ملامح التربية عند الصوفية

ملامح التربية عند الصوفية

 

ملامح التربية عند الصوفية

بقلم: أ.د. مصطفى رجب 

إن موضوع التربية عند الصوفية من الموضوعات الجديرة بالعناية والدرس، لا سيما إذا تمت هذه الدراسة بعيداً عن الأفكار المسبقة والأحكام الجاهزة، وتناولتْ الأبعاد التربوية التي كان لها بالغ الأثر في تربية المريدين، وتربية المجتمع كله على أخلاق الإسلام، والتقلل من الدنيا والزهد فيها والاستعداد للآخرة والعمل لها.

ولبيان المعالم التربوية عند الصوفية اعتمدت في هذه المقالة على المصادر الصوفية المعتمدة عند أصحابها مثل كتاب، طبقات الصوفية – لأبي عبد الرحمن السلمي، وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء – لأبي نعيم الاصفهاني، وعوارف المعارف – للسهروردي وآداب النفوس ورسالة المسترشدين – للحارث المحاسبي. مع الرجوع لبعض الكتب الأخرى من باب البيان والتوضيح والتدعيم.

وأقصد هنا التصوف الإسلامي السني، إذ يقابله تصوف بدعي منحرف عن منهج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، خارج عن حدود وقيود الشريعة الإسلامية، أعلن قضايا الحلول والاتحاد والوحدة التي تُفضي إلى وحدة الوجود، متأثرين بالفلسفة، فدخلوا مداخل أحرجتهم وشككت فيهم وفي حسن نواياهم حتى إن بعضهم قد قُتل بسبب سوء أفكاره وآرائه.

أما التصوف السني فهو الذي تمسك بالشريعة الإسلامية، والعمل المنطلق من العلم الصحيح، بقصد تهذيب النفوس وتزكيتها، وهو امتداد لمدرسة الزهد الإسلامي التي رسخ جذورها الحسن البصري رحمه الله – حيث المجاهدة الروحية التي بدأت بدون توصيف أو تصنيف مذهبي عند الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

إن التصوف السني قاده علماء كبار شكلوا مدارس في العلم والعمل والدعوة إلى الله، فكانت مجالسهم مجالس ذكر وطاعة، وعلم وعبادة، محاضن تربية يشكلون المريد وفق الكتاب والسنة ويربونه على الزهد وذم الدنيا والحرص على الآخرة، وقد وصف الذهبي طرفا من مجالس الإمام الكيلاني فقال: “قال ابن الجوزي: كان أبو سعد المخرمي قد بنى مدرسة لطيفة بباب الأزج، ففوضت إلى عبد القادر، فتكلم على الناس بلسان الوعظ، وظهر له صِيْت بالزهد، وكان له سَمْت وصَمْت، وضاقت المدرسة بالناس، فكان يجلس عند سور بغداد مستنداً إلى الرِّباط، ويتوب عنده في المجلس خلق كثير فعُمِّرت المدرسة ووسعت، وتعصب في ذلك العوام، وأقام فيها يُدرس ويعظ إلى أن توفي”.

وعند النظر في سيرة هؤلاء الإعلام الكبار قادة التصوف الإسلامي السني، وهم علماء في الفقه والحديث وغير ذلك من أمثال: إبراهيم بن أدهم، وأبو سليمان الداراني، وبشر الحافي والحارث المحاسبي، والسري السقطي، والجنيد بن محمد، والشبلي، وعبد القادر الكيلاني، بالإضافة لشخصيات وأعلام آخرين ذكروا في طبقات الصوفية، فمن خلال تراجمهم وبعض مصادر التصوف

تتضح ملامح التربية عند الصوفية وهي على النحو التالي:

أولاً: العلم:

لا يصح العمل إلا بالعلم الشرعي الصحيح المنضبط بالكتاب والسنة النبوية الشريفة، وكما جاء عن السلف أن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا أصوبه وأخلصه، “قال الفضيل: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون صواباً خالصاً، قال: والخالص إذا كان لله والصواب إذا كان على السنة”، وعند تتبع أقوال أئمة التصوف وعلمائه نجدها تدل على ضرورة تحصيل العلم للسالك في الطريق إلى الله، قال السقطي: “أربع خصال ترفع العبد: العلم والأدب والأمانة والعفة”، وقال أيضاً: “إذا ابتدأ الإنسان بالنسك ثم كتب الحديث فتر، وإذا ابتدأ بكَتْب الحديث ثم تنسك نَفَذَ” ،  وقال الحسن البصري: “كان الرجل يطلب العلم فلا يَلْبث أَنْ يُرى في تَخَشعه وزهده ولسانه وبصره”، وقال الجنيد: “علمنا مضبوط بالكتاب والسنة، من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث ولم يتفقه لا يُقتدى به”..

