زراعة النور في كون منشور .. الوجود ينفعلُ بالجود

زراعة النور في كون منشور .. الوجود ينفعلُ بالجود

زراعة النور في كون منشور .. الوجود ينفعلُ بالجود

بقلم: د. سعاد الحكيم 

إنّ «المروءة» هي طَبْع حميدٌ مغروسٌ في خُلُق أصحاب النّفوس الكريمة من البشر. وهذا الخُلُق الطيّب الأصيل يدفع صاحبه لأن يكون معطاءً كريماً، سخيّاً جواداً، جامعاً لأنواع الفضائل، صفوحاً منفتحاً، حسن الخُلُق، يُكرم نفسَه عن التدنّس بالبخل والشُحّ وعن الأنانيّة والتّعامي عن حاجات النّاس البادية في أحوالهم وإن كانوا لا يعبّرون عنها بالأقوال والكلمات.

هذه المروءة الإنسانيّة مطبوعة – غالباً – في كلّ نفس بشريّة كريمة (لا لئيمة)، وإن كان صاحبها على غير الإسلام أو يصرّح بأنه لا يدين بدين. والشّاهد هو ما وصلنا من أخبار مشاهير الأسخياء من العرب قبل ظهور الإسلام، وأيضاً ما نقرأ اليوم عن مشاهير الأسخياء في العالم الذين ينفقون من أموالهم في سبيل الإنسان والمجتمع.

إنّ سيّدنا رسول الله عليه صلوات الله، وهو الصّادق الأمين، ينبّه بأنّ الأخلاق لم تظهر بظهور الإسلام، ولكنّها كانت موجودة في الأرض منذ فجر البشريّة، وصَحِبَتْ كلّ الرّسالات السماويّة، ثم اكتملت وتمّت – كمّاً ونوعاً – بالرّسالة المحمديّة الخاتمة، يقول صلوات الله عليه: ((إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق)).

يتّضح ممّا سبق، أنّ «الإنفاق» ينصّ عليه الدِّين القويم كما تدفع إليه المروءات؛ لأنّه يحرّك عجلة الحياة في المجتمع، ويلطّف غليان شريحة كبيرة من النّاس محرومة من حقوقٍ أساسيّة، ويمتّن خيوط شبكة التّعاون والتّضامن بين أهل المكان الواحد. يقول تعالى آمراً المؤمن بالإنفاق: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم﴾ [البقرة 254]. ويقول تعالى ذاكراً أنّ الإنفاق صفة المؤمن: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ* أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً﴾ [الأنفال 2 -4]. ويقول رسول الله عليه صلوات الله: ((إنّ الله كريم يحبّ الكرم ومعالي الأخلاق…))، ويقول صلّى الله عليه وسلّم: ((السخيّ قريبٌ من الله، قريبٌ من النّاس، قريبٌ من الجنّة، بعيدٌ من النّار. والبخيلُ بعيدٌ من الله، بعيدٌ من النّاس، بعيدٌ من الجنّة، قريبٌ من النّار. وجاهِلٌ سخيٌّ أحبّ إلى الله تعالى من عابدٍ بخيل)).

بعد أن تبيّن أنّ «الكرم» هو خُلُق يحبّه الله تعالى ويحبّه رسوله المصطفى صلوات الله عليه، ننظر في معاجم اللّغة العربيّة فنجد كلمات أربع تدلّنا على درجات النّاس في العطاء والإنفاق. وهذه الكلمات هي: الكرم، السّخاء، الجود، الإيثار. اثنان منها قرآنيّان وهما: الكرم والإيثار، واثنان منها غير قرآنيّين وهما: السّخاء والجود. نرتّب هذه الكلمات في سلّم: ونبدأ بالكرم، فهو يدلّ على أن الشّخص الكريم هو الذي يعطي كلّ طالب ما يسأله، لا يفرّق بين قريب أو غريب، بين محبوب أو غير محبوب. ونثنّي بالسّخاء، وهو أوسع عطاءً من الكرم، لأنّ الشّخص السخيّ يبذل للسّائل طلبه ويزيده من عنده. ونثلّث بالجود، وهو أوسع من السّخاء، لأنّ الجواد يوصل العطاء إلى المحتاج دون مسألة منه، صيانةً له من ذلّ السّؤال. ونربّع بالإيثار، وهو أعلى درجات الإنفاق، لأنّ الشّخص المؤثر يقدّم حاجة غيره على حاجة نفسه، فيعطي السّائل طلبه، وإن كان هو نفسه وعياله أحياناً أشدّ حاجة من السّائل للعطاء المبذول.

