كيف يحصننا الدعاء؟ ألكسيس كاريل

كيف يحصننا الدعاء؟ ألكسيس كاريل

الدعاء قوة

ألكسيس كاريل
ترجمة: محمد صفار

ليس الدعاء عبادة فحسب، لكنه فيض خفي أيضا يصدر عن الروح العابدة للإنسان –إنه أقوى شكل للطاقة يستطيع الإنسان توليدها. وبالإمكان تبيين تأثير الدعاء على العقل والجسد الإنسانيين مثلما يمكن ذلك بالنسبة لتأثير الغدد الصماء. وكذلك أيضا يمكن قياس نتائج الدعاء من حيث الدفعة الجسدية المتزايدة والطاقة الفكرية الهائلة والقدرة على الصمود الأخلاقي والفهم المعمق للحقائق الأساسية للعلاقات الإنسانية.
ولو أنك اتخذت من الدعاء عادة صادقة لك، فلسوف تتبدل حياتك تبدلا عميقا وجليا، إذ يطبع الدعاء أفعالنا وسلوكنا بطابع لا يمحى، فيُلاحظ هدوء الحال وسكينة الوجه والجسد على أولئك الذين يثرون حياتهم الجوانية بالدعاء. كما تُوقد في أعماق الوعي الإنساني شعلة يرى بها الإنسان نفسه، فيكتشف أنانيته وسخف كبريائه ومخاوفه ومطامعه وزلاته. ويتطور لديه إحساس بالالتزام الأخلاقي والتواضع الفكري، وهكذا تبدأ رحلة الروح إلى مجال الفضل الإلهي.
إن الدعاء قوة حقيقية تماما كالجاذبية الأرضية، وإنني كطبيب قد رأيت رجالا شفوا من المرض والكآبة بفضل المجهود المطمئن للدعاء، بعد أن أخفقت كافة العلاجات الأخرى. وإنه القوة الوحيدة في العالم التي يبدو أنها تتغلب على ما يسمى بـ”قوانين الطبيعة”، ويطلق اصطلاح المعجزات على تلك المناسبات، التي يفعل فيها الدعاء هذا على نحو درامي. غير أن هناك معجزة متواصلة وأكثر هدوءا تقع كل ساعة في قلوب أولئك الرجال والنساء، الذين قد اكتشفوا أن الدعاء يمدهم بتدفق متصل من القوة المؤازرة في حياتهم اليومية.
وينظر الكثير والكثير من الناس إلى الدعاء على أنه روتين شكلي من الكلمات أو ملجأ للضعفاء أو استجداء طفولي للأشياء المادية. وإننا بكل أسى لنحط من قيمة الدعاء عندما ندركه على هيئة تلك التصورات، وذلك كما نقلل من شان المطر حين نصفه بأنه ذاك الشئ الذي يملأ حوض حديقتنا. والدعاء عند فهمه فهما لائقا به هو نشاط لا غنى عنه للوصول لأقصى تنامي للشخصية الإنسانية –أي للتكامل النهائي للقدرات العليا للإنسان. ففي الدعاء فقط يتحقق تحققا فعليا ذاك الاجتماع المتناغم للجسد والعقل والروح، الذي من شأنه أن يمنح العشب البشري الضعيف قوته الراسخة. وبواسطة الخبرة الإنسانية، قد جرى التحقق من صدق تلك الكلمات (سلوا تعطوا. أطلبوا تجدوا. إقرعوا يُفتح لكم). حقا، إن الدعاء لن يعيد طفلا ميتا للحياة ولن يزيل ألم الجسد، لكنه مثل عنصر الريديوم فهو مصدر لطاقة مضيئة ومتولدة ذاتيا.
كيف يحصننا الدعاء إذن بتلك القوة الديناميكية الهائلة؟ لا بد للإجابة على هذا السؤال (الذي يقع بصراحة خارج نطاق العلم) من الإشارة إلى أن كافة الأدعية تتمتع بوجود شئ مشترك فيما بينها. إن هتافات أوصنًّا في الأعالي [صيغة لطلب الخلاص وردت في العهد القديم] في لحن ديني عظيم، وكذلك التضرع المتواضع من قبل صياد من الإروكوا [رابطة للهنود الحمر في أمريكا الشمالية] توسلا للحظ في مطاردة الصيد، كلاهما يظهر نفس الحقيقة؛ ألا وهي أن البشر يهدفون إلى تعظيم طاقتهم المحدودة عن طريق التوجه إلى المصدر غير المحدود لكل الطاقة. وعندما نقوم بالدعاء فإننا نصل أنفسنا بالقوة المحركة، التي لا تنضب وتدوِّر الكون، ونسألها أن يُخصص جزء من تلك القوة لحاجاتنا، وبمجرد توجهنا بذلك السؤال تمتلئ نقائصنا وننهض وقد ازددنا قوة وانصلح أمرنا.
