آراء الشيخ إسماعيل الأنقروي حول السَّماع

آراء الشيخ إسماعيل الأنقروي حول السَّماع

 آراء الشيخ إسماعيل الأنقروي المولوي حول السَّماع

بقلم: عبد العزيز سلطان المنصوب

 إن حقيقة السماع وكيفية تحقق هذه الحقيقة فعلاً هي من المفاهيم التي دخلت تراث التصوف،
والتي قد أصبحت موضوع نشأة أفكار مرتبطة بعضها البعض بين الصوفية رغم أنها منبثقة من
 وجهات نظر مختلفة، وفي هذا المجال على الرغم من اتفاق بين الصوفية المحققين منهم والمقلدين
 حول الحقيقة الوجودية للسماع على المستوى الإلهي والروحاني، لكن هناك اختلافاً ما في الرقص
الذي يظهر عن غلبة الحال عموماً والوجد على وجه الخصوص وفي الدوران أو السماع الحاصل
 عن حافز الموسيقى، ولكن هذا الاختلاف ليس في الحكم الشرعي للسماع بل في قضية هل هو فعل واجب على السالك أم لا. لأن الصوفية كلهم يبيحون السماع حتى إنهم يعتبرونه مندوباً ومستحباً، لقد ألّف رجال الصوفية
 وغيرهم من العلماء عددا من الرسائل في السماع من وجهات نظر متعددة وجودياً «Ontologia»
وعرفيا «Epistemelogiaa» وفقهيا في الأقاليم الثقافية المتنوعة من العالم شرقاً وغرباً.

عند إطلاق كلمة السماع والموسيقى الصوفية وخاصة في البلاد المتأثرة بالثقافة العثمانية تتبادر إلى
 الذهن الطريقة المولوية، فهناك كثير من المؤلفات صنفها شيوخ المولوية في موضوع السماع الذي
 يعد من أهم أركان الطريقة المولوية، فتتناول هذه المؤلفات الجذور الميتافيزيقية للسماع بالدرجة الأولى
 كما تهتم بدلالاته الصوفية باعتباره ركناً مهما في الطريقة المولوية، ومن بين هذه المؤلفات نجد رسائل
 الشيخ إسماعيل الأنقروي المولوي «وأهمها: منهاج الفقراء، الرسالة في حق السماع، الرسالة التنزيهية
 في شأن المولوية» والذي كان شيخاً مولوياً في تكية غلطه في إستانبول.

ويعتبر الأنقروي من رواد التفكير الصوفي في القرن السابع عشر، وبالإضافة إلى كون مؤلفاته تحتوي على حصيلة ما سبقه من الآراء في السماع كان لها تأثير عظيم أيضاً على آراء المتصوفة العثمانيين الذين أتو بعده حول هذا الموضوع، كما كانت للشيخ الأنقروي مكانة عظيمة لدى الصوفية والعلماء من حيث كونه من أهــم شراح مثنوي مولانا جلال الدين الرومي، وفي هذه الرسائل المتعلقة بالسماع نجد أن اسماعيل الأنقروي يوافق التاسيس والترتيب الميتافيزيقي والوجودي للسماع من قبل محيي الدين ابن العربي والذي يعتبر أول محق
ق صوفي تناول مفهوم 
السماع من هذا المنطلق الميتافيزيقي والمعرفي في مؤلفاته مثل الفتوحات المكية، والتدبيرات
الإلهية، وروح 
القدس، إضافة إلى ذلك نجد أن الشيخ الأنقروي قد فسر في رسائله آراء ابن العربي المخالفة للموسيقى وللسماع الطبيعي الذي يعد أدنى مراتب السماع «السماع الإلهي والسماع الروحاني والسماع الطبيعي أو البدني»، وفي أثناء هذا التفسير والتأويل نراه يتجه إلى التوفيق بين آراء ابن العربي المخالفة للسماع البدني والموسيقي وبين أفكار مؤسس الطريقة المولوية، مولانا جلال الدين الرومي المجوزة والمتبنية للسماع في كتابه المثنوي.