ونتدرّج فيما يأتي مع فقرات أربع، نأمل أن تشارك في النّقاش الأخلاقيّ حول مسألة الإنفاق:

1 – الموقف من المال

إنّ موقف تهفيت المال وتحقيره والتّرفُّع عن السّعي إليه أو ادّعاء التنزُّه عن ادّخاره والاستئثار به، هو موقف – من وجهة نظر اجتماعيّة – غير سليم.. هذا، إن خلا من الرّياء والنّفاق. وفي المقابل فإنّ تقديس المال وتكديسه والتوحُّش في السّعي إليه ورمي الفتات منه إلى المحتاجين والأقل حظاً، هو أيضاً موقف غير سليم.. هذا إن خلا من اتّجارٍ يجرّ في أذياله سفك دماء وتخريب حياة شباب.

ولعلّ الموقف الوسطيّ الذي يعترف بأهميّة المال في حياة الشّخص والجماعة، ويحثّ على الإنفاق بل المشاركة، هو الأفضل والأصلح. وفي هذا السّياق نستشهد بقوليْن أوردتهما الوثيقة البيضاء المسجّلة للفكر الدَّندراوي وهما: «المال عَصَبُ الحياة» و»المال شراكةٌ بين غنيّ وفقير».

وهنا يستحبّ أن ينظر كلّ إنسان نظرتيْن: الأولى، إلى الآفاق، ليرى أنّ الإنسان لا يستطيع أن يتحرّك (يشتري، يفتتح عملاً…) إن كان لا يملك مالاً، وأنّ المجتمع يركد إن حبس أصحاب المال أموالهم. والثّانية، نظرة إلى الأعماق، ليفتّش عن حقيقة موقفه من المال، وأين هو من واجب إنفاقه، وهل هو مستعدّ لمشاركته مع أهل مكانه.

وقد بيّن سيّدنا رسول الله عليه صلوات الله العلاقة القائمة بين حبّ المال وبين البخل، يقول صلّى الله عليه وسلّم: ((يهرم ابن آدم ويشبّ معه اثنان: الأمل وحبّ المال)).

2 – إطلالة على نفوس كريمة

نجود على أبصارنا بالحفظ من الزيغ والطّغيان، وذلك عندما نرسلها في النّصوص القدسيّة تتلمّس أقوال وأفعال سيّدنا رسول الله عليه صلوات الله.. تقول السيّدة عائشة رضي الله عنها، وقد سئلت: «كيف كان رسول الله عليه صلوات الله إذا خلا في بيته؟ فقالت: كان أَلْيَن النّاس، وأكرم النّاس، وكان رجلاً من رجالكم إلا أنّه كان ضحّاكاً بسّاماً». وعن جابر رضي الله عنه قال: «ما سُئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئاً قطّ، فقال: لا». وعن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله عليه صلوات الله أَجْوَد النّاس، وكان أَجْوَد ما يكون في شهر رمضان (…) أجْوَد بالخير من الرّيح المُرْسَلة». وفي رواية عن أبي ذرّ رضي الله عنه يقول: «قال لي رسول الله عليه صلوات الله: يا أبا ذرّ، أترى كثرة المال هو الغنى؟ قلت: نعم. قال صلّى الله عليه وسلّم: وترى أنّ قلّة المال هو الفقر؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال صلّى الله عليه وسلّم: ((ليس كذلك، إنّما الغنى غنى القلب والفقر فقر القلب)).. صلوات الله وسلامه على المعلّم الأعلم الذي علّمنا التّفريق بين الثّروة الموجودة في اليد والثّروة الموجودة في القلب، وأنّ الثّانية هي الحقيقيّة والباقية والمُوَجِّهة لسلوك الإنسان في الكرم أو البخل، في السّخاء أو الشُّح..

ومن جمال خُلُق آل البيت النبويّ الطّاهر، أنّ رجلاً رفع رقعة إلى الإمام الحسن بن عليّ رضي الله عنهما. فقال الحسن: حاجتك مقضيّة. فقيل له: يا ابن رسول الله، لو نظرتَ في رقعته ثم رددتَ الجواب على قدر ذلك. فقال رضي الله عنه: يسألني الله – عز وجل – عن مُقامِه بين يديّ حتى أقرأ رقعته.

ومن طرائف الأخبار، أنّ أبا مرثد وكان أحد الكرماء في زمانه، فمدحه بعض الشّعراء. فقال للشاعر: «والله، ما عندي ما أعطيك، ولكن قدّمني إلى القاضي وادّع عليّ بعشرة آلاف درهم حتى أقرَّ لك بها، ثم احبسني، فإنّ أهلي لا يتركوني محبوساً. ففعل ذلك ولم يُمْسِ حتى دُفِع إليه عشرة آلاف درهم، وأُخرج أبو مرثد من الحبس.

