الأخلاق والممارسة الصوفية

الأخلاق والممارسة الصوفية

حوار مع الدكتور عبد الله الشاذلي الأستاذ بجامعة الأزهر، حول موضوع: الأخلاق والممارسة الصوفية

لاشك وأن المتغيرات التي تلقي بظلالها على إنسان اليوم، والتي تتشكّل أساساً عبر قنوات إعلامية وبحثية، تعمل على نزع ثقة المسلم من هويته الدينية الأخلاقية، أو على الأقل زعزعة يقينياته الراسخة التي تشكل فطرته وهويته، مما يدعو علماء الأمة إلى بلورة مناهج أخلاقية يكون لها من القوة والأصالة ما يحقق للمسلم استقلاليته السلوكية، ويدرأ عنه أسباب الاسترقاق المادي والمعنوي.

ولا غرو بأن الممارسة الصوفية بحكم تخصصها في تنمية الوازع الأخلاقي للفرد والجماعة لهي قادرة على المساهمة في بث معاني التربية الأخلاقية في العالم المعاصر، انطلاقا من صياغة جوهر الإنسان بقيم الفطرة الروحية.

وقصد الإسهام في مناقشة موضوع الأخلاق والتربية الصوفية تتشرف مجلة قوت القلوب في عددها الحالي بأن تستضيف الأستاذ الدكتور عبد الله الشاذلي، من جامعة الأزهر، لمحاولة الإحاطة بزوايا موضوع الأخلاق والممارسة الصوفية.

لقد تعددت مقارباتكم للشأن الصوفي من خلال كتاباتكم وأعمالكم العلمية. فما هي قراءاتكم للشأن الصوفي في الوقت الراهن ؟

الحمد لله رب الاصطفاء، وولي الاجتباء، وشارح الصدر بالاهتداء، الموحي إلى الأنبياء، والممد للأولياء، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والأتقياء، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الأخيار الأوفياء.

المؤمنون رتب ودرجات، وأفضلهم الأنبياء والرسل، وأولهم وأكملهم إيماناً أول أولي العزم من الرسل؛ وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ثم الصديقين من صحابته الذين أيقنوا إيماناً، وأخلصوا لله عملاً، وجاهدوا في الله نفساً، وفي سبيل الله عدواً، وفاضت قلوبهم لله ولنبيه حباً، وباعوا الكل لله صدقا، عمرت قلوبهم، وصفت نفوسهم، وزكت أرواحهم، وكثرت طاعاتهم، وحسنت أخلاقهم فكانوا نعم الصحبة.

ثم تبعهم التابعون وتابعوهم على نهج المصطفى، فاقتفى هؤلاء أثر نبيهم وصحابته علماً وعملاً وطاعة، وزهداً ومجاهدة، وسرى من أنوار النبوة شعاعات لصحابته ومن تبعهم فاستضاء الجميع بها، وسلكوا دروب الحياة وصولاً إلى مرضاة الله على هديها، وبالغ التابعون ومن جاء بعدهم في الاتساء والاقتداء كي يصلوا إلى منازل الأخيار السابقين والأطهار الصديقين.

وحاولت طائفة عرفت بالزهاد والعباد والنساك أن يسلكوا طريق المصطفى في وحيه وسنته، وعباداته وطاعاته، وأخلاقه وأحواله، وأن يحافظوا على ما كان عليه وصحابته ومن جاء بعدهم، فاستمسكوا بظاهر الأمر، وتطلعوا إلى دلالاته وأسراره، وحاولوا أن يعوضوا رتب السابقين فأكثروا من المجاهدات، وبذلوا المهج في الهواجر والدياجر صياماً وقياماً، وتذوقوا من الأحوال والمعارف على قدر رتبهم، وأورثوا أحوالهم رجالاً لبسوا الصوف على الصفا، وأكملوا العبادة على النقا، وحسنوا الخلق مع التقوى، وتبع كل منهم النبي وصحابته واقتفى، لاذوا إلى الأصول فعلموها، وإلى الفروع ففقهوها، وإلى الأحكام فطبقوها، وإلى سيرة النبي وصحابته ومسالكهم فأقاموها، وفي أنفسهم لزموها، عادوا نفوسهم زكاة لأرواحهم، وفرغوا من دنياهم تجريداً وتنقية لقلوبهم، فذاقوا لذيذ المعارف، وصافي العلوم واللطائف ما برحوا صوت الوحي في القرآن، ولا حكم التنزيل في الفرقان، ولا قواطع اليقين في البرهان، ولا تفصيلات السنن وما فيها من بيان، جاهدوا فعمروا الأركان، وعبدوا فأخلصوا فارتقوا إلى الإحسان، وتوارثوا الحب من ولهان إلى ولهان، وظلوا كذلك عبر الزمان، يتنقلون من قرن إلى قرن ومن مكان إلى مكان، كل همهم صفاء النفس وتهذيب الإنسان بالإيمان والإيقان، غاصوا في أعماقهم فاقتلعوا الشوائب والأدران، ثم عادوا من رحلة الأعماق إلى ظواهر الآفاق يربون المريدين ويقدمون لهم الدواء والترياق.

هذا حال الصوفية الذين أحكموا الأصول، وطبقوا الفروع، وخبروا النفوس، وربوا المريدين وانتشروا عبر السنين، فكان منهم الأولياء والأتقياء والأخيار، والأبدال والأقطاب، وتركوا لنا تراثاً من التاريخ والتراجم والأقوال والمؤلفات والحكم، ووجدوا بين طوائف العلماء على تنويع تخصصاتهم، فكانوا بذلك علماء مفسرين، محدثين فقهاء أدباء مربين مؤدبين دالين على الخير والهدى، واستمر ذلك حتى في أشد حالات الأمة ضعفاً وتفرقاً زمن الصليبيين والتتار، إذ صاحب ضعف الأمة قوة التيار الصوفي ومؤسساته من مدارس وزوايا وربط وخانقاوات.

