسه، ويقدم الله على كل من سواه، والملامي ليس هو فقط المجهول عند الناس، بل هو المجهول عند نفسه ايضا.

         *السؤال:لتسمحوا لنا ان نعرض لموضوع الجدل المثار الان حول قضية التصوف: نحن نعرف انكم كتبتم دراسة دقيقة عن خصوم التصوف او معارضيه مثل: ابن الجوزية، أو ابن تيمية: الأب المؤسس لحملات النقد والجدل حول التصوف وحول مدرسة ابن عربي على وجه الخصوص. وقد ركزتم في دراستكم على نقطة هامة مؤداها: ان ابن تيمية كان ناقدا ولم يكن خصما لانه رغم ما عرف له من هجوم الا انه ظل في الاطار المتفق عليه من الصوفية والفقهاء وعامة المؤمنين، والدليل على ذلك ان ابن تيمية نفسه كان يفخر –على سبيل المثال- بانتمائه للطريقة القادرية. ويمكن ان نقيم- في هذا الصدد- نوعا من المشابهة بين عداء ابن تيمية وعداء ابن خلدون… ما هو المغزى الحقيقي في رأيكم لهذا الجدل المثار حول التصوف؟

       الجواب: غالبا ما يقال ان ابن الجوزي وابن تيمية هما الرائدان المؤسسان لحملات النقد ضد التصوف. وهذا القول –فيما يبدو لي- غير صحيح: لأن ابن الجوزي وابن تيمية ليسا اول من لفت الانظار الى موضوع البدعة والبدع وثانيا لأن كلتا هاتين الشخصيتين أعقد وأعمق بكثير مما يقوله عنهما هؤلاء الذين يزعمون في عصرنا الحديث انهم اتباع ابن تيمية وتلاميذ ابن الجوزي وصحيح ان ابن الجوزي انتقد بعض الانحرافات التي يعيبها على الصوفية لكن انتقد ايضا وبنفس العنف القراء (قراء القرآن الكريم) والمتكلمين والمحدثين الاغنياء والفقراء ان نقد ابن الجوزي انما يعكس ذما كليا شاملا من رجل لا يرى في طول البلاد وعرضها الا شيطانا يغوي ويضل بدون توقف لكن هذا المنظار الاسود لم يمنع ابن الجوزية من الشدو بقصائد صوفية ومواعظ حركت قلوب الجماهير وعواطفهم نحو الله، بل لم تمنع قلمه من التاليف كتاب في فضائل رابعة العدوية، ومختصر لاحياء علوم الدين للغزالي، وكتاب ضخم في تراجم الاولياء بعنوان صفوة الصفوة وفيما يتعلق بابن تيمية فانه وان انتقد ابن عربي او ابن سبعين الا انه في المقابل مدح الجنيد واثنى على سهل التستري وعبد القادر الجيلاني وابي مدين على ان هجومه انما كان يتوجه اساسا الى الاخطاء التي كان قد نسبها بحق او بغير حق الى بعض المتصوفة. ولم يكن ابن تيمية مهاجما او عدوا للتصوف كتصوف ونفس الشيء ينطبق على ابن خلدون الذي الف رسالة في التصوف يقوم بترجمتها الان الاب بيريز، وباختصار فان التيار النقدي للتصوف وجد واستثمر حتى القرن الثامن عشر ميلادي وهذا التيار كان يهاجم – بحق احيانا- التصرفات المنحرفة لدى بعض المتصوفين لكن اذا قلنا: ان هذا التيار كان ينتقد التصوف بما هو تصوف، اي التصوف في حقيقته وجوهره فاننا نفتري على التاريخ، بل ونصطدم بالحقائق التاريخية نفسها هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى كان الفقهاء في ذلك الزمان كلهم تقريبا من الصوفية.

         *السؤال: تدعى الحركة السلفية ومعها الوهابية الجديدة ان المجتمعات الاسلامية سقطت في الفساد او الانحراف الفكري منذ القرن 19 ميلادي وان مهمة اصلاح هذه المجتمعات تقع على عاتقهم لكن اي بحث بسيط في التاريخ العلمي للمجتمعات الاسلامية يثبت للباحث عكس هذه الدعوى، ويكشف عن وجود اعمال ومؤلفات كبرى ورئيسية لكثير من الشيوخ كانت تتزايد من عصر الى اخر (وان كانت الجمهرة الغالبة لم تقرأ هذه الكتب) مثل الجيلي ومثل مؤلف كتاب النكتة ومثل النابلسي والتجاني والامير عبد القادر الجزائري وكثيرين غير هؤلاء لكن هذه المؤلفات غير مقروءة ولا معروفة للغالبية العظمى: اذا كان الأمر كذلك فهل ترون ان ادعاء الاصلاح من جانب السلفيين ادعاء صحيح؟ ثم على اي اساس يرتكز هذا الادعاء؟

