الإمام أبو القاسم القشيري ومحنته

الإمام أبو القاسم القشيري ومحنته

الإمام أبو القاسم القشيري ومحنته

أحداثٌ وأبعادٌ

بقلم: محمّد البرسيجي

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله ومن والاه وبعد، فإنني أخصص هذا المقال للحديث عن محنة تعد من أشهر المحن والفتن التي تحدثت في التاريخ الإسلامي، وكان لها أثرٌ بالغٌ في مجريات كثيرٍ من الأحداث والوقائع في تلك الفترة، التي اكتظت بالفتن والمعارك الكلامية والسياسية.

ولا نستطيع أن نفهم بوضوح حقيقة المحنة التي مرَّ بها الأشاعرة عامةً والإمام القشيري خاصةً في هذه الفترة من الزمن إلا بعد فهم الإطار الذي كان يعيش فيه القشيري.

عاصر الإمام القشيري ثلاث دُولٍ، السامانية، والغزنوية، والسلجوقية، ونخص بالحديث هنا الدولتين: الغزنوية، والسلجوقية، لأن في ظل السامانية كان القشيري صغيرًا.

لم تكن الأحوال السياسية والعقائدية مستقرةً في هذا العصر وفي هذه البلاد، وفي ذلك يقول المقدسي في «أحسن التقاسيم»([1]): «وبهذا الأقليم عصبياتٌ بين الشيعة والكرَّامية، وبين الشافعية والحنفية، وقد يُهراق في هذه العصبيات الدماء…».

فالأوضاع في نيسابور وما حولها متوترةٌ لاختلاف المذاهب والعقائد، فهناك: الأشاعرة، والحنابلة، والمعتزلة، والكرَّامية، والإسماعيلية، والقرامطة، وسبب تجمُّع هذه العقائد المختلفة كلها في بلدٍ واحدٍ، هو نفي الخلافة العباسية معارضيها ومخالفيها إلى بلاد فارس، فنتج عن ذلك تجمَّع أكبر عدد من أصحاب المذاهب المختلفة.

ومن المعروف أن محمود بن سبكتكين الغزنوي كان رجلاً سنيًا، وكان يتخذ ضدَّ أصحاب العقائد المخالفة من المعتزلة، والإسماعيلية، والقرامطة، موقفًا حازمًا شديدًا، فكان يأمر عُمَّاله بقتلهم ونفيهم وتجرديهم من أموالهم؛ لذلك لم يكن لهم قوةٌ ظاهرة، ولا شوكة قوية في عهده.

ومع قيام الدولة السُّلجوقية على يد طغرلبك السلجوقي، اتخذ الكُندريَّ عميدَ الملك وزيرًا له، ويُعرف هذا الرجل بسبِّه للصحابة وبعدائه لأهل السنة والشافعية والأشاعرة، ومن الغريب أن يتخذ السلطان طغرلبك وهو رجل سنيٌّ حنفيٌّ وزيرًا رافضيًا معروفًا بسبِّه للصحابة وكرهِهِ للشافعية والأشاعرة، فلعلَّ هذا لحساباتٍ سياسية.

والغريب أنه بعد تولِّي الكندري للوزارة أصبح لأصحاب العقائد المخالفة قوة، وحاول الكندري أن ينتقم من أهل السنة (الأشاعرة والماتريدية) بسبب ما كانوا يفعلونه بهم في عهد الدولة الغزنوية.

فحاول أن يقنع السلطان طغرلبك بأن الأشاعرة مبتدعة، ولعْنُهم على المنابر واجبٌ حتى يعلم الناس خطرهم.

 وتحكي المصادر أنه دبَّر مكيدةً خبيثةً أقنع بها السُّلطانَ بأنَّ الأشعريَّ مبتدعٌ ضالٌ، فنقل إلى السلطان كلامًا من «مقالات الإسلاميين» للأشعري ظاهره الانتقاص من أبي حنيفة رضي الله عنه وأنه من المرجئة([2])، بالإضافة إلى نقله كلامًا منسوبًا إلى الأشعري في مسألة كلام الله (الكلام النفسي) لم يدركه السلطان، فكان سببًا لانقلاب طغرلبك على الأشاعرة كلهم([3]).

