السّماع الصوفيّ، مضامينُه وأبعادُه

السّماع الصوفيّ، مضامينُه وأبعادُه

 

السماع الصوفي… مضامينه وأبعاده

 

                                                     الدكتور/ الأخضر قويدري

                                                جامعة عمار ثليجي،الأغواط،الجزائر

تمهيد:

اهتم الصوفية بالسماع الديني وتفننوا في ضبط قواعده وآدابه، وجعلوه ” رياضة عملية بقصد ترقيق القلب،وتهيئته، بإثارة نار الوجد وتزكية نار الحب والشوق لله تعالى”[1].

ولاشك أن السماع كان وما يزال أحد الأساليب التي يلجأ إليه أكثر الناس للتخفيف من أعباء الحياة وضيقها، لكنه عند الصوفية يتضمن هذه الأهداف ويتجاوزها إلى أهداف أخرى أبعد مدى، وأكثر عمقا، ستحاول هذه الدراسة توضيحها،وتبيين معالمها.

  1. موقف الصوفية من السماع :

حرص الصوفية على أن تكون حركاتهم و سكناتهم، مطابقة للشريعة الإسلامية، لاعتقادهم أن مقام الإحسان الذي يطمحون إلى تحقيقه،لا يمكن أن يتم إلا في حدود ما رسمته الشريعة، وأن كل سلوك ظاهرا كان أو باطنا إذا انحرف قيد أنملة عن مراسميها صار سلوكا باطلا لا خير يرجى منه.ولذا يتعين علينا توضيح موقفهم من السماع، ومدى تطابقه مع أحكام الدين.

فمن بين من تكلم في هذه القضية بوضوح وتفصيل، الإمام أبو القاسم القشيري(376هـ ـ 465هـ) حيث رأى” أن سماع الأشعار بالألحان الطيبة والأنغام المستلذة، مباح في الجملة إذا لم يعتقد المستمع محضورا ولم يســـمع على مذموم في الشرع، ولم ينجر في زمام هواه ولم ينخرط في سلك لـهْوه”[2].

ونظرا لوجود أنواع كثيرة من السماع فإن الصوفية قسموه إلى أربعة أنواع بحسب موضوعاته وأهدافه:

  1. فإن كانت قصائد السماع تتضمن ذكر الجنة والنار، وتشوق إلى دار القرار وتحث على العبادات، وترغب في الخيرات، فلا سبيل إلى إنكارها[3].
  2. وأما إن كانت في تتعلق بذكر الهجر والوصل والقطيعة والصد مما يقرب حمله على أمور الحق سبحانه وتعالى من تلون أحوال المريدين بحيث يحدث فيهم شوقا وحنينا فإن هذا يدخل في ذكر الله تعالى[4].
  3. و أما إن كانت تتضمن ذكر القدود والخدود ووصف النساء فإنها محظورة[5].

وعلى هذا الأساس يمكننا الحكم على السماع بحسب موضوعاته ومقاصد المستمعين منه:

ـ فيكون حراما إذا كان مثيرا للشهوات والصفات و المذمومة.

ـ و يكون مكروها في حق من يتخذه وسيلة للهو وتضييع الوقت.

ـ ويكون مباحا في حق من يستعمله للالتذاذ بالصوت الحسن.

ـ ويكون مستحبا في شأن من يتخذه وسيلة للتقرب من الله كما هو الحال عند الصوفية. [6]

ومن الحوادث المستقاة من السيرة النبوية، والتي استند عليها الصوفية في مشروعية السماع أن الشاعر كعب بن زهير أنشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيدته التي مطلعها:

بانت سعاد فقلبي اليوم متـبول         متيم إثرها لم يفد مكــــبول

إلى أن وصل إلى قوله:

إن الرسول لسيف يستضاء بـه         مُهنّد من سيوف الله مــسـلول

فأعجب به صلى الله عليه وسلم ورمى إليه ببردة كانت عليه. و قد استنتج فقهاء الصوفية من هذه الحادثة عدة سنن منها:إباحة إنشاد الشعر، واستماعه في المساجد، والإعطاء عليه.[7]

وقد روت أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعترض عليها حين وجدها تستمع إلى الغناء، فقالت: “دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بُعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه.فدخل أبو بكر رضي الله عنه فانتهرني وقال :مزمار الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال دعهما.فلما غفل غمزتهما فخرجتا (والحديث في الصحيحين)”[8].