وظل الوضع قائماً للتصوف له رجاله ومريدوه، وله انتشاره في شتى البقاع حتى جاء القرن العشرون خاصة النصف الثاني منه، فأصيبت العديد من الحركات الروحية بضعف شمل الجوانب العلمية والتربوية، وتحولت من أصول وحقائق ودقائق ورقائق إلى مظاهر وخرق وأشكال ورسوم، ومن دعوات بالمقال والحال إلى قصور في الدعوة بكل وسائلها الخطابية والتحريرية والإعلامية والتربوية الخاصة بين الزوايا والربط، وكنا إلى عهد قريب يعد بالسنين نستطيع أن نذهب إلى عديد من العلماء الأولياء الواصلين نستفيد منهم، ونسمع نصائحهم وتوجيهاتهم، ويلتف حولهم مريدوهم يتلقون عنهم، ولكن سرعان ما نضب النبع ظاهراً لنا، وتفرق المريدون وضعفوا، وقل عددهم، ومن بقي من خلفائهم ومن أتباعهم يعتره الجهل، وتنتابه الفرقة، وتتقاذفه أمواج الدنيا وفتنها .

إلا أنه لا ينبغي تجاهل العديد من الطرق الصوفية الأخرى التي حافظت على أصولها التربوية والروحية والسنية، وما زالت تحمل رسالة الأخلاق النبيلة والأذواق الإسلامية الرفيعة، وقامت ومازالت بأدوار تربوية واجتماعية ووطنية خصوصا في مجابهة المد الاستعماري.

ألا ترون أن هذا المجال قد تعرض كذلك للتشويه والتدليس من الداخل والخارج، وأنه يحتاج إلى مزيد من الدراسة والتصحيح والتقويم؟

نعم لقد قلت إن الحركة أصابها في القرن الماضي خاصة في أخرياته ما أصابها من الضعف، وجاء ذلك نتيجة عوامل بعضها يتصل بالداخل، وبعضها يرتبط بالخارج:

أما ما يتصل بالعوامل الداخلية، وأعني داخل البنيان الصوفي نفسه، فإن الشعور بالتصدع بدأ مبكراً جداً نظراً لأن كل عصر كان رجاله يقيسون الحركة بشيوخها ومريديها بمن سبقهم في عصور مزدهرة سابقة، فيقولون عبارة واحدة وردت على لسان الكثيرين عندما يسألون عن الصوفية أو الشيوخ أو التربية بالذات يعلنون «تلك أمة قد خلت»، وإذا قال أرباب القرن السادس الهجري ذلك عن عصرهم، فكيف لو رأونا، وماذا نقول نحن عن حالنا، وقد انفرط عقدنا هذا الانفراط.

وتتلخص أسباب الضعف الداخلي بين الصوفية في نقاط هامة أبرزها..

أن الضعف سمة عامة للأمة الإسلامية كلها من شتى الوجوه، وأن الاتجاه الديني العام باستثناء بعض الحركات التحررية الإسلامية، تسوده حالة من الضعف أو الانحلال وسوء الفهم وقلة العلم، ويسري هذا على بعض رجال الحركة الروحية، فلم تصطبغ العملية التربوية بالصبغة العلمية التي كانت تتسم بها سابقاً من تصحيح العقيدة والتفقه، والسعة في علوم الرواية والدراية، ولزوم الخدمة والصحبة، ومراعاة الآداب السلوكية مع الشيخ والأصحاب.

وإذ نضب معين العلم لدى الشيوخ وعند المريدين، فقد ضعفت علوم المجاهدات، وتقلل الجميع من الطاعات، وتخففوا من الرياضات، فلم يعرفهم النهار صواماً صامتين، ولا الليل قواماً مناجين، ولم تعرفهم الزوايا والربط منقطعين متبتلين، ولا المساجد معتكفين، ولا الأمة ناصحين واعظين، ولا متعاطفين مواسين، دورهم خلت من عمارها، وبيوتهم هجرها عبّادها، ومساكنهم غط في النوم أهلوها، لا صوت يرتل ولا عابد يتبتل، ولا داعي بين الخلق يناضل، وحلت محل العلوم الرسوم، ومحل بشاشة النور الوجوم، ظنوا الأحمر والأخضر من العمائم سلوكاً، وما هي إلا ألوان وأشكال على أبدان خلت من حياة القلوب، وصفاء النفوس وأنوار الأرواح، وثرثر اللسان بالكلام، صورته صورة رقائق، ومعانيه في القائل تخلو من الحقائق كلام المتشبه ترديد، وصوته تسميع، وحروفه لا هي بالإشارة اتصلت، ولا من الحقيقة نبعت، ولا من الروح رشحت، ولا عن سمو النفس عبّرت، وإنما هي كلمات من أهل الصفو سابقاً قيلت، ثم على لسان المسكين المتشبه والمتأخر نطِقت، ليس له منها إلا اللسان والإفصاح والبيان، بعد ما كانت عند السابقين ألطافاً ومواهب وعطاءات لدنية بها الروح غمرت، ومنها إلى اللسان خرجت، ومن شدة فيضها إلى الإفصاح بانت، كم كتم السابقون من خواطرهم حفاظاً على أسرارهم، وما خرج منها كان في لحظات غلباتهم وفي سورة أحوالهم، ثم جاء المتأخرون فتغنوا بها، وترنحوا عند سماعها، بلا قلب يتذوقها، ولا روح ترتشف من رحيقها.

