معاوية بن أبي سفيان، العرب والبحر المتوسط

معاوية بن أبي سفيان، العرب والبحر المتوسط
معاوية بن أبي سفيان، العرب والبحر المتوسط
حياة عمامو
 
أعمال مهداة للأستاذ عبدالمجيد الشرفي 
كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية – تونس  2010 
ص ص 195 – 240
المقدمة:
عندما انتقل الإسلام من مكة إلى المدينة تحول من دعوة مسالمة ومعذبة إلى حركة محاربة تقوم على الغزو والتوسع المتواصل. انطلاقا من هذا التحول في طبيعة الإسلام، بدأ النبي محمد بعد هجرته إلى المدينة بغزو اليهود المستقرين على أطرافها، وبعد أن تخلص منهم، انتقل إلى غزو البدو المحيطين بمدينته وبمكة، ثم غزا مكة فالطائف إلى أن سيطر على كامل الحجاز.
 
بعد وفاة النبي، تواصلت سياسة الغزو مع خليفة المسلمين الأول أبي بكر الصديق الذي خاض معارك “الردة” وانتصر فيها فتم بذلك للمسلمين السيطرة التامة على كامل شبه الجزيرة العربية مما سيفتح الباب على مصراعيه لتوجيه الجيوش الإسلامية على وجهتين الأولى في اتجاه الشام والثانية في اتجاه العراق. وحقق قتال المسلمين على جبهتي الشام والعراق انتصارات ساحقة وتقريبا متزامنة زمن خلافة عمر بن الخطاب. وبعد الانتهاء من فتح الشام وجد العرب أنفسهم يواجهون مباشرة البحر المتوسط لأول مرة في حياتهم. وقد كان البحر المتوسط في ذلك الزمن يمثل محور الكون، وهو الأمر الذي يؤدي عند السيطرة عليه إلى الازدهار الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. لهذا السبب تعددت الصراعات بين الحضارات والشعوب السابقة للإسلام من أجل فرض سيطرتها على هذا البحر.
 
لقد مثل حينئذ وصول العرب إلى السواحل الشرقية للبحر المتوسط فرصة تاريخية كي يصبحوا سادة هذا البحر وبالتالي سادة لكامل العالم القديم. ولمواجهة البحر المتوسط وإحكام السيطرة عليه، كان على العرب القيام بعديد المهام ومن أبرزها إنشاء أسطول قادر على إضعاف الأسطول البيزنطي بوصفه القوة البحرية الأعظم في ذلك الزمن وربما القضاء عليه.
 
يبدو أن معاوية بن أبي سفيان كان الأول من بين العرب الذي فكر في غزو البحر المتوسط ومنافسة الأسطول البيزنطي بوصفه أول وال للمسلمين على الشام ولاية البيزنطيين القديمة، وهو ما حث هذا الوالي على إرساء سياسة بحرية لاقتحام هذا البحر.
 
توجد المعلومات التي تخص سياسة معاوية البحرية في عديد المصادر الإسلامية والبعض من المصادر المسيحية، غير أن أهميتها وفائدتها تختلف من مصدر إلى آخر. أما دراسات الباحثين من المعاصرين فهي عديدة، غير آنه لا يوجد من بينها ما اهتم بمعاوية وسياسته البحرية في البحر المتوسط، فهي إما آنها اهتمت بسياسة العرب البحرية بصفة عامة أو تعرضت إلى دراسة واحدة أو أكثر من الغزوات البحرية التي دارت رحاها في عهد معاوية واليا أو خليفة أو آنها سلطت الضوء على جانب من جوانب السلالة الأموية.
 
من هذا المنطلق يبدو موضوع معاوية وسياسته البحرية مفيدا وواعدا في أكثر من جانب لأنه سيحاول البحث في سياسة العرب البحرية ودور معاوية في إرسائها. فما هي السياسة التي اتبعها العرب لفرض سيطرتهم على البحر المتوسط؟ وما هي الإمكانيات المادية والبشرية التي اعتمدها معاوية لإرساء هذه السياسة؟ وما هي المراحل المتبعة؟ وما هي النتائج التي توصل إليها المسلمون في تحقيق الأهداف التي رسمها معاوية خاصة بعد أن أصبح خليفة المسلمين؟
 
I-معاوية بن أبي سفيان وسياسة العرب البحرية:
 
1-أهمية الإستراتيجية البحرية بالنسبة إلى العرب:
 
ذكر هشام جعيط ([1]) أن العرب بعد أن هزموا الجيش البيزنطي في اليرموك (15ه/ 636م)، واصلوا معاركهم ضده، فألحقوا به الهزيمة تلو الأخرى، مما جعلهم يسيطرون عل كل سوريا/ فلسطين في اُقل من ثلاث سنوات إذ تساقطت المدن الواحدة تلو الأخرى: دمشق، حمص ومدن الساحل مثل صور وصيدا وبيروت. أولا، ثم القدس (سنة 17 ه/ 638 م)، وأخيرا أنطاكيا (سنة 19ه/ 640 م). وباستكمال فتح العرب لبلاد الشام، وجدوا أنفسهم-ولأول مرة في تاريخهم-على ضفاف البحر المتوسط مباشرة، وهو ما جعلهم يفكرون بزعامة معاوية بن أبي سفيان والي الشام آنذاك في رسم سياسة تمكنهم من السيطرة على هذا البحر الذي ظل إلى حين وصولهم إلى ضفافه تحت السيطرة المطلقة للبيزنطيين ([2]).
 
وخلافا لما ذهب إليه هشام جعيط فإن سيطرة العرب على المدن الشامية لم يكن بنفس السهولة، فإذا كان إخضاع المدن الداخلية شديد اليسر فإن اُمر إخضاع البعض من المدن الساحلية تطلب حصارا طويلا، لأن عظمة الحصون البيزنطية الممتدة على طول السواحل المتوسطية وخاصة الساحل السوري البيزنطي جعلت سيطرة العرب عليها أمرا عسيرا جدا. لقد تطلب إخضاع مدينة مثل قيصرية سبع سنوات من الحصار لتتم السيطرة عليها من قبل معاوية بن أبي سفيان سنة 19 اُو 20 هـ/ 640-641م([3]) وواجه المسلمون أيضا صعوبة كبيرة في إخضاع عسقلان بسبب عظمة تحصيناتها. وفي هذا الصدد يذكر البلاذري “أن الروم (البيزنطيين) غلبوا على بعض هذه السواحل في آخر خلافة عمر بن الخطاب أو أول خلافة عثمان بن عفان، فقصد لهم معاوية حتى فتحها، ثم رمها (أصلحها)، وشحنها بالمقاتلة، وأعطاهم القطائع” ([4])، التي فر عنها أصحابها البيزنطيين. وبالرغم من الصعوبات التي وأجهها العرب في حماية السواحل السورية الفلسطينية التي تم إخضاعها، فقد واصلوا في مهاجمة السواحل بدءا بالمصرية منها وصولا إلى سواحل شمال إفريقيا؛ وليتمكن العرب من الحفاظ على السواحل المتوسطية التي تم إخضاعها من الخطر البيزنطي المستمر وفتح سواحل أخرى، برز رسم سياسة بحرية عربية إسلامية ضرورة ملحة. ولتحقيق هذه السياسة البحرية، كان على معاوية بن أبي سفيان والي الشام انطلاقا من 18هـ/ 639 م الحصول على موافقة عمر بن الخطاب أمير المؤمنين في المدينة.
 
لقد تعرضت الكثير من المصادر إلى ما حدث بين عمر الخليفة ومعاوية الوالي ليتحصل هذا الأخير على موافقة الأول من أجل التوسع في البحر المتوسط، ومن بين هذه المصادر نذكر الطبري ([5]) خاصة لأنه أطنب كثيرا في إيراد هذا الحدث الذي نقله عنه الكثير من الإخباريين المتأخرين ([6]). يذكر نص هذا الحدث الذي أورده الطبري بروايات متعددة، أن “معاوية بن أبي سفيان ألح في زمانه على عمر بن الخطاب رضي الله عنه في غزو البحر وقرب الروم من حمص…” ([7])؛ فبعث عمر إلى عمرو بن العاص وهو في مصر اُن يصف له البحر ويكتب إليه بخبره فكتب إليه عمرو: “يا أمير المؤمنين إني رأيت خلقا عظيما يركبه خلق صغير، ليس إلا السماء والماء، وإنما هم كدود على عود، إن مال غرق وإن نجا برق ([8]). وتذكر الروايات ان وصف عمرو ابن العاص للبحر المتوسط جعل عمر بن الخطاب يمنع المسلمين من غزوه ويحذر معاوية من ذلك. ([9]) لقد أثار فينا ما أوردته المصادر في -هذا الصدد عديد التساؤلات مثل لماذا رفض عمر غزو البحر المتوسط رفضا قاطعا؟ لماذا كل هذه السلبية في وصف عمرو بن العاص للنشاط في البحر، والحال أن مسيرته العسكرية والسياسية تشبه كثيرا مسيرة معاوية؟
 
إذا ما اعتقدنا في صحة ما أوردته المصادر العربية ([10]) حول موقف عمر من معاوية في غزو البحر المتوسط، فيجب أن نشير إلى أن خوف عمر من غزو البحر ([11]) قد نبع من خوفه من أن يعرض الجيوش الإسلامية إلى فشل بحري آخر يكون أثقل في خسائره من الفشل السابق.
 
بعيدا عن البحر المتوسط عرف العرب خلال خلافة عمر بن الخطاب فشلا في غزو البحر وهو ما يتنافى مع ما ذهب إليه بعض الرواة من أن معاوية كان أول من غزا في البحر،([12]) إذ يذكر المقريزي أن العلاء بن الحضرمي والي البحرين في خلافتي أبي بكر وعمر كان أول من قام بهذا العمل بدون إذن الخليفة عمر بن الخطاب، ([13] ) فأدت هذه الغزوة البحرية الموجهة ضد الفرس إلى كارثة حقيقية.
 
لا يبدو رفض عمر السماح لولاته بغزو البحر مطلقا ولا قاطعا، لأن عديد المصادر تذكر أن أمير المؤمنين عمر أمر عمرو بن العاص، بعد فتح مصر([14])، أن يكون أسطولا لغرض تأمين مؤونة المدينة من حبوب مصر، كما أمر علقمة بن مجزئ المذحجي ليقود حملة ضد الحبشة غرقت سفنها العشرين في بحر القلزم. ([15])
 
على ضوء ما تقدم، يمكن أن نفهم أن معارضة عمر اُمر غزو المسلمين للبحر، قد نبع من خوفه عليهم بسبب تكرر الكوارث التي تعرضوا لها في البحر، ولذلك قرر عمر-على ما يبدو-تأجيل غزو المسلمين في البحر إلى حين تتوفر لديهم الإمكانيات والقدرة للقيام بمثل هذا العمل. هكذا يمكن أن نفهم أن رفض عمر لاقتراح معاوية، كان في إطار، مازال فيه المسلمون حديثي العهد بالتعرض لكوارث بحرية سببت لهم خسائر بشرية ومادية عظيمة يصعب أن تتحملها إمبراطورية إسلامية حديثة العهد بالتكون. كما يمكن أن نفهم أن رفض عمر مقترح معاوية الغزو في البحر ليس له آية علاقة بوصف عمرو بن العاص المحبط للبحر، هذا الوصف الذي يبدو لنا قصة خيالية ابتدعها الرواة المساندين للعباسيين لإظهار معاوية بن أبي سفيان بمظهر الخارج عن كل ما هو مألوف في الحكم الإسلامي المبكر، اُو ربما لإبراز الجفاء الذي طبع علاقته بعمرو بن العاص قبل الفتنة الكبرى. مؤشر آخر يدل على أن عمر بن الخطاب لم يكن ضد العمليات البحرية بقدر ما كان ينتظر الوقت الملائم لإنجاحها هو ما نسب إليه من قول عندما كان يحتضر “… وغزوت في البر والبحر” ([16]).
 
