الغزالي فيلسوف سينوي

الغزالي فيلسوف سينوي

 

 

Al-Ghazālī’s Philosophical Theology 

Frank Griffel

Oxford University Press- 2009 

الغزالي فيلسوف سينوي: الفلسفة الكلامية للغزالي، لمؤلفه: فرانك غريفل

مراجعة وعرض: ناصر ضميرية[*]

 

 

الصورة التقليدية للغزالي أنه فقيه شافعي ومتكلم أشعري أرسى أسس العقيدة الأشعرية وعمل على صياغة تيار صوفي سني مرتبط بها، وقام بالرد على الفلاسفة في كتابه، الذي رأى فيه الكثير من المستشرقين نهاية للفلسفة في المشرق العربي، “تهافت الفلاسفة”، ولكنه في الوقت ذاته عمل على دمج المنطق الأرسطي بمباحث الكلام وأصول الفقه وأعطاه شرعيته التي جعلت منه جزءً من كافة المناهج التعليمية في مختلف المدارس والمساجد. .

كتاب الباحث الألماني والأستاذ في جامعة ييل فرانك غريفل قد يكون صادماً لمن يتوقع أن يرى هذا الغزالي التقليدي في هذا الكتاب، فالغزالي هنا فيلسوف سينويّ عمل على إدخال الكثير من مباحث الفلسفة اليونانية إلى مباحث العقيدة من خلال الفكر السينوي.

ينطلق غريفل من المفهوم الذي صاغه عبدالحميد صبرا “Naturalizing” للتعبير عن محاولة تكييف العلوم الوافدة أو ما كان يطلق عليه علوم الأوائل مع النطاق الفكري المتداول والمقبول على أنه يمثل الثقافة الأصيلة أو النابعة من المجتمع ذاته، بمعنى آخر محاولة تطبيع العلوم الوافدة وجعلها جزءً من العلوم التقليدية، أو بشكل مجازي عملية ترويض للفكر الغريب عن البيئة المحلية ليُجعل منه علماً أهلياً ضمن إطار البيئة والثقافة الجديدة التي نُقل إليها.  

اتجه غريفل مباشرة إلى الموضوع الإشكالي المتعلق بموقف الغزالي من الفلسفة، فمن خلال كتابه “تهافت الفلاسفة” تعرض الغزالي لعشرين مسألة تتعلق بالفلسفة، رد منها ثلاثاً على أنها لا تتفق مع تعاليم الإسلام، وهذا ما يشكل برأي غريفل تشريعاً وتسويغاً لقبول مختلف المسائل والمناقشات الفلسفية الأخرى غير هذه المسائل الثلاث. أو يمكننا أن نقول إن تأكيد الغزالي على أن هذه المسائل الثلاث لا تتفق مع العقائد الإسلامية يستثني بقية الفكر الفلسفي من هذا الحكم ويفتح المجال واسعاً أمام تقبلها.

عمل غريقل على تتبع الأثر الفلسفي السينوي في فكر الغزالي عبر منحيين: الأول من خلال حياة الغزالي وتكوينه الفكري، ومن ثم من خلال مسألة الكون والطبيعة وعلاقتهما بمباحث العقيدة. وتجدر الإشارة قبل الدخول في طروحات غريفل إلى أن المباحث الطبيعية والكونية كانت على ارتباط وثيق بالمباحث العقدية منذ بدايات النقاشات الكلامية من خلال دلالة الشاهد على الغائب، والإنتقال من الصنعة إلى الصانع والبحث في نشأة الكون ودلالته على المكون، إضافة إلى الكثير من المسائل الطبيعية والكونية التي دخلت مع الترجمات اليونانية.

القسم الأول من الكتابه يتناول حياة الغزالي والمؤثرات الفكرية التي ساهمت بتكوين ثقافته وفكره استناداً إلى وثائق ومصادر جديدة لم تكن متوفرة من قبل، أو لم تستخدم من قبل في عرض حياة وفكر الغزالي. إذ جرت العادة على أن يتم الاعتماد على كتاب “المنقذ من الضلال” والذي يعرض فيه الغزالي لسيرته الفكرية ومنحى حياته العام على أنه المصدر الأساس للمعلومات المتعلقة بحياة الغزالي والتغيرات الفكرية التي طرأت عليه خلال مسيرة حياته.