وباختصار اتصفت غالب الحركات الروحية بالضعف علمياً وعملياً وسلوكياً وتربية، وتعلقوا بالقشور والأشكال والرسوم، وشغلوا بدنياهم عن أخراهم، ولم تعد الدنيا والنفس عدوتين يحاربان، بل ألهتهم الدنيا كغيرهم، وتملكتهم النفس بشهواتها وأهوائها كما تملكت غيرهم، فصاروا طلاب دنيا بعد أن كانوا طلاب آخرة، وأسرى نفس بعد أن كانوا من عتقائها، كانت هذه هي أسباب الضعف الداخلية .

أما العوامل الخارجية فإنها تتمثل في بروز الحركات الدينية السلفية، وهي معادية للاتجاه الصوفي، ولا تمل مهاجمته، وقد استغلت في هجومها أسباب الضعف السابقة، وما تعرضت له بعض الطرق من انحرافات وإشاعة البدع على يد المدعين والدخلاء التي تبْرأ منها الحركة الروحية ممثلة خاصة في الشيوخ الذين عرفوا برجال التوحيد لشدة تمسكهم به، ولاشك أن شدة العداء من تلك الجماعات الإسلامية السلفية قد أثر في الشباب فجعلهم ينصرفون عن الاتجاه الصوفي، كما حاصر الكبار في نشاطهم.

لقد تناول عدد من الباحثين الخطاب الصوفي من منطلقات ومناهج مختلفة، ما هي في نظركم الآليات الكفيلة بقراءة المتن الصوفي الدقيق ؟

التصوف بأقوال رجاله ومؤلفاتهم، وبمنهجه، وبلغته الإشارية، وبأصوله، وبمجاهداته وبمقاماته وأحواله، وبنظرياته، وبقواعده وآدابه في التربية صار علماً قابلاً للبحث والدراسة. ومهما قيل عن كونه ذوقياً فإن التأملات العقلية، والتجارب النفسية المتعددة، والحِكم التي تشتمل عليها أقوالهم، والتحليلات والأحكام التي وردت في مؤلفاتهم، جعلته قابلاً للبحث والتنقيب واستخراج النتائج من بين ثنايا آثارهم المتعددة، وإشاراتهم ورموزهم، والسمة الروحية والذوقية فيه لم تمنع من كونه قابلاً للدراسة.

غير أنه كلما كان الباحث فيه غائصاً في أعماقه، سالكاً لطريقه، ذائقاً للطائفه، متشففاً في روحه، صافياً في نفسه، واقفاً على كثير من أسراره، حسن النية في رجاله، كان أقدر على فهمه، متبصراً بأسراره، كاشفاً عن كثير من حقائقه، وكلما نأى عن ذلك كله، ودرس العلم عن بعد، وبدون تجربة سلوكية، ومهما تروّى وتعمق بعقله، وحاول تمثل القوم فإنه لن يصيب كبد الحقيقة وإن حام حولها، أو لمس بعض أطرافها، ومن هنا وجدنا هذا الصنف من الباحثين أو الكاتبين تفترق آراؤهم، وتتباعد أحياناً أو تقترب حيناً، على أني أقول بنصفة: إن دراسات هؤلاء قد تفاوتت آثارها ما بين مادح وقادح، وتبقى الفائدة العظمى فيما تركه أرباب هذا الطريق من دقيق أقوالهم وسعة مؤلفاتهم، وروايات طبقاتهم، وإنها لتصور العلم تصويراً دقيقاً بأصوله ومبناه، وسلوكه وطرقه.

وأرى أيضاً أن تلك الدراسات على تنوعها أو اختلافاتها قد بقيت في إطار المتخصصين والباحثين المحترفين أو المهنيين، ولم تخرج عن ذلك إلا نادراً، ومن ثم ففائدة عموم المسلمين منها قليل.

وإذا أردنا أن ننظر إلى المتن الصوفي في أقواله أو مؤلفاته وجب على أهل الخبرة، ومن عايش القوم في حلقاتهم وأذكارهم وسلوكهم أن يقوموا بذلك في الدرجة الأولى، وهو عبء يلقى إليهم إحقاقاً للحق، ودفاعاً عنه، وكشفاً لصحيحه، وأن تتناول القراءة المتأنية والكتابة المتبصرة الكشف عن أصول الطريق، ومردّ مراحله وأذواقه ونظرياته إلى الكتاب والسنة، وأن تدفع بذلك الشّبه حول هذا العلم، أو الموجّهة إليه، وأن تخلصه مما علق به من بدع، وأن تصوغ الطريق صياغة جديدة سهلة يمكن استيعابها لدى الجميع بسهولة.

ومن الأفضل أن تكون تلك الصياغة شاملة لما ينفع المريدين السالكين، ولما ينصح ويرشد الآخرين، ويقرب التصوف إلى الأذهان، فلا يبقى علماً للخاصة، أو لخاصة الخاصة، بل يستفيد من توجيهاته ومواعظه وحِكمِهِ الجميع، خاصة في التحذير من الدنيا وزينتها، والنفس وأهوائها وآفاتها، ومن قرناء السوء والصحبة الشريرة، ومنكل المهالك التي ذمها وحاربها الصوفية، كما تقدم تلك الصياغة السهلة دعوات الصوفية وإرشاداتهم إلى ما يفيد القلب وجلائه، والروح وذكائه، والنفس وصفائها، وذلك مثل تبسيط المقامات والأحوال، وتقديمها إلى الأمة كي يعالجوا النفس على ضوئها وإشراقاتها، وأن تتسع القراءة الصوفية لتعم الكتابة والوعظ والخطابة، وأسلوب المحاضرات بالأماكن العامة، ولتدخل ضمن البرامج لوسائل الاتصالات كلها، وبذا تعم الفائدة دفاعاً عن التصوف، وخدمة له بين أهله وغيرهم.