ومن الصحابة الذين اشتهر عنهم قبولهم للسماع “سيدنا عبد الله بن الزبير و سيدنا المغيرة بن شعبة رضي الله عنهما”[9].

ومما يدل على أن السماع كان مقبولا في المجتمع الإسلامي، أن أهل مكة والمدينة كانوا يمارسونه في أفضل أيام السنة وهي الأيام المعدودات التي أمر الله عباده فيها بذكره كأيام التشريق.[10].كما أن الإمام الشافعي رحمه الله أجاز السماع والترنم بالشعر ما لم يكن فيه إسقاط مروءة.[11]

 

  1. أحوال الصوفية في السماع:

مما لا شك فيه أن الصوفية أرباب أحوال لا أصحاب أقوال، وأن معارفهم وعلومهم كانت ثمرة ممارســات مواجيد، و أذواق.وإن التعرض إلى أحوالهم أثناء السماع سيطلعنا ـ دون شك ـ على كثير من الحقائق الخفية التي تعكس حياتهم الباطنية المفعمة بالعشق والشوق والمعاناة.

فمما رُوي عن الشيخ الحارث المحاسي رحمه الله (ت243هـ) أن قوالا أنشد بين يديه هذه الأبيات:

أنا في الغربة أبــــكي               ما بكت عين غــريب

لم أكن يوم خـــروجي               من بلادي بمصـــيب

عجبــا لي ولـتــركي                  وطن فيه حبــــيبي

فقام بتواجد ويبكي، حتى رحمه كل من حضره”[12].

وتواجُدُ المحاسبي وبكاؤه يعكس حقيقة ما ذاقه من معان روحية عميقة مستترة في تلك الأبيات، والتي تشير إلى الغربة الروحية التي يعانيها الصوفي في هذا العالم الأرضي، وحنينه المتواصل إلى الموطن الأصلي، موطن الحق والخير، والجمال.

أما الشيخ ذو النون المصري رحمه الله (155هـ ـ 245هـ ) فقد سئل مرة عن السماع فقال: “وارد حق يزعج القلوب إلى الحق، فمن أصغى إليه بحق تحقّق، ومن أصغى إليه بنفس تزندق”[13].

ومما روى عنه أنه لما دخل بغداد اجتمع إليه قوم من الصوفية ومعهم قوّال فاستأذنوه في أن يقول شيئا، فإذن لهم، فأنشد القوّال:

“صغير هواك عـــذّبني                     فكيف به   إذا احتنــــكا

وأنت جمعت في قلبــي                     هوى قد كان مشتركــــا

أما ترثي لمكتــئــب                    إذا ضحك الخليُّ، بكــــى

فقام ذو النون رحمه الله متواجدا، ثم سقط على وجهه”.[14]

و لا شك أن هذا التواجد إلى حد الإغماء يدل على ما كان يخفيه ذو النون بين جوانحه من أحوال العشق، والتي كانت تلك الأبيات سببا في إثارتها.

وروى الشيخ مسلم العباداني رحمه الله فقال: “قدم علينا صالح الـمُُـرّي، وعتبة الغلام، وعبد الواحد بن زيد ومسلم الأسواري ، فنزلوا على الساحل، فهيأت لهم ذات ليلة طعاما فدعوتهم إليه، فجاءوا. فلما وضعتُ الطعام بين أيديهم إذ بقائل يقول رافعا صوته بهذا البيت:

وتلهيك عن دار الخلود مطاعم         ولذّةُ نفس غيـُّــها غيرُ نافع .

فصاح عتبة الغلام صيحة، وخرّ مغشيا عليه، وبكى القوم، فرفعتُ الطعام، وما ذاقوا والله منه لقمة”[15].

و مما ذكره الغزالي “أن الشيخ أبا الحسين النوري رحمه الله(ت 295 هـ) كان مع جماعة في دعوة فجرت بينهم مسألة في العلم وأبو الحسين ساكت، ثم رفع رأسه وأنشدهم:

رب ورقاء هتُوف في الضحى          

ذات شدو صدحت في فـنن

ذكرتْ إلفا ودهرا صــالـــــــــــــــحا          

وبكت حزنا فهاجت حـزني

فبـــــكائي ربما أرّقـــــــــــــــــــها          

وبكاها ربمـا أرّقـــــــــــــــــــــني

ولقد تشكو فما أفهـــــــــــــمها          

ولقد أشكو فما تفهــمني

غير أني بالجــــــوى أعـــرفها          

وهي أيضا بالجوى تعرفـني

فما بقي أحد من القوم إلا قام وتواجد. ولم يحصل لهم من الوجد من العلم الذي خاضوا فيه، وإن كان العلم جدا وحقا “[16].

