الطريق إلى الله

الطريق إلى الله

 

الطريق إلى الله

بقلم: أ.د. عيسى علي العاكوب

” إلى القارئِ الّذي أحبَبْتُهُ فأَشْقانِي”

قارِئِي العزيز،

“أحبَبْتُهُ فأَشقانِي” عِبارةٌ  كانَ مَضمونُها يَعِنُّ لِي وأنا أجْلِسُ السَّاعاتِ إٍثْرَ السَّاعاتِ أنقُلُ لِلْقارِئ الذي أحببتُه دُرَرًا مِن بحرِ مَعانِي عالَم الرُّوحِ عندَ الشَّيخِ العظيم جلالِ الدّين الرُّومِيّ،  الذي تُؤثِّرُ اليومَ مَعانيهِ في قُرَّائِهِ في الشَّرقِ والغَرْب، فيزدادونَ حُبًّا لِحقيقةِ الدّين. وتَبَعًا لذلك يكونُ حُبِّي لِقارِئي قد أشْقانِي وعَنّانِي، وحَرَمَنِي لَذَّاتِ الرّاحةِ والاستجمامِ وهدوءِ البال. لكنَّني اليومَ، بعدَ الانتهاءِ مِن إعدادِ الكتاب، سَعيدٌ بِذلكَ الشَّقاءِ أيَّمَا سَعادة؛ فَبِوَساطتِهِ هَيَّأ لي ربّي سُبحانَه أن أُقدِّمَ لِقرَّائي بِالعربيّةِ على اختلافِ مَشاربِهم زادًا عِلميًّا تَهذيبيًّا رُوحيَّا،أحسَبُ أنّ البَشرَ جميعًا في حاجةٍ إلَيه. خاصّةً بعدَ أن أدرَكْتُ مِن خلالِ مُتابعةِ اهتمامِ القُرَّاءِ بِآثارِيَ المُتواضِعةِ على الشَّابكةِ أنَّ كثيرينَ مِنهم يُحبُّونَ ما أكتُبُ، ويرغبونَ في الاستزادةِ مِنه، على تواضعِ هذا الذي أُقدّمه لهم.

ولِيَأذَنْ لي القارئُ الكريمُ أن أحكيَ له قِصَّةَ إنشاءِ الكتاب. فقد بقيتُ وَقْتًا أقرَأُ في مثنويِّ مولانا جلالِ الدّين الرُّومِيّ. أستمِرُّ على ذلك الأيّامَ الكثيرةَ،ثمّ أتوقّفُ،ثمّ أستأنِفُ، وهكذا. إذ تَعودُ صِلتِي بِمولانا وآثارِه الرَّائعة إلى ما يقرُبُ مِن ثلاثةِ عُقود. وأقولُ لِقارئي الحَقَّ حِينَ أذكُرُ له أنَّ هذا الشَّيخَ العظيمَ وفِكْرَه النُّورانيَّ ومحبَّتَه لِربّه، كُلُّ ذلكَ استبدَّ بي حتّى مَنعَ غيرَه مِن دخولِ فَضاءِ تفكيري، وأنا القارئُ المُتابعُ بالعربيَّةِ والإنكليزيّةِ والفارسيّة. وطُولُ مُلابَستي مثنويَّ مولانا جلالِ الدّين بالفارسيّة، لُغتِه الأمّ، والعربيّةِ والإنكليزيّةِ ،بيَّنَ لي أمرًا ظلَّ يُؤرّقُنِي بِاستمرار. وهو أنّ المَثْنَويَّ، بِطُولِهِ الذي امتدَّ على ستّةِ كُتُبٍ وعَلى أكثَرَ مِن خمسةٍ وعشرينَ أَلْفَ بَيْتٍ، يُضجِرُ القارِئَ العاديَّ وَيُتعِبُه، فَتعافُه نفسُه. وكُنتُ أُلاحظُ أنَّ في المثنويّ مَواضِعَ ومَباحثَ تَنشَدُّ إليها عَيْنُ قَلْبِ القارئ أكثرَ مِن غيرها، ويبتهجُ بها رُوحُه. وأنَّ في المثنويّ فِكَرًا عِرفانيّةً عاليةً يحتاجُ القُرَّاءُ إلى أن يعرفوها. لكنْ كانَ السّؤالُ دائمًا: ما السَّبيلُ إلى زيادةِ الانتِفاعِ مِن هذا الفِكْرِ السَّماويِّ الأَخّاذِ الذي يَسعى إلى تخليصِ الإنسانِ مِن بَهيميَّتِه لكيْ يُصبحَ إنسانًا؟.

