التصوف الإسلامي في الغرب

التصوف الإسلامي في الغرب

التّصوّف الإسلامي في الغرب

(1)

حوار مع الباحث: حفيظ هروس

أجرى الحوار: خالد محمد عبده

ناقش الباحث حفيظ هروس أطروحة دكتوراه في موضوع: التصوف الإسلامي في الدراسات الإسلامية في الغرب، تحت إشراف الدكتور محمد عبد الواحد العسري يوم الثلاثاء 20 يناير 2015م بكلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة عبد الملك السعدي (المغرب).وبعد المناقشة، حصل الباحث على درجة الدكتوراه بميزة مشرّف جدًا. ولمّا كانت هذه الأطروحة في موضوع قلّ تناوله في الدرس العربي، توجهنا إلى الباحث من أجل إجراء هذا الحوار معه، الذي نراه مفيدًا للقارئ العربي المتابع للدرس الصوفي والاستشراقي.

 

 

خالد محمد عبده: مرحبًا بكم أستاذ حفيظ، أودّ أن أسألكم في البداية عن سبب اهتمامكم بموضوع التصوف الإسلامي في الغرب، وما الذي حدا بكم لجعل الغرب موضوعًا للدرس في هذا الوقت؟

 

حفيظ هروس: لقد أتيت إلى حقل الدراسات الإسلامية في الغرب Islamologie من ميادين الدراسات الشرعية التي شغلت الحيز الأعظم في تكويني الأول، فاهتماماتي المتخصصة المبكرة كانت منصبة على الدراسات المقاصدية، ثم توجهت بحكم متابعة الدراسة “في دار الحديث الحسنية” إلى الدراسات القرآنية والحديثية في الغرب الإسلامي، أما التوجه الجديد فإن ثمة بواعث حثيثة وراءه.

      فغداة أحداث الحادي عشرة من شتنبر طفا على السطح مجددا الصراع التقليدي بين “الإسلام والغرب”، وبرزت بشكل ملفت تواتر الأحكام النمطية المرتبطة بصورة الإسلام والمسلمين في المخيال الغربي والموروثة بشكل فج عن الرؤية القلقة التي تشكلت عن الإسلام عبر القرون، وقد كنت في هذه الفترة حديث التخرج من الدراسات العليا الشرعية غير متسلح بالعتاد العلمي لمواكبة هذه الأحداث وما فاض وقتها من نقاشات وسجالات، فعزمت على أولي وجهي شطر هذه الدراسات والأبحاث حيث اكتشفت مدى الخدمات التي أسداها هؤلاء الدارسون الغربيون للدراسات الإسلامية خصوصا في مجالات النشر والتحقيق والترجمة رغم الكم الهائل للمغالطات التي رافقت بحوثهم على مستوى المناهج المتوسل في التحليل والتفكيك، لكن في المقابل فإن الموقف الأعم الذي قوبلت به هذه الدراسات والجهود هو الرفض المبدئي أو التعامل الحذر المنبني على تصيد الأخطاء وتتبع الزلات الجزئية بعيدا عن الغوص العميق في أغوار المناهج والرؤى التي حكمتها إلا نادرا، لهذا مِلت إلى التعاطي المنهجي مع هذه الدراسات بدل الموقف العقدي المتشنج.

      أما عن اختيار التصوف الإسلامي موضوعا للدراسة فقد تحكمت به اعتبارات كثيرة منها كونه حقل بكر لم تنله بعد مباضع الباحثين بالتشريح أسوة بغيره من المجالات البحثية مثل الدراسات القرآنية والتاريخية والفلسفية، ثم بحكم الإيمان المتزايد في الأوساط العلمية والشعبية بكون التصوف أو “الروحانيات” Mysticism عموما يمكن أن تشكل أحد الجسور المهمة لرتق الصدع الكبير بين “الإسلام والغرب”.

