زراعة النّور في كون منشور.. آفاق محبة الخَيْر للغير

زراعة النّور في كون منشور.. آفاق محبة الخَيْر للغير

 زراعة النّور في كون منشور 

آفاق محبة الخَيْر للغير

بقلم: د. سعاد الحكيم

 

ما من إنسانٍ عاقل، إن نظر في أعماقه وتاريخه، إلا ويجد أنّه محبٌّ للآخرين ويريد الخير لكلّ النّاس. ولولا هذه الخلّة الطّيبة المغروسة في فطرة الإنسان لما تعاون النّاس وتضامنوا وتكافلوا، ولما قامت المجتمعات البشريّة، وأنشئت جمعيّات الخير ومنظّماته لحلّ مشكلات الفقر والبطالة والجريمة، ولما تسابق الأغنياء في أعمال البرّ، ولما أحْسَن الواحد منّا الظنّ بأخيه الإنسان، واجتهد في أن يتطهّر من الأنانيّة والطّمع والبخل والاستئثار بالخير .

إذن، القاعدة العامّة – التي لا يشذّ عنها إلا قلّة من النّاس – هي أنّ الإنسان مجبول على حبّ الخير لنفسه وللنّاس جميعاً. ولا ينزاح عن مسار هذه القاعدة ويصبح متحفزاً ضدّ الآخرين إلا بسبب؛ كأن يتعرّض لأذى عميق – أو لخيانة كبرى – من واحدٍ من النّاس، فيفقد ثقته بالنّاس جميعاً، ويمنع خيره عنهم بل لا تطاوعه نفسه على إرادة الخير لهم.

على رغم أهمية خلّة «محبّة الخير للغير» وأساسيّتها في الاجتماع البشريّ، إلا أنّ الدِّين يطالب المؤمنين به بما هو فوق ذلك.. يطالبهم بأن يحبّوا للناس ما يحبّوا لأنفسهم. أي أن يصبح هذا «الآخر» في مقام «الأنا»؛ فأحبُّ له ما أحبُّ لنفسي، وأتعامل معه كما أحبُّ أن يعاملني الآخرون. يقول سيّدنا رسول الله عليه صلوات الله: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه)). وفي سياق آخر يقول صلوات الله عليه: ((أفضل الإيمان (…) وأن تحبّ للنّاسِ ما تحبّ لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك)).

وعلى صعوبة التحقق بما يأمر به الدين، إلا أنه في مقدور البشر.. والدليل أنّ السّابقين السابقين جعلوه قبلةَ أنظارهم وعمادَ تربيتهم لأبنائهم، ونهجَ حياتهم في مجتمعهم.. ونقتطف من عوالي الكلام قول الإمام عليّ كرّم الله وجهه يوصي فيه ابنه الإمام الحسن رضي الله عنه: «يا بني، اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبَّ لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تَظلم كما لا تحبّ أن تُظلم، وأحسن كما تُحبُّ أن يُحْسَن إليك، واستقبحْ من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارضَ من النّاس بما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم وإن قلّ ما تعلم، ولا تقل ما لا تحبُّ أن يقال لك».

لنتشارك نظرةً على طوايا الإنسان الباطنة ومواقفه الظّاهرة، بهدف التّفتيش عن الموانع التي تعيقه من أن يحبّ للغير ما يحبّه لنفسه. وبعد التّفتيش نضع رحال الفكر أمام أربعة عوائق لعلّها الأمّهات في هذا الباب وهي: الأنانيّة، والعداوة، وإرادة التفوّق، والتّزاحم على مقصود واحد. ونتوقّف مع كلّ واحدة منها وقفةً قصيرة:

1 – الأنانيّة

إنّ «الشّعور بالأنا» وبتميّزها عن أشخاص محيطها هو شعور صحيّ ولا علاقة له بالأنانيّة. كما أنّ «حبّ الذّات» باعتدال هو شعور ضروريّ يؤسّس لحبّ النّاس، فالشّخص الذي لا يحبّ نفسه من الصّعب أن يحبَّ أحداً من النّاس.

ولكن قد تتضخم «الأنا» في أعماق إنسان [بسبب نجاح مهني أو جمع ثروة أو تعصّب لعرق أو جنس…]، حتى تسدّ أمامه أفق النّظر، فلا يرى في الوجود إلا ذاته ومصالحه ومشتهياته ومراداته، وقد يوسّع دائرة ذاته لتضمّ مَنْ يحبّهم من النّاس ويعتبرهم امتداداً لذاته كالزّوج والولد على الأخصّ.