ثانياً: العمل:

فالعمل من لوازم العلم الصحيح، إذ العمل ثمرة إيجابية منبثقة من العلم، فليس العلم محفوظات في الرأس لا علاقة لها بالواقع العملي للعالم، فالعلم في الإسلام قائد وموجهة للعمل، وعند النظر في أحوال وأقوال السادة الصوفية الأبرار نجد أنهم قرنوا بين العلم والعمل، فمثلاً وصف الحسن البصري بأنه: “سيد أهل زمانه علماً وعملاً”، قال سهل التستري: “شُكر العلم العمل” وقال إبراهيم الخواص: “ليس العلم بكثرة الرواية؛ إنما العالم من اتبع العلم واستعمله واقتدى بالسنن وإن كان قليل العلم”.

ثالثاً: الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم:

إن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق، بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فدلنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله  وسلم على الطريق الموصل لله تعالى، فلا يمكن لأحد أن يعبد الله إلا على طريقة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله  وسلم لأنه المبلغ عن ربه، ففهم العلماء العارفون ذلك ونبهوا على ضرورة الاقتداء بسيد الأولياء سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله  وسلم.

ولعلماء الصوفية أقوال في ذلك على الخلق، قال السقطي: “قليل من السنة خير من كثير مع بدعة”، وقال الجنيد: “الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وعلى آله  وسلم، واتبع سنته ولزم طريقه، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه” وقال سهل التستري: “أصولنا سبعة أشياء – وذكر منها – الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله  وسلم”، وقال الحارث المحاسبي: “من صحح باطنه بالمراقبة والإخلاص، زين ظاهره بالمجاهدة واتباع السنة” “وقيل لعبد الواحد بن زيد: مَنْ الصوفية عندك، قال: القائمون بعقولهم على فهم السنة، والعاكفون عليها بقلوبهم”

 

رابعاً: اتخاذ شيخ مرب والاقتداء به

القدوة من وسائل التربية التي ترسخ الاتباع والاقتداء، وعند الصوفية لا يتم سلوك المريد إلى الله إلا عن طريق شيخ يتعلم عنده ويقتدى به، وهي فرصة لملازمة المريد شيخه، ومن ناحية أخرى يعتنى به الشيخ ويهذب أخلاقه وسلوكه، ويراقب أحواله، ومقدار خدمته له، ويلاحظ مطابقة ظاهر المريد مع باطنه، إلى أن يقبله الشيخ، بعد اجتياز أول مراتب التوبة، فأول الطريق التوبة، ومن ثم يصبح المريد ظلاً لشيخه، بحيث يكون معه وفي هذه المرحلة يتأكد الشيخ من صحة عقائد المريد وإيمانه الديني الصادق وعلمه بالقرآن والشريعة على وجه العموم.

وقد قرر علماء الصوفية جملة من الآداب بين المريد وشيخه:

أ. آداب المريد مع الشيخ:
  1. أن يكون مسلوب الاختيار لا يتصرف في نفسه وماله إلا بمراجعة الشيخ وأمره.
  2. أن لا يُحَدِّث نفسه بطلب منزلة فوق منزلة الشيخ.
  3. السكوت في مجلس الشيخ إلا إذا سمح له.
  4. أن لا يكتم على الشيخ شيئاً من حاله ومواهب الحق عنده، وما يظهر له من كرامة وإجابة.
  5. أن لا يَسْئَل الشيخ إلا إذا كان مستعداً لسماع كلامه.
 ب. آداب الشيخ مع المريد:
  1. أن لا يكون حريصاً على جلب التلاميذ بحسن الكلام.
  2. اللطف والإشفاق في كلامهم بما ينفعهم في الدنيا والآخرة.
  3. النزول إلى حال المريدين من الرفق بهم وبسطهم.
  4. التعطف عليهم وقضاء حقوقهم في الصحة والمرض.
  5. إذا علم من بعض المسترشدين ضعفاً في مراغمة النفس وقهرها واعتماد صدق العزيمة: أن يرفقوا به ويوفقوه على حد الرخصة.
  6. التنزه عن مال المريد.
  7. حفظ أسرار المريد.