العهد العثماني في القرن السابع عشر هو عهد قد زادت فيه النقاشات على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي، فأحد الموضوعات المطروحة للنقاش في هذا العهد هو الرقص المعروف عند الصوفية بالسماع وقضية الموسيقى،وقد ساهم إسماعيل الأنقروي في هذا النقاش وقعد أصول السماع والموسيقى فقهياً وميتافيزيقياً، ولكن نحن لا نذكر في مقالنا هذا الأدلة التي استدل بها الأنقروي وآراءه حول الحكم الشرعي للسماع والموسيقى، غير أنه لا بد هنا من الإشارة إلى أن السماع والموسيقى واقع فقهي لا مرية فيه عند الأنقروي، وقد قسم منكري السماع وأسباب إنكارهم له إلى ثلاثة أقسام:
 الأول: منكرو السماع الذين لايعرفون سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم عن أخباره وآثارة غافلون، ولذلك استحبوا الإنكار على القبول، فكأنهم لم يسمعوا قصة الحبشة الذين لعبوا بحرابهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديث إذن عائشة رضي الله عنها لجاريتين تضربان وتدقان عند النبي وهو متغش بثوبه، وغير ذلك من الأدلة في مشروعية السماع كثير.
 والثاني: ولوفرضنا أن منكري السماع قد علموا السنة من جهة، فإن علمهم هذا قد كان سطحياً من نوع علم الفقهاء وعلماء الرسوم «الظاهر» واكتفوا باقتفاء آثار هؤلاء العلماء وتقليدهم ولهذا فهم عن إدراك الأحوال والأخبار النبوية لمعزولون وعن فهم استنباطات الأولياء من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بعيدون، وللتحلي بأحوالهم تاركون.
 الثالث: منكرو السماع هم قوم أفئدتهم هواء، لا يكادون يفقهون حديثاً ، ولا يشعرون بالأذواق الروحانية ولم يبق
 فيهم أي آثر عن طبيعة المحبة والمودة، ولم يحظوا بطعم السماع، ولم تطاوعهم أنفسهم باتباع الأولياء ولو لحظة واحدة، فلذلك أرواحهم لم تكن تشعر بلذة السماع قط.
 ولهذا نرى الأنقروى عندما يركز في كتابه «حجة السماع» على أن السماع والموسيقى غير محرم من الناحية الفقهية، يدعي من جهة أخرى أن منكري السماع لا يعلمون النصوص، وحتى الذين يعلمونها
معلولون بالبعد عن الذوق والعلم والعشق التصوفي.
 ويرحب إسماعيل الأنقروي في شرحة «منهاج الفقراء على منازل السائرين» لعبدالله الأنصاري بتقسيم ابن العربي الثلاثي للسماع «السماع الإلهي، والسماع الروحاني، والسماع الطبيعي»، وسبب هذا الترحيب هو أن ابن العربي ومولانا جلال الدين الرومي قد استقيا من نبع واحد، في حين أنهما عبر عن استلهاماتهما بتعبيرات وأساليب فكر مختلفة، فابن العربي ومولانا جلال الدين من وجهة نظر الأنقروي هما من أكابر طائفة “مترجمي «وليس مؤلفي» المرتبة المحمدية، وأهل الله/ اللهيون، والملاميتة، والعشاق»، وهذه الطائفة تمثّل أعلى المراتب في التصوف، فلذلكك ليس هناك أي تفاوت أو تناقض بين آراء ابن العربي ومولانا عند الأنقروي، بل هناك اتحاد واتساق إذا أخذنا مرماها بعين الاعتبار.
والآن فلنستعرض ولتختصر آراءهما بالمقارنة حول قضية السماع من وجهة نظر الأنقروي:
 السماع الإلهي: السماع لغة هو السمع والاستماع، وقد وصف سبحانه وتعالى نفسه في كتابه بأنه سميع بصير و«سميع عليم» وباعتبار هذا المعنى للكلمة، فإذاً السمع مقدم على البصر والعلم، وتقديمه في الذكر يقتضي تقدم ظهوره على ظهور غيره أيضاً، ولكن هذا التقدم ليس بالترتيب الزمني بل هو تقدم وجودي يفوق الزمن ويتجاوزه، وبتعبير أدق أول شيءعلمناه من الحق وتعلق به منا القول منه السماع منا، فكان الوجود عن قوله سبحانه وتعالى:«كن فيكون». والوجود حق مطلقاً، ويظهر الحق في مراتب الألوهية والروحانية والطبيعية على ما تقتضيه تلك المراتب من الظهور، فإبتدا، الظهور يكون بعد قول «كن» وعندما تسمع الأعيان الثابتة التي هي حقائق الموجودات كلها في العلم الإلهي
 هذا القول يكون عنه الوجد وعن ذلك الوجد الوجود، ومن أجل ذلك جعل الصوفية الوجود بعد الوجد، فكل سماع لا يكون عنه وجدٌ ليس بسماع، فالذين سمعوا القول الإلهي أي أهل السماع الإلهي وهم أهل الله، قد وجدوا هذا الوجود في قلوبهم عن العلم الإلهي، وقد أعطاهم السماع العلم الإلهي وهم في حالة الوجد،فلذلك لم يكن لمن لم يستمع إلى سماع الوجود سماع،فالوجود بمعنى وجود العالم لا يكون إلا بعد قول الله عز وجل، والسماع هو من العالم أيضاً، ولهذا ليس في الوجود إلا القول والسماع، وهما نسبتان أو صفتان يقتضيان بعضهما البعض اقتضاء ضرورياً ولا يصح استقلال واحد منهما دون الآخر، فكما نعلم بالقول مراد المزيد ما يريده منا نصل أيضاً بالسماع إلى تحصيل ما قيل لنا، وقصارى الكلام فبالقول نتصرفوعن القول نتصرف مع السماع، فباتحاد القول والسماع نعلم ما في نفس الأمر أو ما في علم الحق، ولكن لا علم لنا إلا بإعلامه أي بإظهار علمه بمقتضى وجوده، وإعلامه يكون بقوله، وإعلام الرسل في الكتب السماوية بالقول أيضاً نيابة عن الله سبحانه وتعالى.
 ونحن مخاطبون لهذا القول بالسماع، ولا يشترط في القول والسماع الآلة أي اللسان للقول والأذن للسماع،فالقول والسماع نسبتان أو صفتان تنسبان إلى اسمي الله عز وجل، فينسب القول إلى اسمه المتكلم والسماع إلى اسمه السميع، فإذاً القائل والسامع واحد وهو الله، والله الجامع للأسماء في نفسه هو بذاته وجود.