ويروى عن الإمام الشافعيّ أنّه قلّما يمسك شيئاً من سماحته، أنشد يقول حاكياً عن مدى شعوره بالحزن والأسى ومذاق المصاب عندما لا يجد عنده ما يلبي به طلب السائل:

يا لهف قلبي على مالٍ أجودُ به                       على المقلّين من أهلِ المروءاتِ

إنّ اعتذاري إلى من جاء يسألني             ما ليس عندي، لمن إحدى المصيباتِ

3 – البخل على الآخر هو بخلٌ على الذّات

بيّن القرآن الكريم للإنسان أنّه إن أراد أن ينال خير الدُّنيا والآخرة ويُكتب اسمه في ديوان الأبرار، فعليه أن ينفق مما يحبّ، أي من أَجْوَد ماله، أو ممّا هو عزيز عليه من أنواع النِّعم الإلهيّة الأخرى كالعلم والجاه والكلمة المسموعة عند «سلطان» وغير ذلك. يقول تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران 92]. وفي الوقت نفسه، بيّن القرآن الكريم للإنسان أنّ كلّ شيء ينفقه على الغير فهو مردود إليه من وجهيْن: وجه التّعويض الماديّ بالمِثْل إلى عدّة أمثال. يقول تعالى: ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [سبأ 39]. ووجه التّعويض الذاتيّ والاجتماعيّ لأنّ الإنفاق يحرّك دورة المال في المجتمع وتعود هذه الحركة على الآخر وعلى المنفق معاً بكلّ خير. يقول تعالى: ﴿وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [التغابن 16]. وفي السّياق نفسه الدّالِّ على مردود الإنفاق على صاحبه، يوصي النبيّ الأميّ صلوات الله عليه أمّته بأن تتجاوز عن ذنب الإنسان السخيّ المتواجد في محيطها الإنسانيّ، يقول صلوات الله عليه: ((تجافوا – وفي رواية: تجاوزوا – عن ذنبِ السخيّ، فإنّ الله عزّ وجلّ آخِذٌ بيده كلّما عَثَر)).

4 – الوجود ينفعل بالجُود

سمع الفيلسوف المسلم الكبير ابن رشد وهو في قرطبة بظهور مذهب دينيّ فكريّ جديد يُنسب إلى نزيل مراكش الشيخ أبو العبّاس السَّبتيّ (ت 601هـ)، وهو أحد الرّجال السّبعة أصحاب الأضرحة المشهودة في مراكش. ونظراً لشغف هذا الفقيه الفيلسوف بالإحاطة   بمعارف عصره أرسل تلميذاً له (أبو الفرس الغرناطي) وقال له: إذا رأيت أبا العبّاس بمراكش، فانظر مذهبه وأعلمني به.

فجلس تلميذ ابن رشد مع السَّبتيّ كثيراً وسمع منه حتى حصّل معرفةً بمذهبه. ويتلخّص مذهب السَّبتيّ بأنّه يعيد قراءة النصوص القدسيّة كلّها تقريباً على محوريّة مفهوم واحد، هو مفهوم: الجود. وعلى هذا المفهوم (= الجود) يبني رؤيته لمنظومة العلاقات كلّها: الذَّاتيّة، والاجتماعيّة، والسياسيّة، والكونيّة.

-على مستوى الشّخص مثلاً، فإن تحقّق المرء بالجود وصار جواداً، يتحسّن وجوده وينصلح حاله ماديّاً ومعنويّاً. وكان السَّبتيّ إن أتاه أحدٌ يطلب منه شيئاً [أي يطلب منه أن يدعو له في شيء من أمور الدِّين أو الدُّنيا] كان يـأمره بالصدقة، ويقول له: تصدّق ويتّفق لك ما تريد. أي بالصّدقة تقضى جميع الحوائج كما أنّ الجود عنده جالب للخير طاردٌ للشرّ، منشّط لوعي الإنسان وفاتح لبصيرته، وما على الإنسان إن أراد إحداث أمرٍ في الوجود الخارجيّ إلا أن ينفق ويتصدّق ويجود. وبذلك فالجود ضرورة حياتيّة لكلّ إنسان، لا فرق فيه بين غنيّ وفقير.. إلا بشكل الجود، هذا يجود بمال وذاك بقضاء حاجة وذيّاك بكلمة طيّبة وهكذا..

-وعلى مستوى العلاقة بين الشّخص والجماعة، فإنّ الإنفاق أو الجود هو الذي يماسك بين النّاس، ويُعلي بنيان المجتمع. وفي المقابل، فإنّ البخل يفرّق الناس ويخلخل البنيان الاجتماعيّ.

-وعلى المستوى السياسيّ، فإنّ جود الحاكم أو الخليفة يؤثّر على قوّة ملكه واستمراره، بل أبعد من ذلك، فإنّ الطبيعة نفسها تنفعل من عدل الخليفة أو الحاكم (والعدل شكل من الجود) فتكثر خيراتها في زمانه، بخلاف الحاكم الظّالم الذي تشحّ الطبيعة في أيّامه وتتوالى النّوازل البشريّة والكوارث الطبيعيّة في وقته.

استطاع تلميذ ابن رشد أن يلملم أطراف مذهب أبي العبّاس السَّبتيّ، وينقله إلى أستاذه. فما كان من ابن رشد إلا أن قال قولته الشّهيرة واصفاً مذهب السَّبتيّ: «إنّ هذا الرّجل يرى بأنّ الوجود ينفعلُ بالجود».

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!