التصوف: الشَّطَح باتجاه الوصول

التصوف: الشَّطَح باتجاه الوصول

التصوف: الشَّطَح باتجاه الوصول

عبدالسلام الربيدي

التصوف نزوع إلى التحرر والانعتاق وميل مُلحّ إلى تجاوز حدود الضروري اليومي المادي. هو تجربة تختزن إحساس الإنسان بوجود المستور الذي يكاد يغطي الوجود كله رغم انكشافات الوجود الظاهرة. وعلى الرغم من انطواء الفكرة الدينية بعامتها على هذا الإحساس، فإنَّ شعور المتصوف به شديد إلى حد الهوس الدائم الذي قد يتجلى في صورة أحلام ورؤى، أو في صورة شعور بحدوث خوارق، أو في شكل وجْد يأخذ المتصوف عمن حوله، أو في صورة جنون وجذب وهيام وشوق عارم للموت، أو في صورة حب وحنين يكادان يكونان فناء مطلقا.

إن هذه الحساسية المفرطة بالمستور وبكثافة الحجاب هي واحدة من أهم ميزات تراث الصوفية في تاريخ الإسلام. وهي سمة تعكس العاطفة المميزة للشخصيات الصوفية التي حملت على كاهلها مهمة البحث المضني. وهو مضنٍ لأنه لم يعتمد على أدوات مادية محايدة بل على العاطفة والذوق والمجاهدة القائمة على مجابهة عالم الماديّات. وفي خضم تجربتهم تلك طوّر الصوفية وعيا مفارقا بالعالم يقوم من ناحية على إدانة جهل الإنسان الذي من مظاهره الافتقار إلى الوعي بذاته، ومن ناحية أخرى، على تقدير الوجود كله ومنه الإنسان، باعتباره من إيجاد الله ” الذي أوجد الأشياء عن عدم وعدمه، وأوقف وجودها على توجه كلمه لنتحقق بذلك سر حدوثها وقِدَمها من قِدَمه ” كما يقول ابن عربي في أول سطر من فتوحاته.

وقد حاول الصوفية الاستفادة من اللغة في التعبير عن تجاربهم بهذا الخصوص. غير أن بداية حدود هذا الوعي هي نهاية العلامات اللغوية؛ ومن هنا فالعلامة لا يعوَّل عليها لديهم إذا هي لم تستند إلى مرجع مفارق للوعي المادي من وحي إلهي أو من شعور لا يمكن تحديده بكلمات عامة أو خاصة. ولهذا السبب أعلن الصوفية عجز اللغة من وقت مبكر. وعبارة محمد عبد الجبار النفري (354ه/965م) الشهيرة “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”  تخنزل هذه الأزمة.

أدت هذه الحال، في محصلة الأمر، إلى نوع من الاغتراب. فما بين حنايا الصوفي من شوق وتعلق بالمستور الذي يحس أنه جزء منه وعجز عن التعبير الكامل يظل باعثا له على انزعاجه من ضرورات الشرط الإنساني المادية  وداعيا له إلى تحمّل الآلام والصبر على مكاره العبادات واليأس من الدنيا وما في أيدي الناس. وهو ما نقصده بالتحرر في بداية كلامنا هنا. وبيان ذلك أن الصوفي يشعر في واقع الحال هذا بخلوه من العالم وحضرته في عالمه الخاص الذي له أبطاله ورؤاه وهيئاته ومقاماته. ومن هنا، قال المتصوفة: “إن الصوفي لا يملك شيئا ولا يملكه شيء” و ” أنه زاهد في الدنيا والآخرة، و أنه “من لا تقله الأرض ولا تظله السماء” ، فوعيه متجاوز لهذه الحدود ومتحرر من شروطها وقوانينها.

