رَشْفَةٌ مِن قهوةِ مولانَا

رَشْفَةٌ مِن قهوةِ مولانَا

 

                                          

رَشْفَةٌ مِن قهوةِ مولانَا[1]

محمد التّهامي الحرّاق

 

               طوبى لكَ يا مَهْدي قد ذُبتَ من الجَهدِـ    

أعرضتَ عنِ الصُّورة كيْ تُدرِكَ مَعْنَاَنا

               مــــَنْ كانَ لهُ همٌّ يُفنيهِ و يُرديهِ  

فليَشرَبْ و ليَسْكَرْ من قَهْوَةِ مولانا[2]

                                                                                   جلال الدين الرومي

بسم الله الرحمن الرحيم

 وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه

 

-1-

              تَرْقمُني هذه الحروفُ عند غبشِ الفجرِ، ومسامعي مُضَمَّخَةٌ بتصادي أصواتٍ بهية صادرةٍ من كل الأنحاء؛ أصواتٍ تنثُر من أعلى المآذن المنتشرةِ في سماءِ المدينةِ ترانيمَ نداءٍ نديٍّ لطمأنينةِ الذكرِ وراحة الأرواح؛ تُكبّرُ فالقَ الإصباحِ، وتشهدُ أن لا إله إلا هُو، وأن محمدا رسولُه، وتُحرِّضُ على المناجاةِ و الفَلَاح؛ إذ الصّلاةُ، كما تصدحُ تلاوينُ هذه الترانيمِ العثمانيةِ، خيرٌ من النّوم… سماءُ قونيةَ تهاليلُ وتسابيحُ ملائكيةٌ تنسجُ سمفونيةً إلهيةً، كلّ مآذنِ المدينة تُسهِم فيها بخطٍّ و حَظ.

 أصواتٌ ملكوتيةٌ، ذبذباتٌ سابحةٌ، تزاويقُ باذخة، توقظ القشعريرةَ من أقصى ينابيعها، لتغمر بفرادتِها المُعتَّقةَ فجرَ هذا العيدِ، وتُحلِّي بألق استثنائيتها إشاراتِ الفداءِ الإبراهيميّ التي سَنَّ تذكُّرَها ابنُ الذبيحين صلى الله عليه وسلم. هذه أولُ مرة في حياتي تُبَلِّلُني شمسُ عيدِ الأضحى خارجَ مدينةِ وزّان، مسقِطِ الرأسِ ومنبعِ المعنى؛ بل خارجَ المغرب، شعورٌ آخر لا حرفَ يصفُهُ ذاكَ الذي تَقْدحهُ في الدخيلةِ مَعِيةُ الأذان وحلاوةُ الذكر وصوتُ الرّوحِ العابرِ للأمكنة و اللكناتِ والأزمنة، حيثُ يسري في الدماءِ دبيبُ فرحٍ غيرِ مألوفٍ حين تكتشفُ الجوارحُ أفقاً آخر لمعنى العيدِ، وحينَ تُشرِفُ على غير ما اعتادتهُ من أمكنةٍ ونغماتٍ ولغةٍ وصورٍ وتقاليدَ وروائحَ وتحايَا؛ روحٌ واحدة مُنبجسَةٌ في صورٍ شتّى، والمعنَى يتلألأُ كأنهُ هو.