لم يثن رفض عمر غزو البحر، معاوية بن أبي سفيان من مواصلة اعتبار السياسة البحرية على أساس أنها استراتيجية ضرورية لا يجب إبعادها عن النظر. وهذا ما أوضحته-بالفعل-الأحداث التي جرت بين نهاية خلافة عمر وبداية خلافة عثمان، فأظهرت أن العرب لا يمكنهم تفادي الخطر البيزنطي دون توخي استراتيجية بحرية. فإلى جانب الهجمات المتواصلة التي كان يشنها الأسطول البيزنطي على السواحل السورية الفلسطينية، تمكن الجيش الإمبراطوري بقيادة منوال Manuelمن استرجاع الإسكندرية بين 23و 25هـ/ 644-646م ([17])؛ وهذا ما استدعى التدخل السريع والقوي للعرب المسلمين برا وبحرا ([18])، الذي قاده عمرو بن العاص من أجل استرجاع الإسكندرية ومناطق مصرية أخرى تحت سيطرة العرب المسلمين بوصفهم أسياد السواحل المتوسطية الجدد ([19]).
 
لقد مثل حينئذ تهديد الأسطول البيزنطي للسواحل السورية الفلسطينية والمصرية لحظة ملائمة بالنسبة إلى معاوية بن أبي سفيان من أجل تجديد طلبه في غزو البحر من الخليفة الجديد عثمان بن عفان، الذي كان واعيا تماما بأهمية الاستراتيجية البحرية بالنسبة إلى العرب ([20]) لمنافسة البيزنطيين في هذا الميدان غير آنه كان مترددا خوفا من أن يُصاب المسلمون بكارثة بحرية جديدة. ولتجاوز هذه الوضعية الحرجة، وافق الخليفة عثمان على أن يغزو معاوية البحر شريطة أن يكون مصحوبا بزوجته ([21]).
 
إن ما اشترطه عثمان على معاوية له معنى بليغ بالنسبة إلى عرب تلك الفترة لأن اصطحاب النساء الشريفات في المعارك البرية أو البحرية يقتضي ضرورة الانتصار، وفي حالة الهزيمة يسقط هؤلاء النساء في الأسر ويتحولن بالتالي إلى غنيمة حرب تجعل منهن عبيدا أو إماء. ويذكر البلاذري في هذا الصدد أن الأمويين كانوا يصاحبون النساء لإلزام الجيوش
بالجدية في المعارك حتى يتحقق النصر ([22]).
 
لم يكتف عثمان بن عفان بالشرط الأول وإنما أمر معاوية أيضا قائلا: “لا تنتخب الناس، ولا تُقرع بينهم، خيرهم، فمن اختار الغزو طائعا فاحمله وأعنه.” ([23]). بهذا الشرط الثاني أراد عثمان أن يحمل معاوية المسؤولية كي لا يأخذ معه سوى من يحس في نفسه القدرة على إنجاز عملية الغزو في البحر.
 
هكذا يتبين أن عثمان لم يكن أقل انزعاجا على مصير المسلمين في البحر من عمر، غير أن الأول تحمل مسؤوليته في اتخاذ القرار الملائم بالنسبة إلى مثل هذه العملية، بينما حمل الثاني مسؤولية اتخاذ مثل هذا القرار لمعاوية بن أبي سفيان مع الحرص على اتخاذ التدابير اللازمة كي لا يتحول الغزو في البحر إلى مغامرة كارثية. بعد الحصول على موافقة سلطة الخلافة في المدينة ماذا سيفعل معاوية لإرساء سياسته البحرية في البحر المتوسط؟
 
2-معاوية وغزو البحر المتوسط:
 
يبدو أن معاوية بن أبي سفيان لم يأت من الحجاز إلى الشام وفي ذهنه فكرة إرساء بحرية عربية لغزو البحر المتوسط؛ ويُرجح أيضا أن التفكير في إنشاء هذه البحرية تبلور شيئا فشيئا وبارتباط وثيق مع تقدم عمليات الفتح ومواجهة الأسطول البيزنطي
 
لا تذكر المصادر إيه معلومة عن كيفية إنشاء البحرية العربية، ولا عن دور معاوية في هذا الإنشاء، إذ اكتفت المصادر العربية بتكرار أن معاوية كان أول من غزا في البحر ([24]). أما المصادر المسيحية-وخاصة تيوفان-فقد اكتفت بذكر عدد السفن (1700) التي استعملها معاوية لمهاجمة قبرص ([25]). وأشارت بعض الدراسات التي اعتمدت على نفس هذه المصادر، إلى أن معاوية كان صانع البحرية الإسلامية ([26])، أو مؤسس الأسطول العربي الإسلامي ([27]) وآنه كان أول أمير مسلم أرسى أسطولا ضخما في البحر المتوسط لحماية المناطق الساحلية في سوريا/ فلسطين ومصر وشمال إفريقيا ضد هجمات الأسطول البيزنطي ([28]). وبالرغم من تأكيد كل هذه الدراسات على دور معاوية في إنشاء الأسطول الإسلامي، غير أنها لم تدقق تاريخ إنشاء هذا الأسطول، وهو ما لا يوضح كيفية قيام معاوية بغزوته البحرية الأولى، خاصة وأن فترة حكمه كانت طويلة جدا قضى منها 18 سنة واليا على الشام و20سنة خليفة المسلمين.
 
ولمزيد تدقيق الفترة التي بدأ فيها معاوية النشاط البحري الإسلامي، لا يتراءى لنا أحمد محمد فهمي مفيدا في هذا الاتجاه عكس حسين مؤنس، فبينما يرى الأول أن العهد الحقيقي للنفوذ البحري الإسلامي بدأ مع عثمان وأن معاوية كان أول من شجع المسلمين على غزو البحر ([29])، يقدم الثاني عدد سفن غزوة قبرص التي يقدرها ب 500 سفينة مع التأكيد على أن المسلمين كانوا غير قادرين في تلك الفترة على صناعة السفن لآنهم كانوا يفتقدون إلى آليات هذه الصناعة على السواحل الشرقية للبحر المتوسط، ومن ثم استنتج أن السفن التي أبحر عليها المسلمون إلى قبرص كانت في الأصل على ملك البيزنطيين الذين فروا وتركوها في موانئ المدن الساحلية مثل أنطاكيا وقيصرية وعسقلان… فاستولى عليها المسلمون الفاتحون وأعادوا تشغيلها عن طريق السكان الأصليين لسواحل بلاد الشام ومصر ([30]). ولمزيد توضيح هذه الفكرة، يضيف حسين مؤنس أن المصادر لم توفر معطيات حول إنشاء الأسطول البحري الإسلامي، ولذلك لا يمكن الكلام على إنشاء بحرية إسلامية في هذه الفترة المبكرة، وهو ما يحيلنا على التسليم بقول كل من هايد Heyde وبيران Pirenne اللذان يعتبران أن المسلمين في فترة ولاية معاوية على الشام استعملوا سفن السكان المحليين وأمنوا صيانتها بواسطة سكان السواحل، ولذلك فإن الأساطيل الإسلامية الأولى لم تكن إسلامية إلا بالقرار السياسي الذي اتخذه معاوية في غزو البحر والمشاركة الرمزية لبعض المسلمين في هذا الغزو ([31]).
 
إن ما ذهب إليه حسين مؤنس حول البنية التحتية المعتمدة في غزوة العرب الأولى للبحر المتوسط تقودنا إلى استنتاج أن معاوية بن أبي سفيان عندما قدم من الحجاز لم تكن له معرفة مسبقة عن الاستراتيجية العسكرية التي يجب توخيها في المنطقة، ولذلك فهو لم يعتمد على الاستراتيجية البحرية إلا بعد أن خبر الميدان وتعرف على الخطر الذي يمثله البيزنطيين على السواحل الشرقية للبحر المتوسط. ولتنفيذ هذه السياسة لم يكن بإمكان معاوية أن ينتظر إلى أن يتم الاستعداد كما كان يريد ذلك الخليفة عمر بن الخطاب، وإنما وجب عليه اعتماد كل ما يجده على عين المكان من معدات مادية وبشرية لتحقيق الانتصار الذي يجعله قادرا على قلب موازين القوى لصالح المسلمين أمام البيزنطيين أسياد البحر المتوسط الحقيقيين في ذلك الزمن. لقد فهم معاوية أن العرب لا يمكنهم التغلب على خوفهم من البحر إلا إذا تحركوا بسرعة عبر استغلال كل ما يوجد من إمكانيات على الميدان حتى لا يتركوا الفرصة للعدو البيزنطي لاستعادة قواه بعد الصدمة التي تلقاها برا.
 
لقد كانت السرعة في تقرير المعارك البرية في كل مكان هي التكتيك الأساسي الذي اتخذه العرب منذ عهد النبي؛ ولم يرغب عمر بن الخطاب أن يطبق نفس هذا التكتيك بحرا للأسباب المذكورة أعلاه. أما معاوية بن أبي سفيان فلم يكن يمكنه تأجيل قرار غزو البحر المتوسط، لأن مثل هذا التأجيل قد يعطي الإمكانية للبيزنطيين لتحويل كل انتصارات العرب البرية على أراضي إمبراطورتيهم إلى نقطة الصفر. ونظرا لشدة اقتناعه بأولوية الغزو في البحر المتوسط وأحقيته، لم يكن معاوية ليستطيع ترك الخطر الذي تمثله البحرية البيزنطية على السواحل السورية والمصرية في أواخر خلافة عمر وبداية خلافة عثمان دون أن على هذا الأخير من أجل السماح له بغزو البحر.
 
إن معاوية وهو يسعى إلى غزو البحر المتوسط، لم يغفل أمر إنشاء الأسطول الإسلامي لكنه أجله لوقت لاحق. وفي هذا الصدد ذكر حوراني أن الموانئ السورية وخاصة عكا وصور كانت زمن غزوة ذات الصواري تفتقد إلى صناعة السفن، هذه الصناعة التي أرساها معاوية زمن خلافته (41-60ه/ 661-680م) عندما حول فُرس اُنطاكية وحمص وبعلبك إلى صور وعكا من أجل صناعة سفن الأسطول الإسلامي([32]).
 
بالاعتماد على البلاذري، يبدو اُن العرب في غزواتهم البحرية، عندما كان معاوية واليا على الشام لم يستعملوا السفن البيزنطية التي تركها أصحابها في الموانئ السورية فقط، وإنما استعملوا أيضا سُفُنًا جديدة صنعها الأقباط في الإسكندرية. ([33])وللانتهاء من مسألة الإمكانيات البشرية والمادية التي اعتمدها معاوية لبدء غزواته البحرية، يجب اُن نشير إلى أنه عول خاصة على خبرة السكان المحليين والإرث البيزنطي لمساعدته في أن يتمرس رجاله على ركوب البحر أولا، وإرساء صناعة السفن التي ستصبح في فترة خلافته صناعة إسلامية ثانيا.
 
عندما كان معاوية بن أبي سفيان واليا على الشام، كان الأقباط والعرب المترومنون ([34]) أساسا هم من يحضرون الغزوات البحرية وينفذونها. أما المسلمون القادمون من الجزيرة والحديثي العهد بالاستقرار في بلاد الشام، فإن دورهم في هذه الغزوات، كان مقتصرا على القيادة التي تنبع من تمثيلهم للسلطة المركزية أكثر من كفاءتهم في الميدان البحري.
 