ألم يحن الوقت بأن تدرج الأخلاق كمادة أساسية داخل المنظومة التربوية كآلية لتحصين الخطاب الصوفي وتقعيده وتجديده ؟

إنه قد قيل عن الصوفية نظراً لاهتمامهم الكبير بالنفس والأخلاق، ولكثرة ما قدموا فيهما من تحذير وتوجيه، وتحليل وتدقيق إنهم هم الفلاسفة الكبار في الإسلام، وإن عنايتهم بالنفس باعتبار أنها في نظرهم العقبة الكؤود في طريق الأخلاق المستقيمة وفي سبيل الوصول إلى الله، وهم في دراستهم للنفس وتحليلها، والكشف عن عيوبها ووصف الدواء الناجع لها يصدرون عن تجربة ذاتية شاقة، بل تتجلى النفوس بوضوح أمام بصيرتهم وعقلهم، ولهم مسلكهم الخاص في تأملاتهم النفسية، هذا المسلك الذي يعتمد على مراقبة النفس في وظائفها للكشف عن الصالح منها والفاسد، كما يقوم على الاستبطان الذاتي العميق كي يدركوا كوامنها ودفينها، وبهذا المسلك الصوفي الواقف على النفس في جوانيتها وبرانيتها يتميز الصوفية عن الفلاسفة الذين غاصوا في معرفة جوهر النفس نظرياً دون أن يتناولوا وظائفها وآفاتها وصفاتها، الأمر الذي حدا فيلسوفاً مثل «فيفس» من عصر النهضة أن ينوح باللائمة على طريقة الفلاسفة نظراً لانصرافهم إلى الجوهر دون الوظائف.

وإنما بلغ اهتمامهم بالنفس ما بلغ من سعة وعمق لأن النفس كما قلنا حجاب بين العبد وإخلاص عبادته، ولأنها أس الخلق ومنبعه، إن صلحت صلح الخلق وحسن، وإن فسدت فسد وساء، فهم إن صفت نفوسهم خلصت طاعاتهم، وحسنت أخلاقهم وأزيل أكبر الحجب بينهم وبين ربهم، فأتتهم العناية بالوصال، وهطلت عليهم الموارد والأحوال .

وبذا يتبين لنا دواعي الاهتمام بالنفس وارتباطها بإخلاص العبادة ومخالصتها، وبالأخلاق وتمامها أو كمالها، ومن تلك الأهمية اعتبر التصوف في أدق نظرة له أنه علم النفس الإسلامي، ونظرِ إلى الصوفية على أنهم علماء نفس من الدرجة الأولى، وعلى أنهم أعمق من تناول المسائل الأخلاقية، حتى أن أبا بكر الكتاني المتوفي” 322هـ” يربط التصوف كله بالخلق فيقول: «التصوف خلق، من زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف»”1″ والنص ذائع في كثير من كتب التصوف، كما أن الصوفية قد أفردوا مؤلفات للنفس والأخلاق.

ومع أن الأخلاق الصوفية بالذات هي أخلاق الخاصة الذين يرتقون بها فوق طور الأخلاق عند عامة الأمة، إلا أنه ينبغي أن تقدم نصائح الصوفية حول الأخلاق ميسرة مبسطة وأن تدمج مع الأخلاق العملية، ثم تقدم لطلاب العلم في كل المراحل كي تتزكى نفوسهم وترقى أخلاقهم، وتصفو شمائلهم، وبذا نعمل على تحسين سلوك النشء، ونوصل صوت الصوفية الأخلاقي إليهم، ولا تعوزنا الحاجة عن تنفيذ ذلك، فإن الصوفية وكذا علماء الأمة قد دونوا كتباً في الأخلاق خاصة، ولا بأس أن نحلل المقامات والمنجيات، وأن نفصل التحذير من المهلكات ونقدمها في يسر وبساطة.

ما هي الأساليب الناجعة في نظركم للنهوض بالممارسة الأخلاقية حتى تكون في مستوى الرسالة المحمدية روحاً وعملاً؟

الدين أخلاق بكامل معنى الجملة، وذلك لأن الأخلاق القويمة تهيئ صاحبها لسماع الحق أينما وجده، وتجعله مصغياً بسمعه وعقله إلى نداءات الحقيقة فيتشربها، وينفتح قلبه وفؤاده لها فيؤمن بها، ويعتقد ما تقدمه الأدلة له، فيستقر قلبه على التوحيد، فإذا استقر توحيداً قام لله عبادة، والحال أنه صاحب خلق بطبعه أو بكسبه، وبذا تكتمل جوانب الدين في هذا المتخلق، على عكس الرزيل السيئ فإنه يستكبر فلا يصغي للحق، ولا يستجيب فلا يؤمن ولا يعبد، فيفسد اعتقاداً وطاعة وخلقاً، ولما كانت أهمية الأخلاق على هذه الدرجة قصر النبي صلى الله عليه وسلم رسالته على الأخلاق فقال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق »وأثنى على حاتم الطائي لخلقه، وأكرم وفادة ابنته.