السماع المتعلق بكشف الأسرار هو السماع المطلق، وهو السماع من كل شيء وفي كل شيء وبكل شيء،لأن كل شيء في الوجود من المسموعات وموضوع للسماع، فكل شيء أي المسموعات كلها كلمات الله، والكلمات هي الأمور الوجودية التي تتكون من تجليات أسماء الله تعالى فكما أن الاسماء لا تنفد فالكلمات أيضاً لا تنفد، وفي مقابلة هذه الكلمات أسماع لا تنفد أي مطلق أيضاً، فالعارف الذي يطلع على أسرار أي معاني الأسماء الإلهية يسمع كلمات الله سبحانه، فلكل اسم من هذه الأسماء لسان ولكل لسان قول، ولكل قول منا سمع، ولكن القائل­­­ والسامع في نفس الأمر واحد، أي الله عند لسان كل قائل، فالسماع الإلهي إذاً هو سماع الله من أجل اسمه «السميع»، وسماع العارف الذي اطلع على سر هذا السماع نيابة عن سماع الله سبحانه، وكذلك الأمر في قولنا بالكلام، غير أننا إذا نظرنا إلى السماع الإلهي من حيث إنها مرتبة عبودية لا ألوهية فيكون سماع العارف استماعه إلى معنى حرف أو أحرف تتركب منها الكلمات الإلهية أي فهم معناها، لأن المطلوب ليس الكلمة، لأن معنى الكلمة ونية العارف التي تقوده إلى فهم المعنى متساويان، وبتعبير آخر ما دامت النية والمعنى تقيمان العمل
والكلمة فهما في نفس الأمر شيء واحد، أو بتعبير أدق وارد في المثنوي:
 عمل العارف أي نيته سماع أسماء الله الذي هو المعنى المطلق والكلمات التي هي تجليات تلك الأسماء،
 وما دامت الكلمات هي الموجودات كلها فالسماع الإلهي هو إدراك ما يجري في الموجودات على مقتضى
 أحوالها في العلم الإلهي، فبالسماع الإلهي تحصل المعرفة بدرجة عليا.

