التجربة الباطنيّة ورمزيّة الوجود

التجربة الباطنيّة ورمزيّة الوجود

التجربة الجمالية للتصوير في الفن الإسلامي

التجربة الباطنية ورمزية الوجود

بقلم: د. حميد حمّادي

– 1 –

إن الولوج إلى عالم التصوير في الفن العربي الإسلامي يدفع إلى هاجس البحث في تشكيلة وخلفية العمل الفني وضرورة فهم البعد الجمالي في علاقته برمزيته الروحية، لكن ذلك يتطلب تحرير هذا الهاجس في البحث في حد ذاته من جملة عوائق بعضها متعلق بالفهم التاريخي، وبعضها الآخر نتيجة بعض الدراسات التي انطلقت من أحكام مسبقة حول مكانة الفن في الثقافة الدينية الإسلامية، أسست عليها الكثير من الدراسات الاستشراقية موقفاً سلبيًّا من مفهوم التصوير، ثم عوائق تعود إلى حجم الهوة التي ما فتئت تتسع بين واقع الفنون التصويرية في المجتمعات العربية الإسلامية وممارسة ودراسة نظرية والأساليب الأصيلة للتصوير في الفن الإسلامي، كما تجلّت في روائع الخط والمنمنمات والزخرفة، وكأن الذوق العربي الإسلامي السائد -كما يلاحظ أحد الفنانين العرب- «قد نسي الفن الإسلامي في مبادئه وصفاته وأسمائه».

ولعل غياب التأصيل الفلسفي للتصوير في الفن الإسلامي في منطلقاته وأسلوبه، في مبادئه ومقاصده، عمّق هذه العوائق. إن غياب هذا التأصيل يكشف عن ذاته، من جهة في تناول تقنيات التصوير العربي الإسلامي ومناقشتها ضمن فضاء مفهوم التصوير في الفنون التشكيلية كما كشفت عنه فلسفة عصر النهضة من خلال تصور المحاكاة، أو في مقارنته بأساليب التجريد في الفن الغربي المعاصر كما ظهرت عند (بول كليه Paul Klee) أو (كاندسكي).

إن مطلب التحرر النهائي من العائق التاريخي، الذي يبدو أن الكثير من الدراسات الاستشراقية استثمرت في رمزيته، يصبح أكثر من ضرورة، وهذا لا يتم إلّا بإعادة صياغة الإشكال في صيغته الفلسفية – المعرفية، من السؤال التقليدي الذي ما فتئ يتكرر في تلك الدراسات: هل موقع الممارسة الفنية والجمالية في الإسلام مؤسس على تحريم مفترض للتصوير، وبالتالي يمكن النظر إليه وكأنه محاولة للهروب من جوهر التصوير، أسلوب في التحايل والتشويه؟ إلى سؤال أكثر علاقة، في اعتقادنا، بالأصول والمقاصد الأصيلة لفن التصوير في الحضارة العربية – الإسلامية: ما هو مدلول البنية الرمزية لتقنيات التصوير في هدا الفن؟ وما هي علاقتها برمزية الوجود في الفلسفة الروحية الإسلامية؟

ولا يتم هذا الانتقال بمعناه الفلسفي، ويحوز على مقصده المعرفي، إلّا بالحسم في جملة مسائل كانت ولازالت خلف تلك العوائق:

أولاً: أنه أصبح من البديهي التأكيد على أن التحريم المفترض لم يكن قطعيًّا، بل تأسّس على منع خاصة التماهي، وأنه أصبح جليًّا في أغلب الدراسات الجادة أن الأصل الواضح والمشترك لكل تلك النصوص التي تم تداولها بين المفسرين وتم الاختلاف في جوهرها ومقاصدها الفلسفية، هو منع تجسيد الكائن الحي، ثم إنها كانت موجّهة في مقصدها المبدئي إلى محاربة كل أشكال الوثنية القائمة على مبدأ التجسيد الحسي للرموز، وليس للظاهرة الجمالية في حد ذاتها