خالد محمد عبده: من خلال مطالعة الأدبيات الصوفية التي أنتجت في القرن الفائت نلاحظ أن بعض الباحثين القدامى الذين كانوا على دراية بالكتابات الاستشراقية عن التصوف، أو تلقّوا تكوينهم العلمي في البلاد الأعجمية وخالطوا المستشرقين واستفادوا من دروسهم في إطار البعثات العلمية التي كانت البلاد العربية تحرص عليها لتزويد أبنائها بالجديد وتزويدهم بالمعارف العلمية من أجل نهضة البلاد .. رأى بعض الدارسين أن الاهتمام بالتصوف في الغرب اهتمام بالجانب الجمالي في الإسلام، ومحاولة البحث عن المشترك الجامع للمتفرقين من أبناء الديانات وبخاصة الإسلام والمسيحية واليهودية .. وبعضهم رأى أن ذلك اهتمام بما يساعد الدول الكبرى على تحقيق أهدافها في بلاد الشرق منطلقين من أن التصوف يعادل الضعف ويدعم الاستكانة والمذلة والخنوع .. والبعض الآخر حاول أن يقسّم أنواع الاهتمام بحسب الأهداف فالمسيحي الدارس للتصوف يحاول أن يدعم فكرة الإسلام المنتصر كما فعل أسين بلاسيوس بحسب توصيف كلود عدّاس وغيرها، وماسنيون كما فعل مع الحلاج حسبما يرى أبو يعرب المرزوقي وغيره، وتور أندريه حسبما نتابع في كتاباته ربطًا بين الرهبنة والديرية والتصوف الإسلامي.. ومن مهتم بردّ التصوف إلى أصول يهودية أو هندية .. إلى آخر ما نطالعه في هذه الأدبيات ..

وهنا نودّ أن نتعرّف منكم من خلال بحثكم الأخير“لماذا اهتم الغربيون –أقصد المهتمين بتراث الإسلام منهم- على مر تاريخهم الطويل في الاحتكاك بالإسلام بالتصوف الإسلامي وحاولوا الاطلاع على أدبياته وتفقُه تراثه ودراسةَ رجاله”؟

مرت العلاقة بين الإسلام -منذ نشأته- والغرب بأطوار مختلفة، ومراحل متقلبة: تراوحت بين القتال وإعلان الحروب المقدسة المتبادلة وما نتج عن ذلك من تأصُّل عميق للعداوة والخوف والجهل وعدم معرفة الآخر، وبين فترات سِلم متقطعة مشوبة بكثير من الحذر والمراقبة، وما صاحبها من محاولة النفوذ إلى تمثل حقيقي لمعرفة كنه الآخر.

        وتبعا لذلك فإن الاهتمام بالتراث الصوفي الإسلامي والانفتاح على أدبياته وتمثل قيمه كانت متنوعة ومختلفة.

1

        ففي “العصور الوسطى” والتي ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الكثير من الدارسين الغربيين كانوا على اطلاع مباشر على قضايا التصوف الإسلامي ورجاله سواء بسبب الاحتكاك المباشر بين الحضارتين أو بفضل حركة الترجمة الواسعة التي شهدها القرن الثاني عشر الميلادي التي اضطلعت بها مدرسة المترجمين الطليطليين colegio de traductores toledanos تحت رعاية أسقف طليطلة رايموندو، قلت ففي “العصور الوسطى” كان الهدف الرئيس من الاهتمام بالتصوف هو توظيف المعارف الصوفية المكتسبة في خوض المجادلات الدينية لإثبات صحة الدين المسيحي الذي تعرض إلى هزات عنيفة في عيون معتنقيه خلال مراحل الاحتكاك الطويلة مع الإسلام واليهودية وجديَّة التحديات العقدية التي طرحتها هذه الاحتكاكات.

        وضمن هذه الرؤية برزت جهود الراهب الإسباني ريموندو لوليو Raimondo lulio )1235-1314(، فقد أبانت الدراسات المتأنية لكتاباته أنه كان أول من مَثَّل اتصال الغرب بالأفكار الصوفية الإسلامية ) أنماري شيمل، الأبعاد الصوفية ص12(، ولعل أهم أطروحة عملت على الإثبات العلمي للتأثيرات الواسعة للتصوف الإسلامي على السيد لوليو هي أطروحة المستعرب الإسباني خوليان ريبيرا Julian Ribera في بحثه حول “أصول فلسفة ريموندو لوليو” Origenes de la filosofia du Raimundo Lulio، حيث أثبت الرجل تأثر لوليو بالكثير من المتصوفة المسلمين لكنه ولع خصوصا بمحي الدين بن عربي، فقد وصلت المشابهات بينهما إلى حد التطابق على حد تعبير السيد ربيرا.

