مُفتتح

مُفتتح

           يسلب النغم ذوي الألباب من دنيا المادة إلى عالم روحاني، يسمو بالروح دون تردد في فتح أفق الخيال للذهن طواعية أو رُغمًا عنه. فقط نغم يأتي كيفما شاء، وسواء تمت تسميته بالنغم الصوفي، أو النغم الروحاني، أو الموسيقى، أو فقط صوت… صوتٌ يسري في فضاء الحياة الصاخبة ينتشلنا منها. ليسبح بأرواحنا في ملكوت لا صخب فيه ولا دنس. كأنما هو الغُسل الذي يطهر وينير للسكينة درب بنفوسنا. لطالما اعتبرت الموسيقى لغة تواصل بين شتى الألسنة، وأولى لغات التعبد والتضرع فهي سر من أسرار الكون، وأهل المعرفة يفسرونها على قدر معارفهم. لذا امتد النغم حتى وقتنا هذا كوسيلة للتأمل والتضرع لدى عبادات مختلفة، وبقي النغم الصوفي بصفائه وصفاته وسيلة من وسائل تهذيب النفس وإفاقة للروح حتى وإن كان مجرد “ناي”
“استمع إلى صوت الناي
كيف يبثُ آلام الحنين
يقول: مُذ قُطعت من الغاب، وأنا أحنُ إلى أصلي…”*

لا يسأل من أي دين هذا الصوت، ولأي طائفة يُنسب، فغاية المقال والمسموع أنه نغم يأتي من منبع القلب تضرعًا لله وسلوى لأحبابه. صوت المُبتهِل كصوت المُرنم كصوت راهب من بلاد بعيدة كمداح في شادر*شعبي، جميعهم يذكرون الله… ولذلك سنقطف من هذي البساتين المُحلقة أصواتًا وأنغامًا هنا في طواسين لنستمع لأصوات ذاكرة وعابرة للروح. وليكن المفتتح مع الشيخ طه الفشني* …
بدون مقدمات يسلب بصوته الأذهان، صوتٌ ينهمر كشلال يغسل ما لوث النفس ولوثته دونما استئذان، فيغرد بالروح خارج السرب لتحلق معه في فلك الله، وتشعر بالسقوط الحر فتأتي بطانته تلتقطك لتكمل معها المسير…

فسبحوا الله يا ناس. يبدأها مفتتح التسبيح لله، صوت روحاني كأنه ينادي من أعلى مئذنة ليهم الناس إلى راحة الراح. نبرة هادئة بدون تكلف، ينبهك صوت البطانة “كن عن همومك مُعرضًا وكِل الهموم إلى القضاء” ليؤكد القول في انشراحة قلب ثم هدوء متمم للنغم من طه الفشني، فيعلو صوت البطانة لزيادة في التأكيد ويختمونها بالبشرى، وتبديل الهم بالأمر لشمولية المعنى أن المسألة لا تعد همًا وحسب، بل للحياة كلها “كن عن همومك معرضا وكِل الأمور إلى القضاء وابشر بخير عاجلٍ تنسى به ما قد مضى” لتنتهي الجملة في مزج للصوتين، وحينها تذوب وتتناثر الروح ذرات ذرات في الكون ليأتي صوت الفشني من جديد ليلملم ما تناثر. نفضٌ روحي يسري بخلجات النفس لينتزع منها الصخب كي تغتسل مع الروح، يكرر المقطع ويؤكد على القضاء في إشارة واضحة إلى “إرادة الله” لينتبه الفشني بعد هذا التناثر فينشد “فلربما وسع المضيق، وربما ضاق الفضاء” منبهًا من جديد بكلمة الفضاء وهذي الرحابة المفرطة في صوته متحدثًا بشكل مستتر داخل الكلمة –أي الفضاء- عن رحابة كون الله، ورحابة رحمته وزوال الهم… ليختمها “ولرُب أمر مُغضبٍ لك في عواقبه رضا”…
جلسة في عدة دقائق لكلمات من نظم صفي الدين الحِلي سحبت الروح لتسبح وتُسبِح الله في أمان وإيمان بأن رحابة رحمته كفيلة بهذه الهموم…

يمكنكم أيضًا متابعة كل ما يضاف إلى مكتبة طواسين الموسيقية على الــ SoundCloud من خلال هذا الرابط  https://soundcloud.com/tawaseen

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[*] من قصيدة “أنين الناي”، من نظم جلال الدين الرومي.

[*] ملتقى يضم جمع من الناس داخل الموالد الشعبية، يكون فيه مُنشد ينشد المدائح النبوية أو بعض الأشعار ويلتف حوله المستمعين.

[*] هو الشيخ طه الفشني المولود في عام 1900 بمركز الفشن، بمحافظة بني سويف في مصر. يعد أحد أعلام دولة التلاوة، حفظ القرآن وأخذ قراءاته على يد الشيخ عبد العزيز السحار، ثم أتم دراسته وحصل على كفاءة المعلمين سنة 1919م. التحق بالإذاعة المصرية في عام 1937، وأسند إليه قراءة القرآن في مسجد السيدة سكينة عام 1940م حتى وفاته عام 1970م.

[*] شاعر عراقي الأصل، ولد ونشأ في الحِلة (675-750 هـ) ما بين الكوفة وبغداد. تنقل بين بلدان شتى ينظم الشعر ما بين بغداد والقاهرة.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!