معنى أن تكون صوفيًا

معنى أن تكون صوفيًا

معنى أن تكون صوفيًّا 

بقلم: د. محمّد أمعارش

يعجبني وعي كثير من العابرين في الطريق والسالكين فيها والسائرين، بهذه الورطة المعرفية والوجودية الإنسانية، ولعل ما ختم به خالد محمد عبده بحثه في “معنى أن تكون صوفيا” والذي اتخذه عنوانا لكتابه الجديد، بعد أن حشد من التعريفات المختلفة والرائعة، والحدود والمعاني اللطيفة، وبعد أن نحت من المفاهيم الجديدة والمناسبة في تقريب معنى التصوف إلى الأذهان، وجعله في متناول “اليد”، من منظور منفتح ومفتوح على الإنسان وعلى الحياة وعلى الآخر، لعله خير مثال على هذا الوعي النقدي بورطة الحدود والقبضات المفهومية واليقينية والإقامات والمقرات، إذ ختم بالخروج من كل هذه التعريفات ونفض “اليد” منها، في قوله: ” أن تكون صوفيا: ألا تذكر كل ما كتبتُه هنا!”.

فالمطلوب من إيراد التعريفات والحدود في الكتاب، هو نشاط القارئ على محوها وتخطيها، والذهاب أبعد منها، ومشاهدة العبور، لا نشاط تثبيت وتخزين معانيها المستقرة في حافظته، والمقيمة في ذاكرته، أي الخروج من رق الرسوم والتعريفات الجامعة المانعة، إلى فرادة التجربة الشعورية الحية والنسبية، وإلى طراوة الذوق الخاص في الطريق، فكل هذه التعريفات تخبر عن أذواق أصحابها في الطريق المطروق، وهي من مخلفاته وليست طريقا، صارت علامات ذِكْرٍ للآتين بعدهم، لكن “الذكر هو الوجود” كما يقول ابن عربي، ومنه وجدانك في الفقد، فإذا فَقدْتَ وَجَدْت، لأن الوجود لا يكون إلا عن فقد، وإذا تخلَّيت تَحَلَّيت، وهو الكتابة على المحو في تجربة العارفين، فـ”هُم أهل المحو وإن أثبتوا” كما يسميهم ابن عربي، لذلك أثبتَ مَن أثبت حدودا وتعريفات للتصوف، ثم رجع يمحوها واحدة تلو الأخرى، لغلَبة المحو في النهاية، وطَلَب من قارئه أن يمحوها وينساها، وهكذا أهل المحو في الإثبات، وهم أنفسهم أهل الإثبات في المحو، حيث أثبتوا المحو، فظهر عندهم قلمان، أحدهما قلم الكتابة، والآخر قلم المحو.
نظير هذا الوعي النقدي الحذر والمتحفظ واليقظ في مقاومة القبضات، أو المقاومة داخل القبضة، ما نبه إليه جلال الدين الرومي قارئَ “المثنوي”، في قوله:” لم أنظم لك المثنوي لتحفظه أو تعيده، بل ابتغاء أن تضعه تحت قدميك، لتستطيع الطيران”، فنبهه إلى القدمين وإلى موضعهما، وإلى أن المطلوب رسوخهما في العلم بالكتاب، وهو إقامته من رقدته ومن تحت الرجلين، أو مما يدعوه ابن عربي بالعلم الذي “تحت الأرجل” والقادم من “أسفل القدمين”، ومن “أسفل سافلين”، أي العلم المكتسب من السعي بالقدمين، والسير على الطريق، وقطع المسافات، حتى تصير الأقدام، وهي أجنحة للنزول والرسوخ والتجذر، أجنحة للطيران والصعود والارتفاع والعروج.
لا يتأتى انبثاق الإبداع، وحدوث الذوق الخاص في الطريق، إلا بالخروج من قبضة المأثور المحفوظ، ومفارقة حجاب الذاكرة والحافظة، باستعادة هذا المحفوظ واسترجاع المطروق في النسيان والمحو، وهذه الاستعادة والنسيان، أو الاستبقاء والاستباق في آن، تعبر عنهما لفظة النَّسْخ في العربية، المشحونة بأضداد الإثبات والمحو، والإبقاء والإلغاء. ولأهمية النسيان في الخروج من قبضة التقليد والاتباع، إلى بسطة الإبداع والاختراع، كان كبار العلماء بالشعر ينصحون طلاب قرض الأشعار، ونظم القوافي، وإبداع الصور والمعاني، أن لا يفعلوا ذلك قبل أن يحفظوا آلاف القصائد، ثم يقضوا بعدها مدة في العري عنها، بنسيانها ومحوها من الذاكرة، أو بالأحرى استردادها في الفقدان، أي صدورها وانبعاثها من التجربة الإبداعية نفسها، ومن مزاجها الخاص، وتركيبها الجديد، استردادا لا ترديدا، واسترجاعا لا ترجيعا. ومن جملة ما نقله صاحب “الأغاني” في الباب، خَبَرُ خَلَف الأحمر حين لم يأذن لأبي نواس بنظم الشعر، إلا بعد أن تأكد من نسيانه لآلاف القصائد والأراجيز التي طلب منه أن يحفظها ثم ينساها. والنصيحة من ابن عربي في الفتوحات أن يستصحب قلمُ الكتابة والتثبيت قلمَ المحو والنسيان: ” امح ما كتبت، وانس ما حفظت، واجهل ما علمت (…) واطلب المزيد كما أمرك في قوله لنبيه صلى الله عليه وسلم، يأمره وأمته: وقل رب زدني علما”.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!