       *الجواب:لم يحدث أبدا ان اهتم الوهابيون والسلفيون بشكل عام بقراءة هذه المؤلفات التي تحدثت عنها انهم يحصرون كل تفكيرهم في الهجوم على القضايا التي يرددها في اختزال واختصار تلاميذ ابن تيمية واتباعه. وحتى لو قرأ الوهابيون مؤلفات الشيوخ والعلماء الذين اشرت اليهم فان ذلك لا يغير من اعتقادهم ولا من موقفهم شيئا وما تنطوي عليه هذه المؤلفات من علوم ومعارف – لا يطيقون فهمها ولا استيعابها سوف يدفعهم لا محالة للمزيد من التصلب في موقفهم هذا اذا فرضنا انهم يبحثون عن هذه النصوص ويحاولون فحصها من قريب او بعيد اما السقوط الفكري الذي يحاول السلفيون انتهاض المسلمين من وهدته فان له تفسيرا آخر فعلى خلاف الوهابية التي بنت دعوتها على المفهوم البسيط للتوحيد- وهو على كل حال مفهوم ديني خالص- كان السلفيون المصريون وتلاميذهم يمارسون دعوتهم بسبب الشعور بعقدة النقص من التقدم الساحق في علوم الغرب والغربيين في ذلك الوقت

     *السؤال: لتسمحوا لنا ان نرجع مرة اخرى لابن عربي لنسأل : الا ينبغي ان نسلط الاضواء على اسهامات ابن عربي في ميدان اصول الفقه؟ وهنا نتساءل: الا يجب ان نعيد النظر  في مقولة التعارض التقليدي بين تفسيرين متقابلين أحدهما التفسير الظاهري (وهو الاساس المنهجي للمذهب الظاهري الذي يقال انه قريب من فكر ابن عربي ومنهجه) والاخر التفسير الباطني ؟ واذا كان الشيخ الاكبر يؤكد على ضرورة ملاحظة المستويين الظاهر والباطن في وقت واحد، فهل قدم الشيخ صيغة تجمع بين هذين الضدين وتزيل ما بينهما من تعارض؟

      الجواب: ابن عربي الذي كان يلتزم- فيما يتعلق به هو شخصيا- أشد التكاليف مشقة وصعوبة كان فيما يتعلق بالامة الاسلامية صريحا في تمييزه داخل الشريعة نفسها بين الشريعة كما جاء بها القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وهي في هذا المستوى شريعة ملزمة، ولا يجوز الخروج عنها بحال من الاحوال، وبين الشريعة بما هي تراكمات من اقوال العلماء والفقهاء وشروحهم واستنباطاتهم وهذا الفقه المتراكم فيما يرى تراكمات من اقوال العلماء والفقهاء وشروحهم واستنباطاتهم وهذا الفقه المتراكم فيما يرى ابن عربي عمل انساني، فيه الكثير من التكاليف المضيقة على المؤمنين والتي لا تجد لها أساسا واضحا لا في القران ولا في السنة الصحيحة وابن عربي بهذه النظرة المتوسطة يرفض تفريط الباطنيين وافراط الفقهاء معا، ثم انه يدين مسألة قفل باب الاجتهاد ويرى انها لا اساس لها لا من الشرع ولا من العقل ورأي ابن عربي هذا هو نفس راي ابن تيمية ويمكن القول ان ابن عربي بهذه النظريات يضع اسس ما يمكن ان نسميه بالمذهب الاكبري، لولا ان كلمة مذهب توحي دائما بمدرسة جامدة واتجاه ابن عربي هذا نجده ايضا والى حد ما عند كل من الشعراني وشاه ولي الله الدهلوي ولا يخالجني شك في ان هذا الاتجاه الذي لم يدرس بعد دراسة وافية في تراث ابن عربي، يشمل على طائفة من المبادئ والاصول الفقهية تؤهله لحل كثير من المشكلات التي تواجه الامة الاسلامية اليوم

         *السؤال: خصص ابن عربي الفترة الاخيرة من حياته لنصيحة الملوك والامراء وقد اقتفى أثره في ذلك كثيرون من شيوخ التصوف، مثل جلال الدين الرومي الذي خلد ذكر الطريقة المولوية كمصدر اشعاع روحي ما هو دور التصوف في مجال الحياة السياسية؟

         الجواب: النصيحة من الدين : الدين النصيحة وهي في هذا الإطار مطلوبة من كل المؤمنين ولم يقصر الصوفية – ومن بينهم ابن عربي – في القيام بهذا الواجب وكانوا ينصحون الامراء كلما رأوا ضرورة لذلك لكن التدخل المباشر في السياسة مثل الثورة المسلحة ضد الحكام الظلمة لا يصح في رأي ابن عربي ان يتم بمبادرة فردية من الصوفية.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!