فيه ما فيه لمولانا جلال الدين الرومي

فيه ما فيه لمولانا جلال الدين الرومي

الفصل الأول من كتاب فيه ما فيه 

ترجمة: عائشة موماد

عن النسخة الفرنسية التي ترجمتها وحققتها

إيفا دوفيتري ميروفيتش Eva Devitray-Meyerovitch**

 

الفصل الأول

  ” إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون”

قال الرسول عليه الصلاة والسلام: ” شرار العلماء الذين يأتون الأمراء، وخيار الأمراء الذين يأتون العلماء[1]. “نعم الأمير على باب الفقير، وبئس الفقير على باب الأمير”[2].

لقد أخذ الناس المعنى الظاهر لهذا التقليد وفسروه كالآتي: ” لا يصلح للعالِم أن يزور الأمير خوفا من أن يتم اعتباره من أسوأ العلماء”. لم يكن هذا العالِم ما تم اعتقاده، فأسوأ العلماء من يحصل على العون من الأمراء، ويكون صيته ومرتبته مرهونا بأيديهم، ونتيجة الخوف على نفسه منهم. صار عالِما كي ينعم عليه الأمراء بالأعطيات ويمنحوه مراتب الإجلال ويخلعوا عليه المناصب. من أجل ذلك فقد سعى في بادئ الأمر إلى التمكن من علمه فصار جهله علما. وخوفا من عقاب الأمراء، فهو ذليل يبذل قصارى جهده من أجل إرضائهم.

إذا زار الأمير العالِم، أو إذا زار العالِم الأمير، يكون العالِم زائرا والأمير مَحلَّ الزيارة. عندما يصير العالِم كذلك من أجل الله تعالى لا من أجل الأمراء، وعندما تكون أفعاله محمودة لجبلة فيه حيث لا يستطيع أن يكون خلاف ذلك، مثل السمكة التي لا تقدر على العيش خارج الماء، فهذا العالِم موجه بفضل العقل فقط، يشعر الناس في زمانه بخشية موسومة بالوقار تجاه عظمته، فيستقبل العالَم إشعاع نوره، سواء علم بذلك أم لم يعلم. إذا زار مثل هذا العالِم أميرا يكون زائرا في الصورة لكنه في الحقيقة محل الزيارة. فالأمير هو الطالب للعلم أما العالِم فكاف نفسه بنفسه، مثل الشمس المشعة، يعطي دون تفرقة، يحول الحجر إلى عقيق وياقوت، وتلال التراب إلى مناجم من نحاس وذهب وفضة وحديد، والأرض الجرداء إلى خضرة نضرة، ويمنح الأشجار فاكهة مختلفة. يعطي ويهب ولا يستلم شيئا {يأخذ ويستلم من جديد}، تقول الأشجار: ” نحن تعلمنا أن نعطي، ما تعلمنا أن نأخذ “[3]. فالعالِم هو محل الزيارة والأمير هو الزائر. {يقول سبحانه: “لا تعتمدوا على علمك وقوتكم وجبروتكم، إني أنا العالم القوي الجبار، كي أمنعكم من طلب المساعدة من الآخرين والبحث عن عون الأمراء والسلاطين، قولوا: (إياك نعبد وإياك نستعين) (سورة البقرة-الآية 4)”}.

لقد خطر لي شرح هذه الآية من القرآن الكريم حتى وإن لم يكن لها موضع هنا، سأفعل ذلك لتفسيرها. يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأسرى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[4]) ، وهذا هو سبب نزول الآية على الرسول صلى الله عليه وسلم: كان الرسول صلى الله عليه وسلم منتصرا، قتل الكفار وأخذ الغنائم ومجموعة من الأسرى، قيدت أرجلهم وأيديهم. كان من بينهم عمه العباس رضي الله عنه. كانوا يئنون ويبكون في قيودهم من العجز والذل كل ليلة، قد أضاعوا كل أمل ومكثوا في انتظار السيف والتقتيل. ألقى عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم نظرة ثم ضحك[5].

فحدثوا بعضهم البعض وقالوا: “أرأيتم، لازالت نقط الضعف الإنسانية ملازمة له، وادعاؤه بانعدامها فيه لا أساس له من الصحة. ينظر إلينا الآن ويرانا أسرى في هذه القيود والأغلال وهو في كامل سعادته. هكذا عندما ينتصر الأناس العاديون على أعدائهم ويرونهم منهزمين، فإنهم يفرحون ويُسَرّون”.

فهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان في صدورهم فقال: “لا، إن ضحكت، فليس لأنني أرى أعدائي منهزمين أو لأنني أراكم مبتلين. أنا مبتهج أضحك {لستُ مبتهجا لكني أضحك}، لأني أرى بعين الباطن رجالا قد انتزعوا من أتون النار وجهنم والدخان الأسود. أسحبهم من قيودهم وأغلالهم نحو الجنة وحديقة الورد الأبدية. لكنهم يئنون ويصرخون قائلين: “لماذا تذهب بنا من هذا المكان المحفوف بالمخاطر نحو جنة الورد الأبدية وذلك المكان الآمن؟” فلهذا أضحك، فليس لديكم هبة النظر التي تمكنكم من الرؤية. لقد أمرني الله تعالى: “قل للأسرى إنكم جمعتم الجيوش وأعددتم قوة كبيرة، لقد وثقتم في شجاعتكم وقواكم وقلتم لبعضكم البعض: هذا ما سنفعله بالمسلمين، سنهلكهم وسننتصر عليهم. لم تروا فوقكم من هو أقوى منكم، ولم تعرفوا قادرا على اختطاف هذا الانتصار منكم. لذلك انقلبت كل خططكم ضدكم.

في لحظة خوفكم هذه، فأنتم لا تتوبون عن الذنب، لقد أصابكم اليأس ولا ترون أي جبار فوقكم. في موقف قوتكم، وجبت عليكم رؤيتي ووجب عليكم التصديق بقهري لكم، كي تصبح الأشياء هينة أمامكم. لا تيأسوا مني في خوفكم، لأنني قادر على إنقاذكم ومنحكم الأمان. من يستطيع إخراج بقرة سوداء من بقرة بيضاء، يمكنه إخراج بقرة بيضاء من بقرة سوداء.
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ)[6]..
(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ)[7].
الآن وأنتم أسرى، لا تيأسوا مني حتى آخذ بيدكم، (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ[8])

والآن، يقول الله تعالى: “أيها الأسرى، إن رجعتم عن دينكم ورأيتموني في الخوف كما في الرجاء، ووجدتم أنفسكم مستسلمين لي في كل موقف، أنقذتكم من الخوف ورددت لكم ما أُخذ وما أُتلف من أشيائكم، رددتها لكم أضعافا مضاعفة وغفرت لكم، وألحقتكم بالسعادة في الدارين”.
فقال العباس: “تبت ورجعت عما كنت عليه”، فرد الرسول صلى الله عليه وسلم: “يريد الله تعالى منك دليلا على هذا الادعاء”.
من السهل ادعاء العشق،
لكن يلزمك دليل على ذلك.
أجاب العباس: ” باسم الله، أي دليل تطلب؟”، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ” هب ما تبقى من ثروتك إلى جيش الإسلام ليقوى نفوذه، إن كنت حقا مسلما ومريدا الإسلام بالخير”.
أجاب العباس: “يا رسول الله، ماذا تبقى لي؟ لقد أخذوا كل شيء ولم يبقوا على حصير”. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “أرأيت أنك لست بالصادق وأنك لم ترجع عما كنت عليه؟ هل تريد أن أخبرك ببعض ما تملك من ثروات وبالذي حازها في غيابك وبمكان دفنها؟”. فرد العباس: “أعوذ بالله من ذلك!”.
قال الرسول عليه الصلاة والسلام: “ألم تعهد بهذا القدر من المال إلى أمك { أم الفضل}؟ ألم تخبئه داخل حائط كذا؟ ألم تسلمه إياها مفصلا ما يجب عليها فعله: “إن عدت أرجعتِ لي المال، وإن لم أعد صرفتِ مبلغ كذا من أجل كذا، وأعطيت مبلغ كذا لفلان، ثم كان لكِ مبلغ كذا ؟”
عندما سمع العباس ذلك، رفع الأصبع واهتدى للإسلام بكل صدق، ثم قال: “يا رسول الله، حسبت أن لك فضلا وحظوة من السماء مثل ما كان لسابقيك من الملوك كهامان وشداد والنمرود وغيرهم، لكن عندما سمعت قولك الآن، أنا على يقين أن هذه الحظوة من عالم آخر. إنها حظوة ربانية وهبك إياها المولى”.
أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم: “الآن قد صدقت، لقد قُطع زنار الشك {والشرك} داخل قلبك ووصلني صدى ذلك، لأن لي أذنا مخفية بأعماق الروح. وكلما قُطع زنار الشك والشرك والكفر، فإنني أسمع صوت ذلك القطع. والآن فقد أصبحت صادقا ومؤمنا حقا”.
تحدث مولانا مفسرا لما سبق: “من أجل ذلك قلت للأمير بروانه[9]:  “في البداية جعلتَ من نفسك قائدا للمسلمين قائلا: ” نذرت كل نفسي وعقلي وفكري لاستمرار الإسلام وزيادة أهل الإسلام، حتى يعرف الخلود”، لكنك اعتمدت على رأيك فقط، لم تر الله عز وجل ولم تعرف أنه الأصل في الأشياء، فجعل الله جهدك وطاقتك سببا في إضعاف الإسلام. لقد تحالفتَ مع التتار تعينهم على إبادة أهل الشام وأهل مصر وعلى خراب بلاد المسلمين. الآن أدر وجهك نحو الله عز وجل فهذا وقت الخشية. تصدق كي ينقذك من هذه الورطة. لا تيأس منه حتى وإن حوَّلك من الطاعة إلى المعصية، لقد ظننت أن تلك الطاعة منك فسقطت بذلك في المعصية. والآن، لا تيأس حتى وسط هذه المعصية، تضرع إلى الله، فهو القادر على أن يبدل حال المعصية بحال الطاعة ويأذن لك بالتوبة. هو القادر أيضا على أن يمنحك القدرة على إعلاء راية الإسلام وعلى أن تصبح أنت نفسك قوة الإسلام، فلا تيأس، (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[10].
أردت أن يدرك الأمير بروانه هذا الكلام، فيتصدق ويتضرع إلى الله بعد أن انتقل من حال غاية في الرفعة إلى حال غاية في الدناءة، ويتشبث بالأمل حتى في هذه الحال.