وحسب تعبير المستشرق (بابا دوبولا) يجب أن نفهم أن هذا الإصرار على التحريم عند كبار المحدثين هو الحاجة (الفلسفية) في تلك الحقبة إلى الصفاء والتجريد، أَوَلَم يكن هذا التجريد وهذا الصفاء من المقومات (الأنطولوجية) للفلسفة الروحية في الإسلام وفي اللحظة ذاتها أسلوباً في التصوير العربي الإسلامي الذي نهض وازدهر في أواخر العصر الأموي والعباسي؟

يقول تيتوس بروكهارت Titus Burckhardt في إشارة إلى عمق هذه العلاقة بين أسلوبية الفن الإسلامي وبين العقيدة الدينية: «إن دراسة الفن الإسلامي كدراسة أي فن مقدس تقودنا، إذا ما تمت بنوع من انفتاح الفكر، إلى فهم عميق لحقائق أو وقائع روحية هي في الأصل أساس لعالم كوني وإنساني، في آنٍ معاً».

لكن يجب أن نؤكد هنا أن هذه العلاقة بين تلك القيم المؤسسة على التجريد بمعناها الديني والوجودي وفضاء التصوير في الفن الإسلامي لم تقم من فراغ، بل كانت حصيلة اهتمام بالفنون الشرقية وتراثها في بلاد فارس وآسيا الوسطى ومصر القديمة والشام، يقول الفنان والباحث حسين خالد: «وإذا كان العرب لم يحملوا معهم إلى البلاد التي فتحوها أساليب فنية خاصة بهم، فقد كانت سياستهم الحكيمة في استخدام الفنانين الوطنيين خير عون على النهضة بالفن، أضف إلى ذلك تشجيع الفنانين والصناع من أهل الذمة وممن أقبلوا على اعتناق الإسلام»، ومع ذلك لم يكن التصوير الذي تطور في الفضاء العربي الإسلامي مجرد نسخة مكررة لتلك الأساليب الموروثة، في المنمنمات والخط و(الأرابيسك)، لقد كانت المنمنمات التي رسمها الواسطي (على مقامات الحريري) مثالاً نموذجيًّا لهذا الإبداع التصويري في شكله الهندسي الذي تجاوز المنمنمات الشرقية الأولى. كان ثمة إصرار على الكمال في رسم الطبيعة المجردة في أبهى صورها وفي أزهى ألوانها.

ثانياً: إذا كانت بعض الدراسات تشير إلى أن التصوير الإسلامي مثل الفنون الغربية المعاصرة أسس لمفهوم التجريد وبالتالي القطيعة مع المفهوم الهليني للمحاكاة وتطبيقاته النهضوية فإن توضيح خصوصية التصوير الإسلامي هي من المهام الأساسية لفلسفة الجمال في الثقافة العربية الإسلامية.

فقد كانت الرؤية الإغريقية في مقاصدها الفلسفية لا تفسّر العمل الفني من خلال نشاط تخيلي للفنان ولا من خلال بنية وجمالية الأثر الفني ذاته، بل من خلال تجسيد التناسق -العدد الذهبي-، هذا التناسق الذي يشكل في آخر المطاف جوهر الطبيعة، ذلك أن الإبداعات الحقيقية (الجميلة) كما عبَّرت عنها محاورة القوانين تمثل وتحاكي في عظمتها إنتاجات الطبيعة التي تشكل بدورها نماذج عليا لكل إنتاج فني(= poen بالمعنى الإغريقي للكلمة).

وإذا كان العمل الفني التشكيلي في عصر النهضة الأوروبية قد أخذ معنى الكيان المكتمل والمغلق مع مدرسة –Quattrocento– من ألبارتي إلى ليوناردو دي فنشي، فإنه لم يتجاوز مبدأ أفضلية الطبيعة ومفهوم المحاكاة رغم الاعتراف الصريح بقدرة وعبقرية الفنان في إنجاز الأثر الفني التصويري بقدرة في المعرفة تفصح عن حرية في الاشتغال الفني، فليوناردو دي فنشي يذهب إلى أن «.. فن التصوير الجدير بالمدح هو ذلك الذي يحقق أكبر قدر من التشابه مع ما يحاكيه، إني أتحدث ضد هؤلاء المصورين الذين يؤكدون بهتاناً أنهم قادرون على تصحيح آثار الطبيعة». ثم يرى في معنى قدرة الفنان على إبداع المحاكاة أنه «.. لا ينجز أثراً ذا قيمة إذا أخذ كموجه له آثار الآخرين، بل يمكنه تحقيق نتائج طيبة إذا درس من وحي إبداعات الطبيعة..».