وقد ذكر القرآن الكريم للمؤمن أربعة شواهد على تضخُّم الأنا ليحذر منها، وهي: أنا إبليس؛ يقول تعالى في سورة الأعراف 12: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾. وأنا فرعون؛ يقول تعالى ذاكراً فرعون وقوله: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ﴾ [الزخرف 52]. وأنا النمرود؛ يقول تعالى في سورة البقرة 258: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ﴾. وأنا صاحب الجنّتيْن، يقول تعالى ذاكراً قول صاحب الجنّتيْن  لصاحبه: ﴿فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً﴾ [الكهف 34].

فالأنانيّة القاسية تجعل المرء يريد الاستئثار بكلّ خير ونفع، ولا يجد في نفسه حرجاً من محبّته حرمان الغير من الخير، غير عابئ بأن أنانيته تقطّع أواصر الجماعة التي هو جزء منها، أو يتولّد عنها ردّات فعل مماثلة في نفوس الآخرين.

2 – العداوة والبغضاء

إنّ مَنْ أحبّ شخصاً أحبّ الخير له، ومن اشتدّ حبّه لشخصٍ أحبَّ له ما يحبّه لنفسه، فإن اشتدّ أكثر هذا الحب فقد يصل إلى الإيثار، وهو أن يؤثر محبوبه على نفسه ويقدّم خير محبوبه على خير نفسه.

وهذا يعني أنّ الإنسان إن أحبّ إنساناً لسبب ما [لخدمة أدّاها له، لجيرة طيبة، لتوافق في الآراء والأمزجة…]، يصبح أكثر جهوزية للالتزام بالتّعاليم النبويّة القويمة الحاثّة على محبّة الآخر وعلى جعله كالنّفس في محبّة الخير.

وفي المقابل، نلتفت حولنا فنرصد أنّ من النّاس من يتأذّى من شخص فيبغضه بقلبه، وإن عجز عن أن يتشفّى منه بنفسه أحبّ أن يتشفّى نيابة عنه الزمن وينتقم له منه؛ فيفرح بكلّ بليّة تصيب من أذاه، ويحزن من كلّ نعمة تأتيه.. وهذا يدلّنا على أنّ محبّة الشّخص أو معاداته هما سبب لإرادة الخير له أو إرادة الشرّ.

وهنا، والتزاماً بالدِّين والخُلُق يتعيّن علينا أن نفرّق في علاقتنا بالآخر بين الحبّ الطبيعيّ الخاصّ النّاشئ عن أسباب حياتيّة وبين الحبّ الإنسانيّ للجنس البشريّ النّاشئ عن الإيمان وفعل التديّن.. فبالإيمان، تسمو الأعماق وترتفع عن البغضاء الطبيعيّة لتصبح الأنا قادرة على أن تحبّ للآخر ما تحبّه لنفسها.

وقد نبّه إلى هذا الفيصل الدّقيق، أصحاب الهمم العالية من الرّجال.. يقول الحسن رضي الله عنه واصفاً المؤمن بأنّه «لا يحيف على من يُبغض، ولا يأثم فيمن يحبّ». ويقول الإمام عليّ كرّم الله وجهه مبيّناً أن إصلاح الوجود الخارجيّ يبدأ من إصلاح الإنسان لذاته: «أُحْصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك». أما أبو الفتح البستي فيقول:

أَحْـسِنْ إلـى النّاسِ تَسْتَعْبِدْ قلوبَهم    فـطالما اسـتعبدَ الإنـسانَ إحسانُ

وإن أساءَ مسيءٌ فليكُنْ لكَ في                       عُرُوضِ زلّتهِ صفحٌ وغُفْرانُ

أحْسِنْ إذا كانَ إمكانٌ ومقدرةٌ                      فلَنْ يدومَ على الإحسانِ إمكانُ

فإن لقيتَ عدوّاً فالْقَهُ أبداً               والوجْهُ بالبشرِ والإشراقِ غضّانُ

3 – إرادة التفوّق

من القواطع التي تمنع الشّخص من محبّة الخير للغير كمحبّته لنفسه ، هو إرادة التفوّق إمّا في محيطه البشريّ وإمّا في مجاله العلميّ أو العمليّ. فالنّفس البشريّة ـ إن تُركت لهواها ـ تستمرىء الثّناء والمدح وتستكين للتفرّد بالنّجاح والإنجاز ، وتكره أن يساويها أحد في تميُّزها أو يُدانيها . وهذا واضح في تفشّي «الغيرة» في المجتمعات الصّغيرة كمجتمع القرية والرّيف، وبين أبناء المهنة الواحدة أو الصّنعة الواحدة حتى صارت عداوة «الكار» [= المهنة] مسألة سائرة في الأمثال الشعبيّة في البلاد.

