عاشقات الله

عاشقات الله

 

عاشقات الله

بقلم: د. سعاد الحكيم

 

هبت ريح العشق من جانب الوادي المقدس.. عصفت بأبدان ناحلة، ظلت شاخصة في حضور أبدي كلما التفتنا الى جهة أول الزمان تراءت لطيفة الوجود، قاهرة الحضور.. وتميزت بأنها واحدة الذات لامتناهية التجليات.. كل يوم يحط مخلوق رحل علمه أمام سرادق جمالها المنصوب.. يتجول ينظر يرى وإنما ببصره وفي مرآته.. ويرجع إلينا وفي يقينه حقيقة، ولكنها على صورته ومثاله.. وتتعدد الحقائق بتعدد الخلائق..

ونحن اليوم نحط رحل علمنا أمام ثلاث قضايا يدفعنا هذا الكتاب الى طرحها وهي: العشق والمرأة والجمال.. وكل ذلك في إطار وحدة جامعة هي التصوف.  

ونبدأ بالعشق.. الصوفية أرباب باطن توغلوا في شعاب النفس وفصلوا ميل الإرادة نحو المحبوب، تكلموا في حقيقته، طبيعته، درجاته، ثم تعددت عندهم أسماء هذا الميل وهذا الإنجذاب تبعاً لدرجته.. فرأينا الحب، الود، الهوى، الصبابة، والعلق، والكلف، والخلة، والشغف، والشعف، التتيم، التبتل، الولع والولوع، الغرام، الهيام، التدله، الوله، العشق. الى آخر هذه الأسماء والمسميات.

ونكتفي بأن نعرض هنا رؤية ابن عربي – الشيخ الأكبر للصوفية- في الحب والعشق والعلاقة بينهما، إذ لا يتسع المجال لعرض رؤيتنا الصوفية في هذا الموضوع، لأن عرضها يستلزم إيضاح مقدمات نظرية تحتاج وقتاً يتخطى المتاح..

يرى ابن عربي أن أول سقوط الميل في القلب، أول ظهوره من الغيب الى الشهادة في القلب يسمى هوى، يقال هوى النجم اذا سقط.. فالهوى سقوط الميل في القلب، أما اذا تخلص الهوى وصفا من كدورات الشركاء سمي حباً لصفائه وخلوصه، فالحب صفاء هوى القلب وخلوصه من الشركاء، والعرب تقول لصفاء بياض الأسنان ونضارتها: حبب الأسنان.

أما العشق فهو إفراط المحبة أو المحبة المفرطة.. فإذا عمّ الحب الإنسان بجملته وأعماه عن كل شيء سوى محبوبه، وسرت حقيقة الحب في جميع أجزاء بدنه وقواه وروحه، وجرت فيه مجرى الدم في عروقه ولحمه، وغمرت جميع مفاصله، فاتصلت بوجوده، وعانقت جميع أجزائه جسماً وروحاً ولم يبق فيه متسع لغير محبوبه.. حينئذٍ يسمى ذلك الحب عشقاً..

ومن أحق من اللّه سبحانه بهذا العشق.. هذا القربان للذات الكلّي والتام. هذا ما أكد عليه أعلام الصوفية – رجالاً ونساء..

ونقف هنيهة مع رنين حروفهم وأنين أرواحهم، ودون تعليق، لنرى كيف وهم غرقى في بحر العشق، يستزيدون من لججه من جبروته.. سلطان العاشقين، ابن الفارض:

 

   ما بين معتركِ الأحـداقِ والمُهَـجِ         أنا القتيـلُ بلا إثـمٍ ولا حَـَرجِ

      ودّعتُ قبل الهوى روحي، لما نظرَتْ       عينـايَ من حُسْنِ ذاكَ المنظرِ البَهِجِ

   وخُـذْ بقيةَ مـا أبقيتَ من رمـقٍ       لا خيَر في الحبِّ إنْ أبقى على المُهَجِ

 

ويقول أيضاً:

   فإنْ شئتَ أنْ تحيا سعيداً فمُتْ بـِهِ        شهيـداً، وإلا فـالغـرامُ له أهـلُ

 

ويصف سري السقطي أستاذ الجنيد مظاهر العشق على العشاق فيقول:

   إذا ما شكوتُ الحبَّ، قالتْ: كذبْتَني             فمالـي أَرى الأعضاءَ منك كواسِيا؟ 

   فلا حبَّ حتى يَلصقَ الجلدُ بالحشـا       وتُـذهـلَ حتى مـا تُجيبَ المناَديـا

ويقول أيضاً:

         منْ لم يبـِتْ والحبُّ حشوُ فـؤادِه       لم يـدْرِ كيـفَ تُفتـّتُ الأكبـادُ

 

وأبو يزيد البسطامي.. لا يرتوي..