ولا يبدو غريباً البتة هذا الجمع بين المثال الكلاسيكي والقدرة المعرفية والحرية، فهو يجد جذوره في الجمع بين النزعة الإنسانية لـ(بيكادولا) و(إيرازم) والتنظير العلمي للمنظور وأساليب فن التصوير لـ(ألبارتي)، تلك هي الفلسفة الجمالية للتصوير التي تم الحسم في التخلي عنها منذ الرومانسية في جمالياتها والانطباعية في تقنياتها الجديدة للتصوير إلى التجريدية المعاصرة، فقد تم بعد عصر النهضة اكتشاف أنه لا يمكن إدراك الجميل كتصور لمحاكاة نموذج الطبيعة، وتخلى الفنانون التشكيليون عن آخر وهم لـ(دي فنشي)، أي أولية النموذج المرئي وكماله المطلق كأساس للإبداع الفني.

إن المطلب الفلسفي العميق هو بالذات في تحديد خصوصية مفهوم التجريد في الفلسفة الروحية الإسلامية التي جسدها التصوير الإسلامي، يقول سمير الصايغ: «إن الوقوف أمام خصوصيات وصفات الفن الإسلامي يكشف عن مبادئ وقيم فنية تلتقي بقوة مع الهم الفني المعاصر في الكثير من مبادئه ومقولاته وطموحاته واتجاهاته، وتختلف في الوقت نفسه مع هذا الهم»، ولكن لا يكفي أن نشير إلى هذا الاختلاف بأنه الفن (الشكلي بامتياز) و(الفن التجريدي بامتياز) إذا علمنا أن واحداً من عمالقة التجريد في الفن الغربي المعاصر الفنان (كاندسكي) يذهب في تعريفه للفن (في اللامرئي De L’invisible) إلى هذا التصور بالذات.

ثمة بعد أنطولوجي للتجريد في التصوير الإسلامي يحمل وينقل جوهر الفلسفة الروحية في الإسلام، المؤسَّس على ثنائية النظرة للوجود، من حيث هو ما يتجلى ويبرز في المرئي وما يختفي ويتوارى وما يحجب عن الرؤية، هكذا يكون حاصل التجريد في ثنائية المرئي واللامرئي، وبتعبير صوفي (في الشاهد على..) ( والغائب في..)، وهو ما ينسجم مع تصور الواحد والكثرة، يرى الأستاذ (علي اللواتي) في مناقشته لمفهوم (جمالية الغموض) التي اقترحها (بابا دوبولا) لتفسير العلاقة بين العالم الواقعي والتجريدي الهندسي في فن التصوير الإسلامي، أنه «..إذا كانت الصورة في حيز وسط بين العالم الواقعي والعالم الهندسي المجرد فهي قبل كل شيء تعبير آخر عن علاقة الضمير الإسلامي بالواقع، وتتصل عموماً بقضايا العلاقة بين الشكل والمضمون والظاهر والباطن في التعبيرات الفنية الإسلامية، ونحن نجدها تحت شكل آخر في الازدواج الغامض بين لغة العشق الأرضي والعشق الإلهي في الشعر الصوفي الإسلامي عامة..».

ذلك ما يستلزم من كل مقاربة تأويلية لفضاء الرسم بمختلف أساليبه، في الزخرفة، في المنمنمات والخط، أن تدرك خصوصية العلاقة، في التجربة الروحية الإسلامية، بين العالم الحسي، عالم الوجود الظاهر، الكائنات الوجودية، وهو عالم الحضور وعالم المعقول المجرد، عالم الحقائق الأبدية وهو فضاء الغياب، وإدراك هذه الخصوصية يتطلب الحذر من اختزال هذه العلاقة بين الواقعي والمجرد كأحد تجليات المعقولية الأفلاطونية، أي الصعود من العالم الحسي إلى عالم المثل وهذا ما يفترض ثنائية ميتافيزيقية تضع عالم الصور في مقابل عالم الوجود، تضمن فيها تلك الصور/ المفاهيم والحقائق المدركة استقلالية مطلقة عن العالم الحسي.