وهذه الحادثة تدل على أن المجالس العلمية وأن كان لها دورها في شحذ الأذهان وتغذية العقول، إلا أنها لا تثير المواجيد والمشاعر الدينية كما تفعل ذلك مجالس السماع.وقد تفطن الصوفية إلى هذه اللطائف، فخصصوا مجالس لطلب لعلم،وأخرى للسماع دون أن يهملوا هذه ولا تلك.

و رُوي أن الشيخ عمر بن الفارض(576هـ ـ 632هـ ) دخل مرة مكانا فيه سماع، وهو مقبوض فما انبسط أحد في المجلس، فقال القوّال لصاحب الوليمة:أعطني دينارا وأنا أبسط لك سيدي عمر، فأعطاه دينارا فأنشد:

لي بالحجاز بقية خلّفْتها             أودعْـتُها يوم الفراق دموعي

فقام الشيخ ابن الفارض، وتواجد ،وطاب المجلس وصاروا كلهم يتمايلون.[17]

فمما سبق يتبين لنا عمق ما يحدث للصوفية، حين تطرق أسماعهم بعض العبارات الحبلى بالتفجّع والشوق والحنين،فتثير في بواطنهم مشاعر العشق الإلهي، مخلّفة حالات عارمة من الوجد،تظهر بأشكال مختلفة كالبكاء والصياح، والتمايل، والإغماء، وغيرها من الأحوال. ومن ثمة فإنه يستعصي على الباحث في هذا المجال أن يستوعب تلك الأحوال من خارجها، إلا بشيء من المشاركات الوجدانية، أو المقاربات العقلية، و التي لا تتسنى له إلا إذا توفرت لديه بعض المفاتيح الأساسية لحل مغاليق التجربة الصوفية.أما إذا انعدم هذا الشرط، وحل محله الإنكار والاستخفاف،فإن تلك التجربة ستظل معتمة مستغلقة أمامه، وسيظل كلامه في حقها مجرد تهويم في فراغ. ولهذا نصح الشيخ محمد بن الحبيب الأمغاري الحسني رحمه الله (1871م ـ 1972م) كلّ دارس لتجربة السماع الصوفي خاصة، أن يتحلى بخلق التسليم الذي يتمثل في التواضع العلمي وتوقف المرء عن الخوض في القضايا التي لا يفقهها فيقول:

فدونك قوما قد أذابوا نفوســـهم          

فخاضوا بحار الحب في كل لجـــة

فسلّم لهم في ما ترى من صــــبابة          

ورقص© على ذكر الحبيب بنغمــة

فلو ذقت شيئا من معاني كلامـــنا            

لكنت من السباق في كل حالـــة

وأغضيت يا أخي الجفون عن القـذى          

ومزقت أثواب الحيا و المهـابـــة

   وقلت لحادي القوم حببنا في اسمــه      

فلا عار في ذاك الحدا و الصبــــابة”[18]

 

  1. أبعاد السماع الصوفي :

لا غرابة في أن نجد الإمام الجنيد رحمه الله (ت297ه) ينظر إلى السماع نظرة متسامية،فيجعله أحد أسباب تنزل الرحمات الإلهية،حيث يقول:” تنزل الرحمة على هذه الطائفة(أي الصوفية) في ثلاثة مواضع: عند الأكل لأنهم يأكلون عن فاقة،وعند المذاكرة لأنهم يتحاورون في مقامات الصدّيقين وأحوال النبيين، وعند السماع لأنهم يسمعون بوجد ويشهدون حقا[19].

ويمكننا تحديد أبعاد السماع الصوفي في بعدين رئيسيين، أحدهما نفسي تربوي، و ثانيهما روحي عرفاني:

أـ البعد النفسي التربوي:

نظرا لما يتخلل التربية الروحية من مشاق ومتاعب فإن شيوخ التصوف سنوا جلسات السماع ترويحا للقلوب،وتنفيسا لها من كثرة ما يلحقها من عناء المجاهدة.ففي السماع “يستجم المريدون من تعب الوقت ويتنفّس أرباب الأحوال مما يطرأ عليهم”[20].