ويتمثل الأنقروي بهذا البيت من قصيدة مولانا بـصدد السماع الإلهي: «اعلم ما هو السماع؟ فالسماع سماع صوت بليس، والوصول إلى الحق في حالة غياب النفس.
 أتدري ما هو السماع؟ السماع هو حسرة النفس على دواء يعقوب، ووجدان ريح «أو أمل» الوصول إلى يوسف من القميص».
 ولكن هذا البيت كما بيّنه ابن العربي يبدو أنه في صدد السماع الروحاني وليس الإلهي، لأنه يدل على سماع خطاب الحق «ألست بربكم؟» في عالم الأرواح وقولهم جواباً عليه بليس، أي أن السماع في هذا المقام على حكم مرتبة الأرواح، ولكن السامعون للفظ ما متفاوتين في سمعه فيوصف السمع على مقتضى مرتبة السامع، وعلى هذا فالسامع إذا فهم أي سمع اللفظ على مقتضى المرتبة الألوهية فيصبح هذا السماع سماعاً إلهياً، لأن السماع الإلهي عند الأنقروي هو سماع كل شيء في كل مرتبة، ولهذا يعتبر السماعان الإلهي والروحاني مرتبة واحدة على رأي المولانا، لأن تفاوت المراتب تفاوت إضافي عنده، ويشير مولانا إلى السماع الإلهي في بيت له آخر بهذه العبارة: «صدى الحق في الحجاب كما هو بدونه»، فالمراد من صدى الحق عند اسماعيل الأنقروي هو الكلام الإلهي الخالي من الصوت والحرف والكلمة ويعبر عنه بالكلام النفسي،فالسماع الإلهي سماع هذا الكلام أو الصدى.

