الإشكالية الإسلامية في مواجهة التجديد

الإشكالية الإسلامية في مواجهة التجديد

الإشكالية الإسلامية في مواجهة التجديد

بقلم: حسن رمضان 

 

كل الأديان، وبلا استثناء، تحمل في رحمها بذرة إشكاليتها مع الواقع الإنساني الذي تخاطبه. فالمعايير الأخلاقية والتشريعية التي تتجلى من خلال أقوال وأفعال ونصوص آلهتها وأنبيائها دائماً تخاطب واقع إنساني هي تفترض فيه الثبات المطلق وعدم التغيّر حتى الوصول إلى نقطة “نهاية” هذا العالم بصورة أو بأخرى. هي تخاطب ما تراه أمامها، فقط، من ظروف وممارسات وقناعات ومواضيع صراع، وهي أيضاً تتحدى معايير ثقافية محددة متجلية أمامها وتُمثل بالنسبة للإله أو النبي إشكالية أخلاقية أو عقائدية أو تشريعية خطيرة واقعة في زمان التجلي الأول لتلك الأقوال أو الأفعال أو النصوص. إلا أن إشكاليتها الخطيرة تبدأ مباشرة متى ما تغير الظرف أو تغيرت الثقافة أو تغيرت المعايير القِيَمية أو أصبح الواقع الاجتماعي – الاقتصادي – السياسي بتفاصيله وظروفه ذو تعقيد أكبر بكثير من حدود التجلي المقدس الأول وتفاصيله وظروفه ومما انطلق منه. فـ “التجلي المقدس”، كنص أو كتقرير، هو نقطة متناهية الصغر جداً في فضاء شاسع جداً من التفاعلات البشرية بكل ما تستلزمه من ظروف وأفكار ومُسلمات وعلوم وتجارب وتفاعلات بشرية لا نهاية لها. فـ “التجلي المقدس” يفترض الثبات في هذا المحيط الإنساني، بل إنه، كـ “تعليم – وحي – نص مؤيد بروح القدس”، لا يُعطي أية مساحة للاختلاف أو الاعتراض إلا من خلال التصادم المباشر معه إما من خلال رفضه أو تأويله بعيداً عن معناه الواضح. وهذا “التصادم” حتمي وقادم لا محالة كما تؤكد كل نصوص تاريخ العقائد، وهو في أغلب الأحيان يتأخر في انتظار الواقع الإنساني حتى يتسع ويخرج تماماً خارج الإطار الظرفي والثقافي القديم لذلك التجلي المقدس. بل في بعض الأديان، كالمسيحية مثلاً، تجلى استحالة تحقيق ما كان يعمل لأجله إلهها (يسوع) بمجرد مقتله على الصليب مباشرة، فاضطر مَنْ أتى بعده بسنوات قليلة (بولس) أن يعاكس بصورة تامة ما كان يدعو له ويفعله إلهه هذا حتى يكون له أمل في إنجاح عقيدته الجديدة تلك. فيسوع، بدون أدنى شك، كان يهودياً فريسياً بكل ما توحي به هذه الكلمة من معانٍ عقائدية يهودية أصيلة متحيزة ضد كل ما هو غير يهودي كما تشير بذلك نصوص الأناجيل ذاتها، ولكنه تميز عن الفريسيين بثلاثة أشياء فقط. الأول تشدده المتطرف الذي فاق الفريسيين في بعض نواحي التشريع كما يترجمها في ثنائية (قيل للقدماء – وأما أنا فأقول) [متى – الأصحاح 5] إلى درجة أنه جعل مجرد الغضب على الجماعة اليهودية مستوجباً لحكم القتل، والنظر إلى المرأة زنا، والزواج من مطلقة زنا أيضاً. وتميز عنهم ثانياً بصراحته الشديدة فيما يخص احتقار غير اليهود كما تجلى ذلك في نبز المرأة السورية بأنها من جنس (الكلاب) [مرقس 7: 26-28]، ووصيته لتلامذته بأن لا يمضوا في أي طريق أو يدخلوا أية قرية غير يهودية [متى 10: 5-6]، بل إن يسوع ذهب إلى حد أنه أمر تلامذته بأن لا يسلموا على أحد في الطريق وإنما يكون سلامهم مخصوص فقط ببيوت اليهود [لوقا 10: 4-5]. أما الشيء الثالث الذي تميز به عن الفريسيين فهو كرهه لريائهم. فعندما أتى بولس ليُنصّب نفسه “تلميذاً” ليسوع على الرغم مِن أنه لم يلتقيه إطلاقاً عرف مباشرة استحالة ما كان يدعو له يسوع بين اليهود، فحوله إلى “إله” وبشر به بين غير اليهود (الأمم، الأغيار، الغوييم) الوثنيين الذين يعبدون ملوكاً وأنصاف آلهة على أية حال، نفس الفئة التي كان يتحاشاها يسوع حتى بالسلام. وجرى وقف العمل بالشريعة اليهودية التي قال عنها يسوع نفسه: (لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل. فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل) [متى 5: 17-18]، بل إن التغيير الذي تولاه بولس طال حتى ما كان يسوع عليه من هيئة، فيسوع الذي ختنه أبواه بعد تمام ثمانية أيام من ولادته [لوقا 2: 21]، جعل بولس من هذا الختان تشويهاً للجسد، حاطاً بالكرامة، ومدخلاً للشر كما جاء حرفياً في رسالته: (انظروا الكلاب. انظروا فعلة الشر. انظروا القطع) [رسالة بولس إلى أهل فيلبي 3: 2]، والقطع هو وصف تحقيري للختان، والسبب في هذا العداء لما كان عليه إلهه يسوع ذاته هو أن الأمم الوثنية التي كانوا يدعو بينها بولس لم تتعود الختان وتنفر منه، فكان الحل في إلغاء التشريع برمته ومن ثم “فلسفة” هذا الإلغاء كوسيلة تبريرية أمام الناقدين. أما الدين الإسلامي فعلى العكس من هذا كله، ففي ممارسات وإيمان المؤمنين فيه فقد تأخر خروج الواقع الإنساني، بكل تفاعلاته وتعقيداته ومعاييره، خارج التجلي المقدس، أربعة عشر قرناً بتمامها قبل أن ينتبه المؤمنون به لذلك.