وقد تنبه الحكماء قديما إلى هذه المعاني الترويحية مؤكدين أن”من حزن فليسمع الألحان لأن النفس إذا دخلها الحزن خمد نورها، وإذا فرحت اشتعل نورها وظهر فرحها”[21].

كما أن للسماع أثر في إحداث الأحوال النفسية المتسامية و المتمثلة في المشاعر الدينية التي تقرب القلوب من الله: كالطمأنينة والاقشعرار والخشية والخوف و الشوق والحزن والسرور والوجل ولين القلب[22].

وقد استنتج الصوفية أن الله وضع في الأصوات الطيبة أسرارا وأعاجيب لا تؤثر في الإنسان فحسب، بل حتى في البهائم، ومن ذلك “أن الجِمال إذا عييت وقصرت عن السير، يحدو لها الحادي فتستمع وتمد أعناقها وتصغي بآذانها نحو الحادي…وربما تُتلف أنفسها إذا انقطع عنها حدو الحادي من ثقل حملها وسرعة سيرها بعدما كانت لا تحس بذلك من إصغائها إلى حدو حاديها واستماعها إلى حسن نغمته”[23].

ومنه نفهم أن التلذذ بالأصوات الحسنة أمر فطري في الإنسان والحيوان على السواء و”استلذاذ القلوب واشتياقها إلى الأصوات الطيبة واسترواحها إليها مما لا يمكن جحوده،فإن الطفل يسكن إلى الصوت الطيب،والجمل يقاسي تعب السير ومشقة الحمولة فيُهوّنُ عليه بالحداء”[24].

ولابد من لفت الانتباه أن مجالس السماع المفعمة بالنغمات الشجية،والمشاعر الأخلاقية، والإيقاعات الموزونة تزرع في نفوس المترددين عليها ـ سواء أكانوا من الصوفية أو من غيرهم ـ قيما جمالية راقية، حيث تورث فيه حب النظام،والجمال، وترسخ فيهم معاني الرقة،و اللطافة، والطهر.

و من هذا المنطلق فإن الشخص الذي لا يحركه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره هو شخص مريض فاسد المزاج

و ليس له علاج ـ على حد تعبير الإمام الغزالي ـ إذ أن روحه معتلة، وطبعه أغلظ من الجِمال والطيور وجميع البهائم[25] .

وقد تفطن الفيلسوف اليوناني أفلاطون(429ـ347 ق م)إلى القيم التي تتضمنها الموسيقى عموما، فذهب إلى الإنسان حين تفيض على نفسه سيول الأنغام الشذية البديعة، يلين، ويرق، ويزول ما في طبعه من نزق وقسوة

و غلظة[26].

ولا بد من الإشارة إلى أن الحكماء القدماء كانوا يعالجون من به مرض السوداء(أي الاكتئاب)، بالصوت الطيب فيرجع إلى حال صحته. وقد قدّم الطبيب ابن سينا(370هـ ـ 428هـ) منهجية علاجية لهذا المرض تتمثل خاصة في مساعدة المريض على الفرح و ذلك بإسماعه ألحانا تطربه،ووضعه في الأماكن المعتدلة [27].وهذا ما تنبه إليه علماء النفس المعاصرون حيث أقروا طريقة العلاج بالموسيقى، وربطوها بالجانب الطبي ،ونجحوا في ذلك أيما نجاح.

 

ب ـ البعد العرفاني:

بالإضافة إلى ما سبق فإن السماع يتضمن بعدا عرفانيا، ذلك أنه يُصفّي القلب وينشطه، ويفتح له أبواب من المكاشفات العرفانية، وفي ذلك يقول الغزالي :” ولا يبعد أن يكون السماع سببا لكشف ما لم يكن مكشوفا، فإن الكشف يحصل بأسباب، منها التنبيه، والسماع منبه[28].

كما أنه قد يكون مرقاة للتفكر في عظمة الخالق عز وجل، حيث أن الإنسان لو سمع طائرا يغرد بعذب الأصوات لطاب له ذلك الصوت وتفكر في قدرة الله تعالى وكان في ذلك التفكر مسبحا ومقدسا لله، وبالمثل فإنه إذا سمع صوتا شجيا لآدمي،امتلأ باطنه رقة وإعجابا وكان السماع دافعا له على التفكر والاعتبار.