غير أن غريفل يحاول من خلال الاعتماد على المعاصرين للغزالي سواء كانوا تلاميذ مباشرين أم غير المباشرين، أو ممن ذكروا الغزالي في كتاباتهم، الوصول إلى تفاصيل أكثر من تلك التي أوردها الغزالي في المنقذ. ومن هنا نراه يستند على الفقيه المالكي أبو بكر بن العربي، وعبدالغافر الفارسي، وكذلك على كل من شقيق حجة الإسلام أحمد الغزالي، وعين القضاة الهمذاني، وشرف الدين المسعودي، وسواهم ممن تبنى الفكر الغزالي أو تأثر به كابن تومرت مؤسس الدولة الموحدية. وكذلك يعتمد غريفل مصدراً مهماً لم يكن متوفراً من قبل للباحثين، إلا وهو مجموعة رسائل الغزالي في اللغة الفارسية والتي تم تحقيقها ونشرها في عام 1968. ومن أهم تلك المصادر ما أورده عبدالغافر الفارسي – وهو حفيد القشيري صاحب الرسالة- في كتابه “السياق لتاريخ نيسابور” – وهو تكمله لتاريخ نيسابور- من ترجمة للغزالي، وكذلك لقاء ابن العربي المالكي – صاحب العواصم من القواصم- بالغزالي خلال زيارته إلى المشرق. وأما رسائل الغزالي باللغة الفارسية فقد أتاحت العديد من التفاصيل التي كانت مجهولة عن حياة الغزالي وخاصة السنوات التي تلت مغادرته نظّامية بغداد. وعلى أهمية ما أورده غريفل من تفاصيل تتعلق بحياة الغزالي ومسيرته الفكرية في هذا الكتاب الكبير -يقارب الأبعمائة صفحة- والتي يصعب إختصارها أو اختزالها، إلا أننا سنشير فقط إلى بعض النقاط المتعلقة بهذا القسم من الكتاب للنتقل بعدها للتركيز على القسم الثاني من الكتاب المتعلق بفلسفة الغزالي. من المعلومات المهمة والجديدة في القسم الأول من الكتاب ترجيح المؤلف -إستناداً إلى المعلومات الجديدة المتوفرة لديه- أن يكون الغزالي قد ولد في عام 448 هجرية بدلاً من عام 450 هجرية كما هو مشهور، ويشير كذلك إلى أثر الغزالي في فكر ابن طفيل وابن رشد من خلال ابن تومرت الذي نشر فكر الغزالي في شمال أفريقيا. 

المسألة الأهم التي تتعلق بتأثير الفكر السينوي بالغزالي في هذا الجزء من الكتاب تتعلق بالمدارس النظّامية التي أسسها الوزير السلجوقي نظام الملك، ففي رأي غريفل أن هذه المدارس وخاصة نظّامية نيسابور تحت تأثير إمام الحرمين الجويني، ونظّامية بغداد تحت تأثير الغزالي كانتا المركز الذي جرى فيه دمج الفكر السينوي بالمباحث الكلامية العقدية، فالجويني رغم كتابته لرسالة في رد فكرة قدم العالم، إلا أن تأثير فكر ابن سينا واضح في فكره – وقد أشار ابن خلدون في مقدمته إلى أن الجويني هو أول متكلم أشعري تأثر بالمباحث الفلسفية- ويمكن ملاحظة ذلك الأثر من خلال استخدامه لتقسيم ابن سينا للوجود إلى الممكن  والواجب، هذا التقسيم المأخوذ من تقسيم الفارابي للموجودات إلى ما هو ضروري في نفسه، وما هو ضروري عن شيء آخر، والذي يعتمده غريفل كإشارة إلى الأثر السينوي في مباحث العقيدة.  