في حين، ومن منظور مغاير، نجد أن العلاقة الجدلية بين الظاهر والباطن (الحسي/المجرد) من حيث هي علاقة بين شاهد (مرئي) وغائب (محتجب لا مرئي) هي علاقة ضرورية من الطرفين بين الظاهر والباطن، المرئي واللامرئي يعبر عنها في اللغة الصوفية بتجربة التجليات، ذلك أن الصورة المجردة، تفصح عن ذاتها في ظاهر وجودي مرئي بل في عدة مرئيات، كل مرة بصورة وبشكل مخالف، يقول ابن عربي واصفاً هذه التجربة إن «..الصور التي تقع عليها الأبصار والصور التي تُدركها العقول والصور التي تمثلها القوة المتخيلة، كلها صور يرى الحق من ورائها..»، ويضيف في موضع آخر محدداً هذه العلاقة: «..في كل تجلٍّ لا تتكرر صورة، فإنه سبحانه، لا يتجلى في صورة مرتين (…)، ولما كان الأمر كذلك لم ينضبط للعقل ولا للعين ما هو الأمر عليه ولا يمكن للعقل تقييده بصورة ما من تلك الصور..».

إن تجربة التجليات بهذا المعنى هي في المقام الأول تجربة جدلية وجودية بين الظاهر والباطن، بين الوجود الحسي والحقيقة المجردة، تجربة علاقة ضرورية، وحدة من دون أن تكون هوية مطلقة. وفي هذا المعنى يقول هنري كوربان: إن «.. الظاهر هو ظهور الباطن، فهما يكونان وحدة لا تنفصم، وهذا لا يعني أنهما يكونان هوية وجودية واحدة؛ لأنه من الناحية الوجودية ليس الظاهر هو الباطن..».

بهذا المعنى يكون الوجود الحسي المتنوع والمتعدد إشارة لا نهائية للوجود المجرد، الواحد الغائب، الذي يشهد على وجوده كل تلك الأشكال المتعددة، وفي اللحظة ذاتها لا يقيم جوهره ومعناه المطلق في شكل واحد منها.

تلك هي القطيعة التي أحدثتها الروحية الصوفية الإسلامية مع المتن الأفلاطوني في استيعابه للعلاقة بين الحسي والمجرد والواحد والكثرة والشكل والمضمون، ووفق هذا المعنى بالذات، تكشف علاقة الفضاء الهندسي بالصور في الرسم الإسلامي، عن رمزيتها وأساليبها في الزخرفة والمنمنمات، التي تجد جذورها في ذاكرتها الصوفية، فلم يكن الفنان المسلم بمنأى عن هذا الجو الصوفي وعن خصوصية مفهوم الواحد المجرد في وعي العقيدة الإسلامية، عندما قلل من أهمية التضخيم الحسي للأشكال التي يرسمها وكررها إلى ما لا نهاية، وعبّر عنها في خطوط بسيطة لا علاقة لها بالوجود الطبيعي، ثمة إدراك أن الصورة الظاهرة الشكل بمفهوم الفنون التشكيلية، لا أهمية له إلَّا من حيث إنه إشارة للباطن، لغائب ما فتئ يكشف عن أسراره في ما لانهاية من الصور.

إن الفضاء الهندسي الذي يحقق استقلاليته عن الشكل الحسي للطبيعة في قصديته للتعبير عن الباطن والغائب، ليس مضطراً فقط لإبداع تنظيم داخلي يعبر عن عالمه الرمزي، بل أكثر من ذلك التخلي عن علاقة الشكل بالمضمون وتجاوزها، ذلك أن المضمون ليس معطى بشكل نهائي ما دام يرتبط بمضمون روحي لا يثبت على صفة واحدة ولا على صورة بعينها كما تشير لغة الصوفية، والشكل وحده ليس إلَّا رمزاً لا يمكنه أن يحوز على حقيقة الباطن، فهو ليس إلَّا جسراً، درباً إلى ما يرمز إليه.