وإذا كانت بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم مرتبطة بالسمو الأخلاقي فإن مكارم الأخلاق تحيا بالدين كما يحيا الدين بها، من ثم فإن أول أسلوب للنهوض بالممارسة الأخلاقية واكتسابها أولاً، يكون بالهمة في إقامة الدين وتطبيقه، وتعليمه وتنفيذ أحكامه بين شعوب الأمة، أفراد وجماعات رعية وحكام، وتشرّبِ أحكامه فهماً وتطبيقها عملاً، ثم ينبع من معرفة الدين وتطبيقه ضورة سريانه في كل مؤسسات الأمة: مدرسة وجامعة، وإعلام وفن وثقافة، وأسرة وصحبة، الكل يلتزم بنهج الأمة الديني، وسياستها التطبيقية عندئذ تصفو النفوس، وتتجرد من أهوائها وأدرانها، وتعمل المعرفة الدينية وتطبيقها العملي عملها في النفوس، فتزكو وتتحول من الرذائل إلى الفضائل، وتصبح الأخلاق هي الأخرى أسلوب الحياة وطباع الرعية، وتتأصل في كل مناحي الأمة، وتتحكم فيها، وتبرز القدوة، وتتربى المثل العليا فيكونون مشاعل للآخرين، الأب في خلقه يصير مثلاً ومربياً لأبنائه، والأم في عفتها وأمانتها وعصمتها تكون مثالاً صالحاً لأبنائها وبناتها والمثل في الجيرة والصحبة تؤثر في المحيطين بهم، والمدرس في المدرسة هو المصباح المضيء للخير بين تلاميذه، وكل مسئول في أي مستوى مثال لمن حوله، ولابد من أن يتخلق الإعلام نظرياً وعملياً فينشر المعرفة الخلقية، ويتصف المفكرون بها، سواء كان ذلك في الصحف، أو دور الفن، أو مؤسسات الإعلام والثقافة كلها.

إذا نحن صدرنا في بث الأخلاق والاتصاف بها عن الدين، واستقامت كل الوسائل التي أشرنا إليها أصبحنا أمة متدينة متخلقة قوية في ذاتها وبنيانها، عميقة في فكرها عمق دينها، قويمة في أخلاقها قوامة الدين الذي جاء يتمم مكارم الأخلاق.

ألا تحمل الأمة الإسلامية بذاتها مسئولية القيم الأخلاقية والتربية الروحية إلى الأمم؟

إننا لن نستطيع أن نسهم في بناء الأخلاق الإنسانية في الداخل والخارج إلا بما قلناه تواً، من ضورة الإحياء الديني معرفة وتطبيقاً، وتشييد الأخلاق على ذلك، وسريانه داخل مؤسساتنا كلها، وإيضاح الأسس الأخلاقية النظرية في الإسلام، وتفصيل الصفات الخلقية العملية، وصبغة المجتمعات الإسلامية كلها، المحدودة، والشعبية، والأمة، أعني داخل البيئات المحدودة في الأسر والقرى والمدارس ودور الحكم وداخل أنشطة كل دولة، ثم اتصاف الأمة كلها بطهارة الأخلاق ونقائها، وأيضاً لابد أن تبرز هذه الأخلاق في معاملات الأمة بأفرادها وشعوبها مع الأمم الأخرى، وأن نسهم بها في المؤسسات الدولية بحيث تكون نمطاً متميزاً تميز دين الإسلام، وأن نغير من صورتنا المشئومة الحالية.

وإذا كانت تلك هي الوسائل الناجعة للتأثير الأخلاقي على الأمم الأخرى، فإننا قبل التأثير ينبغي أن نبني نهضتنا الحديثة التي نكثر من الكلام عنها ونحن لا نبرح مكاننا على ما وصفناه من إحياء ديني، وحكمي تطبيقي، وأخلاقي نظري وعملي، فإن كل أمة تحاول أن تقيم حضارتها على أساس من ثقافتها وأخلاقها، ومن أبرز الأمثلة على ذلك الحضارة اليابانية الحديثة، فهم في كل مكان يتباهون باستقلالها الثقافي والأخلاقي عما سواها، وإنه لا سبيل إلى خروجنا من أزمتنا الراهنة، وضعفنا الواضح بين الأمم، وسمعتنا المنهارة بين الشعوب إلا بما قلناه من توصيف ديني وحكمي وأخلاقي، بالإضافة إلى الإفادة من تجارب الأمم الأخرى في علمها وتقدمها، بحيث تكون نهضتنا مرتبطة بالتراث نظرياً واحتكاماً وسلوكاً، وفي الوقت نفسه مستفيدة من الآخرين بما يخدم أهدافنا العليا، وإنني ألحِّ في الرجاء ألا تكون كلماتي هذه مجرد إضافة لأفكار أخرى على نفس الدرب ثم تضيع كلها مع غيرها مع الرياح، وفي طي النسيان، بل أنادي بشدة أن نقدم، ونعرف، ونطبق ونتخلق وننهض ونتحضر، ومع ذلك ومن أجل ذلك، نتحد لتقوم الأمة عملياً كما هي مقررة نظرياً بين ثنايا تراثنا .

تكلم الصوفية قديماً عن المقاصد الشرعية المرعية من طرف الشارع حيث يعتبر الحكيم الترمذي من أوائل الصوفية إثارة لهذا الموضوع وذلك في كتابه: «إثبات العلل»،والذي قرر فيه بأن الشريعة معللة بمقاصد روحية وأخلاقية؛ هل يمكن اعتبار جهود الصوفية في مجال الأخلاق من البوادر الأولى لتأسيس هذا العلم ؟

إن الإجابة على هذا السؤال تدعم ما قلناه تواً من إحياء وتطبيق وخلق، وذلك من جهة أننا إذا عرفنا على وجه الدقة العروة الوثقى بين الأخلاق والدين، أدركنا وجوب وضورة ما قلناه بغية بناء أخلاقي رصين يدعم نهضتنا، وتقوم عليه، ويؤثر في أخلاق الأمم الأخرى حسب جهدنا في ذلك.