هكذا يتبين أن معاوية بن أبي سفيان كان أول شخصية رسمت السياسة البحرية للعرب المسلمين، ومن هنا يُطرح السؤال التالي: لماذا كان معاوية بن أبي سفيان هو الذي أرسى سياسة العرب المسلمين البحرية؟
 
للإجابة على هذا السؤال، يعتبر حسين مؤنس أن الأمويين ارتبطوا بعلاقات لصيقة ببلاد الشام منذ فترة ما قبل الإسلام، وهو ما جعلهم يوجهون الفتوحات العربية إلى هذه البلاد ويؤسسون ها الدولة الإسلامية، ويفترض نفس الكاتب أن العلاقات القوية التي ربطت بين معاوية والبيزنطيين هي التي خولت له الاطلاع على حضارتهم وقيمها ([35]). يبدو ما ذهب إليه حسين مؤنس أمرا مبالغا فيه ولا يستند على أسس حقيقية، لأن الأمويين إذا كانوا مندمجين إلى هذا الحد في الحضارة البيزنطية، فلماذا لم يعبر معاوية عن نيته في غزو البحر المتوسط إلا بعد أن قضى عديد السنوات قائدا للجيش ثم واليا؟ ولماذا كان معاوية وحده من بين كل الأمويين الذي عبر عن هذه الرغبة؟ لماذا لم يعبر عنها أبو سفيان ([36]) أو عثمان بن عفان الخليفة الذي ربطته بالبيزنطيين علاقات جد وطيدة حسب ما ذكره حسين مؤنس ([37])؟. من ناحية أخرى لم يكن الأمويون القرشيون الوحيدين الذين ربطتهم مع الشام علاقات تجارية، فإلى جانبهم ارتبط المخزوميين أيضا بعلاقات تجارية مع هذه البلاد وكان من بينهم خالد ابن الوليد الذي كان أول من غزا بلاد الشام في خلافة أبي بكر، ثم ابعد سريعا عن هذا المنصب زمن خلافة عمر. ولم تقتصر علاقات القريشيين التجارية مع بلاد الشام على الأمويين والمخزوميين، بل شملت معهم بنو سهم الذين ينتمي إليهم عمرو بن العاص قائد عملية فتح فلسطين ومصر، وقد كان دوره في هذا الفتح بنفس أهمية معاوية إن لم يكن أكثر، فلماذا كان دور عمرو على هذه الدرجة من السلبية في غزو البحر المتوسط حسب ما وافتنا به المصادر ([38])؟
 
هكذا-وبعكس ما ذهب إليه حسين مؤنس-يتبين أن معاوية لم يأت إلى بلاد الشام بمشروع لغزو البحر المتوسط موروث عن أجداده الذين كانوا متعاونين مع البيزنطيين، وإنما أتته فكرة غزو هذا البحر عن طريق الصراعات العربية البيزنطية للسيطرة على السواحل الشرقية والجنوبية للحوض الشرقي للبحر المتوسط. لقد كان إذن غزو البحر المتوسط من عمل معاوية الشخصي الذي كان أول من تفطن إلى ضرورة إرساء استراتيجية بحرية للعرب على شاكلة البيزنطيين وكل الذين سبقوهم في إنشاء حضارات حول هذا البحر وسيطروا عليه.
 
إلى جانب خصاله الشخصية، لابد من التأكيد على الظروف الملائمة التي ساعدت معاوية أثناء ولايته على الشام في استنباط سياسته البحرية. لقد كان معاوية الوحيد من بين كل ولاة الخلافة الإسلامية الذي قضى 18 سنة واليا على نفس المنطقة؛ ولئن تمكن معاوية من الحفاظ على منصبه في نفس الولاية لفترة طويلة، فإن ذلك لا يعود إلى آنه لم يتم عزله فقط، وإنما يعود كذلك إلى كونه تمكن من النجاة من الموت في طاعون عمواس الذي أودى بحياة أخيه يزيد وأبي عبيدة بن الجراح الذين كانا أولى منه في تولي أمر بلاد الشام.
 
هكذا اجتمعت لدى معاوية المؤهلات الشخصية إلى جانب طول فترة الحكم وتواصلها لتمكنه من استنباط سياسة بحرية ضرورية لضمان سيطرة العرب على السواحل الشرقية والجنوبية للبحر المتوسط وتساعد على المنافسة الجدية للأسطول البيزنطي. فما الذي قام به معاوية لتنفيذ سياسته البحرية؟
 
II-معاوية وحملاته على جزر الحوض الشرقي للبحر المتوسط:
 
قام معاوية بن أبي سفيان عندما كان واليا على بلاد الشام بعديد الحملات البحرية على جزر الحوض الشرقي للبحر المتوسط، وقد هدف من خلالها إلى السيطرة على جزر هذا الحوض القريبة من بيزنطه. لقد بدأ معاوية نشاط المسلمين البحري بحملة وجهها نحو قبرص ([39])؛ وهي حملة تضع أمام الدارس جملة من التساؤلات، لعل أبرزها يتعلق بتاريخ انطلاق هذه الحملة الذي اختلف الإخباريون في تحديده، فجعله البلاذري بين 27-28 هـ/647-648 م، وبالذات سنة 28 هـ/648 م بعد انحسار الشتاء ([40]). أما الروايات التي أوردها الطبري فقد جعلت تاريخ هذه الغزوة سنة 28 هـ/648 م في رواية للواقدي ([41])، وفي سنة 33ه/ 654 م في رواية لأي معشر ([42])، مع الإشارة إلى أن روايات الطبري تخلط بين غزوتين استهدفتا قبرص خلافا للبلاذري الذي ذكر أن المسلمين غزوا قبرص في المرة الثانية بعد أن نقض أهلها صلح الغزوة الأولى بين 33 و35 هـ/ 654-656م ([43]). ويعيد قدامة بن جعفر نفس ما رواه البلاذري تقريبا فيما يتعلق بغزوة قبرص ([44]).
 
أما المصادر المسيحية فقد ذكرت تاريخ غزو المسلمين بتقويم مختلف عما ذكرته المصادر الإسلامية فمنها ما ذكر “وفي السنة الثالثة لعثمان ركب معاوية إلى قبرص فافتتحها… فسبا منها ومن الجزائر المطيفة بها خلقا من الناس…”([45])، ومنها ما ذكر أن غزوة معاوية على قبرص كانت في سنة العالم 6140 (من سبتمبر648 إلى أوت 649 م) ([46]) وهو ما يوافق سنة 28 هـ. وبالاعتماد على نفس هذه المصادر، توجد بعض الدراسات التي اهتمت بغزوة معاوية على قبرص، فحددت تاريخ حدوثه في ربيع سنة 28 هـ/648 م ([47]).
 
بالرغم من تعدد الروايات حول تاريخ غزوة معاوية الأولى على قبرص، يبدو أن ربيع سنة 28 هـ/648 م هو التاريخ الأقرب إلى الواقع لدقته أولا ولتوافقه مع الأحداث التي سبقته ثانيا، لأن قرار غزوة قبرص لا يمكن أن تبدأ مناقشته بين معاوية وعثمان إلا بعد أن وقع إبعاد خطر الأسطول البيزنطي عن السواحل السورية الفلسطينية والمصرية سنة 25ه/ 647م ليمكن البدء في البحث عن نقاط ارتكاز في البحر المتوسط للتقليل من الخطر المتواصل للأسطول البيزنطي.
 
إذا اختلف الرواة في تحديد تاريخ أول غزوة بحرية قام بها المسلمون على قبرص، فإنهم اختلفوا أكثر في أمر السفن وبحارتها الذين خرجوا في هذه الغزوة البحرية. فمنهم من ذكر أن معاوية “ركب البحر من عكا ومعه مراكب كثيرة ([48])”، ويضيف قدامة بن جعفر أن ركوب معاوية البحر تم بعد أن وقع ترميم ميناءي عكا وصور ([49])، وذكر إخباريون آخرون أن الإبحار إلى قبرص تم من عديد السواحل السورية ([50]) دون أن يخصوا بالذكر ميناء معينا، ولكنهم أشاروا إلى التعاون الذي حصل في هذه الغزوة بين مصر وسوريا، إذ كان عبد الله بن سعد يقود السفن الخارجة من مصر بوصفه واليها، في حين أسندت قيادة سفن سوريا وفلسطين إلى عبد الله بن قيس الحارثي حليف بني فزارة ([51])، ولذلك فإن القيادة العامة لكل من السفن المصرية والسفن السورية لا يمكن أن تكون إلا لمعاوية بن أبي سفيان لأنه كان والي الشام التي تتبعها مصر إداريا في ذلك الوقت.
 
إن إشارة المصادر الإسلامية إلى ترميم ميناءي عكا وصور حتى يصبحا ملائمين لإبحار الأسطول الإسلامي، يمكن أن تفيد في إعطائنا فكرة عن الخسائر الفادحة التي لحقت السواحل السورية، وهو ما جعلها توقف -ربما-نشاطها البحري. ويعود الفضل إلى معاوية الذي أعاد النشاط العسكري إلى هذه السواحل عندما كان واليا على الشام؛ فبدأ بترميم ميناءي عكا وصور لانهما كانا بعيدين عن خطر الأسطول البيزنطي، ليواصل-بعد انتصاره في غزوة قبرص-ترميم الموانئ السورية الأخرى لتكون مستعدة في “المعركة الكبرى” ضد القسطنطينية والتي لا يمكن الشروع فيها إلا عند إضعاف الأسطول البيزنطي في الموانئ السورية.
 
قد يعود عدم تحديد بعض الإخباريين للميناء الذي أقلع منه المسلمون إلى قبرص لاعتقادهم المحتمل في أن إبحار المسلمين من عكا غير ممكن، لأن المسافة الفاصلة بين هذا الميناء وقبرص هي-بدون شك-أطول من المسافة الفاصلة بين مجال الإمبراطورية البيزنطية وقبرص، ولذلك اختاروا أن يكون إبحار معاوية ومن معه من ميناء جبلة في إقليم حمص لاُنه أقرب إلى قبرص من البيزنطيين، إذ تُقدر المسافة الفاصلة بينهما بيومين وهي نفس المسافة التي تفصل مجال الإمبراطورية البيزنطية عن قبرص ([52]).
 
تبدو المصادر التي لم تحدد الميناء الذي أقلع منه الأسطول الإسلامي نحو قبرص أكثر إقناعا، ولكن كي يصدق هذا التمشي يجب أن تبحر السفن القادمة من السواحل المصرية قبل السفن القادمة من السواحل السورية حتى يتسنى وصول جميعها إلى قبرص في نفس الوقت.
 
من خلال ما وفرته المصادر إذن، لا يمكن الجزم بتحديد الميناء الذي أبحرت منه السفن لأول مرة في اتجاه قبرص، لأن الرواة لم يعايشوا الحدث الذي يروونه وبالتالي فإنه لا يمكنهم عدم إسقاط وضع الموانئ في زمنهم على الزمن الذي يحكون أحداثه.
 
إلى جانب تحديد تاريخ غزوة المسلمين على قبرص والميناء الذي أبحرت منه، تضعنا هذه الغزوة أمام تساؤلات حول الأسطول الذي نفذ هذه الغزوة، فكيف كون معاوية الأسطول للغزو في البحر؟
 
للإجابة على هذا السؤال، لا توفر المصادر معلومات وتكتفي بذكر عدد السفن الموجهة ضد قبرص في الغزوتين. تراوح عدد هذه السفن ذات الأصل المصري والسوري، المكونة للأسطول الإسلامي بين 80 و100 عند ابن خرداذبة ([53])، وارتفع هذا العدد عند الإخباريين المسيحيين إلى 1700 سفينة ([54]) في حين حدده ابن أعثم الكوفي بـــــــ 220 سفينة([55])، ولا نجد في بقية المصادر عددا محددا لسفن الغزوة على قبرص.
 