واقتنع السلطانُ بكلام الكندري، وأمَر بلعْنِ الأشاعرة على المنابر يومَ الجمعة وضجَّت البلاد بذلك، وكتب القشيريُّ رسالته المشهورة «شكاية أهل السنة بحكاية ما نالهم من المحنة» وكتب الإمام البيهقي رسالةً إلى الوزير الكندري يطلب منه فيها وقْفَ هذه الفتنة ووقْف سبِّ الأشعري.

واجتمع السلطان بالقشيريِّ ووجوه الأشعرية في البلاد، ودار حوارٌ حول ما يحدث كان نتيجته عدم اقتناع السلطان بكلام القشيري بل قال له: «إنما يوغر بلعن الأشعري الذي قال هذه المقالات، فإن لم يدينوا  بها، ولم يقل الأشعري شيئًا منها فلا عليكم مما يقول»([4]).

فحاول القشيري أن يقنعه مرةً ثانيةً، ويروي لنا ذلك ابنُ الجوزي فيقول على لسان القشيري: «فأخذنا في الاستعطاف، فلم يسمع لنا حُجَةً ،ولم يقضِ لنا حاجةً، فأغضبنا على قذى الاحتمال، وأحالنا على بعض العلماء، فحضرنا فظننا أنه يُصلح الحال، فقال: الأشعري عندي مبتدع يزيد على المعتزلة، قال القشيري: يا معشر المسلمين الغياثَ الغياثَ»([5]).

فصُوِّر الأمر للسلطان أنه انقلابٌ أو تمرُّدٌ من الأشاعرة على أوامره، فأَمر بسجن القشيري ومن معه من الأشاعرة، وتمَّ الاعتداء على الإمام القشيري من قِبل المعتزلة وغيرهم ممن وجدوا في ذلك فرصةً للانتقام، وسجن بقلعة «القهندر». وفرَّ الإمام أبو المعالي الجويني إلى بلاد الحرمين مجاورًا، ومن هنا عُرف بإمام الحرمين.

وكان هناك شخصيةٌ معروفة اسمها أبو سهل ابن الموفَّق، كان من أثرياء القوم وملحوظًا بالوزارة من قبل السلطان، وكان بيته مجتمعًا للعلماء من الحنفية والشافعية ويُعرف بميله للأشاعرة. وكان الكندري يخشى من منافسته له على منصب الوزارة، وكان ابن الموفق غائبًا عن البلاد، فلما علم بالأمر عزم على تحرير القشيري ولو بالقوة.

فتجهَّز ومن معه من رجالٍ ممن يعرفون أساليب القتال واقتحموا قلعة «القهندر» التي حُبس بها القشيري ومن معه. وبالفعل دارت معركة، وحرَّر ابنُ الموفق القشيريَّ ومن معه من سجنهم. 

فتوجه القشيري بعد تحرير ابن الموفق له إلى بغداد، وهناك أكرمه الخليفة العباسي القائم بأمر الله، وظل هناك من سنة 448 إلى سنة 455.

وهي السنة التي مات فيها السلطان طغرلبك، وتولى مكانه ابن أخيه السلطان آلب أرسلان الحكم، وبعدها بقليلٍ عُزل الوزير عميد الملك الكندري من منصبه، وسُجِن، ومات مقتولاً في محبسه!

 وتولَّى الوزارة نظام الملك؛ الذي كان يدين بالمذهب الأشعري، وله دورٌ كبير في نشر هذا المذهب فيما بعد، عن طريق إنشاء المدارس الكثيرة، وأشهرها المدرسة النظامية، وعاد القشيري إلى بلده مرةً أخرى وأُكرم غاية الإكرام إلى وفاته.

تحليل ما سبق من أحداث:

ما سبق ذكره هو ملخَّصٌ مختصَرٌ لأحداث هذه الفتنة، ولنا سؤالٌ وتعليقٌ على هذه الأحداث.

كيف لطغرلبك وهو رجلٌ سنيٌّ حنفيٌّ، ومعروف عنه أنه رجل شجاع وذو بأس شديد، وذكي، ورجلُ دولةٍ من الطِّراز الأول، بل هو على الحقيقة مؤسِّسُ أركان دولة السلاجقة أن يتخذ وزيرًا خبيثًا يصفه المؤرخون بأنه معتزليٌّ رافضيٌّ يسبُّ الصحابة ويقع في الشافعية والأشاعرة؟ مع العلم أن الأشاعرة كان لهم الغَلَبةُ في ذلك الوقت، وكان مذهبهم منتشرًا بين الناس.

