معنى أن تكون صوفيًّا

معنى أن تكون صوفيًّا

معنى أن تكون صوفيًّا

بقلم: خالد محمد عبده

 

الصُّوفيُّ: المسافرُ في الحُبِّ.

يعني التصوف أن تكون إنساناً أوّلاً وقبل كلِّ شيء، وأن تحقق معنى “وفيك انطوى العالمُ الأكبر”، وتتذكّر أنك مهما علوت أو هبطت وعيت أو غفلت سهوت أو تذكّرت، فأنت حيٌّ تحيا بالله، وأن ليس هناك قواطع وحدود صُنعت وبُتّ في أمرها مسبقاً، ولا بد أن تسعى على درب قد حُدد لك من قبل، أنت تحاول، وأنت تفكر، وأنت تجاهد نفسك ما استطعت أن تحيا وتتجدد، قال ربك في الكتاب “يزيد في الخلق ما يشاء” و” أنا عند ظن عبدي بي”، وأنا لا أقف لعبدي بالمرصاد كي ألقيه في حفرة، ولا أتحيّن الفرصة لسهو أو غلط فألقي به في النار لأجل جملة أو كلمة أو حرف، أنا آخذ العباد بما كسبت قلوبهم وأستيقنوا به وقدّموه، إن خيراً فخيراً، وإن شرّاً فشراً. وربّك الغفور ذو الرحمة.

وقيل قديماً: التّصوفُ: هو استرسالُ النّفس مع الله على ما يريده. وكان من دعاء أحدهم: “يا إلهي، اجعل عين قلبي مبصرة وأرشدني إلى معراج اليقين، وافتح بالرّحمة كنوز الجُودِ عليّ وادعُ قلبي إلى ساحةِ الأمل، وارزقني قلباً عامراً بالثناء عليك، ولساناً يكونُ بمنأى عن مدح من سواك، واشغل تفكيري بشكرك في السّراء، وزد من حمدي لك في الضّراء وسُق، هودج أملي إلى حيث يقع باب الفلاح، وبما أنك قد سموت بي في الدنيا عن التراب، فلا تُسلمني في الأخرى إلى طوفان الهلاك، واغمرني بالعفو حتى أصبح طاهراً، وأحيني بذاتك حتى لا أموت فليس ما أحمله قلباً، إنما هو جماد أمتلكه في الخفاء، وأنت من يهب الأموات الحياة، ولتُنر هذا الضريحَ الترابيَّ بالعقلِ المنير والفكر النقي، وما ذلك الأمل الذي أعلّقه على تلك الحياة إلاّ إضاعة لها في الغفلة، فلا تذرني في نوم الغفلة أكثر من ذلك فإن أمامي نوماً آخر. وإني أخطُّ في صحيفتي لازدهار أيامي، وعندما تنتهي زخرفة هذا الديباج، فلتكتبه عندك في سجل العتقاء من النار. ولا تسألني عن حسابي الذي لا يستحقُ التقويم، فإنه لا يستحق السؤال. وليكن كرمُك حارس سوقي وعنايتُك وكيلي في عملي، وجدد أملي بغفرانك، واجعل أملي فيك يفوق الحدود”.

صفات الصوفي:

– يبحث الصّوفيُّ عن قلب ينبضُ بالحياة، ويطلبُ الرشاد إلى معراج سماوي، في كل لحظة تتجدد فيه صلته بالله يكون الله صديقه الأوحد ومطعمه وساقيه، لا يبحث عن كنز من المال والمادة، بل يطلب فتح كنوز الرحمات حتى تتنزل على العباد، ولا يريد أن يرى إلاّ الله، وفي كُلّ حسن يرى صورة الله وتجلياته، يريد أن يتخلّص من غبار النفس الزائف ومن ترابها الذي يمنعه من الحياة، يطلبُ العفو وإن تورّمت قدماه قياماً وصلاة لله، يطلب النور الأعلى، وإن كان في حضرة ربّ العباد.

– يؤمن الصوفيُّ أن قلبه قطعة مُضغة تتكوّن لحظة بلحظة وتتجدد فيها الحياة بالله، وعلى قدر صفاء القلب تصفو الحياة، وعلى قدر طهارة القلب تُقبل صلاته وتتأكد صِلاته، لا ينشغلُ الصوفيّ بالصورة الظاهرة، وإن كان الظاهر يتجمّلُ من خلال الباطن، فلا ينشغل كثيراً بالطاهر من الماء أو المكان؛ فالعالم كله منه وبه طاهر، يعرف أنواع الماء السبعة لكنه غير مشغول بنقل أحكام الطهارة البرّانية وصحيح نُطق القرآن وكيفية المعاملات كما وردت في الكتاب أو السنّة فحسب، وهمُّه الأكبر أن يجدّ في طلب الحقيقة ويجدها، ويسهم فيها، ويكون جزءً منها، ويكون قلباً وقالباً ترجمة لها.