ثمّ بعدَ إنجازِ أعمالٍ كثيرةٍ مُتَّصلةٍ بِمولانا جلالِ الدّين وفِكْرِه، هَداني الذي يَهْدِي سُبحانَه إلى فِكْرةِ الكتاب. وهي أن أختارَ مُعظَمَ الفِكَرِ الأساسيّةِ في المثْنَويّ، ثمَّ أعطيَ لِكُلٍّ مِنها عُنوانًا دالًّا، ثمّ أقَدِّمَ لِلْفِكْرةِ بتقديمٍ شارحٍ نسبيًّا لها جَعَلْتُ عنوانَه” إضاءة”، ثمّ أنتخِبَ الأبياتَ المتّصِلةَ بالفِكرةِ اتّصالًا قويًّا وأنقلَها مِن الفارسيّةِ إلى العربيّةِ بِلُغةٍ أحْسَبُها عربيّةً جيّدةً، انصرفَ هَمِّي في صياغتِها إلى أن تكونَ مُبِينَةً واضحةً دقيقةً بِقَدْرِ ما تهيَّأ لِي. وقد دأَبْتُ عَلى ذلك وقتًا لا يُستهانُ به. وتجاوزَ مجموعُ ما اخترتُه مِن فِكَرٍ أساسيّةٍ الخمسَ مِئة، وبَلغَ مجموعُ ما ترجمتُه ثُلُثَ المثنويّ تقريبًا. وعَلى هذا النّحوِ، ظَهَرَ المثْنَويُّ في صُورةِ إشراقاتٍ فِكْريَةٍ لا يتجاوزُ طولُ الواحدةِ مِنها خمسَ صَفَحات. ويستَطيعُ القارئُ الحبيبُ أن يقرأَ مادّةَ الفِكْرةِ الواحدةِ في رُبُعِ ساعة أو أكثرَ بِقليل. ويُتيحُ له مِثْلُ هذا العَرْضِ أن ينعَمَ بِجمالِ الفِكْرةِ ودِفْئِها وَعُمْقِها وقَصْدِها، في وَقْتٍ قصير. وربَّمَا يَستطيبُ ما جاء في فِكْرَةٍ فَيطلُبُ المزيدَ. وهو حُرٌّ في اختيارِ نُقطةِ التّوقُّف.

وأَحْسَبُ أنَّ مِثْلَ هذا التّدبير، مِمّا يزيدُ الانتفاعَ مِن نِتاجِ عَقْلِ هذا المُفكِّرِ المُستَنير. ولعلّ انشغالي بالتّعليمِ زَمَنًا طويلًا دَفَعَني إلى الاحتيالِ على عَقْلِ القارئ الذي أُحِبُّ، فهَداني ربّي هذه الطّريقة.

وأُحبُّ أن أُخبِرَ قارِئي الكريم بأنَّ تَسْمِيةَ الكتاب بِ” الطّريق إلى الله ” لَيْسَ لها قَصْدٌ دَعْويٍّ، يدعو إلى جَعْلِ النّاسِ يَسيرونَ في الطّريقِ إلى الله. لا، لا أقصِدُ إلى ذلك أبدًا. بل قَصدِي مِن ذلك أنْ يَتعرّفَ القُرَّاءُ الأعزّاءُ الحالاتِ الرّوحيّةَ والمعنَويّةَ التي يَعيشُها ويعانيها مَن يسلكونَ ” الطّريقَ إلى الله ” سُبحانَه. أعنِي أن يتعرّفوا ما يَجِدُه السّالِكُ في سَيْرِه إلى الله. وقراءةُ مواجيدِ السّالِكِ ومُشاهداتِه أمرٌ مُمتعٌ لِلأرواحِ التي تَنشُدُ الصّفاءَ مِن أيِّ دِينٍ ومَذهَب، وكذا للعقولِ الطّالبةِ لله سُبحانَه. ويجمَعُ هؤلاء جميعًا أنّهم ” يُحِبُّونَ اللهَ”. وَلَسْتُ أَجِدُ حَقًّا في أن يقولَ أحدٌ لِأحَدٍ: لَيْسَ مِن حَقِّكَ أن تُحِبَّ الله. ولكنّني مُغْرَمٌ في الوقتِ نفسِه بِمُفادِ الآية الكريمةِ: (لَّا يَعْصُونَ اللهَ مَا أمَرَهُمْ وَيَفْعَلونَ مَا يُؤْمَرُونَ)-التّحريم-: ٦.

و” الطّريقُ إلى الله “، طريقٌ لِلْأرواحِ كُلِّهَا، وكُلُّ إنسانٍ يمكنُ أن يَسلُكَ هذا الطّريقَ، وهو الطّريقُ الذي عَلَّمَهُ الأنبياءُ والأولياءُ لِأقوامِهم، وبَيّنُوا كُلَّ صغيرةٍ وكبيرةٍ في شأنِه.

وَيبدو لي أنّ مجموعَ الفِكَرِ، والإضاءاتِ التّي قدّمتُها لها، والعُنواناتِ التي آثرتُها، تُدخِلُ القارئَ عالَمَ جلالِ الدّين الرّوحانيَّ. ويستطيعُ بعدَ ذلك، إن شاء الله ، أن يَدَعَ الشُّطآنَ ويغوصَ في البَحر. وقد بَدا لي أن أجعَلَ اختياراتي مِن كلِّ كتابَيْنِ مِن كُتُبِ المثْنَويّ السّتَّةٍ في مُجلّدٍ واحِد.

والله سُبحانَه وَحْدَه يَعلمُ مَبْلَغَ الجُهْدِ الذي بَذَلتُه في فَهْمِ مَعاني الأبياتِ، وفي إخراجِهَا بِلُغةٍ عربيّةٍ أحْسَسْتُ أنّ وراءَها تأييدًا إلهيًّا واضحَ القَسَماتِ.

فَإليكَ، قارئي الذي أشقاني، كتابَ ” الطّريق إلى الله ” واللهُ سُبحانَه هو المَقصُودُ؛ لِأنّه وَحْدَه المَوجُود.

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!