يبين هذا الاستعراض السريع لعدد السفن المكونة للأسطول الإسلامي في المصادر ضخامة الأرقام في المصادر المسيحية وضالتها في المصادر الإسلامية إلى درجة آنه يستحيل ترجيح رقم على آخر. إن مشكل الأرقام في المصادر الإسلامية لا يطرح حالة استثنائية في هذه الغزوة البحرية، بقدر ما يمثل حالة تتكرر في كل معارك المسلمين التي يكون خلالها عددهم أقل بكثير من عدد أعدائهم. ولا تعني هذه الملاحظة أن العدد المقدم في المصادر المسيحية هو أكثر واقعية، لأن البت في مثل هذه الأمر يتطلب دراسة ظاهرة هذه الأرقام في كل المصادر حول حوادث متعددة.
 
لا يكمن المشكل الحقيقي-حسب راُينا-في اختلاف المصادر في تقدير عدد السفن “الإسلامية” التي وجهت إلى قبرص بل يكمن في الأساس الذي اعتمده معاوية لتحضير هذا الأسطول العسكري بسرعة فائقة. للبحث في هذا الأمر، لم نجد ما نعتمد عليه سوى ما أورده ابن أعثم الكوفي الذي ذكر أن معاوية لما ورد عليه ” كتاب عثمان وقرأه نشط لركوب البحر إلى قبرص، ثم كتب إلى أهل السواحل فأمرهم بإصلاح المراكب وتقريبها إلى ساحل حصن عكا ليكون ركوب المسلمين من عكا إلى قبرص، قال فأصلحت المراكب وجمعت” ([56]).
 
يوحي هذا القول بأن المسلمين في غزواتهم البحرية الأولى لو يُحدثوا صناعة للسفن خاصة بهم، بل ألهم لم يعوضوا البيزنطيين في هذا النشاط الذي دمرته الغزوات الإسلامية، ولم يُنشئ معاوية دارا لصناعة السفن في عكا إلا سنة 49 هـ/ 669م، عندما أصبح خليفة المسلمين ([57]).
 
ولتنفيذ حملته البحرية على قبرص، اكتفى معاوية باستعمال السفن السورية والمصرية وما خلفه البيزنطيون الذين فروا نحو الشمال، لتكوين نواة الأسطول الإسلامي ([58]) ولذلك فإن معاوية لم يكن يحتاج إلى أكثر من موافقة سلطة الخلافة لبدء غزواته البحرية.
 
إلى جانب السفن يحتاج الأسطول إلى من يقدر على الإبحار والصيانة في أعماق البحر، ومن هذه الناحية لا توفر لنا المصادر سوى معلومات مقتضبة وغامضة مثل الدور الذي قام به بعض صحابة النبي كاُبي ذر الغفاري وأبي عبادة بن الصامت الذي كان مصحوبا بزوجته أم حرام، والمقداد وأبي الدرداء وشداد بن أوس ([59]) فضلا عن واثلة بن الأسقع وأبي أمامه الباهلي وعبد الله بن بسر المازني ([60]).
 
في هذا الصدد، يجب التأكيد على أن حضور هؤلاء في مثل هذه الغزوة له مدلول رمزي أكثر من أي شيء آخر ومن ثم يمكن أن نضع مشاركتهم موضع سؤال. إلى جانب الصحابة أكد الرواة على مشاركة النساء والأطفال في هذه الغزوة البحرية ([61])، وبالرغم من أن مشاركة هؤلاء ليس لها قيمة عسكرية، فإن مدلولها في غاية الأهمية لأن معاوية لا يمكن أن يجازف بإحضارهم لو لم يكن متأكدا من النصر، وفي حالة حصول العكس فإن مصير هؤلاء النساء والأطفال هو الأسر والعبودية. ويشير الرواة أيضا إلى أن قائد الأسطول الشامي في الغزوة الأولى على قبرص كان عبد الله بن قيس الحارثي حليف بني فزارة الذي “غزا خمسين غزاة بين شاتية وصائفة في البحر، ولم يغرق فيه أحد ولم ينكب…” ([62]). ويضيف ابن الأثير أن عبد الله بن قيس هذا سار بالمسلمين من الشام إلى قبرص، وسار إليها عبد الله بن سعد من مصر فاجتمعوا عليها ([63]).
 
على هذا الأساس، يمكن القول بأن الأسطول الذي قام بالغزوة على قبرص هو من أصل شامي مصري، ومن ثم يمكن استنتاج أن هذا الأسطول قد اعتمد في تجهيزه على الإرث المادي والبشري للبيزنطيين والأقباط بصفة أساسية بدليل انتماء النوتي الذي كان يقود سفينة معاوية وعائلته إلى الأقباط، وقد كان اسمه طليا ([64])، يمكن أن تقودنا مثل هذه الإشارة إلى استنتاج أن قادة سفن غزوة قبرص وتقنييها كانوا أساسا أناس من السواحل. ولكن من هم أناس هذه السواحل؟ إلى جانب الأقباط، تعني عبارة أناس السواحل السوريين الذين شملتهم سياسة الرومنة بسبب طول هيمنة الرومان والبيزنطيين على منطقتهم. وقد اكتسب هؤلاء تقاليد بحرية قديمة جدا قد تعود إلى العهد الفينيقي، وإليهم يعود ربما-ترويج الثقافة البحرية وخاصة الإبحار في المتوسط، ومن المؤكد أن معاوية كان قد تعرف على الثقافة البحرية العميقة للسوريين والأقباط وهي التي سيستغلها على اُحسن وجه لإنجاح غزوته الأولى؛ ولكن معاوية سوف لن يغزو قبرص عن طريق السوريين والأقباط وحدهم، بل سيسعى إلى تشريك أكثر ما يمكن من العرب المسلمين بوصفهم رمز السيادة العربية الإسلامية على كل الشعوب التي تمت السيطرة عليها. وفي هذا المضمار نجد في بعض المصادر “أن معاوية وضع الأرزاق للناس فأعطاهم… وناداهم أن لا يتخلف عنه أحدا ممن أخذ أرزاقه” ([65]).
 
هكذا يمكن أن نتبين فطنة معاوية في تجهيز غزوة قبرص وتحضيرها لاُن الرجل كان يعرف جيدا الإمكانيات البشرية والمادية للسواحل الشرقية للمتوسط في الميدان البحري، وقد استغلها كلها لإنجاح حملته البحرية على قبرص، مع الحرص الشديد على إدخال العنصر العربي الإسلامي ليتعلم كيفية التغلب على خشية البحر.
 
وانتهت غزوة قبرص الأولى بانتصار العرب، فأمضى معاوية معاهدة صلح مع أهلها تقضي برجوع المسلمين إلى ديارهم ودفع أهل قبرص لجزية قدرها 7200 دينار سنويا ([66]).
 
لقد مثل هذا الانتصار البحري الأول نقطة مهمة جدا في إرساء الاستراتيجية العربية البحرية لأن العرب نجحوا في افتكاك أكبر قاعدة بحرية للبيزنطيين لأنها تغلق أمامهم السواحل السورية ([67]). بعد إخضاع المسلمين لجزيرة قبرص، أمكن لأسطولهم الذي يقوده معاوية القيام بعديد الغزوات الأخرى على جزر تقرب نسبيا من بيزنطة.
 
تختلف المصادر المسيحية والإسلامية كثيرا في تحديد تواريخ حملات المسلمين على جزر الحوض الشرقي للبحر المتوسط. فإذا جعلت المصادر المسيحية وقوعها يتراوح بين 28و 33 هـ/ 649 و653 م، فإن المصادر الإسلامية اخرت حدوثها إلى الفترة الفاصلة بين 52 و54 هـ/672 و674 م ([68]). بعد الانتهاء من غزوة قبرص، يبدو اُن عودة معاوية ومن معه إلى دمشق لم تكن إلا لقضاء الشتاء، ليعودوا بحلول الربيع إلى الغزو البحري ثانية مستهدفين في هذه المرة جزيرة أرواد الواقعة حسب المصادر المسيحية بين السواحل السورية وجزيرة قبرص ([69]). وتذكر بعض المصادر المسيحية أن غزوة أرواد تمت بعد غزوة قبرص الأولى مباشرة ([70])، وبالضبط بين 1 سبتمبر 649و 31 أوت 650 ([71]) غير ان هذه المصادر اختلفت في مصير هذه الغزوة التي ذكر أقابيوس آنها تعرضت إلى حصار شديد إلى أن استسلم أهلها فغادروها ([72])، أما تيوفانس فقد ذكر أن المدينة أحرقت وجدرانها هُدمت فتحولت إلى جزيرة خالية الى حدود الفترة التي عاش خلالها ([73]).
 
يعتمد أحمد محمد فهمي هذه الإشارات الواردة في المصادر المسيحية ليستنتج أن معاوية عندما كان عائدا من قبرص حاصر أرواد ولكنه فشل، فهاجمها من جديد في العام المقبل 29 هـ / 649م وحقق نصرا كبيرا فأحرق المدينة التي أصبحت خالية ([74]). وبعد مضي ثلاث أو أربع سنوات، أعاد معاوية غزو جزيرة قبرص بعد أن نقض أهلها الصلح عندما ساعدوا البيزنطيين في حروبهم البحرية عن طريق توفير السفن لهم. غزا معاوية حينئذ قبرص سنة 33 هـ/653 م. ثم أرسل 12000 رجل فبنوا مساجد ومدينة ([75]) من أجل احترام بنود الصلح ربما؛ وفي طريق عودته من قبرص، هاجم الأسطول الإسلامي جزيرة رودس فنهبها ثم عاد إلى الشام ([76]).
 
خلافا للمصادر المسيحية، تذكر المصادر الإسلامية أن تواريخ الحملات البحرية المذكورة أعلاه وقعت عندما أصبح معاوية خليفة المسلمين أي بين 52 و54 هـ/672 و674 م وقد كان جُنادة بن أبي أمية الأزدي أميرا لكل هذه الحملات البحرية ([77]).
 
إذا اكتفى الطبري بذكر غزوة رودس سنة 53 هـ/673 م التي تبعتها غزوة أرواد سنة 54 ه/ 674م، فإن البلاذري يضيف إلى هاتين الغزوتين غزوة كريت دون أن يذكر تاريخها ([78]).
 
لا تختلف المصادر الإسلامية مع المصادر المسيحية في تحديد تواريخ الغزوات البحرية فقط وإنما تختلف معها أيضا في تحديد الموقع الجغرافي لجزيرة أرواد. فقد سبق وأن رأينا بأن هذه الجزيرة تقع حسب-المصادر المسيحية-بين السواحل السورية وجزيرة قبرص، أما المصادر الإسلامية فتجعل موقع الجزيرة قريبا من القسطنطينية ([79]).
 
يقودنا الخلط في تحديد موقع جزيرة أرواد إلى تبني فرضية ماريوس كنار الذي يرى أن أرواد هي رودس بغض النظر عن قربها من القسطنطينية لأن المعرفة الجغرافية عند العرب-حسب رأيه-كثيرا ما تكون خيالية ([80])، وفي هذا المستوى لا بد من الإشارة إلى أن هذا الكاتب لم يتعرض إلى ذكر المصادر المسيحية التي ذكرت أرواد ورودس دون تحديد مدقق للموقع الجغرافي لجزيرة أرواد الذي يمكن أن نفهم من خلالها آنه يتموقع بين السواحل السورية وقبرص.
 
