أسرار الحروف عند الصوفية

أسرار الحروف عند الصوفية

أسرار الحروف عند الصوفية

بقلم: أ.د. حامد طاهر 

تحول الحديث المتناثر عن أسرار حروف اللغة العربية عند الصوفية إلى علم، صار موضوع غاية، وتخصص فيه علماء، ووضعت فيه مؤلفات. ويعد ابن خلدون (ت 808هـ) أفضل من عرض لنشأة هذا العلم وموضوعه وغايته في تركيز ووضوح شديدين. يقول: إن هذا العلم حدث في الملة، بعد صدر منها، وعند ظهور الغلاة من المتصوفة، وجنوحهم إلى كشف حجاب الحس، وظهور الخوارق على أيديهم، والتصرفات في عالم العناصر، وتدوين الكتب والاصطلاحات، ومزاعمهم في تنزل الوجود عن الواحد وترتيبه. وزعموا أن الكمال الأسمائي مظاهره أرواح الأفلاك والكواكب، وأن طبائع الحروف وأسرارها سارية في الأسماء، فهي سارية في الأكوان على النظام، والأكوان من لدن الإبداع الأول، تنتقل في أطواره، وتعرب عن أسراره، فحدث لذلك علم أسرار الحروف. وهو من تفاريع علم السيمياء، لا يوقف على موضعه، ولا تحاط بالعدد مسائله. تعددت فيه مؤلفات البوني، وابن عربي، وغيرهما ممن اتبع آثارهما. وحاصله عندهم وثمرته: تصرف النفوس الربانية في الطبيعة بالأسماء الحسنى، والكلمات الإلهية الناشئة عن الحروف المحيطة بالأسرار السارية في الأكوان.

وبالنسبة إلى علماء هذا العلم الغريب لدى الصوفية المسلمين، يذكر ابن عربي عدداً منهم، بل ويشير إلى إفادته منهم، ومن هؤلاء: جعفر الصادق، وجابر بن حيان، كما ترد الإشارة إلى الفيثاغورين باعتبارهم أصحاب فكرة العدد، التي تعد وثيقة الصلة بالحروف، وكان من أكبر من تأثر بهم في العالم الإسلامي: إخوان الصفا. كذلك يذكر ابن عربي: الحكيم الترمذي الذي يقول عنه ابن عربي إنه جعل علم الحروف من بين علوم الأولياء. كذلك يشير ابن عربي إلى أن الحلاج كان من الذين أعلوْا شأن هذا العلم. وهناك اثنان من كبار صوفية الأندلس كانا من علماء الحروف، وهما: ابن مسرّة، وابن قسىّ. وأخيراً يحدثنا ابن عربي عن نفسه فيقول: إنه أحد القلائل الذين اختصهم الله تعالى بأسرار علم الحروف، ولهذا نجده يخصص له مساحة واسعة في كتابه الكبير الفتوحات المكية، كما يتناوله في العديد من رسائله الصغرى.

التحفظ في إظهار أسرار الحروف:

يذكر ابن عربي أحد أسبابه امتناعه عن كشف أسرار الحروف قائلاً:

لولا العهود التي عليّ قد أُخذت
أظهرت منها علوماً تبهر البشرا

كما يصرح بأنه لا يستطيع نشر كل ما لديه من هذه الأسرار في الكتب، وإن كان من الممكن فقط مشافهة واحد من اثنين بها: إما عارف شبيه له في علمه بهذا الفن، أو مسلم في أكمل درجات التسليم .. وهو يشترط لمثل هذا التصريح أن يكون عن طريق المشافهة. وليس عن طريق الكتب !

أما مكانة علم الحروف فيرى ابن عربى أن حروف المعجم إنما سميت كذلك “لأنها عجمت على الناظر معناها” وإذن فهي تعد سرا من أسرار الله تعالـى، والعلم بها من أشرف العلوم المخزونة عند الله، وهو من العلم المكنون المخصوص به أهل القلوب الطاهرة من الأنبياء والأولياء، كما يعد هذا العلم – في نظر ابن عربي – أفضل من العلم الطبيعي أو العلم الكوني، يقول :

علم الحروف شريف لا يقاس به
علم الكيان لمن قد جدّ أو سخرا

ومع ذلك، فقد يختلط هذا العلم (الشريف في نفسه) عند الأولياء بمثله لدى بعض الناس الذي يكتسبونه من طرق أخرى، ولذلك يدعو ابن عربي الناس إلى عدم طلبه، “لأن السلامة منه عزيزة .. فإنه من العلم الذي اختص الله به أولياءه على الجملة، وإن كان عند بعض الناس منه قليل، ولكن من غير الطريق الذي يناله الصالحون، ولهذا يشقى مَنْ عنده ولا يسعد.

