مفارقات الطبيعة الإنسانية عند جلال الدين الرومي

مفارقات الطبيعة الإنسانية عند جلال الدين الرومي

مفارقات الطبيعة الإنسانية عند جلال الدين الرومي

إيريك جوفروا-Eric Geoffroy

ترجمة وتعليق عائشة موماد

 

حرر هذا النص بمناسبة احتفال اليونسكو بالذكرى الثمانمائة لمولد مولانا جلال الدين الرومي (السادس من سبتمبر 2007)، ونشر على موقع Les Cahiers de l’Islam في الثامن من فبراير 2014.

 

الإنسانُ شيءٌ عظيمٌ. نُقش بداخله كل شيء، لكن الحُجب والظلمات هي التي تمنع من قراءة هذا العلم فيه .

-أنت تستحق أكثر من العالمين. ما العمل؟ فأنت لا تعرف قيمتك ؟!

مولانا جلال الدين الرومي- كتاب فيه ما فيه.

 

يؤكد الرومي بشكل بارز على الكرامة الإنسانية في كل أعماله. فهو يرى في الإنسان الغاية من الخلق، ونقطة نهاية المشروع الإلهي. إن كان الإنسان آخر مخلوق قد ولج إلى الوجود الظاهراتي، فذلك لأنه كان للممالك الأخرى (المعدنية والنباتية والحيوانية، إلخ) مهمة إعداد قدومه؛ فكانت بذلك وسيلته للوصول إلى الكمال. وتحقيقا لهذه الغاية، يستعمل الرومي الصورة المعروفة للبستاني الذي يقوم أولا بإعداد التربة وزرع البذور والسقي والتشذيب …بغية إعداد محصوله.

“الشكل الخارجي للغصن هو أصل الثمرة، لكن في المعنى الباطني، لم يأت الغصن للوجود إلا من أجل الثمرة”.

إن لم يكن هناك شوق أو أمل في الثمرة، فلماذا يقوم البستاني بزرع الشجرة؟

لذلك، ووفقاً للحقيقة الباطنية، فقد منحت الثمرةُ الوجودَ للشجرة، رغم أن الشجرة في ظاهرها هي التي أنجبت الثمرة. ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ” وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي “. ولنفس السبب يقول الشيخ العارف: “نحن الآخِرون السابقون”[1]. نحن بالفعل الآخرون في نسق الخلق المادي المتجلي، والسابقون في النسق الميتافيزيقي. وهذا صحيح أيضا بالنسبة للسيادة البشرية مقارنة بالمخلوقات الأخرى، ولدين الإسلام، آخر وحي إلهي من أجل هذه المرحلة الإنسانية، وللنبي محمد صلى الله عليه وسلم وهو “خاتم الأنبياء”، لكنه مصدر الخلق وسبب وجود الكون، ولذلك غالبًا ما يشير الرومي إلى الحديث القدسي التالي: “لولاك ما خلقنا الأفلاك!”. ثم يتم الرومي المقطع السابق من المثنوي:

“إن كنتُ في الظاهر قد ولدت من آدم، فأنا سلف كل سلف بالمعنى […]

لذلك فقد ولد الأب (آدم) مني، لذلك ولدت الشجرة من الثمرة باعتبار المعنى “[2].

يصنف جلال الدين الرومي الإنسانية إلى ثلاثة أنواع: الكائنات الحيوانية والكائنات العادية والكائنات الملائكية، أي الأنبياء وورثتهم الأولياء. ومن بين الكائنات الملائكية، يؤكد جلال الدين الرومي على تفوق محمد صلى الله عليه وسلم، فالأنبياء يضاهون الأشعة الصادرة من الشمس المحمدية، كما يعتقد الرومي.

تحدث ابن عطاء الله السكندري – الصوفي الذي عاصر تقريبا جلال الدين الرومي- بعبارات مماثلة عن فكرة “النور المحمدي”فقال: ” وإذ قد عرفت أن الدعاء إلى الله لا يزال أبدا فاعلم أن الأنوار الطاهرة في أولياء الله إنما هي من إشراق أنوار النبوة عليهم. فمثل الحقيقية المحمدية كالشمس، وأنوار قلوب الأولياء كالأقمار، وإنما أضاء القمرُ لظهور نور الشمس فيه ومقابلته إياها، فإذا الشمس منيرة نهارا ومضيئة ليلا لظهور نورها في القمر الممدود منها، فإذا هي لا غروب لها.”[3]

فالنبي هو “الإنسان الكامل” وهذه العبارة تنتمي إلى مصطلحات ابن عربي أكثر منها إلى مصطلحات جلال الدين الرومي، لكن المعتقد يبقى نفسه.