      شربتُ الحبَّ كأساً من بعدِ كـأسٍ       فمـا نَفَـذَ الشـرابُ وما رُويـتُ

 

وذو النون أيضاً لا يرتوي..

   أموتُ وما مـاتَتْ اليك صبابتَـي       ولا رُويتْ من صدقِ حبِّكَ أوطـاري

ويصف الجنيد تعشق العشق في بدنه قائلاً..

      ومـا تنفّستُ إلا كنتَ مع نَفَسـي      تجري بكَ الروحُ مني في مجاريها

والشبلي أيضاً تعشقه العشق..

      قـد تخلَّـلْت مسلكَ الـروحِ مني          ولذا سُمّـي الخليـلُ خليـلاً 

   فـإذا مـا نطقتُ كنتَ حديثـي       وإذا مـا سكتُّ كنتَ غليـلاً

 

العشق الالهي إذاً فناء كامل تام بحيث لا يعود يصلح فيه العاشق لغير عشقه.. وتنتسل فيه الروح نَفَسَاً نَفَسَاً من بدن يذبل ويصفر… هؤلاء العشاق وان مثلوا في التاريخ الصوفي نموذجاً مميزاً إلا أنه لا يشمل كلية التصوف الرسلامي ويعبر عنه تعبيراً كاملاً.. فإلى جانب العاشق هناك العالم العارف وهناك المربى المهذب وغيره من النماذج التي صورتها نصوص الصوفية.

 

المحطة الثانية التي يلزمنا هذا الكتاب بالتوقف عندها هي المرأة.. ففي اختياره لسيدات عاشقات أفرد المرأة في أفق النظر.. الإسلام متهم بأنه لم ينصف المرأة بأنه غير عادلٍ معها لأسباب وأسباب لا يملون من تكرارها.. والإسلام هذا المتهم الدائم بحيث لا يكاد يلتقط المسلمون أنفاسهم في زمن عن رد اتهام حتى يسارع من يرتب الأحداث الى دفع اتهام جديد يشغلهم زمناً آخر وهكذا .. ولسنا هنا في مجال بحث مكانة المرأة في تصور الإسلام ولكن نقول، بأن الصوفي المسلم، الذي تكوّن وجدانه من آيات القرآن وتعاليم السنة نظر الى المرأة على انها حقاً شقيقة الرجل، خرجت من ضلوعه فظل حنينه اليها حنين الكل الى جزئه الى قطعة لقطعة منه.. وحنينها اليه حنين المسافر الى وطنه.. النساء شقائق الرجال.. وكان الصوفي لا يستكبر من أن يتخذها مؤدبة، مربية روحية وأماً الهية.. فهذه رابعة يزدحم الرجال في مجلسها، والحكيم الترمذي كانت زوجته شريكته في عرفانه.. ومحيي الدين بن عربي خدم بنفسه امرأة من المحبات العارفات باشبيلية هي فاطمة بنت المثنى القرطبي واتخذها مربية روحية وأماً الهية.   

الصوفي أسقط عن الإنسان أثوابه المعارة كلّها، أظهر عريه للأعين، هذا الوجود العاري هو قيمته الحقيقية. قيمته خارج كونه رجلاً أو امرأة، غنياً أو فقيراً، حاكماً أو محكوماً، عالماً أو أمياً.. وبعد أن تسقط أثوابنا المعارة كلها تظهر الذات عارية.. وفي الذات لا تفاضل.. العين واحدة.. يقول ابن عربي:” الإنسانية تجمع الذكر والأنثى، الذكورة والأنوثة فيها عرضان ليسا من حقائق الإنسانية”.. فالصوفي ينظر الى المرأة على انها ذات تمتلك وليست شيئاً يسعى لأمتلاكه.. لذلك ما من مقام في الولاية أوصد أبوابه أمام المرأة المتصوفة مهما علا.. حتى مرتبة القطبية، وهي الخلافة الكونية، يـؤكـد ابن عربي أن المرأة تصل اليها، وتصبح صاحبـة العلـم اللـدنـي والمتصرفة فـي الأكـوان بالإذن الإلهـي..

فأمام اللّه لا ذكر ولا أنثى.. وإنما عبد يطرق الباب.. ويتسمّع.. وعلى الرغم من هذا الباب المفتوح أمام المرأة للتفوق الروحي، وعلى الرغم من مئات أسماء السيدات التي تزخر بها كتب الطبقات، إلا أن طبيعة المرأة وجدانية استغراقية أكثر مما هي إشراقية عرفانية.. ونراها تحظى بوصول عميق وثابت ولكنه صامت ودون ضجيج.. وسيدات هذا الكتاب خير مثال على أقوالنا هنا.. كما أن الفكر الصوفي بعد القرون الثلاثة الأولى للهجرة تطور بإتجاه التدوين والتسطير واستعد بعلوم العصر المتاحة.. والمرأة المتصوفة لم تحظ كالرجل بظروف التعليم التي تمكنها من الإسهام في العلم الصوفي الذي أخذ يفارق الأمية السابقة، وإن ظل بعض الأميين من الأولياء يظهرون بين الآن والآخر فـي جمـوع المسلمـيـن..