يرى الباحث سمير الصايغ أن قراءة أساليب التصوير ومضمونها يتطلب استعداداً للقدرة الإبداعية و «حضوراً كليًّا للإنسان في استقباله للرموز» تتطلب «ذاكرته الوجودية» في مقابل الفنون الغربية التي تتطلب استعداداً حسيًّا وخياليًّا، وإذا كان هذا الفرق جوهري بالنسبة لكل إستيطيقا تود مقاربة التجربة الجمالية للتصوير في الفن الإسلامي فإن ذلك يحتاج، في تقديرنا، إلى تأسيس مفهوم التصوير بمعناه الإسلامي ضمن الإستيطيقا بوجه عام، وفي ذوق الثقافة المعاصرة للمجتمعات العربية الإسلامية.

ثالثاً: وهذا يعني التعريف الإستيطيقي لمفهوم التصوير بمعزل عن مفهوم التجسيد والتشخيص الذي هو إرث الثقافة الهيلينية – النهضوية، ثمة فصل معرفي بين مفهوم التصوير ومفهوم التجسيد/التشخيص، تشهد عليه الفنون التشكيلية المعاصرة، مما دفع الكثير من الدراسات إلى التقريب بين التصوير الإسلامي والتصوير في الفنون الغربية المعاصرة، على أساس اللاتشخيص والتجريد في تقنيات كل منهما، وإن كان ذلك يساهم إلى حد ما في الاعتبار العالمي للتصوير الإسلامي كتراث مختلف عن التراث الهيليني لكنها تظل، مع ذلك، على مسافة بعيدة من تحديد معالم وخصوصية التجربة الجمالية للتصوير في الفن الإسلامي؛ لأنه لا يمكن أن نفهم في حدود ذلك التفسير النموذج بمعزل عن الأثر وعن الطريقة التي نفذ بها، تماماً، كما لا يمكننا أن ندرك تحوُّلات معنى الجمال في تاريخيتها منفصلة عن تخوم المعارف المحاذية لها في الفضاء الفكري التي تنتمي له.

ومعنى ذلك أن الوقوف على خصوصية جمالية التصوير في التراث الإسلامي تستلزم التصدي لجوهر ودلالة، وبالتالي خصوصية التجريد في هذه التجربة من حيث هي أسلوب له مقوماته الجمالية المؤسَّسة على رمزية دينية ووجودية، من دون أن نسقط في نظرة تبسيطية لعلاقة الدين بالفن، فلم يكن الفن الإسلامي مبشراً لتعاليم الدين أو شارحاً لمقوماتها الروحية، بل هو ترجمة جمالية لجوهر هذه المقومات. ونريد هنا أن نقف عند هذه الخصوصية من خلال التجربة الباطنية ورمزية الوجود.

– 2 –

إن مقارنة تجربة التجريد في الفن الإسلامي بنظيرتها في الفن الغربي المعاصر، من حيث اعتماد كل منهما التجربة الباطنية في مقابل محاكاة الطبيعة، وتعميمها على كل عناصر التصوير في الفن العربي الإسلامي هو واحدة من العوائق المعرفية أمام الولوج إلى خصوصية هذه الإستيطيقا، ونود أن نورد مثالاً لهذا التعميم: يقول (ب. ريكارد) في معرض حديثه عن خصوصية الفن الإسلامي في مقابل الفن الغربي الكلاسيكي: «إن الفن الإسلامي يشيح بوجهه عن الواقع وأشياء الوجود، ويبدو أنه يرفض، بشكل قطعي، ما يرتبط من قريب أو بعيد بعالم الأحياء، إنه لا يكتمل إلَّا في ترجمة النظرة الباطنية، المتخيلة…».

ثمة إشارة واضحة إلى القطيعة التي أحدثها الفن الإسلامي مع مبدأ المحاكاة في الفن الغربي الكلاسيكي، ولكن من موقع تأويل هذه التجربة كاستبطان وحدس خيالي، وهو ما يترجم المنحى الذي سار فيه الفن الغربي المعاصر من تجربة الشعور الرومانسي إلى رمزية التجريد.