 

يواجه الدين الإسلامي اليوم ذات الإشكالية التي واجهها قبله العديد من الأديان والعقائد. ومكمن خطورتها للمؤمنين بها هي أنها بطبيعتها  تستهدف البناء الرئيس التي تدور حوله العقيدة ذاتها وسلطة نصوصها وعباداتها، تماماً كما تعرضت له اليهودية بأيدي اليهود (سبينوزا والراباي إبراهام غايغر “Abraham Geiger” كمثال) وتعرضت له المسيحية من بداية منشأها على يد بولس وفصله يهودية يسوع عن دين أتباع بولس، ومروراً بتطور فكرة التثليث وطبيعة يسوع، ثم بروز مارتن لوثر كثائر في وجه الكنيسة وسلطتها، وأخيراً بروز الدراسات النقدية الحديثة التي أثبتت بشكل قاطع اختلاف يسوع التاريخي في مقابل يسوع الإنجيلي والتي وضعت نصوص العهد الجديد برمته في موضع شك لا يمكن إنكاره. إلا أن القضية بالنسبة للدين الإسلامي أخطر بكثير جداً مما تعرضت له المسيحية، وإنْ كانت مشابهة إلى حد ما لِما تعرضت له اليهودية. إذ الدين الإسلامي، تماماً كاليهودية، يدور أساساً حول فكرة (سلطة النص المتعالية) كسياق متكامل ذو نسق واحد وهيمنة كلية لا تقبل التجزئة. فالقرآن ونصوص الحديث للدين الإسلامي، مثلها مثل التناخ والتلمود بشقيه المشنا والجيمارا عند اليهود، هي نصوص “سلطة إلهية” بشقيها التشريعي والتعبدي، وفي محاولة نبذها، أو على الأقل وقف العمل ببعضها أو إعادة النظر في مدى إلزامها، خطورة الخروج من العقيدة ذاتها، وذلك على عكس المسيحية التي لا ترى في النص المقدس المسيحي، بشقيه اليهودي والعهد الجديد، تشريعاً ملزماً خارج رأي الكنيسة التي قد تلغي دلالة النص وتستبدله بـ “مفاهيم” مباينة كلما تبدلت الظروف المحيطة بالكنسية، وإنما الهرطقة أو الحرمان في المسيحية هو في الانقلاب على رأي الكنيسة في النص وليس على دلالة النص في ذاته. فالخلاص (عقيدة التبرير بالإيمان [رسالة بولس إلى أهل رومية 3: 24-28 و 5: 1، ورسالة بولس إلى أهل غلاطية 3: 24-27، ورسالة بولس إلى تيطس 3: 5-7]) في المسيحية هو فعل “إيماني” خالص بالدرجة الأولى وذلك على عكس الإسلام واليهودية اللذان يصران على الانصياع التام والكامل للشقين التشريعي والتعبدي الثابتان بـ “النص المقدس” بالإضافة إلى الإيمان كشرط للخلاص. ولهذا السبب بالذات، دون غيره من الأسباب، فإن الكلام عن (تجديد الدين الإسلامي) هو ليس بالأمر البسيط والتلقائي كما يبدو على السطح، كما لا يجدي استقراء التجربة المسيحية في التعامل مع نصوصها [انظر على سبيل المثال السماح للمرأة في الانخراط في سلك الكهنوت المسيحي في الكنيسة الأنكليكانية (Anglican Church) و (Episcopal Church) وغيرهما على الرغم من نهي بولس الصريح: (لتتعلم المرأة بسكوت في كل خضوع. ولكن لست آذن للمرأة أن تُعلّم ولا تتسلط على الرجل بل تكون في سكوت) [رسالة بولس الأولى إلى تيموثاوس 2: 11-12]] وذلك لأن سلطة النص في المسيحية لا تنفصل إطلاقاً عن إقرار الكنيسة وفهمها له وموقفها منه، وبالتالي فإن النص تابع للكنيسة في بسط سلطته على الواقع، على عكس اليهودية والإسلام اللذان يجعلان النص معياراً في ذاته تتضاءل أمامه كل سلطات المؤسسة الدينية. المؤسسة الدينية في الإسلام تابعة للنص ودلالته المباشرة أو تفسيراته التراثية، ولا تملك سلطة تحديه أو معاكسته أو وقف العمل به أو حتى تأويله خارج دلالة ألفاظه المباشرة وإلا لتم اتهامها بالمروق من العقيدة والخروج من الدين، وتلك هي “إشكالية” الدين الإسلامي اليوم على حقيقتها.