-2-

     كان الأذانُ يتتالَى ويتوالَى، كلما انتهتْ مَزاميرُ جهةٍ إلا وانطلقتْ أخرى، ألقٌ في ألقٍ، ورونقٌ في رونقٍ.. يقينٌ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم  كانَ يُدرِكُ بشفافةِ النبوَّة أن الشهادتين اللتين صدعَ بهما، في بيئةٍ عربيةٍ محدودةٍ وبين أناسٍ معدودين، ستعبرانِ الآفاقَ امتداداً بلا ساحِل، وأن صوتَه “الغريبَ”، صوتَ يتيمِ بن أبي طالب، سيُضحي صوتًا سَيَّاحاً لا يُقَيِّدهُ قيدٌ، ولا يَحُدُّه حدٌّ، ولا تحاصرُه تُخُوم؛ نداءٌ إلهي يخترقُ المُتَوقَّع، ويفتحُ أفقاً متعالياً لن يكفَّ عن تغذيةِ آمالٍ وتوهيجِ إيمانِ أقوامٍ مختلفة ألسنتُهم وألوانُهم وأعراقُهم وجغرافيتُهم و تاريخُهم و ذاكرتُهم و مُتخيَّلُهُم و ثقافتُهم… ذاك قُلٌّ مما ظلَّ يعتمِلُ و يلتمعُ في سريرتِي على مدى تجددِ النداءِ وتناسلِ فسيفسائه، وانسيابِ ظلاله. ومازالت أنغامُ فجرِ العيد تتبخترُ مع الريحِ من فوق صوامع قونية… مازالت تتراقصُ المقاماتُ الموسيقيةُ التركيةُ في ترانيم الأذان وتذييلاته وتموجاتِ الأصوات فيه بين مدٍّ ورفعٍ وخفض …تموجات ظلت ترحلُ بمواجيدي نحو مساراتٍ يستعصي بهاؤُها على كلِّ بوح…سيما وأنهُ بهاء ممهورٌ بروحانيةٍ تمتشقُها المدينةُ من مَمْتَحٍ آخر يُضاعِف فيها ألقَ النِّداء .. إنها مَثْوى سرٍّ يُشعُّ بـأرغُنِهِ على العالم؛ مَحضِنُ تُربٍ تِبريٍّ يَضُمُ جدثَ رجلٍ “أوتيَ كتاباً ولم يكن نبيا”، رجلٍ فاحَ نشرُ ذكرِه في أكوان الشعرِ والتصوفِ والتربيةِ والحكمةِ والرقصِ والموسيقى الواشجة بين تنوع واختلاف الناس على مأدبةِ تكريم الإنسان… إنه العارف الكبير صاحب “قرآنِ العجمِ” و”معجزة الفارسية”، كتابِ “المثنوي”[3]، مولانا جلال الدين الرومي (تـ672هـ/1273م).

-3-

    ومضةٌ فِرْدَوْسِيةٌ تلك التي قادتني إلى مَقَامِ مولانا،، لحظةٌ حازتْ من الغبطةِ والحيرةِ ونفحةِ الولهِ والفيضِ الوجديّ ما يعِزُّ عنِ الوصفِ ويُخاتلُ القول دلِفْتُ إلى  مزارِ مولانا فسقطتْ مِنِّي الكلماتُ، وأُغْمِيَ على الحرفِ، لتذوبَ في دخيلتي مواهبُ البلاغة الشتّى؛ بلاغةِ الصوتِ والصمتِ، بلاغةِ التذكر والنسيانِ، بلاغةِ التعقل والتخيلِ، بلاغةِ الصحوِ والمحو… حلمٌ كان يكمنُ سرا في سريرتي، ولم أكنْ أجهرُ به لتعذُّرِ إمكانهِ في  ظلِّ التباساتٍ وانشغالاتٍ وعوارضَ بلا عدد.. لكني وجدتُني بمحضِ تفضلٍ ربانيّ على بوابةِ ضريحِ مولانا، وقد استبدتْ بالأعضاءِ القشعريرةُ، وتنمَّلتْ مني الأطرافُ، وابتلَّت من ماءِ الشطحِ العينُ، حتى بلغَ مني التحيُّرُ مَبلغاً غيرَ مألوفٍ؛ زادَ من تسعيرهِ، وحرَّض على الغرقِ فيهِ، أنينُ نايٍ باهٍ باهرٍ يُخضِّبُ المكان؛ أنينٌ أوقفَ الزمان للحظاتٍ، كيما يأخذني في تفاصيلِ العطرِ المخيِّمِ على المقام، ويسكبَني في ثنايا الزخارفِ الحافةِ بالضريح… تلكَ المنقوشةِ بأسرارِ آياتٍ وخفايا كلماتٍ، المنضوحةِ  بقداسةِ غرامٍ و كيمياءِ وجد، لتُلقي بكَ هناك حيثُ لا أين، وتُسافرَ بكَ إلى أغوارِ نفْسِك؛ إلى حيثُ لم تعتقدْ يوماً أن ثمةَ غوراً لنَفْسٍ أو معنىً لِنَفَس… كان الناسُ يتحلقون  حولَ مولانا…أو بالأحرى كان مغناطيسُ سرِّ مولانا يداعبُ أرواحهم الثملىَ بعطر المقامِ ومناجياتِ الناي.. كلٌّ إلى جانبِ الكلّ، من شتّى الأديانِ والألوانِ والألْحان، ولا أحدَ يشعرُ بوجودِ أحد.. الكلُّ مأخوذ بنفحةِ النسماتِ ولذَّةِ الاسترواحِ، الكلُّ مُنذَهلٌ بدفقِ تأملاتٍ تأتي، كما لم تأتِ قط، نديةً طريّةً لتغمُر الحاضرين بصمتٍ قدوسيّ من معدن لا يوصف.

