كتاب شمس تبريزي إبريق من الخمرة الإلهية

كتاب شمس تبريزي إبريق من الخمرة الإلهية

شمس تبريزي
إبريق من الخمرة الإلهية
بقلم: خالد محمد عبده

 
حينما سُئل مولانا جلال الدين الرّومي ما التّصوف؟ أجاب : هو إحساسُ القلبِ بالسّعادة حينما يقتربُ وقتُ الحُزنِ! وفي يوم آخر قال مولانا: إن أراد الله أن يعاوننا جعلنا نميل إلى الحزن والشجن.. ومن هنا بدأ الناي يصدر صوتًا منذ لحظة لقاء الرومي بشمس تبريزي ولم يتوقف بعدها أبدًا!
من هو شمس تبريزي؟ وما هي قصّته مع الرومي؟ ولماذا فُتن الرومي بهذه الشخصية الغريبة؟ وهل هو متمرد على شريعة الإسلام ولا يعتّد بها؟ وهل هو رمز المعشوق؟ وهل هو أهم وأقوى من الرومي؟ هل سبب قربه من الرومي غيرة وحسد المريدين؟ هل كانت لديه عدوات مع أحد؟ هل فعلا انتهت حياة شمس بقتله على يد واحد من عائلة مولانا؟ هل غاب أو احتجب عن الظهور؟ لماذا نجد أكثر من شاهد ومقام لشمس تبريزي في الهند وتركيا وإيران؟ هل هناك أكثر من شخصية تشترك في هذا الاسم؟
أسئلة كثيرة يمكن أن تتداعى إلى أذهاننا ونحن نقرأ بعض كلمات لشمس أو بعض عبارات تصف هذه الشخصية الغامضة، كانت هذه الأسئلة وغيرها سببًا للبحث عن هذه الشخصية ومحاولة التعرّف عليها من باب غير باب الرواية والخيال، باب يقترب منها أكثر ويحاول ألا يقع في فخ: “وصفوه ولم يره أحد”. فرُحتُ أفتّش في بطون الكتب عما قيل عن شمس فوجدت الكثير من الأقوال المتضاربة عنه، مرة يصفه أحدهم بالغامض ومرة بالفجّ ومرة بالصادق ومرة تتنازعه المذاهب كما تنازعت الدول على نسبة الرومي إليها. كلّ شخصية بارزة في التاريخ نعرف أن الجميع يحبّ أن تكون تابعة لمذهبه أو بلده، وإن كانت الشخصية لا تؤمن بحدود الأرض وترتفع بروحها أعلى من السماوات السبع.


ارتبط اسم شمس تبريزي عربيًّا برواية قواعد العشق التي ذاع صيتها، وأضحى شمس معروفًا لدى القراء أكثر من الرومي، ولأن أغلب المعلومات عن شمس –إن لم تكن جميعها- كانت معتمدة على الرواية فأصبح الكل يبحث عن كتابات شمس، فإن لم يجد نسب إليه ما لم يقله، وقطع بنسبة الكلام إليه دون تحقق أو تدقيق، ومن هنا ذاعت كلمات لا علاقة لها بالتصوف أو العشق الصوفي على لسان شمس، هي بعيدة عن كونها معبرة عن رؤيته للتصوف أو مقتربة من تجربته الحقيقية.
مسلك القرّاء المحبّين لهذا اللون من الكتابة كان معبّرًا عن عطش الناس إلى خطاب ديني جديد، بعيد عما ألفوه وملّوا منه، عن إنهاك الروح التي أزعجها الوعّاظ ولم يعوا مطالبها بعد، عن حاجة القلوب لفقهٍ يزكّي ويحسّن الصلة بالله، إلاّ أن ردود الأفعال كانت بعيدة عن المعرفة أيضًا، فلا يعبأ المدرسون في الجامعات والمتخرّجون فيها بتأصيل الفكرة أو البحث عنها في مظانها! ولأن شخصية الرومي وشمس وتراثهما كان سببًا لتعرّفي وآخرين على وجه جمالي ومشرق في الإسلام رأيت أن خدمة هذه المسألة واجبة، والاهتمام بها يتمم جزء من عمل أخذت على عاتقي الاستمرار فيه، وهو الاهتمام بنشر معرفة عربية تليق بالقارئ وبالتصوف الفارسي الذي اضطلعت المدرسة المصرية منذ قرن خلا بمهمة نشره ودراسته والاستفادة من دروسه. فكيف السبيل إلى تحقيق هذه المهمة التعريفية.
بعد بحث طويل عما كُتب بالعربية عن الرومي أو شمس، لم أجد شيئًا مكتوبًا عن شمس، كُتب الكثير عن الرومي، لكن شمسًا لم يخصص أحدهم دراسة عن شخصه أو مقالاته، وكان من خلال متابعتي للأدبيات الإسماعيلية أن طالعت مادة عن شمس، فتتبعت المصادر التي بدأت بنسبة شخصه إلى المذهب الإسماعيلي وماذا قالت عنه، محاولة مني للتعرّف على صورته، وسواء أكانت المصادر الإسماعيلية قديمة أو حديثة كانت تؤكد على مذهبية شمس، لكنها لا تستند إلى وثائق تاريخية تدعم رأيها، كذلك الشأن في المصادر الشيعية، أما المصادر الأقرب المعاصرة للرومي أو التي كُتبت بعد وفاته بفترة وجيزة لا تقدّم الكثير من المعلومات حول هذه الشخصية، وإن قدّمت جزءًا من كلماته ومواعظه ومعارفه، كما هو شأن كتاب أحمد الأفلاكي مناقب العارفين.

