عبيد الدار

عبيد الدار

عبيد الدار

بقلم: د. محمّد صفّار
يبدأ الحكيم أرسطو كتاب السياسة بتعريف للدولة يربطها فيه بالخير الأسمى، ويجعلها أكبر وأعلى وحدة إجتماعية في المدينة، ويجعل أرسطو في ذلك التعريف من بيت الأسرة الوحدة الأساسية في الدولة، بحيث تتكون المدينة من مجموعة من البيوت العائلية. ويتأسس بيت الأسرة كوحدة إجتماعية على نوعين من العلاقات: العلاقة الأفقية بين الأحرار، أي بين الأب والأبناء وبين الزوج وزوجه؛ والعلاقة الرأسية بين أولئك الأحرار أي الأب والأم والأبناء وبين العبيد. وقد كان أرسطو في تضمينه تعريف الدولة لهذا المستوى السفلي للعبيد مخلصا لواقعه الاجتماعي وظروف عصره، إذ كان المجتمع الأثيني ينقسم إلى طبقتي السادة والعبيد، وكانت طبقة العبيد فيه تفوق طبقة السادة عددا، بما يجعل مجتمع السادة الأحرار مجتمع أقلية. وكان أولئك العبيد يزاولون المهن اليدوية التي يأنف سادتهم المتمتعين بفراغ الوقت اللازم للتفلسف من الاشتغال بها، وكان أيضا العبيد بمثابة ممتلكات حية للسادة يتعيشون على ثمار عملهم، ونتج عن ذلك التقسيم الاجتماعي للعمل سمو التفكير النظري المجرد للسادة على النشاط اليدوي للعبيد في العقل اليوناني.
وداخل هذا الإطار، فرق أرسطو بين العبودية القانونية والعبودية الطبيعية، فهناك من أبناء اليونان من أوقعتهم ظروف الحرب في الأسر ففقدوا حريتهم واستحالوا عبيدا من الناحية القانونية، لكن طبيعة العرق اليوناني تتنافي أبدا مع العبودية مهما كانت الوضعية القانونية، إذ اليوناني بطبيعته سيد حر. وهذه مسلمة واضحة بذاتها عند اليونان. غير أن الأمم الشرقية كالفرس والمصريين عبيد وأبناء عبيد بحكم طبيعتهم، وهذه بديهية لدى اليونان أيضا، وحتى سادتهم وحكامهم فهم عبيد أيضا، وذلك بحكم ما جبلوا عليه جميعا من ذلة وجبن وخبث واستكانة. وبعيدا عن صواب أو خطأ النظرة الأنثروبولوجية لحكيم اليونان أرسطو، الذي كان يجنح هو وأستاذه أفلاطون إلى إعلاء شأن العنصر اليوناني وتقسيم بني البشر إلى يونان وهمج برابرة، أقول بعيدا عن كل ذلك فلقد كان أرسطو مخلصا لروح المنطق الكلاسيكي الذي رفع قواعده، وهو يقوم على فكرة ثنائية القيمة. ويعني ذلك أن مقولات المنطق تخضع لقيمتي صدق، ألا وهما الصواب والخطأ أو الصدق والكذب، ووفق روح تلك الثنائية فالشخص إما سيد حر أو عبد مسترق، ولا وسط بينهما، وهو ما يعرف في المنطق باسم قانون الثالث المرفوع، فلا توجد حالات أو فئات أخرى بينية. ويختلف الأمر عن ذلك تماما فيما يسمى بالمنطق الغائم (fuzzy logic)، الذي تتعدد فيه قيم الصدق بين الصواب والخطأ، تماما كتعدد الأرقام بين الصفر والواحد، فهي ما لا نهاية.
وتفتح روح المنطق الغائم الباب أمامنا لاستيعاب تلك التفرقة التي استلهمها وجردها المرحوم مالكولم إكس من تفاصيل الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي للسود في الولايات المتحدة، ألا وهي التفرقة بين الـfield nigger، ولنترجمه عبد الحقل، وبين الـhouse nigger، ولنترجمه عبد الدار. فإذا علقنا قانون الثالث المرفوع ومحونا الخط الفاصل بين الفئتين التقليديتين للسيد والعبد، سيظهر أمامنا ما لا نهاية له من الحالات، التي تمتزج فيها الحرية بالعبودية بنسب متفاوتة، ويغلب على كل حالة سمت الطرف الأقرب إليها. وعبد الحقل كما أسميناه هو نفس ذلك العبد الذي تحدث عنه أرسطو، وعرفته مختلف الحضارات القديمة، فهو يكد ويكدح ويخدم السيد وتصفع وجهه إهانات السيد ويتمزق ظهره تحت ضربات سوطه، لأنه ليس سوى أداة بشرية مملوكة للسيد، بحسب وصف أرسطو له.
أما ذلك النوع الآخر من العبيد، الذي أسميناه عبد الدار وتفرد مالكولم إكس بتجريده من الحياة المعاشة للسود في الولايات المتحدة، فهو غريب في غرابته، التي تظهر جليا عندما نجعله في مواجهة شقيقه عبد الحقل، لنقارن بينهما. ففي حين يرتدي عبد الحقل ثيابا رثة مهلهلة، ويتلقى إهانات السيد المقذعة وضرباته المؤلمة، التي تسحق آدميته، نلفى عبد الدار والسيد يكسوه ثيابا ناعمة مهندمة، ويعامله برقة ورقي شديدين. ويشعر عبد الحقل دائما بالجوع، ولا يزدرد سوى الطعام الخشن الكريه، ويتلظى بحنق شديد على السيد، ولا يشعر تجاهه سوى بالغضب والكراهية، وتلك المشاعر ترسخ داخله هوية مستقلة ومتمايزة عن السيد. أما عبد الدار فهو يلتذ بأكل الطعام اللين، وهو نفس الطعام الفاخر للسيد، ويتنعم بالعيش في دار السيد معيشة رغدة هنية، وإن نفسه لتخلو من أية مشاعر للحقد أو الكراهية تجاه السيد، ويشعر أن دار السيد هي الجنة على الأرض، ومن هنا لا يفهم أو يسيغ حنق عبد الحقل على السيد أو محاولاته للهروب من خدمته. ليس هذا فحسب، بل إن عبد الدار ليتماهى مع السيد تماما بحيث يفقد بالكلية أية ذاتية أو هوية مستقلة، فإذا مرض السيد فهو لا يسأله “كيف حالك؟” وإنما “كيف حالنا؟”