لتجاوز إشكاليات تحديد تواريخ شن المسلمين للحملات البحرية في عهد معاوية بين المصادر المسيحية والمصادر الإسلامية، يتعين أن نفترض أن المسلمين كانوا في كل مرة يستعدون لغزو القسطنطينية، يبدأون بشن حملات على الجزر القريبة منها قصد عزل هذه المدينة المحصنة عن قواعدها البحرية القادرة على أن توفر لها المدد العسكري عند حصارها برا أو بحرا.
 
III-غزوات المسلمين البحرية على بيزنطة في عهد معاوية:
 
بالاعتماد على المصادر، يمكن أن نلاحظ بأن هذه الغزوات البحرية بدأت عندما كان معاوية بن أبي سفيان واليا على الشام وتواصلت عندما أصبح خليفة المسلمين.
 
1-غزوة الصواري:
 
خلافا للمصادر الإسلامية، أشارت المصادر المسيحية إلى الأحداث التي سبقت هذه الغزوة فذكرت أن “معاوية بن أبي سفيان استعد لقصد القسطنطينية في السنة التاسعة لعثمان والرابعة والثلاثين للعرب والثالثة عشر لقسطوس ملك الروم، وأعد معاوية سفنا كثيرة بمدينة طرابلس على ساحل البحر، وحمل من السلاح أمرا عظيما فلما أوسقت به وعزم على الغزو، وكان بطرابلس أخوان لرجل يقال له بقنطر وكانا في خدمة العرب. فلما نظرا ما أعده معاوية أخذتهما الغيرة والحمية فأتيا السجن واخرجا ساير من فيه من الروم فوثبوا على عامل المدينة (وأحرقوا السفن) والعدة وركبوا البحر ولحقوا بالروم” ([81]). وللرد على هذه العملية انطلقت جيوش العرب التي جهزها معاوية برا وبحرا في اتجاه فونيقية Phoenix الواقعة على ساحل ليقيا Lycie ([82]). وفي هذا المستوى لا بد من التساؤل: لماذا لا توجد مثل هذه المعلومات إلا في بعض المصادر المسيحية؟ أيعود هذا إلى نسيان الرواة المسلمين أم إلى رقابة واعية لا تريد أن تعترف بوجود خونة بين سكان الساحل السوري بعد أن سيطر عليه المسلمون؟ وبالرغم من أن المصادر الإسلامية لا تذكر مثل هذه الظاهرة بطريقة مباشرة، غير ألها توحي بوجودها عندما تتحدث عن نقل ” معاوية سنة 49 أو 50 إلى السواحل قوما من زط البصرة والسباتجة، وأنزل بعضهم بأنطاكية” ([83]) لمراقبة هذه المناطق من خطر البيزنطيين عليها. قد يعكس هذا التحويل لزط البصرة والسباتجة إلى السواحل السورية عدم ثقة الخليفة معاوية ابن أبي سفيان في السكان المحليين الذين-يبدو-آنهم تاَمروا مع البيزنطيين ضد العرب منذ كان معاوية واليا على منطقتهم.
 
وقبل التطرق إلى الأحداث المتعلقة بغزوة الصواري، يبدو من الضروري البدء بتحديد معنى هذه التسمية. إن غزوة الصواري هي تسمية أطلقتها المصادر الإسلامية ([84]) على معركة بحرية دارت بين العرب والبيزنطيين في آخر خلافة عثمان بن عفان ([85]). ولا تحدد هذه المصادر المكان الذي دارت فيه هذه المعركة غير آنها تفسر معنى هذه التسمية التي يرجعها الكندي إلى تعدد صواري السفن عند اجتماعها ([86])، أما الطبري فيعيدها إلى “اقتران سفن المسلمين واُهل الشرك بين صواريها” ([87]).
 
أما المصادر المسيحية فلا توجد فيها غزوة الصواري لأنها حددت المكان والمنطقة التي دارت فيهما المعركة بين العرب والبيزنطيين والمتمثلان في قونيقية على ساحل ليقيا ([88]).
 
إن اختلاف المصادر الإسلامية والمسيحية في تسمية هذه المعركة هو اختلاف واضح، فهل سيتواصل اختلاف هذه المصادر أم ستتفق في ذكر أسباب هذه المعركة وكيفية حدوثها؟
 
لا توفر المصادر معلومات عن أسباب حدوث معركة الصواري باستثناء تلك التي ذكرتها المصادر المسيحية في الفترة التي سبقت هذه المعركة، وهو ما يدعونا إلى استنتاج أن غزوة الصواري جاءت كردة فعل وانتقام من البيزنطيين وحلفائهم. وبالاعتماد على هذه المعلومات الموجودة في المصادر المسيحية استنتج بعض الدارسين أن الهدف الرئيسي من هجوم العرب على قونيقية هو قطع خشب غابات آسيا الصغرى ([89]) ليلتحق بذلك بأصحاب نظرية نفاذ خشب غابات لبنان الشهيرة في الوقت الذي كانت فيه حاجة العرب ملحة إلى مثل هذه المادة من أجل صناعة السفن وتجهيز أسطولهم البحري ([90]). وقد رفض الباحث كريستيد Christides مثل هذه النتيجة ومثل هذه النظرية لأن معركة الصواري حدثت في فترة تتسم بثنائية النشاط العسكري البحري المتمثل في غارات البيزنطيين على السواحل السورية وغارات العرب على السواحل البيزنطية ([91])، وعلى هذا الأساس يتوجب وضع معركة ذات الصواري في مثل هذا الإطار، لأن العرب بزعامة معاوية، وبعد أن سيطروا على الجزر القريبة من بيزنطة، بدأوا يتهيأون من أجل السيطرة على باقي الإمبراطورية بإسقاط القسطنطينية.
 
لا توفر المصادر معلومات واضحة عن بعثة غزوة الصواري. فإذا ذكرت المصادر المسيحية أن قرار التوجه قد يكون اتخذه معاوية، فعين أبو الأعور قائدا لهذه الحملة البحرية، فتوجه “إلى فونيقية على ساحل ليقية فأفسد فسادا كثيرا” ([92])، فإن المصادر الإسلامية منها ما ذكر “أن أهل الشام عليهم معاوية بن أبي سفيان، وعلى أهل البحر عبد الله بن سعد بن أبي سفيان” ([93])، وذكرت مصادر إسلامية أخرى أن عبد الله بن سعد هو الذي قاد غزوة الصواري ([94]) دون أن تشير من بعيد أو قريب لمعاوية بن أبي سفيان.
 
ولتجاوز كل هذا الخلط والتنافر بين المصادر المسيحية والإسلامية والمصادر المسيحية فيما بينها، يقترح الباحث حوراني Hourani وجود قوتين بحريتين عربيتين في غزوة الصواري إحداهما مصرية يقودها عبد الله بن سعد والي مصر، والأخرى سورية يقودها أبو الأعور ([95]) الذي عينه معاوية كما تشير إلى ذلك المصادر المسيحية، أم كريستيد 1Christides فلم يحاول التوفيق بين مختلف الروايات لأن يعتبر عبد الله بن سعد القائد الأساسي للأسطول الإسلامي المتكون من العساكر المصريين والسوريين ([96]).
 
يمكن أن تقودنا المعلومات التي وفرتها المصادر والنتائج التي توصلت إليها بعض الدراسات إلى نتيجة-نرى-آنها أكثر دقة وتتمثل في أن قرار بعث غزوة الصواري لا يمكن أن يصدر إلا عن معاوية والي الشام الذي كانت تتبعه مصر وواليها قبل الخليفة عثمان بن عفان. لقد أمر معاوية إذن عبد الله ابن سعد بتوجيه الأسطول المصري إلى ساحل ليقيا أين وجد دعما ومساعدة من الأسطول السوري الذي يقوده أبو الأعور السلمي، وبذلك يكون قائد كل الأسطول الإسلامي في فونيقية هو عبد الله بن سعد الذي عينه معاوية بن أبي سفيان للقيام بهذه المهمة.
 
وتثير المصادر أيضا مسالة أخرى تتعلق بعدد سفن كل من الأسطول الإسلامي والأسطول البيزنطي ولكن بطريقة تفتقد للوضوح، فهذا الطبري يقدر عدد سفن الأسطول البيزنطي بــــــــ 500 سفينة وهو عدد مهول مقارنة بعدد سفن الأسطول الإسلامي ([97])، أما ابن الأثير فقد جعل عدد سفن البيزنطيين يتراوح بين 500 و600 سفينة دون أن يذكر أي عدد للسفن الإسلامية ([98])، بينما جعل كل من الكندي والمقريزي عدد سفن البيزنطيين يتراوح بين 700 و1000، وقدرا عدد سفن المسلمين بـــــ 200 فقط ([99]).
 
مثلما هو شأن كل معارك المسلمين سواء كانت ضد الفرس أو البيزنطيين، يسعى الإخباريون المسلمون، دائما، إلى التقليل من الأهمية العددية للجيش الإسلامي برا وبحرا، مقابل تضخيم جيش العدو. أما المصادر المسيحية فلا تذكر أي عدد لا بالنسبة إلى الجانب البيزنطي ولا فيما يتعلق بالجانب الإسلامي، ولكنها توحي بأن البيزنطيين استعدوا جيدا لمحاربة المسلمين في البحر، وبالرغم من أهمية أسطولهم مقارنة بأسطول العرب فقد خسروا المعركة، وهو ما أدى إلى فرار الإمبراطور قسطوس الثاني قائد المعركة إلى صقلية.
 
لتفسير انتصار العرب في معركة الصواري، نرى آنه ليس من الضروري التأكيد-مثلما فعل الكثير من الدارسين المعاصرين-على التكتيك الذي اتبعه عبد الله بن سعد ورجاله الذين حولوا معركة الصواري البحرية إلى معركة برية، لأن الأسطول الإسلامي كان يتكون أساسا من الأقباط والسوريين الذين كانوا يتمتعون بخبرة بحرية قديمة، ولذلك يجب أن نتصور أن التكتيك البري الذي اتبعه المسلمون في غزوة الصواري البحرية كان قد أملاه عبد الله بن سعد قائد الأسطول الذي، بحكم أنه لم يكن بحارا حقيقيا، يمكن اُن يكون قد شعر بخوف ثنائي، فهو من جهة خائف على أصحابه الذين لم تكن لديهم تجربة بحرية، وهو من ناحية ثانية خائف من أصحابه البحارة ذوي الأصول القبطية والسورية من أن يتجاوزوه في مجال بحري لا يحكم السيطرة عليه.
 
أثناء فترة خلافة عثمان، ما فتئ نفوذ معاوية بن أبي سفيان يتوسع في بلاد الشام وفي الحوض الشرقي للبحر المتوسط، وسياسته البحرية تتجسد عن طريق إنشاء قوة بحرية قادرة على منافسة القوة البحرية البيزنطية وتهديدها في مناسبات عديدة، وخاصة في المواجهة البحرية التي جمعت بين القوتين أثناء معركة الصواري، ولكن هذا لا يعني اُن البحرية الإسلامية كانت قادرة في هذه الفترة على القضاء كليا على الخطر البيزنطي في الحوض الشرقي للبحر المتوسط.
 