وأما السماع الروحاني: فمتعلقه عند ابن العربي صريف الأقلام الإلهية في لوح الوجود المحفوظ من التعبير والتبديل،
 والمتعرض على التبديل والتغيير هو الروح، فأصلُ السماعِ على التربيعِ: ذاتٌ ونسبةٌ وتوجّهٌ وقولٌ، فيظهر الوجود بالسماع الإلهي كذلك السماع الروحاني عن ذات ويد وقلم وصريف.
 فيكون الوجود للنفس الناطقة في سماع صريف هذه الأقلام في ألواح القلوب بالتقليب والتصريف، فيعتبر ابن العربي الوجود كله رقاً منشوراً والعالم فيه كتاباً مسطوراً فالأقلام تنطق، وآذان العقول تسمع والكلمات ترتقم فتشهد، فعين شهودها عين الفهم فيها بغير زيادة- لأنه محفوظ- ولا ينال هذا السماع إلا العقول التي ظهرت لمستوى.
 ويرسم إسماعيل الأنقروي السماع الروحاني بأنه سماع الروح تسبيح كل شيء للحق سبحانه وتعالى، فلذلك
 كل شيء يسبح حتى الآلات الموسيقية سواء تنغمت أم لا فهي أيضاً تسبح للحق، فيقول المولانا في المثنوي: «يا ترى هل تعلم ما يقوله الجنك والمزهر: أنت حسبي أنت كافي ياودود!».
 «والمراد من سماع صوت الرباب تخيل ذلك الخطاب الإلهي كالمشتاقين وأصوات الطبل والمزمار نوع من أصوات قيام الناس لرب العالمين ويشبه نقرة الناقور يوم القيامة»، أي الكنارات لها تسبيح يتعلق بمعناها المعين بنغماتها كما لها تسبيح آخر بدونها، فيهدف إسماعيل الأنقروي برأيه هذا إلى الجمع بين السماعين الإلهي والروحاني وبين السماع الطبيعي الذي يستند إلى التحرك بطرب النغمات الموسيقية في حين يبدي ابن العربي آراء معارضة في السماع الطبيعي والموسيقي من حيث الوجود.
 وأما السماع الطبيعي: فإنه مقيد بينما السماع الإلهي مطلق، فالسماع الطبيعي تحرك النفس أو الروح الحيواني
 بتأثير ما أوجدته النغمات الموسيقية والأصوات الحسنة في طبائع البشر، وظهر الوجود في نفوس العلماء حين
 سمعوا صريف الأقلام في مرتبة السماع الروحاني الذي ينبغي أن تحرك به النشأة الطبيعية، فأقام العلماء لهذه النشأة
 الطبيعية أربع نغمات لكل خلط من الأخلاط الأربعة نغمة في آلة مخصوصة، وهذه هي الموسيقى، أي الموسيقى
 تتكون من نغمات الأخلاط الأربعة التي أوجدت النشأة الطبيعية، ولهذه النغمات آلات مستقلة تتنغم بها، وإنما الموسيقى علم الألحان والأوزان، وكل واحد من هذه يحرك خلطاً من تلك الأخلاط ما بين حركة فرح وحركة بكاء،
وهذا لها بما هي نشأة طبيعية لا بما هي روحانية.
 والسماع المستند إلى الموسيقى مباحٌ شرعاً عند ابن العربي لما لم يثبت في تحريمه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،ويرى السماع الطبيعي مرتبة سفلى لاعتباره فعلاً تصوفياً، فالواجب على العارف هو السماع الإلهي والروحاني وليس السماع الحاصل من طرب النغمات.