وللسماع دور في تذكير القلب بالعالم الروحاني الذي هو مجمع الحسن والجمال “فمتى سمع الروح النغمات اللذيذة والألحان المتناسبة تأثر به لوجود الجنسية” [29] وكأن تلك النغمات محرّكة له لتذكر عالمه الأصلي.ولذا لما سئل الإمام الجنيد عن الإنسان يكون هادئا فإذا سمع السماع اضطرب،فأجاب:” إن الله تعالى لما خاطب الذّّرّ في الميثاق الأول بقوله ﴿ألست بربكم قالوا بلى﴾ الأعراف، 173، استفرغَتْ عذوبةُ سماع الكلام الأرواحَ فلما سمعوا السماع حرّكهم ذلك”[30]. وهذا نفس ما ذهب إليه الشيخ أبو محمد رويم (ت 303 هـ) حيث قال: ” إن القوم سمعوا الذكر الأول حين خاطبهم بقوله ﴿ألست بربكم.فكمَن ذلك في أسرارهم كما كمن ذلك في عقولهم فلما سمعوا الذكر ظهرت كوامن أسرارهم فانزعجوا”[31].

وقد عبر الشيخ عمر بن الفارض رحمه الله عما يعتريه أثناء السماع من شهود أنوار الذات الإلهية فقال:

ويحضرني في الجمع من باسمها شدا     فأشهدها عند السماع بجمــلتي

وذلك أن روحه تذكرت عالمها الأول فحنت إليه، واشتاقت للخطاب الأزلي الذي طرق سمعها قبل بدء الزمان

وما ذاك إلا أن نفسي تذكـرت         حقيقتها من نفسها حين أوحـت

فحنت لتجريد الخطاب ببرزخ الـ       تراب ،وكلّ آخذ بأزمـــــــــــــــــــــتي[32]

والحالة التي يتحدث عنها ابن الفارض، نجدها عند الصبي الذي حينما نُسمِعه بعض الأصوات الشجية ينصت

و يطرب،ويتهادى،لأنه تذكر العالم الروحاني الذي قدم منه.يقول ابن الفارض في هذا الشأن:

ويُنبيك عن شأني،الوليدُ وإن نشا         بليدا ـ بإلهام كوحي وفطــنة

إذا أَنّ من شدّ القِماط، وحنّ في         نشاط إلى تفريج إفراط كــربة

يُناغَى فيلغي كُل كَـّل أصابـه         ويصغـي لمن ناغاه كالمتنـصّت

وينسيه مرَّ الخطب حلوُ خطـابه         ويُذْكِره نجوى العهــود القـديمة

ويُعرب عن حال السماع بحـاله         فيثبت للرقص انتفـاء النقيصة[33]

ومما يلاحظ أن الفلاسفة القدامى ذهبوا إلى نفس هذه المعاني،فلقد ذكر الفيلسوفان فيثاغورس(572،497 ق م) وأفلاطون(429ـ347 ق م) أن الأرواح كانت قد اعتادت على النغمات السماوية الموزونة قبل أن تنزل إلى العالم الأرضي، ولذا فإنها كلما سمعت الألحان والموسيقى، تذكرت عالمها الأصلي وحنت إليه.[34]

ويذهب الشيخ أبو حفص عمر السهروردي رحمه الله( 539هـ ـ 632 هـ ) إلى أن السماع يشير إلى تعاشق أصلي بين النفوس والأرواح.و يرجع هذا التعاشق إلى أنوثة النفس،وذكورة الروح. والميل والتعاشق بين الذكر والأنثى أمر طبيعي”وكما أن في عالم الحكمة كُوِّنت حواء وآدم، ففي عالم القدرة كُوِّنت النفس من الروح الروحاني “[35] فإذا نطقت النفس بالنغمات استلذها الروح وحدث بينهما إيماء خفي كما يحدث بين المتعاشقين[36].