تناولت المصادر التاريخية شمسًا كشخصية من الشخصيات التي اقتربت منه، لم تر شمسًا كما رآه الرومي، لذا لا نعثر إلا على القليل من المعلومات عنه، ويبقى السبيل الأوحد للاقتراب من معرفته هو الإبحار في كتابه المقالات، إلاّ أن هذا الكتاب المدوّن بالفارسية لم ينقل بعد إلى اللغة العربية، وغاية ما نحظى به في العربية بعض فقرات منه، يتحدث شمسٌ في هذه المقاطع عن طفولته وصباه، وعن التحاقه بالطريق الصوفي، وعن بحثه عن شخص يكون مرآة له ويصبح صنوه بالفعل، ومقاطع أخرى تتحدث عن شيوخ مرّوا في حياته أو قرأ لهم أو تعرّف على أقوالهم من خلال تعامله مع دوائر الصوفية في مدينته تبريز([1]) التي ولد فيها، أو في المدائن الأخرى التي مرّ بها في رحلاته وسياحاته.

كانت هذه الأقوال متناثرة في المراجع التي طالعتها عن الرومي، وتأكّد لي أن جميعها تعود إلى كتابه المقالات، بعد مطالعتي لأكثر من مصدر قديم يكرر هذه الأقوال بصور شتى، ففي كتاب فيه ما فيه لمولانا جلال الدين الرومي نصوص مروية عن شمس بالمعنى تؤكد هذه النسبة، وفي كتاب يؤرخ للطريقة المولوية([2]) بعض فقرات من كلام شمس تؤكد نسبة المرويات إليه. قمت بجمع هذه الشذرات في القسم الثاني من الكتاب، وترتيبها حسب فهمي لها، وإذا كان ثمة تعليق على فكرة أو شخصية ورد الحديث عنها في هذه المواد قدّمت ما يفيد القارئ في متابعة الفكرة وأحلته على المصادر والمراجع التي يتمكن عند مطالعتها من التعرّف بصورة أوسع وأوضح. أما القسم الأول من الكتاب فقد حاولت فيه تقديم صورة أقرب للحقيقة عن شمس تبريزي متتبعًا ما ورد في المصادر والمراجع التي تعين على ذلك. ويأتي القسم الأخير من الكتاب ترجمة لكلمات وعظات شمس تبريزي التي أوردها الأفلاكي([3]) في كتابه مناقب العارفين، الذي يعدّ موسوعة كاملة للتعرّف على الرومي وشخصيات التصوف المولوي، جاءت هذه الترجمة اعتمادًا على النسخة الفرنسية من كتاب الأفلاكي مقارنة بينها وبين الأصل الفارسي، وقد تحملت أعباء هذه الترجمة الأستاذة عائشة موماد من المملكة المغربية، التي شاطرتني محبة مولانا جلال الدين الرومي بحقّ، وعملنا سوية على تقديم بعض المعارف المتواضعة عنه([4])، حتى تكون هناك ثمرة حقيقية لدروس مولانا جلال الدين الرومي التي أفادتنا وأنارت لنا الطريق.

وأخيرًا هذه محاولة أولى للتعريف بشمس تبريزي وتقديم شذرات من أقواله النورانية، عسى أن تكون محفّزة للباحثين والدارسين أن يقدّموا ما هو أفضل منها لدراسة هذه الشخصية العظيمة التي تستحق الكثير من العناية والبحث.