        لكن لوليو عمل على توظف مشروعه بدهاء بيِّن خدمة للمشروع العام الذي انخرط فيه عموم الرهبان النصارى آنذاك والقاضي بمحاولة الدفاع عن العقائد الكاثوليكية العامة ودحض عقائد المخالفين خصوصا المسلمين منهم والعمل على استمالتهم إلى المسيحية الدين الحق في نظرهم.

        فمشروعه العام يمكن اختزاله حسب منينديث إي بلايو Marcelino Menendez y Pelayo في أفكار ثلاث رئيسة هيمنت عليه، وهي:

– حملة صليبية إلى الأرض المقدسة.

-التبشير بالإنجيل إلى اليهود والمسلمين.

-اعتماد منهج يروم إثبات الحقائق الدينية عن طريق العقل لإقناع أولئك الذين يعيشون خارجها.

Historia de los Heterodoxos espanoles, Tomo 1 ,p.465.

2

        أما في عصور التنوير التي حققت قفزات مهمة في الدفع بالدراسات الإسلامية بعيدا عن نطاق الفكر اللاهوتي فقد كان من بين أهم التيارات الفكرية التي تأثرت بالتصوف الإسلامي هو التيار الرومانسي الذي حاول أن يعبر عن الحاجات الغربية آنذاك في الوقت الذي أصبح الوعي الغربي يتوق إلى البحث عن ذاته وإعادة بناء هويته، فنتج عن ذلك أن توسعت قيم الاستلهام من سحر الشرق وفتنته وغرابته فظهر كبار الأدباء والمفكرين الأوروبيين الذين تأثروا بإرث التصوف الإسلامي انطلاقا من مجهودات علماء المشرقيات والرحالة الذين وفروا المادة، ومن بين هؤلاء الذي تأثروا بعمق بالتراث الصوفي الإسلامي الشاعر الألماني الكبير جوته Johanne Wolfgang Goethe )1749-1832م( أحد كبار الرومانطيقين، الذي تأثر بعمق بالشاعر الإسلامي العظيم حافظ الشيرازي الذي كان قد جهد في ترجمة أعماله الشعرية العلامة النمساوي فون هامر بورغشتال.

        يقول رودي بارث: “أما اللقاء المثمر الذي تمَّ لجوته مع الشرق، فيرجع إلى يوم اتصل بقصائد الشاعر الفارسي حافظ … وكان ثمرة هذا اللقاء ما نجده بين دفتي “الديوان الغربي الشرقي”. )رودي بارث، الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية ص15-16(. وقد خصص في هذا الديوان كتابا كاملا لتوأمه الروحي سماه بلسان صديقه الفارسي ” حافظ نامه “.

 

3

        هذا الحضور القوي للحقائق الثاوية خلف هذه الدراسات والمتماهية مع السياقات التاريخية والحاجيات المجتمعية للغربيين استمرت مع الدراسات الاستشراقية المتخصصة عقب الميلاد الرسمي للاستشراق، فإذا أخذنا على سبيل المثال الأبحاث العديد والعميقة التي قام بها المستعرب الإسباني أسين بلاسيوس Miguel Asin Palacios حول ابن عربي فإن الأطروحة الأساس في معالجته للمنظومة الفكرية والسلوكية لمحي الدين ابن عربي ترتكز على الإدعاء بأن هذه المنظومة سواء في عموم أطروحتها النظرية أو في تفصيلاتها الدقيقة والمعقدة المرتبطة بالجانب العملي الطقوسي تمتح أساسا من الرهبانية المسيحية في نسختها الشرقية، وذلك من خلال اعتماد منهج المقارنة والمطابقة بين ما بسطه ابن عربي في مذهبه وبين النظائر المسيحية المتقدمة المزعومة، بحيث يمكننا أن نقول أنه جعل من “ابن عربي مسيحي بدون مسيح” ) علي شودكيفيتش، الولاية والنبوة… ص11(، والقصد الواضح للرجل هو أن ينفي -من خلال ابن عربي- عن التصوف الإسلامي أصالته واستمداده من المصادر الإسلامية ويثبت في المقابل أنه مجرد استنساخ لما كان سائدا قبله خصوصا التصوف المسيحي في نسخته الرهبانية المشرقية.