وأما القسم الثاني من الكتاب فإنه يأتي ضمن سياق نقاش طويل بين العلماء الغربيين يتعلق بتأويل أفكار الغزالي حول الطبيعة والكونيات، ففي عام 1992 طرح ريتشارد فرانك رأيه بأن الغزالي ترك النظرية الأشعرية المتعلقة بالطبيعة والكون وعمل على صياغة نظرية كونية تعتمد في أسسها على الفكر السينوي. غير أن ميشيل مرمورة نشر عدة مقالات يؤكد من خلالها أن الغزالي بقي أشعرياً في تفسيره للكون والطبيعة رافضاً طرح فرانك. كل من فرانك ومرمورة يستند إلى نصوص الغزالي في تأييد رأيه في فلسفة الغزالي. غريفل يقول إن عمله لا يسعى للانتصار أو لترجيج رأي على آخر، وإنما يسعى لأن يشكل التركيب -بالمفهوم الهيجلي- بين أطروحة فرانك ونقيضها الذي طرحه مرمورة. حتى يتضح الأثر السينوي كان على غريفل أن يعرض للنظرية الطبيعية والكونية عند متقدمي الأشاعرة – أي قبل الجويني- وكذلك أن يعرض للنظرية المشائية في الطبيعة والكون ضمن سياقها الأرسطي، ليعود بعد ذلك وينظر إلى رأي الغزالي ومدى قربه أو ابتعاده عن النظرية الأشعرية ومدى الأثر السينوي في هذا الإختلاف الفكري عن السياق الأشعري العام. 

العبارة الأهم التي تلخص الفكر الأشعري حول مباحث الطبيعة هي ما أورده الغزالي في مفتتح المسألة السابعة عشرة من كتاب “تهافت الفلاسفة” عندما قال: “الإقتران بين ما يُعتقد في العادة سبباً وما يعتقد مسبباً ليس ضرورياً عندنا”، هذه العبارة تلخص فكرة الأشاعرة حول العلاقة بين السبب والنتيجة أو التأثير، فالاقتران هو ظاهري ولا تأثير بذاته للسبب في النتيجة، أو بمعنى آخر إننا نشاهد إحتراق القطن عند ملامسة النار، ولكن الحس ينقل لنا اقتران النار بالإحراق، أما الفاعل الحقيقي لعملية الإحراق فهو الله، فالله يخلق عملية الإحراق عند ملامسة النار للقطن، أي ليس هناك قوة طبيعية فاعلة في النار ذاتها وإنما هو اقتران ظاهري وأما الفاعل الحقيقي فهو الله الذي يخلق الأثر بشكل مباشر. فكرة الأشاعرة تقوم على أن الله هو الفاعل الحقيقي لكل ما يحدث في الكون من كليات وجزئيات، ولا يخفى ما في هذه النظرية من إشكالات، إذ كيف يمكن ان يتأسس العلم على نظرية تقول بالإقتران، وتنفي التأثير؟ هذه النظرية الأشعرية ترتبط بالنظرية الطبيعية التي ترى أن كل موجود مؤلف من أجزاء لا تتجزأ. هذا الجزء الذي لا يتجزأ أو الجوهر ليس له خواص أو صفات، ولكن عند تجمعها فإنها تكتسب الصفات الحسية، والتي هي عبارة عن أعراض تطرأ على هذه الأجزاء المتشكلة بالتجمع.

وهذه الأعراض هي ما يعطي الشيء وجوده الواقعي. هذه الأجزاء التي لا تتجزأ لا تنتقل في الزمان من وقت إلى آخر وإنما تفنى وتُخلق من جديد في كل آن، وبما أن الأجسام لا توجد من دون الأعراض، والأعراض ناتجة عن الأجزاء التي لا تتجزأ فإن الأجسام في عملية خلق مستمر. فالسكون ناتج عن أن الأجزاء في عملية الخلق الثانية خُلقت في مكانها، أما التطور أو الحركة فناتج عن إرادة الله في خلق الأجزاء في وضع مختلف. فالله هو العلة الفاعلة وراء كل شيء في هذا الكون. بشكل مخصر إن ما نراه في العالم هو اقترانات ظاهرية وليست علاقات سببية، ونتيجة تعود الإنسان على هذه الاقترانات رأى فيها علاقات سببية أو قوانين طبيعية. بالمقابل فإن الفكر الفلسفي قائم على فكرة السببية، فأرسطو يتحدث عن العلل الأربع: الصورية، المادية، الفاعلة، والغائية. وابن سينا يرى في العلاقة بين السبب والنتيجة علاقة ضرورية، فحينما توجد العلة يوجد المعلول. وأما الكون والطبيعة في الفكر الفلسفي فمكونان من علل ثانوية مختلفة، فالكون منذ نشأته عن طريق الفيض الإلهي نجد أنه مركب من أفلاك وأجرام وعقول، وكل فلك أدنى ناتج عن الفلك الأعلى إضافة إلى فلك الأفلاك أو المحرك الذي لا يتحرك بالمفهوم الأرسطي والذي هو العلة الأولى.