– يُسقط الصوفيُّ التكاليف، ليس على نهج أهل الصورة كما يُشيعوا عنه، ولكنه يفعل كلّ شيء بحبّ وعشق دائم؛ فهو يؤمن بأنه لا كُلفة في عبادة العباد المحبّين، وهم خاصةُ الله ونُجباؤه، فإذا كان العوام من أمثالنا يجدون كُلفة ومشقة في أداء العبادات، فيقومون للصلاة بنصبٍ، ويصيبهم الملل إن طالت، وكذا الصوم وغيره من العبادات، فإن من ذاقوا حلاوة القُربِ والاتصال لا كُلفة في مناجاتهم لأحبّ الأحباب، فكل عمل يؤدّونه له ” لذّةٌ ” و” مُتعةٌ ” لا يشعر بها إلا من أدّاها بقلب يشتعل بعشق الله. أن تكون صوفيّاً؛ أي ألا تريد من الله سوى الله.

ذُكر أن إحداهن ذات يوم كانت تحملُ ناراً في يدها اليمنى، وفي الأخرى كانت تحمل الماء وكانت تعدو مسرعة، فسألوها سيدتنا إلى أين أنت ذاهبة؟ وماذا تبتغين؟ فقالت: أنا ذاهبة إلى السماء حتى ألقي بالنار في الجنة وأصب الماء في الجحيم، فلا تبقى الواحدة ولا الأخرى ويظهر المقصود. فينظر العباد إلى الله دون رجاء ولا خوف، ويعبدونه على هذا النحو. وذلك لأنه لو لم يكن ثمة رجاء في الجنة وخوف من الجحيم أفكانوا يعبدون الحق ويطيعونه؟

أن تكون صوفيّاً، فأنت كافرٌ بكلّ الأصنام، لا الأصنام التي حطّمها إبراهيمُ قديماً أو مُحمّد صلى الله عليه وسلم، بل الأصنام التي تتجدد كل يوم وتُنصب في الشوارع والميادين والمساجد ودور العلم وفي أروقة الإعلام الشاسعة. لا ينبغي لك أن تنخدع بالصورة أو الكلام، فأنت لست عبداً لغير الله، وما الصورة إلا وهمٌ وخيال، ولو كانت لبشر أفاضل، فالشيخ أو الدّال على الطريق بمثابة القنطرة تعبر بها ثم ترى من بعدها ما لم يره.

لتكون صوفيّاً لا تنخدع بأحد، وقديماً قال أحدهم: في وسط جميع الدراويش يختفي واحدٌ صادقٌ فقيرٌ، فابحث عنه جيداً وستجده.

– يؤمن الصوفيٌّ أن الشيطان الذي في داخله هو الذي يستحق التأديب والتهذيب، ولا يلقي بتبعة أفعاله على الشيطان الخفي، الذي ورد في الذكر أن علاجه الاستعاذة، وبالاستعاذة ينتهي أمره. إن شيطان النفس هو الكفة الأخرى للقرين السماوي الذي يصاحب الصوفي في رحلات تحقيقه، قال أحدهم عن هذا الشيطان الذي لا يكلّ عن الحركة والعمل: في داخلي شيطانٌ، لا يخفى عليّ… وقطع رأسه ليس أمراً سهلاً… لقنته الإيمان ألف مرة… ولم يدخل في الإسلام. هذا الشيطان هو أنا ما دمتُ حيّاً، في كل مرّة أخطئُ وأتوب… ثم أخطئ وأهذّب نفسي… ثم أجاهد نفسي ليل نهار حتى الممات، حتى أتخلّص من كل خُلقٍ دنيٍّ وأتحلّى ما استطعتُ بالخُلقِ السَّني… ليس هناك لن أعود فلا يضمن أحدٌ نفسه، ولا يأمنُ مكرها. وفي صيغ استغفار النبيّ الأكرم ما رُوي أنه سيد الاستغفار يقول: وأنا على عهدك ووعدِك ما اسْـتَـطعتُ… ومن يستطيعُ ما استطاع.