إنّ إرادة التفوّق [في اختصاص علميّ أو مهنة…] هو مسألة إيجابيّة تدفع صاحبها إلى تطوير مهاراته وتحسين أدائه في الحياة والعمل . ولكن أحياناً يندسّ في هذه الإرادة شيء من الكِبَر والعُجب وحبّ الرّياسة، فيحبّ صاحبها أن يكون منقطع النّظير، واحد دهره وفريد عصره في فنّه، بحيث إنّه لا يتمنّى لغيره ما يتمنّاه لنفسه ، بل يستاء لو سمع بنظير له، وربّما وقع في الحسد وتمنّى زوال النّعمة عمّن يُدانيه حتى يخلو له تفرّده .

وبذلك تصبح إرادة التفوّق عائقاً مانعاً من الإلتزام بمحبّة الآخر ومحبّة الخير له .. ولا علاج لها إلا بمداواة النّفس . يقول الإمام الشّافعي رضي الله عنه:

وداريتُ كُلَّ النّاسِ لكنْ حاسدي               مُداراتُهُ عَزَّت وعَزَّ مَنالُها

وكيفَ يُداري المرءُ حاسدَ نعمةٍ               إذا كان لا يُرضيهِ إلا زوالُها

4 – التّزاحمُ على مقصودٍ واحد

يشتغل المرءُ على نفسه، ويحاول جاهداً تطهيرها من القواطع الثّلاثة السّابقة، أي: من الأنانيّة ومن العداوة والبغضاء ومن إرادة التفوّق على أقرانه كلّهم. وقد يجد صعوبة في ذلك إلا أنّه يصل في نهاية الأمر إلى ضبط جموح نفسه بعقال الدّين والخُلُق والعقل والحسّ السّليم.

ولكم ما يبدو أنّه أصعب من القواطع الثّلاثة السّابقة هو اجتياز عقبة التّنافس على مقصد واحد . وهذا الامتحان يُطرح عندما يتزاحم المرء مع أخيه على وظيفة واحدة ، أو على منصب واحد ، أو على رياسة بلدة واحدة .. أي عندما يكون حصول أخيه على المقصود المُتنافَس عليه يعني خسرانه لما يطلب وفوات الأمر بالنّسبة إليه . هنا ؛ إلى أيّ مدى يستطيع المرء أن يُحبّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه؟!

وأقول؛ إنّ الإنسان هنا قد لا يتمكّن بقوّة العقل وإرادة فعل الصّواب ، من ضبط نفسه على صراط الحقّ والخير . لذا ، لا بدّ من «قوّة الإيمان»  ومن «قوّة المعرفة الدينيّة» ليجتاز هذا الاختبار . ونجد نبعاً رائقاً يمدّ الإيمان في نفوسنا بالقوّة المطلوبة وهي قوله صلوات الله عليه لأهل مجلسه إن جاءه أحدٌ طالباً حاجةً): ( إشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيّه ما شاء)). وهذا يعني أنّ الشّافع يكسب أجراً وإن لم يحصّل الطالب حاجته، لأنّ كلّ شيء هو بيد الله سبحانه، يقضي بما يشاء.

استناداً إلى هذا الحديث الشّريف ، يوطّن الإنسان نفسه على أنّ الله تعالى فعّالٌ لما يريد، وأنّ حبّه الخير لأخيه أو عدم حبّه لذلك لا قيمة له ولا أثر في حدوث ما يشتهي .. لذا ، فإنّ الإلتزام بالتّعاليم النبويّة القويمة بمحبّة الخير للأخ بقدر محبّته للنّفس ربّما يكون أنفع له وأجدى في أن يرزقه الله سبحانه هذا الخير ، بذاك الالتزام وتلك المحبّة.

إنّ نظافة القلب من إرادة الشرّ لكلّ النّاس ونظافة اليد من كلّ إضرار بالنّاس هما شمعتان مضيئتان في تاريخنا الشّعري والنّثريّ .. يقول ابن مفلح المقدسي :

إزْرَعْ جميلاً ولو في غيرِ موضِعِهِ              فلا يضيعُ جميلٌ حيثما زُرِعَ

ويقول آخر :

كُنْ كيف شِئتَ فإنَّ اللهَ ذو كَرَمٍ          وما عليكَ إذا أذنبْتَ من باسِ

إلا اثنيْنِ فلا تَقْرَبْهما أبداً :                    الشِّرْكُ باللهِ والإضْرارُ بالنّاسِ.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!