بعد انتصاره في معركة الصواري، لم يأمر معاوية الأسطول الإسلامي بمواصلة الطريق نحو القسطنطينية لشدة ما أصابه من الإنهاك، ولذلك عاد إلى قواعده في سوريا ومصر. وفي الوقت الذي كان فيه الأسطول الإسلامي يخلد إلى قسط من الراحة، اندلعت الفتنة الكبرى فتراجع معاوية عن سياسته البحرية، وانشغل بحماية مصالحه في الحرب الأهلية التي اشتعلت نيرانها في صلب الأمة الإسلامية بمقتل الخليفة عثمان، هكذا لم يُجبر معاوية على إيقاف سياسته البحرية فقط، وإنما اضطر أيضا إلى إمضاء معاهدة صلح مع الإمبراطور البيزنطي قسطوس الثاني ([100]) للتفرغ كليا لبناء خلافته وحماية نفوذه من كل الأعداء الذين تكاثر عددهم أثناء حروبه ضد علي بن أبي طالب وأهل العراق.
 
وعلى هذا الأساس لم يعد معاوية بن أبي سفيان إلى غزواته في البحر المتوسط إلا بعد أن ركز خلافته وأبعد خطر كل الذين كانوا يهددون استقرار حكمه وأمنه.
 
2-الغزوات البحرية على أرض الروم (بيزنطة) في خلافة معاوية.
 
في البدء لا بد من الإشارة إلى أن المعلومات التي توفرها المصادر الإسلامية حول هذه الغزوات هي شديدة الغموض والاقتضاب، فبالرجوع إلى أبرز هذه المصادر يمكن أن نتفطن إلى أن معاوية، وبعد أن ركز نفوذه على كل المسلمين، أقام سياسة طويلة المدى من أجل غزو القسطنطينية والسيطرة على كامل المجال البيزنطي، وفي هذا الصدد تشير المصادر باقتضاب إلى وجود قوة عسكرية على أرض الروم من 43 هـ/4-663 م إلى 59 هـ/679 م ([101]). وتمتد هذه الإشارات على كامل فترة خلافة معاوية تقريبا، ويجمع بينها كلها قاسم مشترك يتمثل في وجود قوة غزو إسلامية على أرض الروم حيث تُشتي ([102]). وتوحي لفظة تُشتي أو مشتي بأن كل غزوات المسلمين على الروم كان لها طابع بحري أو بري وبحري في نفس الوقت وهو ما يؤدي حتما إلى تراجعها إلى أرض الروم في فصل الشتاء لصعوبة الإبحار عندما يكون الطقس غير ملائم، غير أن هذه المصادر لا تحدد مكان تراجع الغزاة المسلمين عند حلول الشتاء وتكتفي بأرض الروم. وبالرغم من افتقاد المصادر الإسلامية إلى الدقة، إلا آنه يمكن أن نستنتج من خلالها أن النشاط العسكري في خلافة معاوية كان بالأساس بحريا، لأنه وإلى جانب لفظ مشتى، يوجد في هذه المعلومات المتفرقة على امتداد أكثر من 17 سنة عبارات مثل “وغزا في البحر” أو “غزو فلان البحر” ([103]). فضلا عن هذه العبارات توجد عبارات أخرى قد تدل على أن غزوات المسلمين في خلافة معاوية كانت بحرية بالأساس مثل “صائفة عبد الله بن قيس الفزاري، أو وغزا الصائفة” ([104]). وتدقق نفس هذه المصادر البعض من هذه العبارات فتشير إلى أن الغزوة كانت بحرية وبرية في نفس الوقت ([105]).
 
بالاعتماد على هذه المصادر، يمكن أن نستنتج أن الأسطول الإسلامي لم يقلص من هجماته على بيزنطة، وإنما وسعها في أماكن متعددة من البحر المتوسط للسيطرة على جزره مما مكنه من إخضاع رودس سنة 53 هـ وأرواد سنة 54 هـ، ومزاحمة الأسطول البيزنطي في البعض الآخر من الجزر المتوسطية مثل كريت وربما جربة وصقلية ([106]). وفي هذا الصدد يمكن أن تتفق مع ما ذهب إليه M. Canard عندما ذكر أن المعرفة الجغرافية للعرب هي معرفة تخييلية ([107])، غير أن هذا لا يقلل من أهمية نشاط الأسطول الإسلامي في نقاط عديدة من البحر المتوسط أثناء خلافة معاوية.
 
تكمن أهمية ما ذكرته المصادر الإسلامية في تسمية العديد من قادة هذه الغزوات ومن أشهرهم بسر بن أبي أرطأة من عامر بن لؤي، وعبد الرحمان بن خالد بن الوليد المخزومي، وهبيرة بن مالك السكوني، وعبد الله بن قيس الفزاري، وفضالة بن عبيد الأنصاري، ويزيد بن شجرة الرهاوي، وسفيان بن عوف الأزدي، وجنادة بن أبي أمية الاُزدي. يعود أصل معظم هؤلاء القادة إلى اليمنيين الذين استقروا قديما في بلاد الشام، ولعل هذا ما خول لهم الانخراط في الثقافة البحرية منذ فترة ما قبل الإسلام مما شجع معاوية على تسليمهم قيادة الأسطول البحري الإسلامي في غزواته الأولى وذلك من أجل تأهيله لمنافسة الأسطول البيزنطي الذي كان يتمتع بتقاليد بحرية قديمة جدا.
 
تختلف المعلومات المتعلقة بالغزوات البحرية في المصادر المسيحية عن المصادر الإسلامية، إذ يذكر أقابيوس وتيوفانس عديد الهجمات التي وجهها العرب ضد البيزنطيين، وإن بدأت هذه الغزوات حسب تيوفانس في سنة العالم 6154 (1 سبتمبر 662-31 أوت 663)([108])، فقد بدأت حسب أقابيوس حوالي السنة الثانية من خلافة معاوية ([109])، ومن أبرز قادة هذه الغزوات في المصادر المسيحية، بُسر بن أبي أرطأة وفضالة ([110]).
 
خلافا للمصادر المسيحية، تمدنا المصادر الإسلامية بكثير من المعلومات عن تمرد الأرمني سابوريوس Saborios الذي طلب مساعدة العرب، وهو ما جعل معاوية يبعث إليه بجيوش يقودها فضالة، ولما كانت هذه الجيوش في طريقها لنجدته علم فضالة بوفاة سابوريوس، “فكتب إلى معاوية يساُله أن يمده بعساكر ليغزو الروم، فامر معاوية ابنه يزيد إليه واجتمعوا ووصلوا إلى خلقذوقية ([111]) فعملوا فيها وخرجوا مع سبي كثير ومتاع” ([112]).
 
تتعلق هذه التفاصيل التي توفرها المصادر المسيحية خاصة بتمرد سابوريوس Saborios وما حيك في الخفاء بين مبعوثيه ومبعوثي قسطوس الذي سيصبح إمبراطورا، ولكنها لا تشير بتاتا إلى حصار القسطنطينية ([113]).
 
أما المصادر الإسلامية، فتكتفي بالإشارة إلى أن حملة يزيد بن معاوية توغلت في أرض الروم إلى أن بلغت القسطنطينية ([114]).
 
مثل المصادر الإسلامية، لا تمدنا المصادر المسيحية-بالرغم من احتوائها على كثير من التفاصيل-بمعلومات دقيقة عن كل الحملات الإسلامية الموجهة ضد بيزنطة سواء كانت البرية منها أو البحرية، كما أنها لا تذكر بتاتا الأسطول الاسلامي غير أن الموقع الجغرافي للقسطنطينية في الحوض الأوروبي للبوسفور يحتم وجود قوة بحرية تمكن المسلمين من التنقل من خلذوقية أين يقيموا إلى القسطنطينية أين يوجد أمام باب المدينة مقاتلين انضم إليهم يزيد ([115]).
 
بالرغم من عدم وضوح المصادر الإسلامية والمسيحية فيما يتعلق بنشاط العرب البحري خلال الاثني عشر سنة الأولى من خلافة معاوية، فإن ما يوجد فيها من معلومات متفرقة وغير متسلسلة يمكننا من استنتاج أن الأسطول الإسلامي الذي تعمقت أسلمته ([116]) خلال هذه الفترة قد بلغ أوج نشاطه لأنه استطاع أن يعزل القسطنطينية عن كل قواعدها البحرية المتوسطية وعن سواحلها الآسيوية ليقطع عنها بذلك كل إمكانية للنجدة قبل حصارها خلال الست سنوات الأخيرة من خلافة معاوية.
 
لا توفر المصادر الإسلامية الأكثر شهرة (الطبري واليعقوبي وابن الأثير…) معلومات واضحة ومتسلسلة عن الحصار الذي تعرضت إليه القسطنطينية في خلافة معاوية، إذ لا تتضمن محورا بعنوان “حصار القسطنطينية”. ويمكن تفسير غياب مثل هذا المحور في هذه المصادر إلى عدم توافق طبيعته-لامتداده على عدة سنوات-مع طبيعة الحوليات التي تنتظم فيها المادة التاريخية حسب التطور الزمني للسنين (الطبري وابن الأثير) أو حسب العهود (اليعقوبي). أما في المصادر المسيحية وبالرغم من انتظام المادة التاريخية بنفس الكيفية تقريبا، فإننا نجد فيها المعلومات المتعلقة بحصار القسطنطينية أكثر وفرة ووضوحا، وبالرغم من أن أقابيوس يذكر نفس المعلومات تقريبا، فإن تيوفانس ([117]) يبدو أكثر دقة ووضوحا، إذ يذكر أن الأسطول الإسلامي الذي توجه نحو القسطنطينية منذ سنة 53-54 هـ/74-673 م، قام-من أفريل إلى سبتمبر في السنة الموالية-بمحاولات فاشلة ضد القسطنطينية، فانسحب العرب بعد ذلك إلى جزيرة سيزيكِ Cyzique أين قضوا الشتاء ليعودوا في الربيع المقبل إلى هجوماتهم ضد الروم انطلاقا من البحر. وهكذا قضى المسلمون سبع سنوات يقضون شتاءهم في سيزيك ويعاودون الحرب في الربيع وهو ما كلفهم خسائر ثقيلة جدا فقرروا العودة. ولما كانوا في الطريق تحطم أسطولهم جراء العاصفة التي أصابتهم على بمفيليا pamphilie، كما تعرضوا في طريق عودتهم إلى إحراق أسطولهم جراء النار اليونانية التي اكتشفها “لاجئ من سوريا ” يطلق عليه اسم كالينكوس ([118]).
 
يكتفي M.Canard-عند ذكره لما ورد عند كل من تيوفانس وأقابيوس حول حصار القسطنطينية-بقول أن الأول أعاد في أغلب الأحيان ما ورد عند تيوفانس، غير أن المقارنة بين ما ورد عند هذين المؤلفين يمكن أن تجعلنا نستخرج الكثير من نقاط الاختلاف لعل أهمها يتمثل في وصول الأسطول الإسلامي إلى مياه القسطنطينية-حسب تيوفانس-بدليل قضاء عناصر هذا الأسطول الشتاء في سيزيك Cyzique التي لا يمكن أن تكون إلا أرواد الذكورة في المصادر الإسلامية ([119]). أما بالنسبة إلى أقابيوس فقد توقف هذا الأسطول عند ليقيا أو لوقية Lycie أين تعرض إلى تحطيم أولي جراء استعمال النار اليونانية، ليتحطم كليا في عرض البحر عندما كان عائدا من جراء نفس الظاهرة. بالاعتماد على هذا الفرق الكبير، بين ما ورد في المصادر المسيحية، يمكن أن نستنتج أن القسطنطينية لم تتعرض بتاتا إلى حصار المسلمين لها، حسب ما ورد عند أقابيوس.
 