4

        الملاحظ إذن من خلال هذه النماذج أن الاهتمام الغربي بالتصوف الإسلامي كانت تحكمه في الغالب حاجات متوارية خلف غابة كثيفة من المشاغل والهموم الفكرية والقلق الديني والفلسفي. وهو ما أسميته بالقصدية وأعني بها جملة أمور متداخلة:

– عدم قدرة المشتغلين بالتصوف الإسلامي في الدراسات الغربية على التحرر والانعتاق من أسر “المسلمات” الدينية والفكرية المغلوطة، وعلى رأسها التمييز الحاد بين المسيحية والإسلام على أساس أن الدين الأول روحي في أصله ومبناه بينما الثاني مجدب مقفر من هذه الناحية، وأن التصوف الإسلامي إنما يرجع في بناء ذاته وتكوينها إلى الأصول المسيحية التي اقتبس منها أسسه العامة.

-التماهي مع الحاجات المجتمعية والمتطلبات الدينية والسياسية التي أرَّقت الغرب في فترات تاريخية معينة، ولهذا التماهي صور وأشكال مختلفة برزت أولا في الحاجة إلى الدفاع عن النصرانية وترميم حصونها الداخلية ضد الأخطار والتحديات التي رفعها الإسلام في وجهها، فظهرت المساجلات والمنافحات الدينية التي استندت إلى التراث الصوفي وأدبياته قصد بناء نسقها الحجاجي، ثم أطلت برأسها ثانية في الأبحاث المَسْحية الأولى للحركات الصوفية التي قام بها موظفو الحماية والإدارات الاستعمارية، كما أنها برزت كذلك في الأبحاث الروحية الغربية التي جاءت نتيجة هيمنة القيم المادية والفكر العقلاني وشيوع الفردانية بحيث كانت بمثابة “المرآة التصحيحة” التي عالج من خلالها الغرب علاته.

-تحقيق حاجات شخصية من خلال وصف شيء مغاير للذات بواسطة تضمين السيرة الذاتية في البحوث والدراسات المتعلقة بالتصوف الإسلامي.

        لكن الأكيد أيضا أن بعض هذه الدراسات استطاعت الانفكاك من قبضة “القصدية” والتعالي عنها، وظهر ذلك سواء في المجهودات الكبيرة لخدمة التراث الصوفي بعيدا عن النيات الاستعمارية، فالدراسات الألمانية قدمت جهودا مثمرة رغم أنه لم تكن للدولة مجالات كولونيالية تعبر عنها هذه الدراسات، وبرزت أيضا في ما يمكن نعته بالدراسات ما بعد الاستشراقية التي حاولت التخلص من ركام التقاليد البحثية الاستشراقية.

خالد محمد عبده: يقسّم البعض التصوف عبر تاريخ الإسلام إلى قسمين رئيسين ولا تزال هذه القسمة قائمة حتى الآن في عصرنا .. تصوّف سنّيّ وتصوّف فلسفي ؟ أودّ أن أتعرّف على رأيكم بداية في صحة هذا التقسيم. من خلال هذا التقسيم يقطع البعض بيقين ! أن المستشرقين قد اهتموا بكل غريب وشاذ في تاريخ التصوف سواء على مستوى الأعلام أو الأفكار فما كان داعمًا لأفكارهم المسبقة عن الإسلام اهتموا به، وما كان غير متوائم مع هذه الأفكار أهملوه ولذا وجدنا اهتمامًا بالحلاج (الحلولي) وعين القضاة الهمداني والسُهروردي الإشراقي .. فهل هذا صحيح بالفعل أم أن اهتمام المستشرقين لم يقتصر على مدرسة بعينها أو أعلام شاردين؟

 

حفيظ هروس: تقسيم التصوف إلى نوعين: تصوف سني وآخر فلسفي، قديم، وهناك من يضيف نوعا ثالثا هو التصوف السلفي بالطريقة التي بدأ بها مع أبي إسماعيل الهروي وتبلور عند ابن قيم الجوزية )علي سامي النشار(، والغرض منه على ما يبدو منهجي إجرائي بحت هو التمييز بين التصوف المقبول والآخر المردود، ولكن في المقابل هناك من يميز بين تيار الزهد وطريق التصوف، وهو تميز شائع عند المستشرقين وإن كان قد ارتبط عندهم ببعد آخر هو مناقشة قضية الأصول والمصادر التي استمد منه التصوف الإسلامي.