ولابد أن نشير إلى أن الرقص على ترنيمات الموسيقى و نغمات الناي في طريقة الشيخ جلال الدين الرومي رحمه لله(604هـ ـ 672هـ) يتضمن أبعادا روحية بعيدة الغور، منها أن المريدين عندما يدورون باسطي أذرعهم إنما يرمزون إلى الحركة الدائرية للكون،ويسعون من خلال ذلك الدوران إلى الوصول إلى المطلق بإدراك سر الدائرة، وسر الحركة الدورانية.[37]

 

  1. آداب السماع الصوفي:

تتمثل طريقة السماع عند الصوفية في اجتماعهم على ذكر الله، فيفتتحون مجلسهم بآيات من القرآن الكريم، ثم يشرعون في الإنشاد،وقد يكون هذا الإنشاد فرديا،كما قد يكون جماعيا،وغالبا ما يصطحب الإنشاد بالوجد الذي تطلق عليه عدة تسميات، كالاهتزاز، والرقص،والعمارة، والنهاية، والحضرة.

وقد وضع الصوفية للسماع ضوابط عديدة نذكر أهمها وهي:

  • × الزمان والمكان والإخوان،كما قال الإمام الجنيد[38].
  • ×خلو الوقت من مُعارض ضروري، أو شرعي[39].
  • ×وجود الصدق من الجميع وسلامة الصدر في الحال[40].

و لأجل أهمية السماع، أوصى الصوفية مريديهم بأن يُولُوه عناية، وآداب خاصة، من أهمها صدق الحال بحيث لا يتواجد المريد إلا عند غلبة الحال.فإن زالت الغلبة، يجب عليه القعود والسكون لأنه إذا لم يكن صادقا في تواجده تعوق في سلوكه، وبقي”متخلّفا لا يكاشف بشيء من الحقائق”[41].

غير أنه يجوز للمريد أن يتواجد ولو لم يكن مغلوبا بفرط الوجد في حالتين هما:

أ ـ إذا أشار عليه الشيخ بالحركة، فيكون تواجده –حينئذ- امتثالا لأمر الشيخ الذي يدرك بفراسته ما يصلح بالمريد في أوان السماع.

ب – إذا أشار عليه إخوانه الفقراء بأن يتواجد معهم، فيساعدهم في القيام بذلك تطييبا لخواطرهم ومراعاة للانسجام والوحدة.

وقد بين الإمام الغزالي أن التواجد ـ وهو تكلف الوجد ـ ينقسم إلى مذموم ومحمود:

أ   ـ   فالمذموم منه هو ذلك النوع الذي يُقصد به الرياء وإظهار الأحوال الشريفة مع خلو القلب منها.

ب ـ و أما المحمود فهو الذي يستعمله صاحبه لاستدعاء الأحوال الشريفة واكتسابها حتى تصير له طبعا.”فإن للكسب مدخلا في جلب الأحوال الشريفة. ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يحضره البكاء في قراءة القرآن، أن يتباكى و يتحازن فإن هذه الأحوال قد تُتَكلّف مبادِيها، ثم تتحقق أواخرها”[42].

 

  1. نقد السماع الصوفي :

من الموضوعية بمكان أن نلفت النظر إلى أن بعض الفقهاء وقفوا موقف الاستنكار من السماع الصوفي. ومن بين أولئك الإمام أبو عبد الرحمن بن الجوزي رحمه الله (508هـ-597هـ) الذي رأى أن الصوفية في تقريرهم للسماع ومجالسه، ما هم إلا ضحايا لتلبيسات إبليسية[43].كما أنه استبعد أن يكون الإمام الجنيد قد ذكر أن الرحمة تنزل على الصوفية في ثلاثة مواضع:عند الأكل ،وعند المذاكرة وعند السماع[44]،فهذا القــول ـ في رأيه ـ “وإن صح عن الجنيد وأحسنّا به الظن، كان محمولا على ما يسمعونه من القصائد الزهدية فإنها توجب الرقة والبكاء، فأما أن تنزل الرحمة عند وصف سُعدى وليلى ويُحمل ذلك على صفات الباري سبحانه وتعالى فلا يُعتقد هذا”[45].