 

 إذن، ما الحل إذا أردنا المضي قدماً في تبني شعار (تجديد الدين الإسلامي) ووضعه موقع التنفيذ؟

 

الحل ينطلق من محورين اثنين لابد لأحدهما أن يسبق الآخر ويُهيئ له.

 

المحور الأول هو استخدام التراث الإسلامي في عصر صحابة النبي محمد لإثبات فكرة ظرفية الأحكام والنصوص وانتفاء غرض أزليتها المطلقة، ومن ثم تبني هذه الحقيقة التاريخية كخطاب رسمي – ديني – اجتماعي. وقد تطرقت في كتابي (السلفية والعلمانية – إشكالات الرؤى والممارسة) إلى تفصيل مطول لممارسات ذلك العصر الأول في التحرر من النص المقدس عندما اختلفت الظروف. وقد لخص ابن ابي الحديد، المعتزلي، في شرح نهج البلاغة الموقف من النص الإسلامي المقدس، فقال: “وقد أطبقت الصحابة إطباقــاً واحداً على ترك كثير من النصوص لما رأوا المصلحة في ذلك، كإسقاطهم سهم ذوي القربى وإسقاط سهم المؤلفة قلوبهم، وهذان الأمران أدخلُ في باب الدين منهما في باب الدنيا. وقد عملوا بآرائهم أموراً لم يكن لها ذكر في الكتاب والسنة كحد الخمر فإنهم عملوه اجتهاداً، ولم يحدّ رسول الله (ص) شاربي الخمر، وقد شربها الجمّ الغفير في زمانه بعد نزول آية التحريم. ولقد كان أوصاهم (ص) في مرضه أن أخرجوا نصارى نجران من جزيرة العرب، فلم يخرجوهم حتى مضى صدر من خلافة عمر، وعملوا في أيام أبي بكر برأيهم في ذلك باستصلاحهم. وهم الذين هدموا المسجد بالمدينة، وحوّلوا المقام بمكة، وعملوا بمقتضى ما يغلب في ظنونهم من المصلحة، ولم يقفوا مع موارد النصوص”.

 

المحور الثاني، وهو لاحق بالضرورة للمحور الأول، ويستهدف حصر ومراجعة أحكام النصوص الإسلامية وتفاعلاتها مع الواقع الاجتماعي – الاقتصادي – السياسي، ومن ثم إما وقف العمل بها، كما فعل صحابة العصر الأول مع بعض النصوص، أو تنقيح أحكامها، كما فعل أيضاً صحابة العصر الأول مع بعض النصوص، ومن ثم تبني هذا الفقه الجديد كرؤية شرعية رسمية تتبناها المؤسسة الدينية.

 

أخيراً، الإشكالية الإسلامية مع النصوص المقدسة، كالإشكالية اليهودية مع نصوصها، هي غير قابلة للحل على المدى القصير إطلاقاً. وأي طرح يُبشر بحلول سريعة للتجديد هو طرح، في أحسن أحواله، ساذج للغاية، وفي أغلب أحواله هو جاهل بتفاعلات النص المقدس مع الذهنية الإسلامية العامة. الإشكالية الإسلامية فيما يخص التجديد هي قابلة للحل ضمن استمرارية زمنية تستهدف أجيال ناشئة ونظم فقهية ومرجعيات دينية تتوالى.

 

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!