1

        من بين الذين يقيمون هذا التقابل المنهجي نجد المستشرق المجري غولد تسيهر الذي يميل –في معرض تحليله لتاريخ التصوف والبحث في مصادره- إلى وجود اتجاهين أساسين في التصوف الإسلامي: اتجاه الزهد والتقشف العام والاتجاه الصوفي بمعناه الاصطلاحي الدقيق. فهو يعتبر أن نزعة الزهد في الدنيا أصيلة في الإسلام قريبة من روحه العامة فقد “كان الإسلام في أول أمره تسوده فكرة اطراح العالم والزهد فيه” ) العقيدة والشريعة في الإسلام: ص175-176.( أما بخصوص الاتجاه الصوفي الصرف فيقول عنه” “عند إلقاء نظرة عامة على تاريخ التصوف لا يمكن أن نتجاهل هذه المؤثرات بصفتها عوامل ذات أثر نافذ، وأقصد بها المؤثرات الهندية التي بدت بصورة محسوسة منذ العصر الذي انتشر فيه الإسلام شرقا حتى حدود الصين”  المرجع نفسه ص208.

2

        ثم نجد هذا التقسيم أيضا عند المستشرق الإنجليزي رينولد ألن نيكولسون الذي يميز بين نزعة الزهد الأولى ونظرية التصوف، فبخصوص نزعة الزهد فإنه يعتقد أنها من جهة تطور طبيعي للميولات الروحية الناتجة عن التأملات الداخلية في القرآن الكريم، ومن جهة أخرى وليدة عدد من الظروف التاريخية والسياسية، وينفي أية إمكانية حقيقية للتأثيرات الخارجية والأجنية في هذه المرحلة إلا نادرا ) في التصوف الإسلامي وتاريخه(،أما بخصوص ظهور نظرية التصوف بالمعنى الخاص فإنه يرى أن جملة من المؤثرات الخارجية ساهمت في ذلك “ففي القرن الثالث ظهر التصوف في صورة جديدة تختلف تمام الاختلاف عن سابقتها، وهي صورة لا يمكن تفسيرها بأنها نتيجة تطور لعوامل روحية من صميم الإسلام نفسه” ) في التصوف الإسلامي وتاريخه ص4(.

3

        وإذ كنت أشير هنا إلى أهمية التمييز بين تيار الزهد و تيار التصوف الذي قال به عدد من الدارسين أمثال البحاثة غولد تسيهر، باعتبار أن الأول أسبق ويجد أصوله الأولى في المصادر المعتمدة في الإسلام بينما الثاني ظهر متأخرا وجاء نتيجة عمليات التلاقح المتبادلة مع التيارات الروحية في الأديان الأخرى، فإنني أأكد على أن عملية التلاقح هذه تمَّت بعد فترة التأسيس وإرساء الثوابت مما يجعل عملية التأثير المذكورة لا تمس الأصل والجوهر.

4

        أما عن قضية اهتمام المستشرقين بكل ما هو غريب وشاذ من الأفكار والرجال في التصوف فأعتقد أنها أصبحت متجاوزة بفعل التوسع الهائل الذي تشهده ميادين البحث في التصوف في الدراسات الغربية، ومن منافذ الرؤية التي انفتحت عليها هذه الدراسات نجد الدراسات الانتروبولوجية المتسلحة بالطرق العلمية الجديدة المبنية على المعاينة المباشرة والدراسات الحقلية الموثَّقة التي عملت على تقديم التصوف في صوره المتعددة وأصواته المختلفة.

        وكذلك بروز ظاهرة الدراسات الإسلامية الغربية التي ترنو إلى عرض التصوف الإسلامي من داخل نسيجه الروحي، والتي تتجسد في مقاربات العديد من الغربيين الذين اهتدوا إلى الإسلام من خلال بوابة التصوف الإسلامي، فبعد تمكنهم من ملامسة حقيقة التصوف عن طريق التحقق بالتجربة الروحية سعوا إلى تعريف الغرب بحقيقة التصوف وعمقه الروحي انطلاقا من منظورات جديدة لم تكن متيسرة للدراسات السابقة.

        هذه المنظورات الجديدة تتأسس على التعاطف الكامل مع موضوع البحث وكذا الانخراط الواعي في تقديم ما يعتقدون أنه الوجه الحقيقي للتصوف بعيدا عن الابتسار الذي تعرض له من قبْل أو التعسف في استخدام المناهج الوضعية التي لا تليق ببسط تصوراته النظرية ومذاهبه السلوكية، هذا بالإضافة إلى محاولة إنصاف المدارس التي غُمط حقها وتعرضت إلى كثير من الحيف في الدراسات الغربية الكلاسيكية.