-4-

     لا أعرفُ ما الذي ذهبَ بِي تواًّ إلى أقاصِى طُفُولتِي، حيثُ الطفلُ متشبِّثٌ بذيلِ “حائكِ”[4]  أمِّه، وهيَ تجُوبُ، في عشايا روحانيةٍ لا تُنْسَى، مَزاراتِ “دارِ الضمانة”[5]؛ أماكنُ أسراريةُ بامتياز، أو قلْ خزائنُ طمأنينةٍ تسري في الدم نُسْغاً بارداً تلتذ به الأعضاءُ الصغيرةُ الظمآنة لهُنينةِ شَغَف… لم أُصَدّق أني بحضرةِ لحظةٍ نظيرة. لذا كنتُ أحملِقُ بلهفٍ في كل الاتجاهاتِ علِّي أعثرُ على طيفِ أمي، أرسُمُ محبتَها للصالحين في رُكْنٍ من أركان المقام، كانت روحُها حتْماً تُرَفْرِفُ في سماءِ قونية؛ بل  ها هيَ تدعُو على لسانِي بما كانتْ تدأبُ عليهِ من تضرعاتٍ عند أبوابِ السر، أبوابِ مزاراتٍ كنتُ أراها أمكنةً نائية عن كلِّ حركة، وتراها أمِّي فضاءاتٍ تفيضُ بالحياةِ أكثرَ ربما من يومياتنا الضاجةِ باللامعنى. استعدتُ للحظاتٍ هذه النفحات .. أو قلْ سلبَتْني وغيَّبَتْني على جناحِ تقاسيمَ متدفقةٍ من “خوابي الغيبِ”،  حيثُ النايُ يئن أنينا قادماً من رحم الأزل، يَحْكِي لنا عن البياضِ الوجوديّ الذي يُطَوِّقُنا، وعنْ غفلاتِ الانغماسِ في الآني الذي يُمَزِّقُنَا .. لِيبعدَنا عمَّا هو جوهريّ فينا، عن روحِ السر الكامن في النفخة الإلهية السارية في طينِنَا؛ تلك التي يستمدُ منها النايُ بهاءه المخيِّم على/ وَ المُغَيِّبِ عَنِ/ المكان والزمان.

 

 

 

-5-

    يُجَلِّلُني الحياءُ “يا مولانا”، وأنا أقْدُمُ إلى “كعبةِ العُشَّاقِ”[6] غيرَ مُحْرِمٍ بإحرامهم؛ يستبدُّ بي “الإِفكَلُ” من أخمصِ قدميّ إلى أبعد ثنيةٍ في شَعْري، لكوني لمْ أصحبْ دُفّا لأوفي آدابَ الزيارة حقَّها، وأمحوَ  آثارَ أيِّ طيفِ حُزنٍ عنها.  فقد التقطتْ بصيرتي ما رُقِشَ في مَرْقَدِك على الشاهِدة:

“حينَ يُحْمَلُ نعْشِي يومَ موتِي،

حذارِ أن تُفكِرَني متحسِّراً على الدنيا،

لا تبكِ عليّ و لا تقلْ ألمٌ ألَمْ،

الألَمُ أنْ تقعَ في شبكةِ الشيطانْ”[7].