والحقيقة أن الصوفية عندما يستعملون بعض الرموز الأنثوية والخمرية في أشعارهم، لا يقصدون بــذلك ـ كما يعتقد ابن الجوزي ـ دلالاتها الحسية الظاهرية، وإنما يلوّحون من خلالها إلى معان روحية عميقة. وقد يؤدي الجهل بتلك الرموز والاصطلاحات التي يوظفونها إلى الحكم عليهم بأحكام جائرة.وهذا ما حدث بالفعل لأحد الفقهاء في مدينة حلب حين فوجئ بالرموز الغزلية والخمرية التي استعملها الشيخ محيي الدين بن عربي رحمه الله(560هـ ـ638هـ)في كتابه ترجمان الأشواق، فراح يتهمه بالفسق و الفجور، الأمر الذي دفع بابن عربي إلى المسارعة بشرح تلك الرموز،وتوضيح مقاصده منها، فكان ذلك سببا في تراجع ذلك الفقيه عن اتهاماته لابن عربي خاصة، وللصوفية عامة في ما يأتون في أقاويلهم من الغزل والتشبيب،وهم يقصدون في ذلك الأسرار الإلهية[46].

أما الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله(691هـ ـ 751هـ) فقد حاول تقويض كل الأدلة التي احتج بها الصوفية على مشروعية السماع،خاصة تلك التي أوردها الغزالي في إحيائه،ولم يقبل من السماع إلا “ما مُدح به رسول الله ودينه وكتابه،وهُجي به أعداؤه”[47].

ومما ذهب إليه(أي ابن القيم) أن الصوفية أخطئوا في التمييز بين السماع المباح والسماع المحظور،فالسماع الذي حث عليه الشرع هو:” سماع الآيات لا سماع الأبيات، وسماع القرآن لا سماع مزامير الشيطان، وسماع كلام رب الأرض والسماء لا سماع قصائد الشعراء، وسماع المراشد لا سماع المناشد، وسماع الأنبياء والمرسلين لا سماع المغنين والمطربين”[48] .

لكن من الإنصاف أن نقول إن السماع الذي يتداوله الصوفية في مجالسه مضبوط بضوابط شرعية صارمة قد تم إيرادها سلفا، وهم لم يجعلوا منه بديلا عن القرآن ولا عِوضا عن الهدي النبوي ـ كما لمـّح إلى ذلك الإمام ابن القيم ـ وإنما جعلوه وسيلة لترقيق القلوب وتهيئتها لفهم الخطاب الديني.

غير أن “إعراض أهل الظاهر على الصوفية لا ينقطع أبدا، سنّة ماضية، وخصوصا في السماع والرقص، وهم معذورون(أي أهل الظاهر) لأنهم لا يشاهدون إلا ذواتا ترقص…و لا يدرون ما في باطنها من المواجيد والأفراح فيحملون ذلك على خفة العقل والطيش فيقعون فيهم إلا من عصمه الله بالتسليم”[49].

والحقيقة أن الاختلاف بين الصوفية وبعض الفقهاء في السماع أوفي غيره من القضايا الأخرى، يعكس عمق تباين علماء الأمة في فهم الدين الإسلامي وتعدد رؤاهم في تناول قضاياه، وتنوع أساليبهم في نصرته والدفاع عنه. ولذا يتعين علينا احترام خصوصية جميع التيارات الإسلامية التي عبرت ـ رغم تمايز رؤاها و تباين آرائها ـ عن عظمة الإسلام الذي وسع كل أبنائه، وسيسعُهم، مهما اختلفت مشاربهم واتجاهاتهم، دون أن يضيق بأحد منهم.

وفي الأخير نصل إلى أن السماع كان وما يزال من الأساليب الهامة التي اعتمدها الصوفية في مناهجهم التربوية لما ينطوي عليه من مضامين وأبعاد نفسية تربوية، وعرفانية روحية. غير أنهم ضبطوا قواعده بضوابط الشريعة ـ كما مر بنا ـ مُحذّرين من مغبة الاشتغال به لأنه لم يكن أبدا هدفا أساسيا من السلوك الصوفي، وإنما هو مجرد وسيلة من الوسائل المساعدة على محبة الله و التعرّف إليه .

 

الهوامش:

[1] كوكب عامر: السماع عند الصوفية، خاصة الغزالي، شركة إخوان رزبق، مصر، 1988م،ص 24.

[2] القشيري :الرسالة القُشيرية،مطبعة محمد علي صبيح وأولاده، مصر،بدون تاريخ، ص 151.

[3] السهروردي: عوارف المعارف، ملحق بإحياء علوم الدين، دار المعرفة،بيروت،بدون تاريخ ص 109.

[4] نفسه.

[5] نفسه .