لقد كانت الرومانسية قبل الانطباعية أول محاولة، كما أشرنا، لتجاوز إرث النهضة بالعودة إلى تجربة الذات، ويعني ذاك أن الخبرة الذاتية والحدس العميق يكون لهما فضل الجسم في بناء تصور عن الوجود والأثر. يقول موريس بلانشو (Maurice Blanchot): «كان هناك مجهود معتبر من النهضة إلى الرومانسية، في أحيان كثيرة، مجهود سامي في رد الفن إلى العبقرية، والشعر إلى الذاتية، ومن ثم النظر إلى أن ما يعبر عنه الشاعر هو (ذاته)، جوانيته والعمق الخفي لشخصيته، أناه البعيدة الآمال، الغير قابلة للتشكيل (…) يضحى مطلب الأثر هو التعبير عن هذه الجوانية: للشاعر قصيدته المعطاة للإصغاء، وللكاتب خطابه (أريد أن أقول شيئاً)، تلك هي، في أدنى درجاتها، علاقات الفنان بمطلب الأثر، الذي يفصح في أعلى درجاته عن إبداعية لا يمكن أن نحدد لها معقولية…».

لقد تم في الجمالية الرومانسية إعادة تحديد مفهوم المحاكاة الإغريقي، في إطار العلاقة بين الطبيعة والفن، علاقة جديدة مؤسسة على النظر إلى الإبداع الإنساني كمناظر للطبيعة في قوته وإنتاجه لذلك كان مفكر مثل (جوته) يتصور بأن الأصالة (L’originalité) تأتي في مقابل المحاكاة: (mimesis) وهو يعرف العبقرية الإبداعية على أساس أنها إبداع الطبيعة الذي يتواصل في الفن.

وإذا أسس (شلنج) تصوره الجمالي على هذه المقدمات نفسها لعلاقة الفن بالطبيعة، فالفكرة الجوهرية تجعل العمل الفني يتمتع بحركة ذاتية حرة متجددة وعفوية، ولا يمكن إدراك هذه العفوية والحرية إلَّا من خلال مفهوم الحدس الخيالي. فهل كانت جمالية التصوير الإسلامي في أشكالها الهندسية ترجمة لتجربة باطنية مؤسسة على حدس خيالي؟

لم تكن أساليب التصوير في الفن الإسلامي بمعزل عن مفهوم التجربة الباطنية كمقابل لتجربة الطبيعة سواء في أساليب الزخرفة النباتية أو الهندسية أو في الفضاء المغلق للمنمنمات:

– ففي الزخرفة استلهم الفنان المسلم، كما تشير جل الدراسات في الفن، من النبات أشكال هندسية، جرّدها وأبعدها عن صورتها الأصلية وكوّن بها أشكال غير محدودة، تتّسم بالتكرار اللانهائي لوحداتها التي إن تم جمعها تفصح عن شكل من أشكال العالم الرمزي.

– قدّمت المنمنمات في الفن الإسلامي، وهي حكايات مصورة، نموذجاً مميزاً هو كذلك لهذه التجربة الباطنية ولكن بالإصرار على وجود الإنسان، وقد قدّم ألكسندر بابادوبولا في بحثه السابق الذكر تحليلاً مفصلاً لأيقونات هذا النموذج التصويري القائم على تصوير الإنسان والأشياء ولكن بحذف كل الأبعاد التي ترتبط بعالم الحس وتجعل من الفضاء الهندسي عالماً قائماً بذاته مستقلاً عن عالم الإنسان المعهود. وإن كانت تأويلات بابادوبولا في أحيان كثيرة لا تُميّز الخصوصية الوجودية للرمزية الصوفية الإسلامية، وتذهب في أحيان كثيرة إلى إسقاطات أرسطية وأفلاطونية، كما أنه يقرن بين هذا التجريد الهندسي في المنمنمات وبين ما يسميه «الضرورات الشكلية المستقلة» كما نجدها عند بعض الفنانين المعاصرين أمثال (سيزان)، إلّا أننا نتفق معه في واحدة من أهم استنتاجاته حيث يقول: «إن الفنان ونصير الفن يعلمان أن الحكاية المصورة والعالم الممثل لا يشكلان الجوهر الحقيقي للعمل الفني، وأن هذا الجوهر يقع في مستوى الوجود المستقل للأشكال والألوان مجمعة حسب نظام معين، وهكذا لا يمكن أن يكون هدف الفنان هو محاكاة الحياة أو منافسة الخالق، إن الفن يقع على مستوى مغاير تماماً، هو مستوى الضرورات المجردة، والتناسب المستقل للأشكال والألوان».