على أننا لا ينبغي لنا أبدا أن نستحضر الله لمجرد إشباع رغائبنا، ذلك أننا نستمد معظم تلك القوة من الدعاء حين نستخدمها ليس للتوسل لشئ بل للتضرع إلى الله من أجل أن نصير أكثر شبها به. ولذا يجب علينا النظر للدعاء كممارسة للحضور الإلهي، فإن فلاحا عجوزا كان جالسا وحده في آخر صف من المقاعد في كنسية القرية، وحينما سئل “ماذا تنتظر؟”، أجاب قائلا “إنني أنظر إليه وهو ينظر إليًّ”. فلا يجب أن يتوجه الإنسان بالدعاء كي يتذكره اللهُ فحسب، وإنما لكي يتذكر هو اللهَ أيضا.
وكيف يمكن تعريف الدعاء؟ إنه المجهود الذي يبذله الإنسان بغية الوصول إلى الله، للاتصال بالوجود غير المرئي، خالق كل شئ، صاحب أقصى حكمة وحقيقة وجمال وقوة، رب الإنسان ومخلصه. وستظل تلك الغاية للدعاء خافية على العقل، لأن كلا من اللغة والفكر يتعرضان للإخفاق عند محاولتنا وصف الله. لكننا نعلم أننا نتغير روحا وجسدا إلى الأفضل حين نتوجه إلى الله بالدعاء المتقد، فلا يمكن أن يحدث أن يدعو رجل أو امرأة للحظة واحدة من دون أن يثمر ذلك الدعاء نتيجة طيبة. وكما قال إيمرسون: “لا يمكن لإنسان أن يدعو من دون أن يتعلم شيئا ما”.
ويستطيع المرء الدعاء في كل مكان: في الشوارع والأنفاق والمكتب والمتجر والمدرسة، سواء أكان المرء في عزلة غرفته أم ضمن حشد في دار العبادة، فليس هناك للدعاء هيئة أو زمان أو مكان مفروض. وقد قال الفيلسوف الرواقي إبيكتيتوس “فكر في الله أكثر مما تتنفس”، إذ ينبغي للدعاء أن يصير عادة حتى تُصب الشخصية الإنسانية في قالب. فمن العبث أن يرفع الإنسان أكف الدعاء في الصباح، ويعيش عيشة الهمج بقية يومه. فالدعاء الصادق طريقة للحياة؛ وأصدق حياة هي حرفيا طريقة للدعاء.
ولعلّ أفضل الأدعية هي التي تشبه ارتجالات العشاق الموهوبين، فهي تتعلق بالشيء ذاته دوما، لكنّها لا تتكرر مرتين. ونحن لا نستطيع أن نبدع في الدعاء كالأم تيريزا أو القديس برنارد من كليرفو، فكلاهما يصبّ لواعج عشقه في عبارات من الجمال الصوفي. ولحسن حظّنا، فلا نحتاج إلى فصاحتهما وبلاغة ألفاظهما، لأنّ الله يتقبّل أيسر باعث لدعائنا، وحتى لو كان في المرء عُجمة مثيرة للشفقة أو غطى الخداع أو الخيلاء لسانه، فالله يتقبل عبارات الحمد المهزولة بل ويفيض علينا بتجليات حبّه المؤازرة لنا.
إن الدعاء اليوم لهو ضرورة لازمة لحياة الأفراد والشعوب، كما لم يكن من قبل، إذ ساق ضعف التأكيد على الحاسة الدينية العالم إلى حافة الدمار. ولذلك يجب ممارسة الدعاء، وهو التدريب الأولي للروح، ممارسة فعالة في حياتنا الخاصة، حتى تتقوى الروح المهجورة للإنسان بالدرجة الكافية لإثبات ذاتها مرة أخرى. ولو تحررت قوة الدعاء مرة أخرى واستخدمت في حياة الرجال والنساء العاديين؛ ولو أعلنت الروح عن غايتها بوضوح وبجرأة، فلسوف يصبح هناك أمل في أن تستجاب دعواتنا لتحقق عالم أفضل.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!