[6] أنظر: الغزالي أبو حامد،إحياء علوم الدين، ،ج2،ص306.

[7] أنظر السفارييني محمد الحنبلي:غذاء الألباب ،شرح منظومة الآداب،مطبعة النجاح، مصر، 1324هـ، ص 155.

[8] الغزالي أبو حامد:إحياء علوم الدين،ج2،ص278.

[9] عبد الله بن علي السراج الطوسي:اللُّمع، تحقيق كامل مصطفى الهنداوي ،دار الكتب العلمية .بيروت. ط1. 2001 ص ص244 .245.

[10]نفسه.

[11]نفسه .

[12] السُّلّمي عبد الرحمن:طبقات الصوفية، تحقيق نور الدين شريبة، دار الكتاب العربي،مصر 1372هـ، ص 60.

[13]نفسه ،ص 241.

[14]نفسه ، ص254.

[15]الغزالي أبو حامد:إحياء علوم الدين،ج2،ص293.

[16]نفسه ، ص299.

[17] أنظر الشعراني عبد الوهاب،لطائف المنن والأخلاق، ط 1357هـ، ج2، ص 108.

© يعني تمايل الصوفية أثناء جلسات السماع، وليس الرقص بالمفهوم التقليدي المعهود.

[18] ابن الحبيب محمد الأمغاري الحسني:بغية المريدين السائرين وتحفة السالكين العارفين، طبعة الزاوية الحبيبية،الجزائر.1368هـ، ص 28.

[19] السهروردي:عوارف المعارف،ص 109.

[20] الكلاباذي أبو بكر محمد بن إسحاق:التعرف لمذهب أهل التصوف،تحقيق أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية بيروت 2001.ص178.

[21]الغزالي أبو حامد:إحياء علوم الدين،ج2 ، ص293.

[22] نفسه، ص 293 وكذا ص 296.

[23] عبد الله بن علي السراج الطوسي:اللمع،ص 239.

[24]القشيري:الرسالة القُشيرية،ص ص152 ،153.

[25]الغزالي أبو حامد:إحياء علوم الدين،ج2،ص275.

[26] أنظر أفلاطون: الجمهورية،تعريب حنا خباز،دار القلم بيروت،بدون تاريخ،ص 105.

[27] لجنة التراث في مركز الدراسات النفسية،العدد13،المجلد4،كانون الثاني1993،ص73 وما بعدها.

[28] الغزالي أبو حامد:إحياء علوم الدين،ج2،ص293.

[29] نفسه.

[30] القشيري:الرسالة القُشيرية،ص 153.

[31] الكلاباذي:التعرف لمذهب أهل التصوف، ص178.

[32] ابن الفارض عمر: الديوان، شرح هيثم هلال،دار المعرفة، بيروت، لبنان،ط1، 2003م، ص 54.

[33] نفسه.

[34] فاطمة فؤاد: السماع عند صوفية الإسلام، الهيئة العامة المصرية للكتاب،1997م، ص89.

[35] نفسه .

[36] السهروردي:عوارف المعارف،ص116.

[37] أنظر مولوي مراد، التربية الاجتماعية عند جلال الدين الرومي، وزارة الأعلام،دمشق،سوريا، ط1، 2003م،ص 343 وما بعدها.

[38] السراج الطوسي،اللُّمع،ص241.

[39] السهروردي:عوارف المعارف،ص116.

[40] نفسه.

[41] القشيري:الرسالة القُشيرية،ص ص184، 185.

[42] الغزالي أبو حامد:إحياء علوم الدين،ج2،ص296.

[43] عبد الرحمن ابن الجوزي:تلبيس إبليس، تحقيق السيد الجميلي، دار الكتاب العربي،بيروت،2003م، ص218.

[44] نفسه.ص217.

[45] نفسه.

[46] أنظر ابن عربي محي الدين:ذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق، تحقيق محمود عبد الرحمن الكردي، القاهرة،1968م، ص ص 04 ،05.

[47]محمد ابن قيم الجوزية: مدارج السالكين،تحقيق المعتصم بالله البغدادي،دار الكتاب اللبناني،ط5، 1419هـ/ 1998م ج1،ص 490.

[48] نفسه،ص481 .

[49] ابن عجيبة أحمد بن محمد:الفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية، دار الكتب العلمية ،بيروت، ط1 1420هـ/ 2000م، ص 165

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!