التفسير الكوني والحروف:

يقارن ابن عربي بين كيفية تكوين الإنسان للكلاّم، وتكوين الله تعالى للموجودات ” فإذا انقطع الهواء في طريق خروجه إلى فم الجسد سمي مواضع انقطاعه حروفٌا، فظهرت أعيان الحروف، فلما تآلفت ظهرت الحياة الحسية في المعاني، وهو أول ما ظهر من الحضرة الإلهية للعالم. ولم يكن للأعيان في حال عدمها شئ من النسب إلا السمع، فكانت الأعيان مستعدة في ذواتها، في حال عدمها لقبول الأمر الإلهي، إذا ورد عليها بالوجود، فلما أراد بها الوجود، قال لها: كن، فتكونت، وظهرت في أعيانها.

ومن خلال هذه المقارنة، يبدو ارتباط أسرار الحروف عند ابن عربي بمذهب وحدة الوجود. والنص التالي يكشف لنا عن فكرة الارتباط بين الله والعالم، محاولاً تقريبها بعرض فكرة ظهور الحروف في النَفَس، بعد أن كانت باطنة فيه. يقول ابن عربي: “ثم لتعلم أن نَفَس المتنفس لم يكن غير باطن المتنفس، فصار النفس ظاهراً، وهو أعيان الحروف والكلمات، فلم يكن الظاهر بأمر زائد على الباطن، فهو عينه. واستعداد المخارج لتعيين الحروف – استعداد أعيان العالم الثابتة في نفس الرحمن.

ولا تقتصر هذه المقارنة على مجرد إثبات التشابه، وإنما نجدها تؤكد قوة العلاقة، وتداخلها بين الحضرة الإلهية، والحضرة الإنسانية في هذا المجال. فبينما يرى ابن عربي أن الكلمات نشأت عن الحروف، والحروف عن الهواء، والهواء عن النفس الرحماني، وأنه بالأسماء تظهر الآثار في  الكون – يقرر من ناحية أخرى “أن الإنسان بهذه الكلمات يجعل الحضرة الإلهية تعطيه من نفسها ما تقوم به حياة ما يسأل فيه بتلك الكلمات، فيصير الأمر دوراٌ”.

الحروف أمة بذاتها:

ينظر ابن عربى إلى عالم الحروف، نظرته إلى غيره من العوالم التي تسري فيها الحياة، ويوجد بها مكلفون، ويظهر منها رسل ، ويخصص لها شريعة، فيقول: “الحروف أمة من الأمم، مخاطبون ومكلفون. وهم على أقسام كأقسام العالم المعروف في العرف. منهم عالم الجبروت. وعالم الملكوت، والعالم الأوسط … الخ، فهؤلاء عوالم . ولكل عالم رسول من جنسهم. ولهم شريعة تعبدوا بها. ولهم لطائف وكثائف. وعليهم من الخطاب الأمر، ليس عندهم نهي “ثم يضيف قائلاٌ: ولا يعرف هذا إلا أهل الكشف من طريقنا”.

ويعد هذا العالم – في رأي ابن عربي – أقرب العوالم شبهاٌ بالإنسان، من حيث المشاركة في الخطاب، ونظراُ لقبوله جميع الحقائق كالإنسان، وسائر العالم ليس كذلك. وهنا يعقد ابن عربي مقارنة تفصيلية بين الحروف ، والنظام الصوفي الخاص بمراتب الولاية: فمنها القطب، وهو (الألف)، والإمامان (الواو والياء المعتلتان) والأوتاد الأربعة (الألف والواو والياء والنون، وهي علامات الإعراب) والأبدال السبعة (الألف والواو والياء والنون وتاء الضمير، وكافه وهاؤه)، ومرة أخرى يعقب ابن عربي بأن “مدرك علم هذا على الكشف، فابحث عنه بالخلوة والذكر والهمة”.

وإيغالاٌ في عقد الصلة بين عالمي الحروف والتصوف، يذكر ابن عربي أن الله تعالى، إنما “أوجد الحركات والحروف والمخارج، تنبيهاٌ منه، سبحانه وتعالى، أن الذوات تتميز بالصفات والمقامات. فجعل الحركات نظير المقامات. وجعل الحروف نظير الموصوف. وجعل المخارج نظير المقامات والمعارج”.