هذه التجربة المميزة وجدت لها تعبيراتها المختلفة. فمِن المتصوفة مَن عبّر عنها في صورة فعل نسك عبادي طقوسي واكتفى بذلك، ومنهم من عبّر عنها في صور أدبية شعرية ونثرية هي، بطبيعة الحال، نتاج للتجربة الروحية التأملية والنسكية التي خبرها. ومن هنا نجد أن التصوف طول تاريخه قد ارتبط بالتعبير الجميل. وليس بالضرورة أن يكون هذا التعبير الجميل أدبا رسميا خاضعا لشروط نوع أدبي معين. فبعض كلماتهم العابرة وتعليقاتهم على بعض الأحوال والمقامات هي بمثابة الشعر، إن لم تكن شعرا خالصا. وبعض دعواتهم وتضرعاتهم الخالصة والعفوية تفوق ما كتب من أدب نثري مصطنع. الشاعر والناثر الحق يكتب ما يشعر به كما هو ويعبر عنه بشكل جميل. أما الشاعر أو الناثر الصانع فيفكر بما سيكتب ثم يقرر أن يكتب ويقرر هيئة الكتابة. وفي حال المتصوفة نجد أن الحال المُلحّ المزعج وموقف الوجْد المتّقد هو من يجبر صاحبه على التعبير، وقد ينطلق هذا التعبير كالسهم الخارق ممزقا كل القواعد الموضوعة سواء كانت دينية أم دنيوية. وذلك هو ما يدعوه الصوفية “الشطح”. الشطح، عند تأمله، فن أدبي قائم برأسه. وكل رموز الصوفية الكبار من أهل الحال شطحوا وعبروا عن رؤاهم بطريقة خارقة للعادات ولمواثيق التدين الرسمي.

في بحثهم عن المستور، كما قلنا، ارتطم الصوفية بعوائد الحالات وبما يسمونه “الأغيار”؛ أي الكون المادي الذي نعيش فيه بكل تفاصيله. وبسبب ذلك أخذت دورة الحياة الروحية عندهم مسارها من المطلق إلى المقيد والعكس. وفي كل الأحوال كان الله والإنسان هما محور هذه الدورة. بل إننا نجد أن الإنسان في تعبيرات البسطامي (261ه/874 م) والحلاج (309هـ/922م) وابن عربي (638هـ/1240م) قد نال قسطا كبيرا في هذا الهم الصوفي الذي بقدر اطمئنانه وثقته في الخالق المدبِّر كان يجنح إلى الشعور بالبُعد الكارثي للحياة؛ ومن هنا تلازم مقولة “الرضا” عند الصوفية بضديدتها “الحزن” .

وقد بلغ أمر الشطح ذروته مع الحلاج الذي أعلنها “أنا الحق” وهو إعلان يجعل الإنسان المحور. اختلفت الآراء حول الرجل وقررت السلطات إعدامه ، غير أن الأشواق الصوفية وتوابعها الإنسانوية لم تنته؛ فتتابع ظهور شخصيات صوفية قلقة طيلة تاريخ الإسلام، أخذ التالي منهم ينظر في ميراث الأول ويقيسه بما لديه ويجد له متسعا من التأويل. فمثلا فَهِم وتفهَّم أبو حامد الغزالي (505هـ/1111م) موقف الحلاج، غير أنه لامه على البوح، وقال: “صدور الأحرار قبور الأسرار” . ومن قوله هذا يُستشفُّ أن الحلاج قد وصل فعلا إلى درجة الحرية غير أنه عبّر عنها، فكانت المأساة؛ لأن الناس ليسوا كلهم أحرارا ليفهموا ذلك السر. وهذا منهج معروف عند الغزالي عبر عنه بطرق مختلفة في بعض كتبه ولا سيما “المضنون به على غير أهله”. أما عبد القادر الجيلاني (561هـ/1166م) فقد كان أكثر تعاطفا مع نهاية الحلاج المؤلمة ورأى أن المشكلة في غياب المرشد. يقول الجيلاني: “عثر الحلاج ولم يجد من يأخذ بيده ولو كنت فى زمانه لأخذت بيده” . يرى الجيلاني أن التجربة لها أوجه ظاهرة وباطنه ولها قوانين، وما يشتم من عبارته هو أن التجربة عند الحلاج لم تنضج، بل إن من كانوا في عصر الحلاج من أهل المعرفة لم يكونوا في المستوى المطلوب من النضج، فالدليل والمرشد الحقيقي وهو الجيلاني “الناضج” لم يأتِ إلا في القرن السادس الهجري. وهذه الروح الإرشادية والزعامة الروحية عند الجيلاني نعرفها من دعواته إلى أهل عصره. يقول:

يا زُهادَ الأرضِ تَقدمُوا خَرّبُوا صوامِعكُم واقرَبوا مِني، قَد قعدتُم في خَلواتِكُم مِن غيرِ أصلٍ فما وقعتُم بشيء، تقدَموا مِني، والقُطوا ثِمارَ الحِكم رَحمكُم الله، ﻻ اُريدُ مجيئَكم لي بَل اُريدُه لكُم، فأنا سَيفي مشهورٌ، وقوسِي موتورٌ، ونِبالي مفوقةٌ، وسهامي صائِبةٌ، ورُمحِي مُصوبٌ، وفرَسِي مُسرجٌ، أنا نارُ الله الموقَده، أنا سلّابُ الأحوَال، أنا بحرٌ بلِا ساحِل، أنا دليلُ الوقتِ، أنا المتكَلمُ في غيري، أنا المحفوظُ، أنا المحظوظُ، أنا الملحوظُ. يا صُوّام يا قُوّام أقبِلوا إلى أمرٍ من أمرِ الله، أنا أمرٌ من أمرِ الله، فَيا بُنَياتِ الطَريق يا رِجال يا أبطَال يا أطفَال هَلُموا وخُذوا عَني عن البحرِ الذي ﻻ ساحِل له، يا أهلَ الأرضِ شرقًا وغربا ويا أهلَ السماءِ قال تعالى ويخلقُ ما ﻻ تعلمُون، أنا مِما ﻻ تعلَمون، أنا لُبٌ بلا قِشر فَلا تقيسُوني على أحد وﻻ تقيسوا أحدا عليَ” .

وعلى المنوال نفسه جاء متصوف القرن العاشر عبد الوهاب الشعراني (973هـ/ 1566م) ليعتذر لكل من سبقه من المتصوفة مُتخذا من التأويل آلية ناجعة للانتقال من الظاهر القريب إلى المقصود البعيد. ولعلّ عنوان رسالته “الفتح في تأويل ما صدر عن الكُمَّل من الشطح” يدل على غايته. فهؤلاء قد بلغوا الكمال، وصدور شطح عفوي عن الكامل ما هو إلا فيض. فاضت روح الكامل من امتلائها ولم تعد تطيق الصبر على كتمان المكنون. إنه شطح باتجاه اكتشاف المستور أو محاولة للوصول أو لخوض ” بحر وقف الأنبياء على ساحله” كما عبر أبو الغيث ابن جميل في حالة بسط.

 

الإنسان المريد

وهذا النسق المتصل من اعتذار اللاحق للسابق يدل على رسوخ التقليد الصوفي الإنسانوي الطامح وعلى إجماع أهم أعلام الصوفية على الخلفية المعرفية والقناعة الفلسفية والبطانة النفسية الواقفة وراء هذه التعبيرات العاثرة في ظاهرها والمعبرة في باطنها عن حقيقة استشعار الإنسان بموقعه في الكون ومركزيته في التجربة العرفانية ومهمته في البحث والكشف. إن مهمة الإنسان عند الصوفية  هي، كما وردت في القرآن، عبادة الله التي تعني التواضع له والسير إليه كل لحظة. ومن هنا كثرت في أدبياتهم مصطلحات السفر والرحلة والسلوك والمسير، والرحلة هي أمر اجتهادي لا يعني الوصول البتة. ومن هذا المنظور غير المادي، فإن الإنسان المعاصر في أمسِّ الحاجة إلى التواضع؛ ويحتاج إلى أن يراجع نفسه بخصوص تعامله مع الكون وأخيه الإنسان. لكنه لن يتم له ذلك حتى تتحقق له ” الإرادة”؛ أي أن يكون “مريدا”، والمريد متواضع يخلص في طلب الحقيقة. أما من اكتملت عنده المعاني وفصل نفسه عن الوجود الأم و أخذ في تسريع الانتاج – حسب توصف عالم الاجتماع ماكس فيبر للعصر الصناعي- من أجل زيادة الثروة وتحقيق السيطرة على الآخرين، فإنه لا يأبه لهذه المعاني الإنسانية العميقة البعيدة عن الأنانية والمنفعة الآنية. الإنسان المريد لا يرى فرقا بينه وبين غيره من الآخرين، ناهيك عن أن يجتهد من أجل السيطرة عليهم، فالكل له حقيقة واحدة روحانية، وهي محل تقديره وتوقيره، يقول ابن عربي: ” لن تبلغ من الدين شيئا حتى توقر جميع الخلائق و لا تحتقر مخلوقا”. يحتاج هذا الإنسان المعاصر في نسخته النيوليبرالية المتكبرة والمتوحشة والمتسرعة والصائلة على الكون والبيئة إلى أن يتربى تربية تجعله  يتوقف ويسمع ويفهم، ويحس بما ومن حوله من إنسان وحيوان ونبات وجماد. يحتاج إلى تربية تريه حقيقته الضعيفة. قال تعالى: “وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه”؛ أنتم لستم مالكين لشيء، أنتم مستخلفون ثم تسلمون عهدة هذا العالم لغيركم.

مقالات ذات صله

1 تعليقات

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!