والآن بعد بيان حقيقة العشق وموقع المرأة ورتبتها عند الصوفي نصل الى محطة ثالثة هي الجمال.. مطالعة الجمال سبب العشق.. ونكتفي من هذه الوقفة بأن نقول ليس المقصود بالجمال جمال التقاطيع والسمات على اهميتها، لأن الصوفي لا يطالع بصره إلا الجمال.. حتى حيث يتبدى القبح في عين غيره.. يقول الجيلي:

   فكُلُّ بهاءٍ في مَـلاَحَـةِ صـُورَةٍ          عَلَى كُلِّ قَدٍّ شـَابَهَ الغُصْنَ يَانِـعُ 

   وَكُلُّ كَحِيلِ الطَّرْفِ يَقْتُلُ صَبـَّهُ              بَمَاضٍ كَسَيْفِ الهِنْـدِ مُضَـارِعُ 

   وَكُلُّ اسْمِرَارٍ في القَوَائِمِ كالْقَنَـا           عَلَيْهِ مِنَ الشَّعْرِ الرَسِيـلَ شَرَائِـعُ 

   وَكُلُّ مَلِيحٍ بالمِلاَحَـةِ قَدْ زَهَـا            وَكُلُّ جَمِيلٍ بِالمَحَـاسـِنِ بَـارِعُ 

   وَكُلُّ لَطِيفٍ جَلَّ أَوْ دَقَّ حُسْنُـهُ              وَكُلُّ جَلِيلٍ وَهْوَ بِاللُّطْفِ صَـادِعُ

   مَحَاسِنُ مَـنْ أَنْشَأَ ذَلِكَ كُلـَّهُ            فَوَحِّدْ وَلاَ تُشْرِكْ بِهِ فَهْـوَ وَاسِـعُ

      وَكـُلُّ قَبِيحٍ إِنْ نَسَبْتَ لِحُسْنِـهِ           أَتَتْكَ مَعـَانِي الحُسْنِ فِيهِ تُسَـارِعُ   

   فَلاَ تَحْتَجِبْ عَنْهُ لِشَيْنٍ بِصُـورَةٍ           فَخَلْفُ حِجَـابِ العَيْنِ لِلْحُسْنِ لاَمِعُ

 

الجمال عند الصوفي شلالات متدفقة تغمر الكون بأجمعه، صور الكون كلها تلتمع فيها من الحسن لوامع.. واذا تركنا جمال الصور جانباً نجد الصوفي حين ترقى في مدارج الواصلين تطلّب أن يكون كل ما يحيط به جميلاً.. من هنا غصت كتبهم بالآداب.. فرأيناهم يتميزون في كل حركة وسكون.. لهم في مأكلهم ومشربهم آداب خاصة.. في سفرهم وفي أقامتهم.. حتى في موتهم لهم آداب، يستقبلون الموت كل على قدره ومقداره.. كما ان لهم آداب خاصة في الصحبة والمصاحبة والمعاشرة والأخوة.. يترافقون ويتصاحبون ويتعاشرون ويتآخون على غير ما يعهد الناس، لهم أصول تحكم علاقاتهم.. كلّها محكومة للجمال، اذ قلما نرى من صوفي قبيحاً في مأكله أو مشربه في موته في معاشرته. وفي تآخيه..  

الصوفي جميل يحب الجمال وأعماله كلّها جميلة.. لا مكان للقبح عنده.. واعتقد انه مهما حاولنا اكتساب الآداب السلوكية من التربية والتوجيه الإجتماعي المتوفر في بيئاتنا إلا أنه يظل قاصراً لأنه يظل على مستوى العادات الإجتماعية ولا يصل الى مرتبة السلوك الذاتي النابع من ترقي الذات الإنسانية وضجرها من كل قبيح..

وهكذا رافق كل معاملة أو تعامل آداب مخصوصة انفرد بها الصوفي.. حتـى معاملة المحبـوب  – الذي هو اللّه سبحانه – لها آداب عندهم فصلها المكي في كتابه “قوت القلوب في معاملة المحبوب”.. وهنا يرتبط آخر كلامنا بأوله.. العشق فناء يستحقه مقام المعشوق ويجمل بالصوفي أن يؤدي الأمانة ويفي بالحقوق..

 

تقول رابعة..