الحروف والأفلاك :

ويجيب ابن عربي عن أحد أسئلة الحكيم الترمذي التي تقول : من أي حساب صار عدد الحروف ثمانية وعشرين حرفاٌ؟ بأن الحروف إنما ظهرت في عالم العناصر. وفي عنصر الهواء بالذات سلطانها ، وأن العناصر إنما حدثت عن حركات الأفلاك. وحركات الأفلاك إنما قطعت ثماني وعشرين مترلة في الفلك. فلما تكونت المولُدات من العناصر، ظهرت – في أكمل نشأة المولدات، وهو الإنسان – صورُ الحروف ثمانية وعشرين حرفاُ، عن ثمان وعشرين مترلة، من أجل حروف النَّفَس الرحماني . وإنما قلنا ذلك، لأن الناس يتخيلون أن الحروف الثمانية والعشرين من المنازل، حُكْمُ هذا العدد لها. وعندنا بالعكس، يل عن هذه الحروف، كان عدد المنازل”.

الفكرة إذن قائمة على أن هناك علاقة متبادلة بين عالم الأفلاك وعالم الحروف، وإذا كانت الأفلاك ذات تأثير في العالم، فمن الممكن حينئذ استخدام الحروف للسيطرة على هذا التأثير، أو التحكم في توجيهه. ومن ثم فإن ابن عربي يقرر أن “العمل بالحروف يحتاج إلى علم دقيق” ومن الواضح أنه يعني علم الفلك، أو في الأقل، ارتباط الظواهر الكونية بعضها بالبعض. يقول ابن عربي: “وقد تكون تلك الآثار التكوينية عن موازين معلومة عندنا” ومن ناحية أخرى، فإنه يدعو إلى ضرورة الإلمام الدقيق بالخواص الذاتية للحروف، والشروط اللازمة لاستخدامها.

الخواص الذاتية للحروف:

يُحدَّد ابن عربي القيمة الذاتية لخصائص الحروف، تبعاً لمرورها على المخارج. وبذلك تتفاضل فيما بينها، ويصبح الحرف أقوى في التأثير من حرف آخر، إذا مرّ على عدد من المخارج أكثر مما مرّ عليه ذلك الحرف الآخر. يقول ابن عربي “وآخر الحروف الواو. ففي الواو قوة جميع الحروف. كما أن الهاء أقل في العمل من جميع الحروف، فإن لها البدء. فكلمة (هو) جمعت جميع قوى الحروف، في عالم الكلمات. فلهذا كانت الهوية أعظم الأشياء فعلاً”، وهنا يربط ابن عربي بين هذه الفكرة، وبين فكرة تطور الإنسان، في مراحل الخلق المختلفة، حتى وصوله إلى مستوى يقابل مستوى حرف الواو “وكذلك الإنسان آخر غاية النفس والكلمات الإلهية في الأجناس، ففي الإنسان قوة كل موجود في العالم” !

شروط استخدام الحروف:

يقسم ابن عربي الحروف إلى ثلاثة أقسام: رقمية وهي المكتوبة، ولفظية وهي المنطوق بها، ومستحضَرة وهي التي يستحضرها الإنسان في وهمه وخياله، ويصوَّرها. فإما أن يستحضر الحروف الرقمية، أو الحروف اللفظية. وهو يرى أن هذا الاستحضار الخيالي هو أساس العمل بكل هذه الأقسام “فاعلم أن الحرف الواحد، سواء كان مرقوماُ أو متلفظاً به، إذ عرى القصد للعمل به عن استحضاره في الرقم أو في اللفظ خيالاً، لم يعمل، وإذا كان معه الاستحضار عمل”.

وحينما يقرر ابن عربي أن الحرف لا يعمل لمجرد كونه حرفاً، وإنما بكونه شكلاً، فإنه يثبت لجميع هذه الأشكال أرواحاً، هي في الحقيقة صاحبة التأثير، الذي ينسب في الظاهر إلى الحروف “فإما الحروف المكتوبة فإن أشكالها تزول بالمحو، وعندئذ تنتقل أرواحها إلى البرزخ” في حين لا يدرك الحروف اللفظية موت بعد وجودها “فالجو كله مملوء من كلام العالم ، يراه صاحب الكشف صوراٌ قائمة” وأما الحروف المستحضرة، وهي لدى       ابن عربي أقوى الحروف في العمل “فهي باقية، إذ كان وجود أشكالها في البرزخ، لا في الحس. ولكن إذا استحكم سلطان استحضارها، واتحد المستحضر لها، ولم يبق فيها متسع لغيرها، ويعلم ما هي خاصتها، حتى يستحضرها، من أجل ذلك يرى أثرها”.