تطالعنا الزخرفة الإسلامية والهندسة التصويرية للمنمنمات برسم خارج أفعال الإنسان وانفعالاته، وبعيداً عن دوافع الطبيعة وعن ظروف وزمان ومكان وأكثر من ذلك، فهذه الأعمال تتوارى فيها ذات الفنان وبصماته، وهذا ما يقع على طرفي نقيض مع مفهوم الذات المبدعة والتجربة الفردية والحدس الخلاق لهذه الذات في جمالية التصوير الرومانسي وآدابها، وفي الحداثة الجمالية للفن المعاصر التي تجد اختزالها في هذا التعريف لـ(مايكل دوفرين M.Duffrene): «الشكل هو أقل من أن يكون صورة للموضوع منه أن يكون شكلاً تؤسّسه الذات، ومن هذه العلاقة في العالم التي تعلن عند ذاتها فينا بدون كلل والتي تشكل في ذات اللحظة الموضوع والذات..».

إن بناء الرسم في الفن الإسلامي يأخذ منحى آخر، فهو ليس استبطاناً بالمعنى النفسي أو الحدسي لعالم خارجي (عالم الطبيعة) داخل الذات، وليس تحويلاً للطبيعة من كونها موجوداً حسيًّا إلى موضوع رمزي، وتعبيراً عن انطباع، إن إدراك ذلك التكرار في الخطوط والدوائر الهندسية وفي تشابه الوجوه وغياب الملامح، في التركيز على النور وكثافة الألوان، كل ذلك يجعلنا نستنج أنه لا يوجد لا تصعيد ولا اختراق للطبيعة، بل غياب تام للطبيعة كموضوع، وما هو حاضر هو فقط رمزية الوجود التي تتجلى في تلك الأيقونات المتكررة تكرار الصور الوجودية التي تحدّث عنها ابن عربي، ذلك هو مضمون التجريد واللامرئي في هذا الرسم، وفي هذه التجربة لا يكون الفنان مانحاً للمعنى بل شاهداً ومؤكداً بحس جمالي على وجود هذا المعنى أصلاً وإلى الأبد في باطن كل الموجودات، في حين يبقى اللامرئي والتجريد في الفن الغربي المعاصر مرتبط بالفنان والمعنى الذي يمنحه له، فهناك تصور سالفادور دالي، وهناك بيكاسو، وهناك تجربة كانداسكي، وغيرهم.

إن الفنان المسلم، الرسام، أدرك أنه الجسر الذي تتحول فيه تلك الحقائق الوجودية، إلى رموز جمالية تكون الترجمة الحقيقية لمبدأ الواحد، الذي يتكرر بأسمائه وإشاراته اللانهائية، ويكون قلب الفنان المرهف هو جزء من هذه الكائنات الوجودية التي تصبح فضاء لتجلي الصور، يقول الغزالي في كيمياء السعادة: «.. القلب مثل المرآة واللوح المحفوظ مثل المرآة أيضاً؛ لأن فيه صورة كل موجود، وإذا قابلت المرآة بمرآة أخرى حلت صور ما في إحداهما في الأخرى…».

هل ثمة فلسفة جمالية تستطيع أن تنظر لهذا الجدل الجمالي؟

تلك هي بعض سمات جمالية التصوير العربي الإسلامي، التي ما زالت تحتاج إلى مقاربات فلسفية جمالية تتأمل رمزية أساليب التصوير في الفن الإسلامي، وقبل ذلك أن تتحول نظرتنا له من مجرد تراث ماضٍ إلى كونه أسلوباً جماليًّا قد يرقى إلى مرتبة النموذج المستقبلي.

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!