  أُحبُّـكَ حبُين حـبَّ الهـوى            وحبّـاً لأنـّكَ أهـلٌ لـذاكا

  فأَمّا الذي هو حـبُّ الهـوى              فشُغلِيَ بذكركَ عمّـن سِـواكَ

  وأمّا الـذي أنتَ أهـلٌ لَـهُ               فكَشفِـكَ ليَ الحُجْبَ حتى آراكَ  

ونصل في آخر محطة لنا الى بعض التمنيات على الزميل العزيز..

يوجد في بعض كتب التصوّف روايات شعبية تربط بين أقطاب صوّفية.. تبتدع لقاء بين  رجل وامرأة أو بين رجل ورجل هدفه بيان تفوق أحدهما على الآخر..

مثلاً كانت رابعة تمشي على شاطىء البحر فالتقت الحسن البصري رأته باسطاً “سجادته” على صفحة الماء وقائماً يصلي.. ففردت سجادتها في الهواء ووقفت عليها تصلي..  مباراة سخيفة لا تتفق ومكانة الشخصين وجديتهما وورعهما وخوفهما من اللّه.. بالإضافة الى أنَّ رابعة لم تلتق الحسن البصري.. من أجـل هذا الشك نعمد دائماً الـى اتباع كل اسم يرد لصـوفـي بالتـواريـخ المنـاسبـة.. هـذا تمـنـي..

ثم نظراً الى أن المادة المتوفرة لبناء الكتاب كانت قليلة نسبياً، اذ نصوص هؤلاء السيدات قديم يرجع الى القرنين الأولين للهجرة الى زمن ما قبل التدوين وظهور الكتاب الصوفي، ثم وانه قليل بحيث لا تتجاوز نصوص الواحدة منهن الصفحة الواحدة في أكثر الأحيان.. هنا برزت إشكالية نتعاطف مع الزميل العزيز فيها.. حاول أن يعوض قلة المادة بالإستفادة من كل كلمة قيلت والبناء عليها.. فإذا أوردت كلمة “بكاء” توقف عند هذا المفهوم وبين أهميته وتجذره في السلوك الصوفي ونقل أقوال الصوفية فيه.. اذن قلة المادة جعلت الزميل يطرح موضوعات هامة ولكنها عامة في الفكر الصوفي مثلاً طرح قضية التصوف وخوف الإنسان من الموت، التصوف والحياة الإجتماعية، التوحيد الصوفي والتوحيد المعتزلي، العاشق ونموذج المجنون الإلهي، كما طرح قضية الحب والجوارح، الخ. ثم أثناء طرحه لهذه الموضوعات كان متعاطفاً معها موافقاً لمواقفها دون محاكمة.. مع أننا اليوم في أشد الحاجة لإعادة النظر في كل شيء .. فإن ترك الصوفي المجتمع أناقشه وأحاكمه ويحق لي ذلك لأن التصوف ليس ديناً قائماً بذاته.. فهو لا يحتوي كلية الإسلام لذلك حاول متأخريهم إفراد مئات الصفحات في كتبهم لأحكام العبادة .. التصوف يحتل زاوية من زوايا الرسلام.. زاوية حقيقية هي زاوية السلوك الخلقي والآداب.. والعرفان الذي نعموا به إنكشف لهم بمسلكهم للشريعة.. وهذا ما صوره هذا الكتاب.. صور صيام العاشقات وقيامهم في الليل.. صور صلاتهم وخوفهم من يوم القيامة وتحضرهم له.. أبدان “اسوّدت” جلودها من الصيام والقيام.. وإن كنت أتحفظ أمام هذه المقولة لأن النصوص الصوفية تربط الإسوداد بالذنوب.

وأرى أن الزميل كان موفقاً ومشكوراً حين اختار “العشق الإلهي” موضوعاً.. لأنه من القضايا المشتركة بين الناس جميعاً، التصوّف جامع لأن اللّه سبحانه جامع وحبه جامع.. ما من إنسان إلا ويوجه وجهه الى اللّه.. وإن كان بتصورات مختلفة متباينة.. من هنا أي نص في الحب الإلهي يجتذب الناس كافة على إختلاف شرائعهم ومناهجهم..

 

وختاماً أقول، كلّنا نحب اللّه.. وقليلٌ منا يعشقه.. ولكنّ اللّه من يُحب؟ هذا ما يجيبنا عنه القرآن الكريم، ويتردد صداه في حروف الصوّفية وتنظيمهم للمقامات والأحوال..

الباب مشرعٌ مفتوحٌ.. وأن نسعى لأن يحبنا اللّه هو سعيٌ لن يضع أنوفنا أمام جدار الندم لأنه متنامٍ دوماً، لا يعرف طعم الخذلان ولا يذوق موتاً أو شيخوخةً.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!