مثلما أعرفُ وصيَّتك المنقوشةَ بـ “ماء البَسْطِ” على لوحةِ قلبِي: “حينَ تُقبِلُ زائراً قبري ستجدُ ضريحيَ المسقوفَ يرقُصُ فلا تأتينَ يا أخي دونما دفٍّ إلى قبري، فليسَ هناكَ من مكانٍ للحزينِ في الوليمةِ”[8]. غيرَ أنَّ عزائي في كونِ الزمان “دفٌّ” واللحظة عيدٌ، حيثُ الزيارةُ عنوانُ فَرَحٍ، والصِّلة مجازُ سرورٍ، و المعنى قافيةُ زهوٍ. لذا حينَ وطأتْ قدماي بهوَ مشهدِكَ لم يشغَلْنِي، يا سيدي، عن معناكَ الزاهِي المتحفُ المحيطُ بمرقدِكَ، حيثُ المنمنمَاتُ والبُسُطُ والسجاجيدُ، وآلاتُ السماعِ المعروضةُ، ومجسماتُ الخوانقِ، وتماثيلُ الشمعِ للدراويش في خلواتِ الذكر وحلقاتِ الرقص، ومخطوطاتُ “المثنوي” و” ديوانُ شمس“، وبعضُ الشروح الفارسية والتركية على “المثنوي” وغيرها…كلُّ ما كانَ بالمكانِ كان يُلهِبُ في مَعنايَ معناكَ. وحتى القبةُ الباذخةُ داخلَ مَرقدِكَ الشامخِ، حيثُ تحُفُّ بكَ قبورُ صفوةٍ من العائلةِ والمريدين ممن اكتووا بجمرةِ سرِّكَ المقدسِ، لمْ تشغلْ لُبِّي، وحدهُ ذاك الهِرُّ “الدرويشُ” تذكرتُه، من أعلنَ الحِدادَ على موتِك الحسّي، فلم يأكلْ ولمْ يشربْ إلى أن قضَى، فاحتفتْ بـ”سرِّه” و أشفقت على “وجده” ابنتُك المصونُ ملكة خاتون (تـ 703 هـ/1306م)، و بوأتْهُ مقاماً هنيئاً هنا إلى جِوارِك…تذكرتُ ذلكَ لِأُكْبِرَ في سلالتكَ الطينيةِ و الروحيةِ احتفاءَهم بالسرِّ، ذاكَ الذي قادني إليكَ في عيد لقاكَ، كيما تسقيني رشفةً بهيةً من قهوةِ مَعناكَ، حيثُ المذاقُ انشداهٌ تحجُبهُ الكلماتُ مهمَا أفصحتْ، و الوجدُ لحنٌ هاربٌ يذكي صَبْوةَ الأوتارِ مهما ترنمتْ. فسلامٌ عليكَ يومَ وُلِدتَ  و يومَ عشِقْتَ، ومدى ما ظلَّ سِرُّكَ يرقصُ في القلوبِ حياَّ.

 

 

[1] – كُتِبَ أصلُ هذا النص فجرَ عيد الأضحى 10 ذو الحجة 1436هـ/24 شتنبر2015م بقونية- تركيا.

[2] – “الديوان العربي لمولانا جلال الدين الرومي“، أعده للنشر و قدم له، د. البشير قهواجي، المجمع التونسي للعلوم و الآداب و الفنون (بيت الحكمة)، قرطاج،2011،ص.37.

[3] – يقول الشاعر الفارسي الكبير نور الدين عبد الرحمن الجامي عن “المثنوي”:

   المثنوي المعنوي المَوْلوي .. هو قرآنٌ باللغة الفارسية.

ولستُ أقول إن هذا العالي الجناب .. نبيٌّ لكنه أوتِيَ كتابا”.

(“الرومي ماضيا وحاضرا، شرقا و غربا، حياة جلال الدين الرومي و تعاليمه وشعره“، تأليف فرانكلين د. لويس، ترجمة د. عيسى علي العاكوب، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشفق، 2011م، ج2، ص:851.).

 

[4] – إزارٌ تقليدي مغربي من صوفٍ كانت تلتحف به النساءُ في منطقة وزان شمال غرب المغرب.

[5] – لقب يُطلق على مدينة وزان إشارة إلى قداسة زاويتها و صلحائها، وإلى ما يحظى به الزائر من ضمانٍ رباني في حضنها.

[6] – يقول بيت بخط النستعليق الجميل منقوشٌ على حجر مرمري فوق باب مدخل الرومي ما ترجمته عن الفارسيةِ:

   هذا المرقدُ هو كعبةُ العشاقِ .. و كل من جاء هنا ناقصا أصبحَ تامًّا.

 (“الرومي ماضيا و حاضرا، شرقا و غربا، حياة جلال الدين الرومي و تعاليمه و شعره“، م.س، ج2، ص:784).

[7] – “الديوان العربي لمولانا جلال الدين الرومي“،م.س(المقدمة).                                                                                      

[8]“فلسفة السماع عند جلال الدين الرومي“، عبد القادر النفاتي، ضمن مجلة “عوارف“،عدد 3/2008، ص92.

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!