، انظر كيف فني وجوده الفردي في ذاتية السيد من خلال ضمير الجمع، فهو ليس حاله هو أي السيد ولكنه حالنا نحن أي السيد وما ملكت يداه. ولو أردت أيها القارئ أن تجد تجسيدا حيا لعبد الدار، فما عليك سوى أن تراقب تلك الشخصية التي يجسدها الممثل الأمريكي صمويل إل جاكسون في فيلم Dango Unchained للمخرج تارنتينو.
إن السيادة هي إحدى سمات الدولة الحديثة وأبرز عناصر تكوينها، وتعني السيادة أن السلطة العليا المطلقة تكون حكرا على الدولة في أرض الإقليم، بحيث تغدو هي المركز الأوحد للسلطة على كل شبر وفوق كل فرد في حدود ذلك الإقليم، وبذلك تكون الدولة في القاهرة فوق عبادها في الإقليم. وحينما يتعلق الأمر بالدولة ما بعد الكولونيالية أو الدولة ضد الأمة أو شبه الدولة، فقد كان الهدف من سياساتها القمعية والتنموية والأيديولوجية هو إحكام قبضتها على عبيد الحقل لمواصلة استغلالهم، واصطناع فئة منهم ليكونوا عبيد الدار. وإذا طبقنا تصور مدرسة النظام العالمي للمركز والأطراف لاتضح أن سادة الأطراف هم عبيد دار لسادة آخرين، ولكن هذا حديث آخر لا يتسع له المقام هنا. المهم أن عبيد الدار يلعبون دورين في منتهى الأهمية، فهم من ناحية يريحون السيد من عناء الإمساك بالسوط لجلد عبيد الحقل وتعذيبهم وتثبيت قبضة السيد عليهم جميعا، كما يسهمون في تصفية الأجواء بصورة مصطنعة بين السيد وعبيد حقله، من خلال إزاحة الخلافات والمشاحنات والتباغض إلى حيز العلاقة بينهم وبين عبيد الحقل، بما يعلي من مكانة السيد كحكم عدل تشرئب إليه أعناق الأطراف كلها ليحكم فيما شجر بينهم. وفي ذلك يشعر عبيد الدار بلذة السيطرة على بني جلدتهم وممارسة القسوة والتعذيب عليهم، حتى وإن كان لصالح السيد ولحسابه، لأن ممارستهم لذلك القدر من السلطة يشفي غليل إحساسهم الداخلي بذل العبودية، فهم في النهاية عبيد السيد وملك يمينه. ومن ناحية أخرى، يمثل عبيد الدار، الذين يحركهم السيد من وراء ستار كعرائس الماريونيت ليخفي وراءهم وجه استغلاله القبيح البشع، ويمسح فيهم قذارة ممارسة العسف والاستعباد، نموذجا أرقى في خدمة السيد يتطلع إليه عبيد الحقل، فيعدهم السيد ويمنيهم ويمنون هم أنفسهم بأن يصبحوا عبيدا لدار السيد، طالما كانت عبوديتهم للسيد قدرا مقدورا. ويشترط لتحقق ذلك الترقي في خدمة السيد أن يتخلى عبيد الحقل عن كراهيتهم وعدائهم للسيد، وأن ينسلخوا من هويتهم المؤسسة على تلك الكراهية، فيفنوا حبا في السيد وعشقا له، وأن يتفانوا في خدمة السيد ولو بخيانة بني جلدتهم وأولي قرباهم. وبكلمة واحدة، فعبيد الدار هم النموذج الذي يقدمه السيد كثمن للفوز بمكان الخدمة في جنة داره، وفي ذلك يتنافس المتنافسون أشد التنافس!!
لعلك تخال أيها القارئ أن اللجوء إلى تلك الفئات التحليلية القديمة البالية يثير الضحك أوالسخرية، لكنها مع أسف تعري حقيقة وجودنا وراء الأردية الزائفة، للمواطنة والتمثيل والحوكمة والشفافية والاستقلال، ذلك أن علاقات العبودية أعمق وأرسخ من أن تلغيها وثيقة رسمية كما تعلمنا من أرسطو. فقد تصير العبودية جبلة للشخص تهلك إنسانيته، برغم ما يتدثر به من ناعم الثياب وما يأكله من لين الطعام، فينتقل من خدمة سيد إلى سيد إلى سيد، ويتفاني في خدمة كل واحد من هؤلاء، ويبكي عليه حين يموت ويظن نفسه حرا وهو فقط عبد من نوع آخر، سواء علم ورضي أو جهل وأبى. ولذلك يحتاج التحرر الفعلي من استعباد واستغلال السيد إلى أكثر من الشعارات التافهة والوثائق القانونية الفارغة. وحينما ترى أو تسمع لواحد من كبراء الملأ أو تقرأ لمن تعتقد علمه أو فضله أو ورعه، وتستريب من لحن قوله أو حتى ظاهره، فاعلم أنك تقف إزاء واحد مهما علا كعبه في الظاهر فهو من عبيد الدار.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!