خامساً: تربية المريد على تحصيل المقامات:

المقامات هي أنواع من العبادات والرياضيات والمجاهدة، التي يعتمدها السالك إلى الله تعالى، قال السهروردي: “تداولت ألسنة الشيوخ أن المقامات مكاسب”، فهي أعمال يقوم بها المريد بكسبه واختياره، وهذا تفصيل لأهم المقامات:

أ. مقام التوبة:

التوبة انخلاع من الذنوب ورجوع إلى الله، وتجديد العهد مع الله سبحانه وتعالى، قال ابن قدامة: “أعلم أن الذنوب حجاب عن المحبوب، والانصراف عما يبعد عن المحبوب واجب، وإنما يتم ذلك بالعلم والندم والعزم والإجماع، منعقد على وجوب التوبة، لأن الذنوب مهلكات مبعدات عن الله تعالى، فيجب الهرب منها على الفور”

وقد قرر السهروردي أن التوبة أصل كل مقام فقال:

“التوبة أصل لكل مقام، وقوام لكل مقام ومفتاح كل حال ” ،فالمريد في أول الطريق يلزمه التوبة، وبالتوبة يتطهر المتقربون إلى الله تعالى من شوائب الذنوب.

ب. مقام الزهد:

“والزهد هو الرغبة عن حظوظ النفس كلها إلى ما هو خير منها”، فقال الجنيد: “الزهد خلو الأيدي من الأملاك والقلوب من التتبع”، وقال السقطي: “الزهد ترك حظوظ النفس من جميع ما في الدنيا وقال سفيان الثوري: “ليس الزهد بأكل الغليظ ولبس الخشن، ولكنه قصر الأمل وارتقاب الموت”.

فالزهد مدرسة في باب ترك الدنيا والتقلل منها وعدم التنافس فيها، والحرص على الآخرة والعمل لها، والاستعداد للموت، بحيث يرتاح العبد من متعلقات الدنيا ويخلو باله من الشواغل الدنيوية التي تقطعه عن الله تعالى، قال المحاسبي:”والزهد يورث
الراحة”.

ج. مقام الخوف:

صاحب هذا المقام يتمثل جناب الله تعالى، ويحذر من وعيد الله وإنذاره، فالخوف أوقفهم أمام باب الله تعالى لا يبرحونه، وألزمهم الورع عن أن يفعلوا فعلاً يسقطهم من عين الله تعالى.

فأصل هذا المقام أن يخشى المريد الوقوع في الذنب مخافة لله تعالى، وأول درجات الخوف هو مخافة الله تعالى الواردة في الشرع وثانيها: مخافة غواية النفس في سرها، قال أبو عمر الدمشقي: “الخائف من يخاف من نفسه أكثر مما يخاف من الشيطان، وقال بعضهم: “ليس الخائف من يخاف ويمسح عينيه، ولكن الخائف التارك ما يخاف أنْ يعذب عليه.

د. مقام الرضا:

والرضا هو عدم الاعتراض على الحكم والقضاء، وله صلة بالزهد، فمن معاني الزهد الرضا بالقليل والقناعة بما قسم الله، بل الرضا ثمرة من ثمار المحبة الإلهية، إذ الباعث على الرضا محبة الله تعالى، والرضا يسكن النفس، ويجعلها تقنع بالحال التي عليها العبد.

هـ – مقام التوكل:

التوكل هو الاعتصام والالتجاء إلى الله وحده والاعتماد عليه سبحانه دون أحد من خلقه، قال المحاسبي: “وأعلم يا أخي: أنك لا تكون متوكلاً على الله إلا بقطع كل مُؤَمل دون الله فالمتوكل الصادق في توكله لا يجد قلبه يخضع لمخلوق، لأن قلبه مملوء بالثقة بضمان الله”.