وفي السماع الطبيعي تظهر الحركة، والحركة دائرية مثل الحركة الدورانية للأفلاك، فالحركة الدائرية دليل على طبيعية السماع، لأن منشأ هذا السماع هو الروح الحيواني وليس الروح الإنساني كما في السماع الروحاني، فالروح الحيواني تحت الفلك والطبيعة وتابع للفلك ،وليست اللطيفة الإنسانية أو الروح من جنس الفلك وإنما ظهرت قبله، وليس للروح الإنساني حركة دائرية ولا حركة عالية سافلة في البدن، فالسماعان الإلهي والروحاني في حالة السكون الكامل وليس فيهما حركة قط، والسكون عدم أي نقلت الإنسان عن قيد الرجود، وهذه مرتبة أهل الملامة وهم ليسوا من القائلين بالسماع الطبيعي، فالغاية القصوى فيما إذا تعرض صاحب السماع الإلهي للواردات القوية هي وقوع البدن على قفاه على الأرض، فكذلك كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما يأتيه الوحي والإنسان في حالة القيام والقعود والركوع بعيد عن مادته الأصلية والأرض التي نشأ منها، لأن الاستلقاء على الظهر على الأرض هو الأصل، والقيام والقعود والركوع من الفروع.
 ومن جهة أخرى لا يحصل من السماع الطبيعي إدراك علم ومعنى، إنما العلم يحصل من السماع الإلهي مطلق
 في مواد كلية، والعلم الحاصل من السماع الروحاني جزئي من أجل التغير والتبديل أي بسبب تعلقه بالافعال الإلهية،إن مطلق السماع لا يمكن تركه في رأي ابن العربي، فالسماع الذي تركه الصوفية الكبار إنما هو سماع مقيد، أي سماع موسيقي يستند إلى الحركة.
 فصدر الدين القونوي متفق مع أستاذة في رأية هذا، ولكنه على الرغم من آراءه الخارجية على السماع الطبيعي
 والموسيقى فإن معارضته لا تمتد إلى الصوفيين الذين يقومون بإجراء السماع الطبيعي والموسيقى من أجل اعتصامه الوثيق بمولانا وجماعته، وقد جاء في كتاب «مناقب العارفين» لأحمد الأفلاكي أن بعض منكري السماع أتوا إلى الأمير بروانه مطالبين بحظر السماع، وعندما ذكر الأمير هذه المسألة بحضرة الشيخ صدر الدين أجابه قائلاً:
 «أن تسمع لقولي، وإن كنت واثقاً بكلام الدراويش وبشأن وشرف مولانا، لله درك لا تحرك أي ساكن في هذا الموضوع،ولا تقل شيئاً ولا تعارضه ركوناً إلى كلام أصحاب الضغائن، لأن هذا نوع من الإعراض عن الأولياء، والإعراض
 عنهم مؤذن بالشؤم، فإن هذا النوع من بدع أولياء الله مثل سنن الرسل العظام، ولا يعرف حكمتها إلا الأولياء، ولا يستخرج منها شيء لولا برهان الله القدير»، وقد قيل: «إن البدعة الحسنة الصادرة عن الأولياء الكاملين كالسنة اللامعة الواردة عن المرسلين».
 والسماع الطبيعي عند الأنقروي أو «السماع الصوري» على حد تعبيره هو السماع المولوي، فالسماع المولوي تحرك الروح الحيواني أو الطبيعة البشرية بحافز الموسيقى، ومصدر هذه الحركة حركة دوران الأفلاك، يقول مولانا في المثنوي:«قال الحكماء: قد أخذنا نغمات الموسيقى هذه من دوران السماء، وما يلحنه الناس بالطنبور والترنيمات التي يطربونها بالصوت فإنما هو صوت دوران السماء».