 

الإنسان بشكل عام هو الوسيط والعلاقة الوسطية التي تصل الخلق بالله. فدون دراية منه، يطهر ما تم تدنيسه[4]. إنه باب الوصول إلى الله: “أنت البوابة إلى مدينة العلم [5] ، لأنك أشعة شمس الرحمة”[6].

من البديهي أن يستثمر الرومي التعاليم القرآنية للخلافة، فالإنسان خليفة الله في الأرض. فضلا عن ذلك، فالأسس العقائدية تشير إلى “الميثاق” الذي عقد بين الله والإنسانية في العالم الروحي ما قبل الخلق وفقا للقرآن الكريم[7]، وتكون “الأمانة” هي النتيجة البديهية لهذا العهد وفقا للقرآن الكريم دائما[8].  يوافق الإنسان على تقلد هذه الأمانة عند إبرام العهد مع الله تعالى، وعلى الرغم من ذلك، فلن يكون على مستوى المهمة الملقاة على عاتقه. لكن ما يهم الرومي في هذا السياق، هو أن للإنسان القدرة على الاختيار. الإنسان مخير، وهذه الصفة مشتركة بينه وبين خالقه[9].

هذه “الأمانة” الخاصة بالطبيعة البشرية تحديدا، وهذا الجزء الإلهي الذي يحمله الإنسان بداخله، هما اللذان يختصانه بمصير لا يقارن بمصير أي مخلوق آخر.

يقول الرومي: إذا قلت:” لا أقوم بالأعمال المفروضة علي، لكني أنجز أشياء أخرى”، فاعلم أن الإنسان لم يخلق ليقوم بهذه الأشياء الأخرى. كأنك تأخذ من كنز الملك سيفاً هندياً نفيسا، مصنوعا من أفضل أنواع الفولاذ، ثم تستخدمه كسكين جزار لقطع اللحم الفاسد “.

نتيجة لعملية التأنُّس، فقد نسي الإنسان بالفعل أصله السماوي ومهمته وتماهى مع صورته … ومع ذلك، ورغم أن شعوره قد صار باهتا، فإنه يحس باغتراب مضن، وحنين عميق لحالته الأصلية من النقاء والتوحيد، وهو ما يسمى في الإسلام بالفطرة. هنا تكمن الفكرة الرئيسية في أعمال الرومي، وهي بلا شك نفي الإنسان على الأرض، بعيداً عن موطنه الروحي، والشعور بالحبس في سجن الجسد والعالم الظاهراتي، والدليل النصي على ذلك هو حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ” الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر”. ويبقى الهدف لدى الإنسان الأكثر وعيًا بحالة السقوط خلال مسيرته الوجودية هو تذكر ذلك العهد والسعي لإيجاد الله مرة أخرى. ومن هنا تأتي الممارسة الأساسية للذكر في التصوف، أي تذكر الله والتضرع إليه.

رغم كل ذلك، فإن لسقوط الإنسان من حاله الفردوسي إلى الوضع الدنيوي معنى إيجابي في الإسلام ولدى الصوفية. فلو لم يسقط آدم لما تمكنت القدرات الحالية الملازمة لجوهر الإلهي من الظهور. ولو وصل كل البشر إلى حالة “الإنسان الكامل” فسيُردُّ الكون مباشرة إلى الـأصل الإلهي، وستتجدد الجنة ويتوقف العالم عن الوجود … فالسبب في ترسيخ العالم هو انفصال الإنسان عن الله[10] ،والأمر متروك هنا للإنسان كي يعود إلى التوحيد ويتعرف إلى الله في عالم الثنائية رغم فعل الشيطان. وفقا لمعنى الجذر العربي “ش ط ن” الذي يعني “فرَّق- فصل”، فالشيطان يسعى إلى منع الإنسان من التلاشي في التوحيد.