بينما في الفكر الأشعري الله هو العلة الوحيدة للكون دون وسائط أو علل ثانوية. وغريفل يؤكد على الأثر السينوي في الفكر الغزالي من خلال مناقشة هذين المبدأين الفلسفيين، أي من خلال إعادة تفسيره لعلاقة السبب بالمسبب عند الغزالي، والتأكيد على أن الغزالي لا يرفض هذه العلاقة وإنما يرى فيها إحتمالاً ضمن إحتمالات متعددة لتفسير الاقتران الظاهري. ومن خلال فكرة أن الغزالي يقبل بالعلل الثانية يمكننا أن نشير إلى ما ذكره الغزالي في المسألة السابعة عشرة من التهافت من قول الغزالي عند حديثه عن إقتران النار بالإحراق: “المقام الأول: أن يدعي الخصم أن فاعل الإحتراق هو النار فقط. … بل نقول: فاعل الإحتراق … هو الله تعالى: إما بواسطة الملائكة أو بغير واسطة”. من هذا الاقتباس المختصر نجد فكرتين أساسيتين: فالغزالي لا يرفض فكرة أن فاعل الإحتراق هو النار، وإنما يرفض إدعاء الخصم بأنها فقط العلة الوحيدة للإحراق ولذلك قال “فقط”. الأمر الآخر الملفت للنظر هنا هو أن الغزالي يتحدث عن أن فاعل الإحراق هو الله تعالى ولكن بعد ذلك يشير إلى المبدأ الأشعري بقوله “بغير واسطة” ولكن الأمر الجديد هنا هو حديثه عن فاعل الإحتراق “بواسطة الملائكة”، والملائكة في الفكر الإسلامي تستخدم بدلاً من فكرة العقول المدبرة للأفلاك في الفكر الفلسفي، فهنا الغزالي يتحدث عن علل ثانوية وليس عن فعل مباشر من الله تعالى، ونشير هنا إلى ان ريتشارد فراك كان قد أشار في مقالته إلى أن نظرية الكسب الأشعرية فيها قبول لفكرة العلل الثانية، فالإنسان يخلق أفعاله بقوة مخلوقة يخلقها الباري عند وجود الإرادة من الإنسان. 

لا يحتمل العرض هنا الدخول في تفاصل أكثر، مع أهمية وعمق النقاشات، وخاصة أن هذا القسم الذي عرضنا له يتعلق بالتهافت فقط، بينما الباحث يتابع آراء الغزالي وتطورها في كتبه اللاحقه وخاصة في “المقصد الأسنى” و”مشكاة الأنوار” التي تتناول نظريات تستحق البحث والتمحيص.  لعل هذه النبذة عن هذا الكتاب المهم تثير حماسة الباحثين لمتابعة البحث المتعلق بالفلسفة الإسلامية الجاري بين علماء الغرب والذي قطع شوطاً بعيداً متجاوزاً الدراسات التقليدية التي لا زالت سائدة في المشرق العربي، مع العلم بأن الكتاب هو قيد الترجمة إلى اللغة العربية حالياً.         

[*] : ناصر ضميرية، باحث في الدراسات الإسلامية، كتب عن ابن سينا وقصصه الرمزية، وترجم إلى العربية عدة كتب، منها: ثقافة الحوار ، ومحيي الدين ابن عربي وارث الأنبياء.

مقالات ذات صله

1 تعليقات

  1. التنبيهات: ما حقيقة موقف الإمام الغزالي من قانون السببية؟ - حكمة يمانية

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!