وهنا يفرق ابن عربي بين من يحدث التأثير بالحرف المستحضَر وبين من يفعل ذلك بالهمة” وهذا الفعل بالحرف المستحضر، يعبر عنه بعض من لا علم له بالهمة والصدق. وليس كذلك. وإن كانت الهمة روحاٌ للحرف المستحضر لا عين الشكل المستحضر”.

وقد نعثر لدى ابن عربي على قدر من التفسير المعقول لظاهرة العمل بالحروف، وذلك حين يذكر أن ألطف أنواع السيمياء هو “التلفّظ بالكلام الذي يخطف به (المتكلم) بصر الناظر عن الحس، ويصرفه إلى خياله، فيرى مثل ما يرى النائم وهو في يقظته” غير أن هذا إذا انطبق على الحروف اللفظية، فإن العمل بكل من الحروف المرقومة والمستحضرة، يظل في حاجة إلى مثل هذا التفسير !

الحروف والكلمات :

تجتمع الحروف على أنحاء خاصة، فتكون الكلمات “ويرى ابن عربي أن لله تجلياً في صور تقبل القول والكلام بترتيب مخصوص، ومنها كلمة (كـن) – تلك الكلمة التي بها ظهر الكون عن الله، وهي التي استبدل بها الصوفية – تأدباً مع الله – كلمة (بسم الله) المساوية لها في القيمة، والأثر. يقول ابن عربي: “وأما (كن) فهو من فعل الكلمة الواحدة، لا من فعل الحروف. وخاصيته في الإيجاد. وله شروط، مع هذا يتأدب أهل الله مع الله، فجعلوا بدله في الفعل (بسم الله)”. وهو يذكر أن رسول الله e قد استخدمها في غزوة تبوك “وما سمع منه قبل ذلك، ولا بعده ، وإنما أراد إعلام الناس، من الصحابة بمثل هذه الأسرار، بذلك”.

ويصل ابن عربي في هذا المجال إلى فكرة علمية حديثة، وهي التي تقرر أن العناصر المختلفة التي تدخل في تركيب شيء ما، لا تؤثر بخصائص كل عنصر فيها على انفراد وإنما بخاصية اجتماع هذه العناصر معاً. يقول   ابن عربي: “واعلم أن الحروف كالطبائع والعقاقير، بل كالأشياء كلها: لها خواص بانفرادها، ولها خواص بتركيبها، وليس من خواصها بالتركيب لأعيانها، ولكن الخاصة لأحدية الجمعية، فافهم ذلك، حتى لا بكون الفاعل في العالم إلا الواحد”.

وترتبط الفكرة الأخيرة من النص السابق، بفكرة الاتحاد الصوفي، القائم على الحب، الذي يصدر فيه الإنسان الكامل – في جميع أفعاله – عن إرادة إلهية “فينفعل عن العبد بـ (البسملة) – إذا تحقق بها – ما ينفعل عن (كن)، فكأنه يقول (بسم الله يكون ظهور الكون)، فهو إخبار عن حقيقة، اقترن بها صدقُ محبوبٍ، كان الحقّ سمعَه وبصرَه، فيكون عنه مما يكون عن (كن)”. وهو يرى أن الله قد أفرد العارفين في الدنيا بهذا الاختصاص، الذي سيعم في الجنة جميع المؤمنين. يقول ابن عربي: ” ولها (مركبات الحروف) منافع كثيرة عالية الشأن عند العارفين، إذا أرادوا التحقق بها حركوا الوجود من أوله إلى آخره. فهي لهم هنا خصوص، وفي الآخرة هي عموم لجميع أهل الجنة. بها يقول المؤمن في الجنة للشيء يريده: كن، فيكون”.

الحروف والأسماء الإلهية:

وإذا كانت الحروف هي أساس بناء الكلمات، فإن من هذه الأخيرة تتكون الأسماء الإلهية، ذات التأثير المباشر في العالم “فالحروف تحكم على الكلمات، والكواكب تحكم على فصول الزمان، والأسماء تحكم الموجودات. والأعيان مقسَّمة بين فاعل ومنفعل. فإذا فهمت هذا نسبت كل اسم إلهي إلى متعلَّقه غالباً” ثم يحدد ابن عربي لكل من الأسماء الإلهية جزءاً من العالم الذي توجّه لإيجاده، وحرفاً من حروف الأبجدية العربية الثمانية والعشرين، يختص بذلك الاسم.

مقالات ذات صله

1 تعليقات

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!