في تثليث المفرد

في تثليث المفرد

 

 في تثليث المفرد    

عادل بن عبد الله – تونس

 

عندما كنت في العشرينات من عمري كنتُ أقرأ القرآن الكريم وأتساءل: لماذا لم يستعمل القرآن الكريم مفهوم “الحبّ” في حديثه عن العلاقة بين الرجل و المرأة؟

لماذا فصّل العلاقة كلها في مصطلحات ثلاثة هي “المودّة” و”الرحمة” و”السكينة” وأعرض عن الكلمة التي أرّقتني كثيرا فلم يستعملها إلا في دلالات أخرى مثل العلاقة بين الله وعباده (يُحبّهم ويحبونه) وبين الإنسان والأشياء (يُحبّون المال حبا جمّا) ؟

كنتُ أتدبّر هذا الغياب باعتباره “علامة” على مقام في الفهم لم أصلح له بعدُ، وكان ذلك يُرضي إنّيتي التي لم تقنع في شبابها بغير اليقين وإن كان آثار سراب. ولمّا بلغت الثلاثين، تعلّمتُ أنّ للمفاهيم تاريخا سرّيا قد يخفى على المتعجّل أو الكسول، ووجدتُ عند الراسخين في التأريخ للأفكار أنّ “الحبّ” نفسه -كما أفهمه ويفهمه غيري ببادئ الرأي- لا يخرج من حكم هذه القاعدة.

 الحبّ هو مفهوم غربي حديث يعكس تحوّلات بنيوية عميقة في مستوى النظام القيمي الغربي، وليس سليل حكايات عشّاقنا وشعرائنا وآبائنا الذين نتوهّم أنهم قد عاشوا “الحبّ” كما نفهمه نحن “الآن-وهنا”.

والآن، وقد بلغت الأربعين أقرأ القرآن الكريم كرّة أخرى فأجد السكينة والمودة والرحمة، ولكنّ مذاقها قد تبدّل (فللمفاهيم مذاقات لا يظفر بها إلاّ الصابرون وإن لم يكونوا من أهل المواجد). الآن أفهم أنّ “الحبّ” – مهما كانت ينابيعه ومساراته وانكسارات دلالاته وصيرورتها الجلي والخفيّة –  ليس إلاّ “استعارة ميّتة” لحقيقة “تثليثية” لا آب فيها ولا مسيح ولا روح قًدس: إنك في حضرة مودّة ترحم و رحمة تُسكّن و سكينة تُودّ ..

ولك أن تُقلّب العلاقات بين الكلمات كيفما شئت فلن تجد غير الكينونة في تجلياتها العلائقية الأعمق: رجل وامرأة (زوج) عليهما أن يستعيرا من الله اسمين من أسمائه الحسنى ( الودود، الرحيم) ليعيشا ما أجهد الفيلسوف نفسه لبلوغه دون أن يبلغه أبدا :السّكينة…..إنه التألّه في تجلّيه المؤنسن الأرقى، وهو أيضا أعظم درس “للمتوحّد” العقلاني الذي يظنّ أنّ العالم يضيق عن المفرد حين يُثنّى، و يتّسع للذات مفردةً بغير ظلالها وضلالها …. ولكن أي معنى هو “للعلاقات التراحمية” في زمن ” الصيغ التعاقدية ” الصوريّة هذا؟

 ذاك هو السؤال الذي لن يجيب عنه من تدبّر القرآن وهو في حكم “الوقت” ومجازاته، ولن يجيب عنه أيضًا من أعرض عن القرآن لحكم الوقت وحقائقه.

 في البرزخ تسكن الحقيقة أمّا قولها فلا سبيل إليه!

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!