إثر التحطم الكلي للأسطول الإسلامي، انقلب ميزان القوى كليا على صعيد عسكري بحري لصالح البيزنطيين الذين لم يفوتوا هذه الفرصة “فجهزوا سفنهم وأبحروا حتى أتوا ساحل صور وصيدا ثم خرجوا من السفن واستولوا على جبل لبنان… وانتشروا من الجبل الجليل إلى الجبل الأسود وذلك أن قسطنطين دسهم ليشغلوا العرب عن الغزو” ([120]).
 
بهذه النهاية التراجيدية، أسدل معاوية بن أبي سفيان الستار على بعثاته البحرية، لأن تحطم أسطوله من جهة والتهديد البيزنطي لمجال حكمه من جهة ثانية، أجبراه على طلب الصلح مع الإمبراطور البيزنطي مع التزامه بدفع ضريبة سنوية تقدر بـــــــــــــ 3000 قطعة ذهب و50 عبدا و50 خيول أصيلة ([121]). وقد اختلفت المصادر في اسم الخليفة الأموي الذي أمضى الصلح مع الإمبراطور البيزنطي؛ فبينما ذكرت المصادر المسيحية أن معاوية هو من أمضى هذا الصلح قبل وفاته، ذهبت المصادر الإسلامية إلى أن هذا الإمضاء تم بعد ذلك ومن ثم فإن الذي أمضى الصلح هو يزيد وليس معاوية.
 
بموت معاوية ووصول ابنه يزيد إلى السلطة، أمر هذا الأخير عساكره المحاصرين لرودس بالعودة إلى سوريا، وبذلك انتهت الحملات الإسلامية ضد القسطنطينية وبقية المجال البيزنطي، كي لا تستعيد نشاطها إلا بعد ما يقارب الأربعين سنة أي في خلافة سليمان بن عبد الملك (97-99 هـ/715-717 م).
 
الخاتمة:
للانتهاء من موضوع معاوية والسياسة البحرية التي أرساها عندما كان واليا وطورها عندما أصبح خليفة، نعتقد آنه يجب التأكيد على فكرة أساسية تتعلق بشخصية معاوية بن أبي سفيان وتصوره لأهمية استراتيجية السياسة البحرية.
 
عندما قدم معاوية من الحجاز إلى الشام لم تكن لديه معرفة مسبقة عن أهمية البحر المتوسط بالنسبة إلى الحضارات السابقة، هذه المعرفة التي لم يكتسبها-على ما يبدو-إلا عن طريق غزواته المتعددة على الساحل السوري (حصار قيصرية وطرابلس)، وتواصله الذي لم ينقطع بسكان السواحل. بهذه الطريقة أمكن لمعاوية التعرف على أهمية السياسة البحرية بالنسبة إلى العرب من أجل منافسة الأسطول البيزنطي الذي كانت له السيادة المطلقة على البحر المتوسط في ذلك الزمن.
 
كي يتسنى له تحقيق هذا الهدف الطموح لم يكن بإمكان معاوية الانتظار إلى أن يجهز العرب من أجل البدء في هذا العمل مثلما كان يريده -ربما-عمر بن الخطاب. ولهذا لم يتردد معاوية-بحكم براغماتيته-في استغلال كل الإمكانيات البشرية والمادية الموروثة عن البيزنطيين الذين فروا إلى الشمال، كما حرص في نفس الوقت على تكوين رجاله في الميدان البحري. على هذا الأساس يمكن القول أن معاوية كان رجل الميدان الحقيقي الذي تعلم لينفذ مع إعطاء الأهمية اللازمة لتعريب الإرث البيزنطي وأسلمته. وفي هذا الصدد لا يجب التغاضي عن الحظ الذي لازم معاوية فمكنه من تصور العمل العسكري البحري وتجسيده على اُرض الواقع. لقد كان معاوية الشخص الوحيد الذي ظل واليا على نفس الولاية لمدة عشرين سنة، وخليفة على المسلمين لنفس المدة في مركز لسلطة الخلافة هو نفس مركز سلطة الولاية؛ إن هذا العهد الطويل للحكم هو الذي خول لمعاوية التصور الأكثر وضوحا وتسلسلا للسياسة العامة لبلاد الشام.
 
لم يكن معاوية إذن رجلا ذكيا فقط، وإنما كان أيضا رجلا محظوظا، إذ أزاح طاعون عمواس سنة 18 هـ/ 639 م من أمامه رجلين كان بإمكانهما لو ظلا حيان أن لا يتركا لمعاوية الفرصة لفعل كل ما فعله. هذان الرجلان هما أبو عبيدة بن الجراح جنرال المسلمين الأول على حد تعبير. H. Lammens، ويزيد بن أبي سفيان أخو معاوية الأكبر. إذا أزاح طاعون عمواس من أمام معاوية رجلين من ذوي الخصال السياسية المرموقة، فإن عمر بن الخطاب أبعد عنه خالد بن الوليد الذي كان بالإمكان أن يكون منافسا من الحجم الثقيل لمعاوية. وكان عمرو بن العاص الشخصية الرابعة التي كان بالإمكان أن تضايق معاوية في تصور عمله البحري لولا انتقاله إلى مصر وتعويضه بعبد الله بن سعد بن أبي سرح من قبل عثمان بن عفان. وقد أبدى والي مصر الجديد هذا الكثير من التعاون مع معاوية لتحقيق مشروعه البحري.
 
وعندما أصبح معاوية خليفة، فهِم اُن سيطرة العرب المسلمين على البحر المتوسط لا يمكن أن تحدث إلا بالقضاء الكلي على الأسطول البيزنطي والاستيلاء على القسطنطينية، ولتحقيق مثل هذا المشروع الطموح، كان لا بد من اتباع مسار طويل الأمد، بدأ بسيطرة المسلمين بقيادة معاوية على أغلب القواعد البحرية للبيزنطيين ليمكنهم بعد ذلك حصار القسطنطينية. وعندما حاصر الأسطول الإسلامي العاصمة البيزنطية وكانت على وشك الاستسلام، اكتشف البيزنطيون النار البيزنطية التي مكنهم استعمالها من القضاء كليا على الأسطول وكل ما قام به من إنجازات في البحر المتوسط. لقد تزامن اكتشاف النار اليونانية التي قضت على كل نجاحات المسلمين في البحر المتوسط مع نهاية عهد معاوية الذي اجبر على إمضاء الصلح مع البيزنطيين قبل موته ببضعة أشهر.
 
بموت معاوية وإمضاء معاهدة الصلح بين المسلمين والبيزنطيين، ستتوقف سياسة العرب البحرية تماما إلى عهد سليمان بن عبد الملك في نهاية القرن الأول للهجرة الذي وقع خلاله إرساء هذه السياسة من جديد.
 
لقد كانت إذن سياسة معاوية البحرية هي التي حققت انتصارات المسلمين في البحر، وكان اكتشاف النار اليونانية هو الذي دمر القوة البحرية للمسلمين التي أنشأوها طيلة عهد معاوية، وبذلك أسدل الستار على هذا الإنجاز البحري العظيم
 
[1] هشام جعيط، الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر، دار الطليعة، بيروت، 2007، الطبعة الرابعة، ص. 52 و53.
 
[2] M. T. Mansouri, “Le Maghreb medieval, perceptions et representaions”, Faculté des Lettres et Sciences Humaines et Maisonneuve et Larose, Paris, Tunis, 2002, p. 14.
 
[3] انظر البلاذري، فتوح البلدان،، تحقيق عبد الله وعمر أنيس الطباع، بيروت، 1987، ص. 192 وما يليها. الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تقديم ومراجعة صدقي جميل العطار، دار الفكر، 2002، ج. 4، ص. 265. اليعقوبي، تاريخ، ج. 2، ص. 172.
 
[4]Théophanes, The chronicle of Théophanes, édition Harry Turthedove, Philadelphia, 1982, p. 41.
 
البلاذري، م.م. ص. 173.
 
[5] الطبري، م.م، ج. 5، من ص. 96 إلى ص. 99.
 
[6] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، بيروت، 1965، ج. 3، ص. 95. المقريزي، الخطط المقريزية، تحقيق زهير حمدان، دمشق، 1987، ج. 4، ص. 439 و. 440.
 
[7] الطبري، م. م. ج. 5، ص. 96.
 
[8] نفس المصدر، ج. 5، ص. 96 و97.
 
[9] نفس المصدر، ج. 5، ص. 97.
 
[10] لم تتعرض المصادر المسيحية بتاتا لمثل هذا الخبر.
 
[11] G. F Hourani, Arab seafaring in the Ocean in ancient and early medieval times, Beyrouth, 1908, p. 55.
 
[12]ذكر المؤلف في هذه الصفحة من الكتاب المذكور: لم يكن العرب أمة لم تعرف النشاط البحري بتاتاً، وإنما كانوا يفتقدون ربما إلى الخبرة وعدد السفن الكافي لمواجهة الأسطول البيزنطي.
 
الطبري، م.م.ج. 5، ص. 97. السيوطي، تاريخ الخلفاء، تحقيق رحاب خضر العكاوي، بيروت، 1992، ص. 202.
 
[13] المقريزي، الخطط، م.م، ج. 4، ص. 11 و12. الكتاني، نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية، بيروت، د.ت، ص. 270.
 
[14] ابن عبد الحكم، فتوح مصر وأخبارها، حققه وقدم له عبد الله أنيس الطباع، بيروت، 1964، ص. 163 و164. اليعقوبي، م.م. ج. 2، ص. 177.
 
[15] اليعقوبي، م.م.، ج. 2، ص. 179. الطبري، م.م.، ج. 5، ص. 271. انظر أيضاً:
 
A. M. Fahmy, Muslim sea power power in the Eastern Mediterranean from seventh to the tenth century A. D., Cairo, 1966, p. 74- 75.
 
[16] اليعقوبي، م.م.، ج. 2، ص. 183 و184.
 
[17] البلاذري، م.م.، ص. 311.
 
[18] ابن عبد الحكم، م.م.، ص. 175: وهو ما يؤكد أن الغزو في البحر لم يكن أمراً غريباً على عمرو بن العاص.
 
[19] M. A. Fahmy, op. cit., p. 16 et 17.
 
[20] الكتاني، تراتيب، م.م.، ص. 273 أين يذكر أن الخليفة عثمان كان يملك سفنا للتجارة.
 
[21] ابن خياط، تاريخ، تحقيق ح. فواز، بيروت، 1989، ص. 92. البلاذري، م.م.، ص. 208. قدامة بن جعفر، كتاب الخراج وصناعة الكتابة، تحقيق م. ج. الزبيدي، دار الرشيد، بغداد، 1981، ص. 306. ابن أعثم الكوفي، فتوح، دار المعارف العثمانية، حيدر آباد، بيروت، د.ت.، ج. 2، ص. 118.
 
[22] البلاذري، م.م.، ص229.
 
[23] الطبري، تاريخ، م.م.، ج. 5، ص. 97. ابن الأثير، الكامل، م.م.، ج. 3، ص. 96.
 
[24] نفس المصدر، ج. 5، ص. 97. البلاذري، م.م.، ص. 208. السيوطي، م. م.، ص. 202.
 
[25] The chronicle of Théophanes, op. cit., p. 43.
 
[26] Lammens, Etudes sur le règne du calife Omayade Mu’awia 1er, Extrait des MéLanges de la Faculté Orientale de l’Université Saint Joseph, Beyrouth, 1908, p. 270.
 
[27] أ. عبادي وس. ع. سالم تاريخ البحرية الإسلامية في البحر الأبيض المتوسط: البحرية الإسلامية في مصر والشام، الإسكندرية، 1981، ص. 15.
 