 الهوامش 

 

([1]): تقول الأسطورة إن مدينة تبريز بها مكان يُسمى جبل الأولياء، تظهر فيه أرواح الأولياء ليلاً فتشكل مجموعتين من الحمام الأخضر والأحمر، تطيران إلى مكة لتطوف حول الكعبة، وببركة هؤلاء يسعد الناس في ذلك المكان. ويصف مولانا جلال الدين الرومي تبريز بأنها (مقامٌ من قبوره يستنشقُ أربابُ العشق أنسامًا باعثة للحياة. لكن بايزيد البسطامي يرى المدينة في صورة أخرى؛ ربما لأنه طاف حول الإنسان أكثر وخبر المدائن والرجال، فأهل تبريز عنده غير ميالين إلى أهل الحق وينكرون الحكماء لذلك حذّر بعض تلاميذه من هذه المدينة.. ولعل هذا كان سببًا لحضور شخصية بايزيد في أول حوار بين الرومي وشمس.. وفي نقد شمس لبعض أقواله في كتاب المقالات

من بين ما أخذني أكثر وأنا أقرأ عن هذا السحر الحلال ما رواه عين القضاة الهمذاني –وهو صوفي على خطى الحلاج- عن أحد شيوخه في تبريز الذي لم يكن يحفظ الكثير من القرآن، لكنه يتمثّله في حياته ويعرف أسرار الكتاب الحكيم، وما تعلمه الهمذاني عن القرآن كله يعود إلى ذلك الشيخ، ولا يعود إلى كتب التفاسير! رواياتٌ عدّة تُذكر، تتحدث عن صوفية كرام، لم يدونوا مؤلفات ودفاتر، آثارهم التي تدلّ عليهم كانت أرفع من ذلك، حقّقوا الإنسان حقًّا من بعدهم ، كل هذه الروايات تجعلنا في توق للقاء أمثال هؤلاء. وقد صدق مولانا حينما قال: ليس دفتر الصوفي هو السواد والحرف، فما هو إلا قلب أبيض كالثلج!

([2]) الإشارة إلى كتاب الشيخ أحمد كوسج دده “التحفة البهية في الطريقة المولوية” وقد قمتُ بتحقيقه ونشره ضمن أعمال كتاب جلال الدين الرومي والمولوية العربية، بيروت 2017.

([3]) اشتهرَ الأفلاكي بكتابه مناقب العارفين، وهو الكتاب السِيَرِي الأكثر طولاً وتفصيلاً في كل ما يتعلق بسيرة الرُّومي وآبائه الروحيين وتلاميذه ومريديه، ورغم أنه يقدِّم معلومات مُفصَّلة عن أشياء كثيرة في كتابه، إلا أنَّ الأفلاكي تظل جوانب كثيرة من حياته غير معروفة عند المحقِّقين والمؤرِّخين؛ فحسب ثاقب دده نعرف أنَّ اسم الأفلاكي أحمد آهي ناطور، تتلمذ على يد بدر الدين تبريزي، وله سياحات ورحلات قطعها في سبيل تحصيل العلم، ويُقال إنَّ أباه كان يروي مناقب بهاء الدين ولد سلطان العلماء ووالد حضرة مَوْلَانا جلال الدين. بدأ الأفلاكي في كتابة المناقب في قونية في العام718هـ/1318م، واستمرَّ في تنقيح الكتاب وتوسيعه فترة طويلة؛ لذا تُوْجَد من الكتاب أكثر من نسخة، يعثُر قارئها على تعديلات كثيرة، وكما أُهملت المعلومات عن حياته -وكأنه كان نسيًا منسيًّا- فلم يبرز اسمه على نسخ مناقب العارفين. راجع: فرانكلين د.لويس، الرُّومي ماضيًا وحاضرًا شرقًا وغربًا – حياة جلال الدين الرُّومي وتعاليمه وشعره، ترجمة عيسى علي العاكوب، نشرة وزارة الثقافة، دمشق، 2010م، ص:492-512.

([4]) كان من ثمار هذا التعاون المشترك صدور كتاب: الرومي بين الشرق والغرب، طُبع مرتين في القاهرة 2016، 2017، ورباعيات مولانا جلال الدين الرومي، صدر في بيروت 2017، ويصدر حديثًا في مركز المحروسة جزء جديد من رباعيات مولانا، ترجمة عائشة موماد.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!