        وقد ارتبطت البداية الحقيقية لهذا التوجه بالفيلسوف الفرنسي المهتدي إلى الإسلام رينيه غينون René Guénon الذي سلك طريق التصوف عبر الطريقة الشاذلية، وعلى أَثَرِه جاء السويسري فريتخوف شوان Frithjof Schuon الذي اهتدى عن طريق فرع آخر للشاذلية على يد الشيخ أحمد العلوي الجزائري، ثم ميشيل فالسانMichel Vâlsan الذي كان تابعا لطريقة Schuon ثم انفصل عنه بفعل مَيل هذه الأخير أكثر فأكثر إلى الاتجاه الكوني في التصوف والتحرر التدريجي من الالتزام الإسلامي.. وغيرهم كثير.

3- قال غوته للوزير الأول فون مولر ذات يوم: لم يكن لدى الفرس في خمسة قرون غير سبعة شعراء عُدّوا أساتذة حقيقيين ولكنه يُوجد بين من نبذوهم من الخُلعاء كثيرٌ أفضل منّي ! وأقطاب الأدب الإيراني السبعة أغلبهم إن لم يكن صوفيًّا فقد أفاد من التصوف وصبغت المعاني الروحانية أشعاره، وقد عرفهم الألمان كما الإنجليز في وقت مبكر.. كيف يمكننا أن نتعرف على بدايات انتقال التصوف الفارسي أو العربي إلى البلاد الأعجمية؟

        لقد أشرت سابقا إلى الآثار المحتملة التي صبغ بها التصوف الكتابات الغربية المبكرة، لكن الحقيقة أن نشر وترجمة النصوص الصوفية في الغرب كان يجب أن ينتظر بزوغ القرن السابع عشر، فلعل أولى النصوص التي تم ترجمتها هي “كلستان” بستان الورد لسعدي الشيرازي، أحد عيون النصوص الأدبية الفارسية، فقد ترجم هذا النص إلى اللغة الفرنسية ترجمة غير تامة سنة 1634م من طرف André Du Ryer بعنوان Gulistan ou l’empire des roses، كما ترجمه Adam Olearuis إلى اللغة الألمانية سنة 1651م. أما أول النصوص العربية نشرا فكانت قصيدة الشاعر الصوفي العربي الكبير عمر بن الفارض المشهورة:

أنتمْ فروضي ونفلي ** أنتمْ حديثي وشغلي

يا قِبْلَتي في صَلاتي ** إذا وَقـَفْتُ أُصَـلّي

نشرها Johannes Fabricius سنة 1638م، ثم تتابعت حمى نشر وتحقيق النصوص الصوفية بعد ذلك، لكن الملاحظ أن الاهتمام انصب على الشعر الصوفي بالدرجة الأولى لهذا اتجهوا إلى نشر وترجمة أشعار حافظ الشيرازي وجلال الدين الرومي وعمر ابن الفارض وفريد الدين العطار، وإن كان من الواضح أن الشعر الصوفي الفارسي لقي من العناية والاهتمام أكبر وأعظم مما لقيه نظيره العربي. ويبدو هذا الاهتمام واضحا عند أغلب الدارسيين الأوائل أمثال كاروي ريفيتسكي، وليام جونز، جوسيف هامر برجشتال وغيرهم.

        وقد كان لا غنى عن نشر التراث الصوفي في هذه الفترة قبل المبادرة إلى تحليل نصوصه وتفقه تاريخه وتفكيك قضاياه، وقد ذهب العديد من الباحثين إلى أن ف.أ.د تولك هو أول باحث غربي حاول مقاربة التصوف الإسلامي عن طريق تقديم “مسح تاريخي” عام في مؤلف خاص كتبه باللغة اللاتينية هو Ssufismus sive theosophia persarum pantheistica وذلك سنة 1821م. كما أن القضية الرئيسة التي استولت على جهود الباحثين الغربيين الأوائل وهيمنت على أبحاثهم هي قضية البحث في أصول ومصادر التصوف الإسلامي ومدى استمداده من الأديان السابقة والمذاهب الروحية التي كانت منتشرة في الأمم السابقة على طول خطوط الاحتكاك الرئيسة للإسلام مع الحضارات المتاخمة.

 

يُتبع ..

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!