أن تكون صوفيّاً؛ يعني أنك تلتمسُ من الحياة ما فيه نفع للعباد وتقدّمه على منافعك حتى ولو كانت قربة لله وأداء فريضة من فرائض الدين. كان أحدهم قد روى عن بايزيد البسطامي قصة تقول: كانت مع البسطامي مجموعة من الدراهم وأراد أن يحجّ، وفي طريقه للحج وجد عجوزاً صاحب عيال فقير، فسأله الفقيرُ عن وجهته فأخبره أنه ذاهب إلى الحج حيث الكعبة بيت الله يطوف كما المناسك، فرجاه أن يطوف به ويعطيه المال فهو أحوج إليه هو وعياله، والبسطامي أحوج إن كان عبداً لله أن يطوف ببيت الله الحيّ “قلوب العباد عياله”، وقد فعل البسطامي وانصرف عن الحج. وقد انصرف أهل الصورة عن المعنى الكامن في فعل البسطامي وترجموه إلى إهمال الفرائض والاستخفاف بالدين، ونسوا ما هو أولى من ذلك، أن العاقل لا ينشغل بفعل غيره مع ربه، وأولى به أن ينشغل بالله.

وأن تكون صوفيّاً؛ أي أن تخلع عنك كل الأفكار المُسبقة ما كان بالياً منها أو حديثاً، ولا تفرض فكراً على أحد ولا تنشغل بأفكار الآخرين مهما ظهر لك أنها لا تناسبك ولا تناسب الآدميين، وإن كنت مهموماً بتغيير العالم من حولك، فإنه سيتغير حتماً إن تغيّرت، ومن خلال حياتك الناجحة وبشريتك الراقية سيسعى غيرك للحصول على ما حصلت.

يُروى أن رجلين من أهل الله في طريق سفر من بلدة لأخرى، وفي الطريق مرا بنهر، ووجدا على ضفته امرأة تنتظر بمفردها في وقت متأخر، وتبدو عليها ملامح الحزن والأسى، فسألاها: يا أختاه هل تحتاجين من شيء نقدمه لك، فقالت: أريد العبور للضفة الأخرى لأعود لأولادي ولكنني تأخرت وأخاف الغرق، فسارع أحد الرجلين إليها وحنى ظهره وقال لها اركبي، فامتطت المرأة ظهره وعبر بها إلى الضفة الأخرى من النهر، وبعدها أنزلها وألقى عليها السلام، ثم انطلق مع صاحبه إلى وجهتهما، وبعد مسيرة يومين من السفر، قال له صاحبه: هناك سؤال يؤرقني طوال سفرنا، فهل لي أن أسأله إياك، فأشار إليه بالموافقة، فسأله: كيف تسنّى لك وأنت شيخ عالم فاضل أن تمس امرأة لا تحل لك، بل وتحملها على ظهرك وتشعر بحرارة صدرها على ظهرك، وتحتّك أبدانكما أحدهما بالآخر، أليس هذا حرام؟ فأجابه صاحبه مبتسماً: والله يا صاحبي، لقد تركت أنا المرأة على ضفة النهر الأخرى قبل يومين، ولكن يبدو أنك لم تتركها طوال اليومين حتى هذه اللحظة.

فإن كان كثيرٌ من الناس يتعبّدون الله ويتقربون إليه بسوء الظن، فكن أنت غيرهم وأحسن الظنّ بعباد الله تكن إنساناً قبل أن تكون صوفيّاً.

وأن تكون صوفيّاً تطوفُ لترى ولا تنزوي في صومعة بعيداً عن العالم من حولك، ولا تتنصل من خبرة سابقة هي سبب في تكوينك الحالي، فكل ما قدّمته لنفسك من حسن وسيء هو أنت الذي تراه الآن، فإن كنت تاركاً للصلاة أو الصيام أو مقترفاً للرذائل يوماً، لا بد أن تتذكر ذلك إن حدّثتك نفسك احتقار أهل الآثام والمعاصي، فيوماً ما كنت أنت هناك، وذكِّر نفسك قائلاً: وأنت يا نفس لو ابتليت ببيع الخمر والحشيش يوماً واحداً لضاقت عليك الأرض بما رحُبت، خوفاً من زوال رياستك لا خوفاً من اللّه عز وجل، بدليل وقوعك في الذنوب التي هى أقبح من بيع الحشيش مثلاً، ثم لا تضيق عليك الأرض ذلك الضيق.