الله تعالى خير الماكرين[11]، يظهر صورا جميلة وفي باطنها صور قبيحة، حتى لا يصير الإنسان مغترا بنفسه ويقول: “أفكاري وأعمالي جيدة، ولن يصيبني غير الخير، {فليقرأ هذه الرباعية:

إلهي، فك كربي،
ارفع الصدأ عن مرآة قلبي.
حنانيك ورحماك! ارحمني بعفوك وكرمك،
أظهر لي الأشياء كما هي}.
لو كان كل ما يحدث مطابقا لصورته لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “إلهي، أظهر لي الأشياء كما هي[12]، وهو صاحب النظرة الحية النورانية المشرقة.
تظهر الأشياء جميلة وهي قبيحة في الحقيقة، وتظهر قبيحة وهي جميلة في الحقيقة. أظهر لنا كل الأشياء كما هي لكيلا نقع في الفخ ونكون من الضالين للأبد.
مهما كان حكمك صائبا، فلن يكون أفضل من حكم الرسول صلى الله عليه وسلم. كان هذا دعاءه دائما، لذلك لا تعول أنت أيضا على آرائك وأفكارك. توسل إلى الله وكن في خشية منه.
كان هذا مرادي، وقد جد (بروانه) بإرادة صادقة في استخدام هذه الآية وتفسيرها في شؤونه الخاصة، وقال: ” إننا نطلق الجيوش في هذه اللحظة وعلينا ألا نضع جل ثقتنا في هذا. إن هُزمنا فعلينا ألا نيأس من الله في الخوف والعجز”. لقد وضع هذا القول محل التنفيذ من أجل بلوغ هدفه.
وكان هذا مرادي.

 

الهوامش والتعليقات 

 

  ** Rûmi, Le Livre du Dedans, traduit du persan, présenté et annoté par Eva Devitray-Meyerovitch, Actes Sud 1982

[1]  نقل هذا الحديث مرات عديدة وبصيغ مختلفة. جاء في كتاب “إحياء علوم الدين” لأبي حامد الغزالي، دار ابن حزم –

بيروت 2005، الطبعة الأولى، ص 82. ويقول الغزالي أنه من إخراج ابن ماجة عن أبي هريرة بسند ضعيف.

[2]  جاء في الترجمة الفرنسية لكتاب فيه ما فيه للسيدة إيفا ميروفيتش أنه مثل مشهور لا يعرف قائله،

راجع كذلك كتاب “تخريج أحاديث إحياء علوم الدين” للعراقي وابن البكي والزبيدي، استخراج عبد الله محمود بن محمد الحداد، الجزء الأول، دار العاصمة للنشر-الرياض 1987، الطبعة الأولى، ص 203.

[3]  مثل عربي

[4]  سورة الأنفال، الآية : يقول المفسرون أن هذه الآية نزلت حول غزوة بدر (624 م)، من تقرير مصير الأسرى، ومن بينهم عم الرسول صلى الله عليه وسلم “العباس بن عبد المطلب” وابن عمه “عقيل ابن أبي طالب”.

[5]  يشير مولانا جلال الدين الرومي إلى ذلك في الكتاب الثالث من المثنوي في البيت 4473 (ترجمة محمد عبد السلام كفافي اعتمادا على نسخة نيكولسون، والتي اعتمدتها كذلك السيدة إيقا دوفيتري ميروفيتش في ترجمتها للمثنوي إلى اللغة الفرنسيةمن نسخة نيكلسون)

4473- لقد رأى الرسول جمعا من الأسرى، وهؤلاء كانواا ينوحون وهم ييُحمَلون

4474- إن ذلك الأسد العارف رأهم في القيود، وكانوا ينظرون إليه نظرات مقَنَّعة…

[6] سورة فاطر، الآية 13

[7]سورة الروم، الآية 19

[8] سورة يوسف، الآية 87

[9] الأمير معين الدين سليمان بروانه، كان من الشخصيات البارزة ووزيرا في الدولة السلجوقية، قُتل سنة 675 للهجرة من طرف المغول، كان يكن حبا كبيرا لمولانا جلال الدين الرومي ويحضر دروسه.

[10] سورة يوسف، الآية 87

[11]  سورة الأنفال، الآية 30: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ. سورة الأعراف، الآية 99: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ۚ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ.

 [12] حديث منسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!