[28] M. A. Beg, “The reign of Muawiya: a critical survey”, in Islamic Culture, vol. Li, nº 2, Avril 1977, p. 94.
 
[29] A. M. Fahmy, op. cit., p. 78.
 
[30] ح. مؤنس، “أثر ظهور الإسلام في العودة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البحر الأبيض المتوسط”، المجلة التاريخية المصرية، الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، القاهرة، 1951، ص. 77.
 
[31] نفس المرجع، ص. 77.
 
[32] G. F. Hourani, op. cit., p. 55.
 
[33] البلاذري، م.م.، ص. 160 و161.
 
[34] المقصود بهم عرب الشمال الذين استقروا قديماً ببلاد الشام وتأثروا بالحضارة البيزنطية بعمق.
 
[35] ح. مؤنس، م.م.، ص. 71- 72 و73.
 
[36] ابن الأثير، أسد الغابة في معرفة الصحابة، بيروت، د.ت.، ج. 5، ص. 216.
 
[37] نفس المصدر، ص. 72.
 
[38] الطبري، م.م.، ج. 5، ص. 96 و97.
 
[39] البلاذري، فتوح، م.م.، ص. 208.
 
[40] نفس المصدر، ص. 208.
 
[41] تاريخ الطبري، ج. 5، ص. 98.
 
[42] نفس المصدر، ج. 5، ص. 133.
 
[43] البلاذري، م.م.، ص. 209.
 
[44] قدامة بن جعفر، م.م.، ص. 306.
 
[45] Agapius de Menbidj, Kitab al-Unwa Unwa Histoire Universelle, éditée et traduite en Français par A. Vasiliev, Patrologie Orientale, T. VIII, Fascicule 3, 1912, p. 480.
 
[46] The chronicle of Théophanes, op. Cit. p. 43.
 
[47] A. M. Fahmy, op. cit., p. 80.
 
[48] البلاذري، فتوح، م.م.، ص. 208. ابن أعثم الكوفي، م.م.، ج. 2، ص. 118.
 
[49] قذامة بن جعفر، م.م.، ص. 290.
 
[50] ابن خرداذبة، المسالك والممالك، تحقيق دي خويه، ليدن، بريل، 1989، ص. 255.
 
[51] نفس المصدر، ص. 255.
 
[52] ابن حوقل، صورة الأرض، منشورات دار الحياة، بيروت، د.ت.، ص. 184.
 
[53] ابن خرداذبة، م.م.، ص. 255.
 
[54] Agapius de Menbij, op. cit. p. 480; The chronicle of Théophanes, op. cit. p. 41.
 
[55] ابن أعثم الكوفي، م.م.، ج. 2، ص. 118.
 
[56] ابن أعثم الكوفي، م.م.، ج. 2، ص. 118.
 
[57] عبادي وسالم، م.م.، ص. 21.
 
[58] حسين مؤنس، “أثر ظهور…”، م.م.، ص. 77.
 
[59] الطبري، م.م.، ج. 5، ص. 96. ابن الأثير، م.م.، ج. 3، ص. 95.
 
[60] ابن أعثم الكوفي، م.م.، ج. 2، ص. 122.
 
[61] ابن خياط، م.م.، ص. 92. قدامة بن جعفر، م.م.، ص. 306.
 
[62] الطبري، م.م.، ج. 5، ص. 97.
 
[63] ابن الأثير، م.م.، ج. 3، ص. 96.
 
[64] ابن أعثم الكوفي، م.م.، ج. 2، ص. 118.
 
[65] نفس المصدر، ج. 2، ص. 118.
 
[66] البلاذري، م.م.، ص. 208. الطبري، م.م.، ج. 5، ص. 98. ابن أعثم الكوفي، م.م.، ج. 2، ص. 119. قدامة بن جعفر، م.م.، ص. 306.
 
[67] A. M. Fahmy, op. cit., p. 82.
 
[68] البلاذري، م.م.ص. 329 و330. الطبري، م.م.، ج. 6، ص. 145 و148.
 
[69] انظر الخريطة التي أنجزها ح. مؤنس في “أثر ظهور الإسلام…”، م.م.، ص. 176.
 
[70] Agapius de Menbidj, op. cit., p. 480.
 
[71] The chronicle of Théophans, op. cit., p. 43.
 
[72] Agapius de Menbidj, op. cit, p. 481.
 
[73] The chronicle of Théophans, op. cit., p. 43.
 
[74] A. M. Fahmy, op. cit., p. 83.
 
[75] ابن الأثير، م.م.، ج. 3، ص. 137.
 
[76] Agapius de Menbidj, op. cit., p. 482; The chronicle of Théophanes, op. cit., p. 44.
 
[77]أما أ.م. فهمي فيذكر أن نهب المسلمين قد طال عديد الجزر المتوسطية حتى جزيرة كريت. انظر:
 
A. M. Fahmy, op. cit. p. 48.
 
البلاذري، م.م.، ص. 330. الطبري، م.م.، ج. 6، ص. 145
 
[78] نفس المصدر، ص. 330.
 
[79] نفس المصدر، ص. 330. الطبري، م.م. ج. 6، ص. 148.
 
[80] M. Canard, “Les expeditions des Arabes contre Constantinople dans l’histoire et la légende”, Cahiers de Tunisie, T. XXVII, nº 109, 1979, p. 413.
 
[81] Agapius de Menbij, op. cit., p. 483- 484; The chronicle of Théophanes, p. 45; A. M. Fahmy, op. cit., p. 85.
 
[82] Agapius de Menbij, op. cit., p. 483.
 
[83] البلاذري، م.م.، ص. 221.
 
[84] الطبري، م.م.، ج. 5، ص. 15. الكندي، ولاة مصر، تحقيق ح. نصار، دار صادر، بيروت، 1959، ص. 36. ابن الأثير، م.م.، ج. 3، ص. 117. المقريزي، م.م.، ج. 4، ص. 16 و17.
 
[85] Bosworht (C. E.), “Dhat- al- Sawari”, in E. I., supplement, 3- 4, Nouvelle edition, Paris, Leiden, 1993, p. 221.
 
[86] الكندي، م.م.، ص. 37.
 
[87] الطبري، م.م.، ج. 5، ص. 116.
 
[88] Agapius de Menbij, op. cit., p. 4;484 The chronicle of Théophanes, op. cit. p. 45 M. Canard, loc. Cit. p. 339.
 
[89] Stratos, “The navale engagement at Phoenix”, cite par V. Christides, in “The navale engagement of dhat as-Sawari”, in Byzantion, T. 13, 1985, p. 1331.
 
[90] M. Lombard, “Arsenaux et bois de marine dans la Méditerranée musulamane”, in Espace et Réseaux du haut moyen- âge, Paris, 1972, cite par Christides, Ioc. Cit., p. 1331.
 
[91] V. Christides, loc. Cit., p. 1332.
 
[92] Agapius de Menbij, op. cit., p. 484; The chronicle of Théophanes, op. cit., p. 45.
 
[93] الطبري، م.م.، ج. 5، ص. 116. ابن الأثير، م.م.، ج. 3، ص. 118.
 
[94] الكندي، م.م.، ص. 36. المقريزي، م.م.، ج. 4، ص. 16.
 
[95] G. F. Hourani, Arab seafaring, op. cit. p. 57.
 
[96] V. Christides, loc. Cit., p. 1336.
 
[97] الطبري، م.م.، ج. 5، ص. 116.
 
[98] ابن الأثير، م.م.، ج. 3، ص. 117.
 
[99] الكندي، م.م.، ص. 36. المقريزي، م.م.، ج. 4، ص. 16.
 
[100] A. M. Fahmy, op. cit., p. 89.
 
أين ذكر في الهامش 2 من هذه الصفحة كل المصادر التي تعرضت إلى هذا الصلح وخاصة اليعقوبي الذي أشار إلى أن معاوية كان أول من عقد صلحا مع البيزنطيين سنة 42هـ/ 3- 662م لكن أ.م. فهمي يقدم هذا التاريخ إلى سنة 38هـ/ 9- 658م لأنه يعتقد أنه الأنسب لمعاوية من أجل بناء سلطته. انظر أيضاً:
 
The chronicle of Théophanes, op. cit., p. 46.
 
[101] الطبري، م.م.، ج. 6، ص. 84. اليعقوبي، م.م.، ج. 2، ص. 285 و286.
 
[102] نفس المصدر، ج. 6، ص. 84؛ 102؛ 109؛ 111؛ 124؛ 145؛ 148؛ 151؛ 152 و156. ابن الأثير، م.م.، ج. 3، ص. 424؛ 425؛ 440 و453.
 
[103] الطبري، م.م.، ج. 6، ص. 102؛ 111؛ 112؛ 145؛ 148؛ 152 و156.
 
[104] الطبري، م.م.، ج. 6، ص. 111- 112 و145. ابن الأثير، م.م.، ج. 3، ص. 457- 458 و472.
 
[105] نفس المصدر، ج. 6، ص. 111 و152. ابن الأثير، م.م.، ج. 3، ص. 503: وقيل غزا فيها (سنة 56) في البحر يزيد بن شجرة الرهاوي.
 
[106] الطبري، م.م.، ج. 6، ص. 111. ابن الأثير، م.م.، ج. 6، ص. 330.
 
[107] M. Canard, loc. Cit., p. 413.
 
[108] The chronicle of Théophanes, op. cit., p. 45.
 
[109] Agapius de Menbij, op. cit., p. 487.
 
[110] The chronicle of Théphanes, op. cit., p. 48- 50- 51 et 52.
 
[111]ويذكر تيوفانس أيضاً قائداً آخر اسمه عبد الله بن قيس الذي شتى مع فضالة خلال سنة العالم 6166 (1 سبتمبر 674- 31 أوت 675)، ص. 53.
 
Agapius de Menbij, op. cit., p. 487- 489 et 491.
 
تقع على الحوض الآسيوي من البوسفور انظر:
 
Encyclopedia Universalis, Corpus 5, Paris, 1990, p. 301.
 
[112] Agapius de Menbij, op. cit., p. 489. The chronicle of Théophanes, p. 50.
 
[113] M. Canard, loc. Cit. p. 403.
 
[114] الطبري، م.م.، ج. 6، ص. 112، ابن الأثير، م.م.، ج. 3، ص. 459. أما اليعقوبي فلا يذكر غزوة بزبد وإنما يذكر أن فضالة انتصر سنة
 
[115] M. Canard, loc. Cit. p. 404.
 
[116] المقصود بهذه العبارة هو أن الأسطول الإسلامي أثناء خلافة معاوية سيصبح مؤسسة عسكرية للدولة الأموية لأنه سيتكون منذ ذلك الزمن من المسلمين أو من حلفائهم من أهل الذمة الخاضعين للدولة الإسلامية.
 
[117] The Chronicle of Théophanes, op. cit., p. 52- 53.
 
[118] ذكر أقابيوس نفس الأحداث مع اختلاف طفيف تمثل في أن العرب انطلقوا خلال هذه الغزوات من لوقية، فاعترضهم الروم وقتلوا منهم 3000 رجل، فتراجع العرب إلى سفنهم للفرار، ولكن رومي لحق بهم وألقى النار بسفنهم فاحترقت: Agapius de Menbij, op. cit., p. 492
 
[119] M. Canard, Loc. Cit., p. 413.
 
[120] The Chronicle of Théophanes, op. cit., p. 53; Agapius de Menbij, op. cit., p. 492.
 
[121] The Chronicle of Théophanes, p..,. 53; A. M. Fahmy, op. cit., p. 95.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!