والحديث الذي أشرنا إليه من قصر الرسالة على الأخلاق، تدلنا تلك المبالغة القصرية البلاغية فيه على قيمة الأخلاق لخدمة مقاصد الشريعة وغاياتها، وأيضاً فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم لسائل يسأله عن الدين، فقال له: «حسن الخلق» قال ذلك للسائل كلما أتاه من بين يديه، ومن قِبل يمينه، ومن شماله، ومن ورائه، ثم ختم النبي بقوله له: « إمّا تفقه أو إمّا تتفقه هو أن لا تغضب» وعندما سأله سائل آخر عن أفضل المؤمنين إيماناً ؟ قال: «أحسنهم خلقاً» وفسر الحسن البصري قوله تعالى ﴿وثيابك فطهر﴾ “المدثر: الآية 4” بقوله: وخلقك فحسن، وقالت أم الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أول ما يوضع في الميزان حسن الخلق والسخاء»، ولما خلق الله عز وجل الإيمان، قال:

«اللهم قوني فقواه بحسن الخلق والسخاء، ولما خلق الله عز وجل الكفر، قال: «اللهم قوني فقواه بالبخل وسوء الخلق». وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون المتشدقون المتفيهقون، قالوا يا رسول الله علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟، قال: «المتكبرون.»

لهذه الأدلة وأمثالها اعتبر الصوفية الأخلاق من أهم ما يحقق المقاصد الشرعية، وربطوا علمهم بها، وأكثروا من التدوين في الأخلاق إما على صورة أبواب في مؤلفات عامة، وإما في صورة مؤلفات تبحث جوانب الأخلاق أو النفس، أو المقامات، أو المنجيات أو المهلكات.

تكلم الصوفية كثيراً عن المعارف الذوقية والحقائق العرفانية وعن المشاكلة بين الظاهر والباطن، فما السبيل إلى تحقيق هذا التلازم بين الجانب الروحي والعمل السلوكي الأخلاقي؟

إن أفضل إجابة على هذا السؤال نجدها لدى أبي حفص عمر بن محمد السهروردي “632هـ” البغدادي في قوله: إن العبّاد سلكوا بنور الإسلام فأكثروا من الأعمال، والزهاد لكونهم سلكوا بنور الإيمان فجمعوا بين العمل والزهد وبعض الأخلاق، أما الصوفية أهل القرب فقد خضعوا للإسلام والإيمان والإحسان، ولما تأصل ذلك كله في بواطنهم انصلح القلب بكل أرجائه وجوانبه، لأن القلب يبيض بعضه بنور الإسلام، وبعضه بنور الإيمان، ويسطع كله بنور الإحسان والإيقان، فإذا ابيض القلب وتنور انعكس نوره على النفس لكونه ذا وجه إلى النفس وآخر إلى الروح، وللنفس وجه إلى القلب وآخر إلى الطبع والغريزة، فإذا صفا القلب جذب النفس كلية إليه وخلصها من صلتها بالطبع والغرائز، وحينئذ تلتقي الروح والقلب والنفس في لمعان وبريق واحد، وتمدّ كلها من ممِّدِ الأرواح فتزاد إشراقاً وتنوّراً وطمأنينة وسكينة، وتختفي آفات النفس وآثار الطبع والغرائز فتلجأ النفس إلى حسن الأخلاق باعتبارها مصدراً لفضائله وصفاته، ومن تلك الناحية سمى الأبدال أبدالاً»”2″.

نعيش اليوم على الصعيد العالمي أزمة انهيار نظم القيم الإنسانية، ماذا يمكن أن يقدم التصوف في الوقت الراهن على المستوى التجريدي الأخلاقي ؟

لكي يقوم التصوف ويتطلع إلى مهمة الإسهام في القيم والأخلاق الإنسانية عامة، يلزم أن يبني ويجدد ذاته طبقاً لقواعده ومصادره التي أعلنها كثيراً، وهي الكتاب والسنة والمقاصد المنبثقة عنهما، وأن يشيد تجديده على العلم كما قام أولاً، وأن يهتم بالتربية عقيدة وعملاً وسلوكاً، فإن هو قام وصار مشايخه قدوة، ومريدوه مثلاً جاز لنا بعد ذلك أن نتحدث عن وسائل التصوف للدخول إلى العالمية وما تحتاج، وإذا كانت الفلسفة وهي المنافسة للدين في تأصيل الفكر الأخلاقي على أسس نظرية، وفي الدعوة إليه قد عجزت اليوم أن تقيم بناءاً أخلاقياً إنسانياً بين الأفراد، ودولياً بين الشعوب، وتباينت معايير الأخلاق بين الاتجاهات الفلسفية، وتغلبت غايات المنفعة والبراجمات، وأضحى للعدل معنى على كل شاطئ وصقع فهو هنا بمعنى وهنالك بآخر، وغابت الغايات العليا للفضائل الأخلاقية، ولم يعد النظر للفضيلة لذاتها بل بقدر ما تحقق من مكاسب، ولما كان الدين وهو المنبع الأصيل للأخلاق قد فقد سلطانه على البشرية في مواطن كثيرة، وبين أديان متعددة، لذا لم يبق غير الإسلام عامة، والصوفية خاصة شريطة أن ينهض هذا الاتجاه، وأنه لو تضافر علماء الأمة وأولياء التصوف ومريدوه في ظل نهضة دينية وروحية وعملوا على نشر الأخلاق بينهم وبين غيرهم لأحدثوا دوياً مناسباً لجهودهم.