 

ولكن كيف نتحرر من الثنائية التي تُفرض علينا من الذات والعالم؟ ليس بالعقل الفطن بالتأكيد كما يقول جلال الدين الرومي، هذا “العقل” الذي يحتال علينا ويثير الشهوات والأوهام.  الحل الوحيد هو “الموت السلوكي”، أي تزكية الذات. يؤكد الرومي على هذه النقطة مستعملا صور متعددة، فينعت الذات غير المدربة وغير المهذبة بالحمار. والحالة هذه، فعلى الذات أن تتحول إلى عيسى، إلى “ذات عيسوية”[11]. هنا يظهر الأثر المنقذ لفرائض وشعائر الإسلام، مثل الصلاة:

أنت حي وابن للحي، أيها السعيد

ألا تختنق داخل هذا القبر الضيق؟

أنت يوسف وقتك وشمس القبة الزرقاء

اخرج من هذا البئر، اخرج من هذا السجن، وأظهر وجهك

فقد كبر يونسك في بطن الحوت

فما الذي أنقذه؟ إنه التضرع إلى مولاه.

 

في سياق هذه التزكية، يؤكد جلال الدين الرومي على فضائل المعاناة: “الألم هو الذي يوجه الإنسان في كل شيء. فإن لم يعان من هوس الشيء وحبه، فلن تتشكل لديه نية القيام به.  ودون ألم لن يتمكن من إنجاز أي شيء، سواء كان ذلك على الصعيد المادي أو الروحي […] لو لم تحس مريم بآلام المخاض، لما قصدت شجرة السعادة”[12].

 

وفي الختام، فإن مفارقات الطبيعة البشرية والعالم الظاهراتي تكمن في كونها متواجدة بفضل شيء ما أو بسبب… عدم إدراك جزء كبير من البشر وغفلتهم عن الحقيقة الإلهية، ونسيانهم وفقدانهم التام للذاكرة تجاه موطنهم الروحي، كانت هي اللازمة المهيمنة لدى جلال الدين الرومي، والتي تعكس دائما التفوق الذي يمنحه الرومي للمخلوق البشري وفقا لتعاليم القرآن الكريم، لا سيما في كتاب “فيه ما فيه”.

بإدراكه التام لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا” يقول الرومي: “لقد أتيتُ إلى هذه الأرض من أجل إيقاظ الأرواح النائمة”[13]. ويقول أيضا: “إن سمحنا لأنفسنا بالاستسلام للنوم، من سيداوي هؤلاء التعساء النيام؟ لقد تعهدت برعايتهم أمام الله كي أوصلهم إلى الكمال”[14].

 

هكذا يكون بالتحديد دور الكائن اليقظ، دور الشيخ الصوفي الذي يمثله جلال الدين الرومي، وهو ممارسة استدعاء التفكر باستعمال الرمز la maïeutique على مريديه، كما تشير إلى ذلك السيدة إيفا دوفيتري ميروفيتش.[15] إنه “فن توليد” العقول، والا رتقاء بالأنا الأصغر نحو الهو الأكبر، بمعنى تحويل النفس الحيوانية إلى نفس ملائكية وما فوقها إن أردنا استخدام مصطلحات الرومي.

 

[1]مولانا جلال الدين الرومي، المثنوي الرابع، الأبيات 520-526 عن طبعة نيكلسون، بترجمة محمد عبد السلام كفافي عن طبعة نيكلسون:

520- فظاهر هذه النجوم أنها تتحكم فينا، لكن باطننا أضحى متحكما في السماء.

521- أنت بالصورة إذن عالم أصغر، لكنك بالمعنى عالم أكبر.

522- فظاهر هذا الغصن أنه أصل الثمار، أما في الباطن، فالغصن قد وجد من أجل الثمار.

523- فلو لم يكن للبستاني ميل إلى الثمار وأمل فيها، فكيف كان يغرس أصل الشجر؟

524- فالمعنى إذن أن ذلك الشجر ولد من الثمار، وإن كانت هذه في الصورة قد تولدت من الشجر.

525- ولهذا فإن المصطفى قد قال: إن آدم والأنبياء يجيئون خلفي وتحت لوائي.

526- ولهذا أيضا قال صاحب الفنون في عبارة رمزية: “نحن الآخِرون السابقون”.

[2]  مولانا جلال الدين الرومي، المثنوي الخامس، الأبيات 527-529 ، ترجمة محمد عبد السلام كفافي عن طبعة نيكلسون.