و – مقام الصبر:

فالصبر حمل النفس على ما تكره، وهو ضروري للعبد حتى يواجه المعاصي والبلاء، بل الطاعة تحتاج للصبر، “والصبر جوهر العقل وبه تُعرك النفس، إذ بالعرك تلين، والصبر جار في الصابر مجرى الأنفاس.

ز – مقام الشكر:

شعور العبد بنعم الله عليه سواء كان الحاصل له خيرا أو شر، فالعبد يجب أن يشكر الله تعالى على كل حال، قال السهروردي: “وحقيقة الشكر أن يرى المقضي له به نعماً غير ما يضره في دينه؛ لأن الله تعالى لا يقضي للعبد المؤمن شيئاً إلا وهو نعمة في حقه؛ فإما عاجلة يعرفها ويفهمها، وإما أجله بما يقضي له من المكارة، فإما أن تكون درجة له أو تمحيصاً أو تكفيراً؛ فإذا علم أن مولاه أنصح له من نفسه وأعلم بمصالحه، وأن كل ما منه نعم، فقد شكر.

سادساً: التأدب بآداب الإسلام وأخلاقه:

الإسلام إقبال على الخالق بصدق يثمر إحسان إلى الخلق، فمن تمام الإيمان وكمال الإسلام أن يحسن المسلم للخلق، ولا يكون المسلم مسلماً حقاً حتى يسلم منه المسلمون ويتأدب معهم ويعاملهم بالحسنى ويعاشرهم بالمعروف.

فالصوفية يحرصون على هذه المعاني، ويربون المريد على جملة كبيرة من الآداب ومنها:

  1. الأدب مع الله تعالى.
  2. الأدب مع الأصحاب.
  3. آداب للعبادات.
  4. آداب في المأكل والمشرب.
  5. آداب للباس.
  6. آداب للنوم.

أما الأخلاق :  فالصوفية أوفر الناس حظاً منها، قال السهروردي: “الصوفية أوفر الناس حظاً في الاقتداء برسول الله وأحقهم بإحياء سنته والتخلق بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله  وسلم في بداياتهم لرعاية أقواله، وفي وسط حالهم اقتدوا بأعمال فأثمر لهم ذلك أن تحققوا في نهاياتهم بأخلاقه وتحسين الأخلاق لا يأتي إلا بعد تزكيه النفس وطريق التزكية بالأذعان  لسياسة الشرع.

وقد ذكر السهروردي جملة كبيرة من أخلاق الصوفية نحو: التواضع، والمداراة، الإيثار والمواساة، التجاوز العفو ومقابلة السيئة بالحسنة، البشر وطلاقة الوجه، السهولة ولين الجانب، ترك التكلف، الأنفاق من غير إقتار وترك الادخار، القناعة واليسر، ترك المراء والمجادلة، التودد والتآلف، شكر المحسن على الإحسان والدعاء له، بذل الجاه للإخوان والمسلمين كافة.

سابعاً: التزام الأوراد والأذكار:

فيلازم المريد ذكر الله تعالى في كل الأحوال، بدءاً من طلوع الفجر إلى النوم في الليل، فيحقق بذلك الاتصال بالله تعالى ويكون من الذاكرين لا الغافلين، مشرق القلب يقظ النفس، بعيداً عن الشيطان ووساوسه، وقد عد الجنيد الذكر قوت للقلوب يحي القلوب ويورث الصفات الحسنة في النفس، بل نجد انه لا يترك الذكر حتى عند موته

ثامناً: العزلة والخلوة:

فالعزلة الانفراد عن الخلق، إذ الاجتماع بالناس مدخل الآفات على العبد، ففي الخلوة تصفية للقلوب والنفوس، فالخلوة فيها جلوة، وللخلوة شروطها من جمع الهم وفق سياسة الشرع وصدق المتابعة للرسول صلى الله عليه وعلى آله  وسلم، أثمرت عندها الخلوة نوراً في القلب وزهداً في الدنيا وحلاوة في الذكر وإخلاصاً في العبادة لله رب العالمين.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!