 فيرى إسماعيل الأنقروي أن السماع الطبيعي بمعنى الرقص المتضمن للحركة الدورانية أو السماع المولوي
 من الأهمية بمكان طالما يوصل إلى السماعين الإلهي والروحاني، وإلا فالسماع الطبيعي سيصبح لهواً ولعباً للحظوظ النفسانية والشهوانية، والسعي إلى الآمال الدنيوية، وهذا النوع من السماع إنما هو سماع العوام، ولكن سماع الخواص أو العارفين فإنه روحاني وإلهي كما يقول ابن العربي، فيستند السماع الروحاني إلى الحظ الروحاني والارتياح كما في قوله صلى الله عليه وسلم «يابلال أرحنا»، والسماع الإلهي يقتضي مواجهة كل نوع من أنواع خطاب الحق سبحانه وتعالى، ولكن الوصول إلى هذه المرتبة يقتضي أيضاً تطبيق بعض آداب الطريقة، فالسماع المولوي هو أحد الآداب التي تطبق من أجل الحصول على السماعين الروحاني والإلهي، والأنقروي يوافق ابن العزبي في رأيه أن صاحب السماعين الروحاني والإلهي ليس بحاجة إلى السماع الطبيعي، غير أنه بوصفه أحد المشائخ المولوية يرتب السماع الطبيعي المعدود من أركان الطريقة في إطار آداب معينة، فلذلك يحضر السماع الطبيعي «أوالصوري» بوصفه شيخاً «إنساناً كاملاً» من كبار مشائخ الصوفية، لا لأنه بحاجة إلى ذلك بل لإرشاد الطالبين أو تواضعاً أو ليواري حاله، وهذا الموقف مهم للغاية، لأن ابن العربي عندما يبدي آراءه في السماع يتكلم بوصفه عارفاً مرشداً على مستوى علمي وثقافي عالٍ،لا بأنه شيخ طريقة يسلك مريديه في إطار أركان معينة ومستقلة.
 فإسماعيل الأنقروي مثل مولانا كان من المشائخ الذين يطبقون السير والسلوك والأركان على مريديهم الوافدين من مختلف طبقات المجتمع.
 ورقص البدن وتحركه دلالة على وجده في نظر الأنقروي، وتنقص الحركة الحاصلة عن الوجد والذوق أو الوجد وحده عند بعض كبار الصوفية الذين سماهم ابن العربي بأهل التمكين بسبب العلم والمعرفة الموجودة فيهم، ولكن نقصان الوجد لا يضر بالمرتبة المعنوية قط، ولقد سئل سيد أهل التمكين والصحو «سيد الطائفة» جنيد البغدادي «ت910 / 2977» في أواخر عمره حينما انقطع عن الرقص والحركة: «ياشيخ! لماذا لا تقوم بالرقص/ السماع مع أصحابك؟ وقد كنت تفعله من قبل؟» فأجاب بقوله عز وجل: «وترى الجبال جامدة وهي تمر مر السحاب»، فيرى ابن العربي
 أن الجنيد خرج بجوابه هذا من السماع الطبيعي إلى السماع الإلهي، ويشير إسماعيل الأنقروي إلى أن الأصل
في المولوية هو الورود يجب أن يتم في خلال آداب معينة، ويوضح الأنقروي أداب السماع فيقول: 

1-يأتي الفقراء إلى دار السماع سماع خانه قبل الشيخ فيجتمعون ويجلسون بالأدب والوقار، ويستمعون بقلوب مفتوحة، ولا يسمحون بغلبة السنة عليهم لأنها قبيحة فيهم، وعندما يبدأ المنشد في إنشاد مدح النبي ونافخ المزمار بالنغمات يقعد كل
 واحد منهم بسكينة كما أنه في حالة المراقبة، فيستمع بأذن صاغية يمحو نفسه بالفؤاد الذي كان له في اليقظة.
وإن كان الفؤاد مثل الميت وليس بمتيقظ فلا بد له من أسباب متعددة:
أولها: عدم أداء الفروض والواجبات يورث موت القلب.
ثانيها: بجب أن لا يكون مفرطاً في جنب آداب الطريقة.
 ثالثها: أن لا يكون شغفاً بحب الدنيا ولا يميل إلى ما سوى المولى ولا يكون صاحب خصال ذميمة مثل الحقد،والكبر، والحسد، والسخط والنميمة، لأن هذه الخصال تنسف الحظوظ الإلهية والوجد الروحاني نسفا.
2ـ فالراقص بالسماع «سماع زان» إذا أحس في نفسه غلبة الصفات الذميمة، فلا يحل رقصه حتى يتطهر فتصفو نفسه من تلك الصفات.
3ـ ومن آداب الراقص فيما إذا غلب على قلبه وارد الحظ الإلهي أن يحذر من الصياح والنياح، ويأخذ بزمام نفسه بحضرة شيخه وإن غلبه الوجد.
 وإن حصل له هذا الوجد قبل أن يقوم إلى الرقص فليجتنب عن الحركة والدخول في الرقص، فالأحرى بالسالك السكوت إلا إذا حصل له الوجد الحقيقي.
4ـ وإخراج الراقص حلته والقاؤها في ميدان السماع أو على الحاضرين المطربين سنة، ولا تسترد هذه الحلة فيما بعد، وإذا وقعت حلة أو كيس دراهم ونحو ذلك حين الوجد تعتبر غنيمة للفقراء.
 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!