ويا حبذا لو تمت النهضة الدينية والصوفية والأخلاقية، إذاً لقدمنا للعالم ديناً يحتاجونه وأخلاقاً تصلح من فاسد سلوكهم، وإن رجال الطريق قد كشفوا كثيراً في أقوالهم ومؤلفاتهم عن جوانب الأخلاق فيما يتصل بالله من استعظام فعله، وتفضيل ما اختاره، وحمده وشكره، واستصغار أفعالنا بجانب أفعاله وعطاءاته، والصبر على قضائه، والرضا بأمره وكذا فيما يتصل بالإنسان من كف الأذى، واحتمال المؤن، وبسط الوجه، وتحمل أذى الآخرين من كبار وصغار وسفهاء، وأداء الحقوق، وتوقير المستحقين، ورحمة المستضعفين والعفو، وكظم الغيظ، والإحسان لمن أساء ومن لم يسيء، والإعراض عن الجاهلين والقرب من الخلق، وقضاء حاجاتهم، والوفاء، والود حتى مع أهل الجفاء، والحلم حتى ساعات الغضب، والشجاعة في مواطنها، والأخوة الدائمة حتى عند النائبات، وحسن الصحبة ولو مع أهل السوء، وعدم النظر إلى عيوب الآخرين وحسن إرضاء الخلق في السراء والضراء، وبذل الجهد في الخدمة، والسهولة في العشرة، وقلة الخلاف، وحسن الإنصاف، وبر الآخرين، والحنو عليهم حتى ولو كانوا قساة، والتواضع والكرم والسخاء والبذل، ونبذ الخصام، والتعاون، والإيثار.

يفْعل هذا كله مع الحر والعبد والحيوان، وقد نبه ابن عمر وعلي بن أبي طالب والأحنف بن قيس وكثير من النساك والصوفية على العفو وكظم الغيظ والإحسان مع الإماء، وكم وقعت وقائع من العبيد تحملها أصحاب الخلق حتى ولو قصدوا إغاظتهم، ونال الحيوان من حسن خلق المسلمين والصوفية إلى حد أن عمر قال: «لو عثرت بغلة بالعراق لكنت مسئولاً عنها، لمِ لمْ أسو لها الطريق»، وقال الفضيل بن عياض: «لو أن العْبد أحسن الإحسان كله وأساء إلى دجاجة لم يكن من المحسنين»”3″. فهل في أي فلسفة أو حضارة أخرى مثل تلك الأخلاق ؟

اعتبر الدارسون للشأن الصوفي أن تصوف أهل المغرب اختص عن غيره بكونه تصوفاً أخلاقياً لا إشراقياً، ما هي العوامل المؤثرة في نظركم في الاصطباغ بأحد هذين الاتجاهين؟

الحقيقة التي لا مجاملة فيها ولا تعصب أن التصوف في المغرب أعني شمال إفريقيا تحديداً اتسم بالسنية الرائقة، والأخلاقية الصافية، ولم يشذ عن تلك الخصيصة شيخ أو مريد أو طريقة، وعلى الرغم من أن تلك المنطقة عرفت الفلسفة قبل الإسلام وصدّرت إلى روما فلاسفة أبرزهم «أوغسطين» وآخرين، ومنهم من عاش على أرضها، كما أنها استعصت على الفتح الإسلامي زمناً طويلاً”4″ مستمسكة بنصرانيتها، كما نجد جارتها الإسلامية وهي الأندلس قد انتشرت فيها الفلسفة الرشدية الأرسطية، وظهر فيها التصوف الفلسفي على أيد البعض، لكن كل هذا لم يؤثر في دول المغرب العربي، ولم يصبغه بغير الصبغة السنية، ويرجع السبب فيذلك إلى الإقبال الشديد على الإسلام من أبناء تلك المنطقة، وإلى التحول إلى الدين الجديد بسرعة، وذلك بفعل عوامل هامة وبجهود رجال أسسوا المنهج السني تأسيساً قوياً.

وأهم تلك العوامل أن الشيوخ الإفريقيين المغربيين كانوا من أجلاء الصحابة والتابعين، وأنهم اتصفوا بالزهد والورع والتمسك بالسنة، ومحاربة البدع، وأن جهودهم أثمرت في المدارس والدعاة والمفتين فاستمسكوا بالنص تمسكاً شديداً، ورفضوا كل فكرة دخيلة، وكان غرس هذا الاتجاه والسير عليه مقصودين خوفاً من تأثر البلاد بالأفكار التي سبقت الإسلام، وفعلاً تم لهم بفضل الله ما نووا وأرادوا، فحفظت المنطقة من التيارات البدعية على اختلافها، بعكس المشرق الإسلامي الذي صار بتأثير الأديان والأفكار والفلسفات السابقة والدخيلة مسرحاً للتيارات والانقسامات الفكرية والسياسية والعقدية.

وبتفصيل موجز لجهود العلماء ومدارسهم وبلدانهم، نجد الواقدي يسوق جمعاً من الصحابة كانوا في غزوة عبد الله بن سعد الأولى: منهم ابن الزبير، وأبو ذر، وابن مسعود، والمقداد وهم من العلم والزهد بمكان كبير، ويصفهم ابن الأثير بأنهم جماعة «من أعيان الصحابة»”5″ ويعدهم ياقوت «من الأكابر»”6″ وأما من خرج مع معاوية بن حديج فكان شعارهم «إنما قدمنا للجهاد ولم نقدم لحب الدنيا»”7″ ومن هؤلاء من رجع ومنهم من أقام بتلك البلاد مثل: سفيان بن وهب الخولاني، الصحابي الذي عاش بشمال إفريقيا ومات بها سنة” 82هـ”، كما أقام بها المقداد بن عمرو وله «بها مقامات مشهورة »وكذلك ربيعة بن عباد الديلمي الصحابي وقد ترك «آثاراً ومقامات عظيمة»”8″، وكان لعلم هؤلاء وعبادتهم وسلوكهم وكراماتهم أثر عظيم في نفوس المسلمين الجدد من أبناء تلك البلاد.