وتذكّر أن من أهل الله من رأى للعاصي محاسن كثيرة، منها: أنه لولا تحمله تلك القاذورات التى نزلت على الخلق لربما كنت أنت المرتكب لها بحكم القبضتين، إذ لا بد للمعاصي من فاعل. وفي حكاية لـ أفضل الدين رحمه اللّه يقول: أنا في غاية الحياء والخجل من جاري، فقلت لماذا؟ فقال لأنه غارق في الزنا واللواط وشرب الخمر والبوظة وبلع الحشيش ليلاً و نهاراً، فأنا أتخيل دائماً أنه محتمل ذلك عني لقذارة حالي وخباثة أصلي، فإنه من ذوي البيوت وأي شيء بين حائطي وحائطه. ويروي الشعراني عن سيدى علي الخواص رحمه اللّه قوله: لا يصح لعبدٍ قدم في طريق القوم حتى يشهد نفسه تحت الأرضين.

والتصوف أن نرى نفوسنا دون كل جليس من الناس، ولو بلغ ذلك الجليس في الفسق إلى الغاية، فنرى نفوسنا أفسق منه، فمن شك من أهل الدعاوى في ذلك فليعرض على نفسه صفات الفسق التي عملها طول عمره، ويقابل بينها وبين صفات الفسق التى ظهرت من ذلك الجليس، فإنه يجد صفات فسقه هو أكثر من صفات جليسه بيقين فهو أفسق، وذلك لأن اللّه ستار، وما يكشف من صفات عبيده الناقصة إلا القليل والباقى يستره، وما ستره لا حكم له، ولا يجوز لنا رمي أحد بالفواحش باطناً قياساً على ما وقعنا نحن فيه وستره اللّه علينا.

إن التَّصوّفُ إحساسٌ أکثرُ منه عقیدة… لذلك من العبث أن تطالب شخصاً أن يأتيك بالدّليلِ على إحساسه، ومن العبث أن يُدلل الصوفيّ على حاله. وأن تكون صوفياً أن تغيب عن كل هذه الأمور التي تدفن الإنسان ولا تنشغل بالرّد على المخالف، فتتحول دون أن تدري عن وجهتك وتقع فيما فيه وقع.

ومن وصايا سيدي علي الخواص رضي اللّه عنه: إذا جاءكم مجادلٌ فلا تقيموا عليه الحجج بالأجوبة المسكتة، وتصدّقوا عليه بالسكوت، فإن السكوت يخمد هيجان النفس، والجواب بالجدال يهيّجها.

وأن تكون صوفيّاً؛ أي أن يكون حديثك وحالُك بلسماً يشفي الصدور ويشرق منه النور، تترجم الحرف في صمت بفعل لا بكلِمٍ يكلمُ صدور العباد. كان هناك شيخ يعلّم تلاميذه العقيدة “لا إله إلا الله” يشرحها لهم، ويربيهم عَلَيْها أسوة بما كان يفعله الرسول الأكرم “صلى الله عليه وسلم”، وفي يوم أتى أحدُ تلامذة الشيخ ببغاء هدية له، وكان الشيخ يحب تربية الطيور والقطط، ومع الأيام أحبّ الشيخُ الببغاءَ وكان يأخذه معه في دروسه حتى تعلّم الببغاء نُطق كلمة “لا إله إلا الله”، فكان ينطقها ليلاً ونهاراً، وفي مرة وجد التلامذة شيخهم يبكي بشدة وينتحب، وعندما سألوه قال لهم: قتلَ القطُّ الببغاءَ، فقال التلاميذ: ألهذا تبكي؟ إن شئت أحضرنا لك غيره وأفضل منه، فأجاب الشيخُ قائلاً: لا أبكي لهذا. ولكن أبكاني أنه عندما هاجم القطُّ الببغاء أخذ يصرخ ويصرخ إلى أن مات. ومع أنه كان يكثر من قول “لا إله إلا الله”، إلا أنه عندما هاجمه القطُّ نسيها ولم يقم إلا بالصراخ، لأنه كان يقولها بلسانه فقط، ولم تخالط قلبه ولم يشعر بها، ثم قال الشيخ: أخاف أن نكون مثل هذا الببغاء نعيش حياتنا، نردد “لا إله إلا الله” بألسنتنا وعندما يحضرنا الموت ننساها ولا نتذكرها، لأن قلوبنا لم تعرفها، فأخذ طلبة العلم يبكون خوفاً من عدم الصدق في قول “لا إله إلا الله”.

أن تكون صوفيّاً فيكون معتقدك أنه إذا تنسّمت عبير المحبّة في مكان فثمّ وجه الله، وأن تكون صوفيّاً؛ أي أن يكون ابتهالك: لا تردّني إليّ بعدما اختطفتني منّي. وأن تكون صوفيّاً، أي لا تقلّك أي أرض ولا تظلك أي سماء. وأن تكون صوفيًاً؛ أي ألا تذكر كلّ ما كتبته هنا.

 

مقالات ذات صله

1 تعليقات

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!