ونخلص من هذا كله إلى أن السياسة مُحرِّكٌ رئيسٌ في كل ما يجري في هذا العصر، وفي غيره من العصور، فرغبة السلطان في توسعة رقعة بلاده والقضاء على أي وجه من وجوه المعارضة تجعله يستحلُّ أشياء كثيرة.

بالإضافة إلى أن السلطان طغرلبك كان منشغلاً بترسيخ دعائم دولته، وتشييد صرْحِ سلطانه، وبسط نفوذه على من حوله.

 فقد كان منشغلاً بحروبه مع الغزنويين، فقد خاض طغرلبك عدة حروب ضد الغزنويين للقضاء عليهم؛ فخاض حُروبًا ضد مسعود الغزنوي، فكانت حروبًا طاحنة مثل حرب عام 426، ومعركة «سرخس» عام 429، ومعركة «داندنقان» وغيرها من حروب، هذا من ناحية.

 ومن ناحيةٍ أخرى خاض طغرلبك حروبًا ضد أقاربه مثل حربه مع أخيه إبراهيم إينال عام 450 هجرية، ومع الروم من ناحية ثالثة، كلُّ هذه الأمور لم تجعل السلطان يهتمُّ كثيرًا بما يحدث للقُشيري أو أبي المعالي الجويني، أو ما يدور بين الأشاعرة والحنابلة، وبين الأشاعرة والمعتزلة.

فالمهم هو ترسيخ دعائم الملْك والسلطان، وبسط النفوذ على سائر الأراضي المحيطة به، فالصراعات في هذا العصر صراعات كانت قوية وخطيرة.

هذا، وإنَّ دَور الوزراء في هذه الفترة لا يقل عن دور السلطان، بل ربما كان الوزير أكثر تأثيرًا من السلطان نفسه، فقد استطاع الكندري بما يملكه من نفوذ ودهاء سياسي أن يشعل نار هذه الفتنة، وأن يقنع السلطان بموقفه، بل كان الكندري حجابًا بين السلطان وبين الحقيقة في هذه الفتنة.

هذا بالإضافة إلى وجود مذاهب مختلفة ومدارس متعددة، بالإضافة إلى ما يجري بين هذه الفرق والمذاهب من نزاعاتٍ ونقاشاتٍ وفي بعض الأحيان مواجهات تصل إلى حدِّ الدموية. فهناك الأشاعرة والمعتزلة والقرامطة والكرَّامية المجسِّمة والإسماعيلية، وهذه الأخيرة كان لها دورٌ بارز حيث قتلوا أشهر وزراء دولة السلاجقة نظام الملك عام 485 هجرية.

مع كون نظام الملك كان صديقًا للحسن بن الصباح زعيم الإسماعيلية في يوم من الأيام، وساعده على الالتحاق بديوان الكتابة في بلاط السلطان ملكشاه، حتى ترقَّى الحسن بن الصباح في وظيفته بديوان السلطان، وأصبح ذا مكانةٍ مرموقةٍ، ثم انقلب عليه السلطان وعزَله وطرَده من وظيفته حين أدرك مطامحه، وكذلك فعل معه نظام الملك فيما يقال لخلافاتٍ مالية!([6])

وهناك الحنفية والشافعية والحنابلة، مع ما بين الشافعية والحنابلة من صراعاتٍ وخلافات كبيرة. كل هذه العوامل أدَّت إلى حدوث هذه الفتن والصراعات التي سالت فيها دماء المسلمين الغالية، ولا تزال العصبية الدينية البغيضة وحبُّ السلطان هما الخطر الأقوى الذي يواجه الأمة الإسلامية في حاضرها اليوم.

 

 

([1]) ص 102.

([2]) انظر «مقالات الإسلامين» ص 138، وانظر ما علَّقه العلاَّمة الشيخ المحقق عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى حول هذا الموضوع في «الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء» هامش ص 293 وما بعدها ففيه بيانٌ لهذه المسألة.

([3]) انظر «النجوم الزاهرة» 56:5.

([4]) «المنتظم» لابن الجوزي 340:15.

([5]) المرجع السابق.

([6]) «طائفة الإسماعيلية- تاريخها – نظمها – عقائدها» ص 65.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!