527- فلئن كنت بالصورة من أبناء آدم، فأنا بالمعنى جد كل جد.

528- فمن أجلي كان سجود الملائكة له، وفي سبيلي صعد إلى السماء السابعة.

529- ولهذا فإن الأب قد ولد مني باعتبار المعنى، وكذلك ولدت الشجرة من الفاكهة باعتبار المعنى.

[3]  ابن عطاء الله السكندري في “لطائف المنن في مناقب الشيخ أبي العباس المرسي وشيخه الشاذلي أبي الحسن”، تحقيق عاصم الكيالي، كتاب ناشرون بيروت – ص 23. (المترجم)

ذكرها إيريك جوفروا في كتابه La sagesse des maîtres soufis, introduction, traduction et notes par E. Geoffroy, Paris, 1998, p. 34. 

[4]  مولانا جلال الدين الرومي، فيه ما فيه (الفصل الثامن) ترجمة عيسى علي العاكوب:

 ” وهكذا أرسل الحق تعالى الأنبياء والأولياء مثل ماء صاف عظيم يخلص كل ماء حقير وكدر يدخل فيه من كدورته ومن ألوانه العارضة”.

[5]  نسبة إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم” أنا مدينة العلم وعليّ بابها”.

[6] مولانا جلال الدين الرومي، المثنوي الأول، البيت 3763 ، ترجمة محمد عبد السلام كفافي عن طبعة نيكلسون:

3763- وما دمت أنت باب مدينة العلم، وكذلك شعاع لشمس الحلم

3764- فلتكن منفتحا -أيها الباب- أمام الباحث عن الباب، حتى يتحقق بك وصول القشور إلى اللباب”.

أما في ترجمة إبراهيم الدسوقي شتا الذي اعتمد على نسخة محمد استعلامي مع مقارنتها بمخطوط أصلي بقونيا وبنسخة نيكولسون، فتحمل هذه الأبيات في المثنوي الأول رقمي: 3777-3778: كالتالي:

3777- وما دمت أنت باب مدينة العلم، وما دمت شعاعا لشمس الحلم

3778- فلتفتح أنت الباب للباحث عن الباب، حتى يصل منك في القشور اللباب.

[7] وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ. سورة الأعراف، الآية 172

[8] إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا. سورة الأحزاب، الآية 72.

[9] مولانا جلال الدين الرومي، المثنوي الخامس، الأبيات 3087-3088، ترجمة إبراهيم الدسوقي شتا وهي موافقة هنا لنسخة نيكولسون.

3087- قال لقد تبت عن الجبر أيها الماكر، هناك اختيار، هناك اختيار، هناك اختيار

3088- واختياره هو الذي اختار كل أنواع الاختيار، واختياره كالفارس مخفي في الغبار.

انظر كذلك مولانا جلال الدين الرومي، المثنوي الرابع، البيت 2914، ترجمة محمد عبد السلام كفافي:

2914- وليس اختصاص الله إنسانا بأمر مانعا له من الطاعة أو الإرادة أو الاختيار.

[10] W. Chittick, The Sufi Doctrine of Rumi, Bloomington (USA), 2005, p. 58-60. 

[11] Dîwân, éd. Furûzânfar, Téhéran, 1957-1967, poème n° 1816. 

[12] جلال الدين الرومي، فيه ما فيه، ترجمة عيسى علي العاكوب، الطبعة الثانية، دار الفكر، دمشق 2009:

“إن الألم هو الذي يوجه الإنسان في أي عمل، وما لم يظهر في ذاخله ألم ذللك الشيء وهوسه وعشقه، فلن يقصد إليه، ولن يتيسر ذلك الشيء دون ألم، سواء أكان ذلك الشيء نجاحا في هذه الدنيا أم نجاة في الآخرة، وسواء أكان تجارة أم ملكا، وسواء أكان علما أم نجوما. ولو لم تظهر آلام الوضع لمريم لما قصدت إلى تلك الشجرة المباركة”.

[13] Eva de Vitray-Meyerovitch, Islam, l’autre visage, Paris, 1995, p. 152. 

[14]  Eva de Vitray-Meyerovitch, Rûmî et le soufisme, Paris, 1977, rééd. 2005, p. 123. 

[15] Eva de Vitray-Meyerovitch, Rûmî et le soufisme, Paris, 1977, rééd. 2005., p.130. 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!