وبعد أن تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة “99هـ” أرسل إلى تلك الديار عشرة من خيرة العلماء والزهاد والنساك منهم عبد الله بن يزيد المعافري “100هـ” تلميذ أبي أيوب الأنصاري وابن عمر وابن عمرو، وقد نزل تونس، فانتفع بعلمه وزهده وصلاحه خلق كثير، بينما نزل سعد بن مسعود التجيبي المشهور بالفضل والزهد والدين القيروان مع إسماعيل بن عبيد الأنصاري تلميذ ابن عمر وابن عباس وابن عمرو، وكان يقال له تاجر الله لكثرة عتقه وإنفاقه، كما أنه من أهل القضاء والعبادة والنسك والإرادة”9″، وأما كساؤه فجبة من صوف، وثوب من صوف، وقلنسوة من صوف.

وممن علم وربى بالقيروان أيضاً عبد الرحمن بن رافع التنوخي “113هـ”، ووهب ابن حي المعافري المشهور بالعلم والزهد، ومنهم حبان بن أبي جبلة القرشي “125هـ” تلميذ بن عباس وابن عمرو، سكن القيروان، وروى عنه فيها ابن أنعم، وأبو شيبة عبد الرحمن الصدائي وعبد الله بن زحر، ويبقى تمام العشرة وهم: جعشم بن هاعان البتور “115هـ” وبكر بن سوادة الجذافي “128هـ” وإسماعيل بن عبيد الله المخزومي القرشي”132هـ” وطلق بن جابا”10″.

ويضاف إلى الصحابة الذين علموا، وإلى العشرة الذين أوفدهم عمر بن عبد العزيز علماء آخرون مثل: كيسان المقبري “100هـ”، وحنش بن عبد الله السبإي “100هـ”، وعلي بن رباح نصير اللخمي “114هـ”، وزياد بن أنعم السفياني، وعبد الرحمن بن أشيفع الشيباني، وربيعة بن يزيد وأبو علقمة مولى بن عباس، وكلهم من أجل التابعين والعلماء والزهاد حسبما شهد لهم الدباغ في المعالم والمالكي في الرياض، وعمرو بن راشد الكتاني الذي اكتسب زهده وعلمه من أبي هريرة، وكذلك نزل ميسرة الزرودي قرية يقال لها زرود، واستوطن أبو عمران موسى البلوى قرية أخرى.

وهؤلاء وغيرهم تمسكوا بالدين مع الورع والتقوى والزهد والنسك وكانوا شديدي التمسك بالنص حسبما غرسه فيهم شيوخهم من الصحابة، ومن أدل الدلائل على ذلك ما نراه لدى رويفع بن ثابت الأنصاري الذي أفتى وخطب ووعظ بالنص وحده، وقد أعلن ذلك حين قام خطيباً بعد وقعة جرية” 53هـ” قائلاً: «لا أقوم فيكم إلا بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم» وما تجاوز النص في فتاويه ووعظه، وأيضاً فإن آخر وصية أوصى بها عقبة بن نافع أولاده هي أن يملأوا صدورهم من القرآن، فإن القرآن دليل الله، وأن يأخذوا دينهم من أهل الورع والاحتياط لا من المرخصين المغرورين”11″.

وأخيراً فإن تلك الجهود في عموم المدارس التي سعت لإرساء قواعد المنهج النصي النقلي وتخليص الدين من كل الأفكار التي يمكن أن تطرأ عليه قد كللت بالنجاح، فأخذ الإفريقيون يتحسسون الحجة من الكتاب والسنة في كل حكم، وينزعون إلى الظاهر في الاستدلال حتى غلب عليهم «السنة والآثار»”12″ وصدّوا كل فكرة دخيلة، وتشددوا مع من استمع إلى أهل الأهواء.

ومما أعان على سريان هذا التيار وسيادته أيضاً تبني تلك المنطقة بأسرها مذهب الإمام مالك في الفقه، والاتجاه الأشعري في العقيدة، فلهذا كله صبغت البلاد بالصبغة السنية، واتسمت الحركة الروحية بكونها أصولية تراثية سنية لا فلسفية.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

الهـوامـش:

  1. – أبو سعيد الملك النيسابوري: تهذيب الأسرار: 407هـ، ص199.
  2. – السهروردي: عوارف المعارف، ص215.
  3. – القشيري: الرسالة، ص241-247. النيسابوري الخركوشي: تهذيب الأسرار، ص195-200 .
  4. – استمر الفتح من عام 21هـ أو27هـ إلى 78هـ.
  5. – ابن الأثير: الكامل، 3/43.
  6. – ياقوت الحموي: معجم البلدان، 1/301.
  7. – المالكي: رياض النفوس، 1/22.
  8. – نفسه، 1/48-51.
  9. – نفسه، 1/64.
  10. – الدباغ: معالم الإيمان، 1/138- 148-149. رياض النفوس، 1/72-75.
  11. – المالكي: رياض النفوس، 1/22-52.
  12. – أحمد تيمور: المذاهب الفقهية، ص53.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!